تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ علي القوچاني

تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي القوچاني


المحقق: محمّد رضا الدّانيالي
الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 978-600-5213-31-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-29-4

الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

وأمّا بناء على حجيتها من باب الطريقية الصرفة كما هو التحقيق فيكفي في موضوع وجوب التصديق نفس خبر الشيخ رحمه‌الله وحده مع انتهائه إلى الأثر الشرعي وهو قول الامام عليه‌السلام ولو بوسائط عديدة ؛ وأنت خبير بأنّ الطريقية إنّما يجدي في الانتهاء إلى الأثر الشرعي ولو بوسائط فيما إذا كانت من اللوازم العقلية أو العادية للخبر الأول ، ولكن الوسائط فيما نحن فيه ليس كذلك كما هو واضح في الأخبار الآحاد.

نعم لو كان اخبار الشيخ عن جماعة يبلغ عددهم التواتر وهذه الجماعة عن جماعة اخرى كذلك إلى أن ينتهي كذلك في جميع الطبقات إلى قول الامام عليه‌السلام يمكن أن يكون حكمه عليه‌السلام من الآثار الشرعية للخبر الأول بتوسيط اللوازم العادية بناء على الملازمة بين التواتر ووقوع المخبر به ، كما لا يخفى.

وما ذكرنا هو عمدة ما اورد على الآية من الايراد ، وإلاّ فاورد عليها بأزيد منه كما ذكر في الفرائد (١) إلاّ أنّه لا مهم في الاطناب بالتعرض لها وما عليها.

ثم انّه بناء على الاشكال في دلالة الآية مفهوما فهل يمكن التمسك بمنطوقها على حجية خبر العادل المفيد للظن مطلقا أو الاطمئناني منه ، بل خبر الفاسق إذا حصل أحدهما على طبقه من الخارج بناء على دلالتها على عدم الاعتناء به بنفسه مطلقا أم لا؟ وجهان :

من كون التبيّن من الإبانة الظاهرة في تحصيل العلم ، مؤيّدا بظهور الجهالة في العلة في مطلق ما وراء العلم الشامل لمطلق الظن.

ومن ظهوره بصيغته عرفا في مطلق الظهور ، ويؤيّده ظهور الآية في اشتراط العمل بخبر الفاسق بالتبيّن وإلاّ فمع حمله على تحصيل العلم فلا معنى للعمل به

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٢٦٢ ـ ٢٧٦.

١٢١

أصلا.

ومن هنا يعلم ما في كلام الشيخ رحمه‌الله (١) من انّه بناء على حمله على الظن الاطمئناني تكون الآية دالة على حجيته ولو لم يكن معه خبر فاسق أصلا ، لما عرفت من ظهورها في اشتراط العمل به. نعم بناء على حمله على تحصيل العلم كانت في مقام الردع عن خبر الفاسق مطلقا ، كما لا يخفى.

وأمّا ما اورد على حمل التبيّن على الظن من استلزامه التخصيص المستهجن في مورد الآية وهو اخبار الواحد بالموضوعات خصوصا في الارتداد ، ففيه :

انّه بناء على العمل فيها في غير مورد المرافعة بالخبر الواحد مع الظن الاطمئناني من الخارج على طبقه ، فلا اشكال.

وأمّا بناء على اشتراطه بالبيّنة مطلقا ، ففيه : انّه عمل بخبر العادل أيضا لكن مقيدا بانضمامه بالآخر وهو يستلزم التقييد في حجية الخبر في المورد ، والمستهجن إنّما هو عدم العمل فيه بالخبر أصلا ، كما لا يخفى.

وهذا مثل [ ما ] اورد على ذاك الحمل بمخالفته لظهور الجهالة المقابلة له حيث انّه بناء على ظهور التبيّن في الظن الاطمئناني يكون قرينة على حمل الجهالة على العمل على خلاف الاطمئنان ، كما هو الشائع المتبادر عن إطلاقه عليه عرفا ، فلا يعارض ظهور التبيّن فيما ذكرنا.

ومن جملة الآيات : قوله تعالى في سورة براءة : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ). (٢) الآية دلت على وجوب التحذر عند إنذار المنذرين ولو لم يحصل العلم ، فيثبت وجوب العمل بخبر الواحد.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٢٩٦.

(٢) سورة التوبة : ١٢٢.

١٢٢

والاستدلال بها على ذلك على وجوه :

الأول : انّ لفظة « لعل » بعد عدم دلالته في المقام على الترجي الحقيقي ـ لاستلزامه الجهل والعجز في حقه تبارك وتعالى ـ تدل على محبوبية التحذر له تعالى :

امّا على المشهور من كونها مستعملة في الترجي الحقيقي حقيقة ، فبعد انسلاخها عنه فأقرب المجازات إليه هو محبوبية التحذر له تعالى مع حصوله تارة وعدمه اخرى امّا لأجل اختلاف المنذرين ، أو المتحذرين ، أو الانذارات فيشابه الترجي تمام المشابهة.

وأمّا على التحقيق من كونها كنظائرها من الاستفهام والتمني وصيغة الأمر ونحوها مستعملة في معانيها الايقاعية وتكون الصفات الحقيقية منها القائمة بالنفس من جملة الدواعي لاستعمالها غالبا ولو لانسباقها عنها عند الاطلاق ، كما يكون الداعي غيرها اخرى ، فالظاهر المساق من كلمة « لعل » في المقام ـ بعد القطع بعدم كون الداعي هو الصفة الحقيقية ـ هو محبوبية التحذر له تعالى أيضا ، فإذا ثبت محبوبيته وحسنه ثبت وجوبه : عقلا ، لما في المعالم (١) من انّه مع قيام المقتضي له وهو الحجة على التكليف يجب وبدونه لا يحسن ولا يجوز بل لا يمكن للقطع بعدم العقاب حينئذ فلا معنى للتحذر ؛ وشرعا ، لعدم الفصل بينهما.

الثاني : انّه إذا ثبت وجوب الانذار لكونه غاية للنفر الواجب بمقتضى كلمة « لو لا » التحضيضية ثبت وجوب الحذر عقلا للزوم لغويته بدونه كما استدل في المسالك (٢) على وجوب قبول قول النساء وتصديقهن في العدّة بحرمة الكتمان

__________________

(١) معالم الدين : ١٨٩ ـ ١٩٠.

(٢) مسالك الافهام ٩ : ١٩٤.

١٢٣

عليهن بمقتضى قوله تعالى : ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ ) (١) قضية للزوم اللغوية بدونه.

الثالث : انّ الحذر جعل غاية للانذار الواجب ، وغاية الواجب بمنزلة ذي المقدمة لا يكون إلاّ واجبا عقلا ؛ ثم لو سلمنا عدم الملازمة العقلية فالملازمة العرفية متحققة.

وأمّا الجواب عن الأول : فبأنّ محبوبية الحذر وحسنه :

لو كان للتحذر عن العقاب ولو لاحتماله فهو كما ذكره في المعالم (٢) من انّه مع قيام المقتضي له يجب وبدونه لا معنى له ، بل لا يمكن كما عرفت.

وأمّا لو كان لرجاء إدراك المصالح الواقعية الملزمة في الشبهات الوجوبية والتحذر عن الوقوع في المفاسد الواقعية في الشبهات التحريمية ـ على ما عليه العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الكامنتين في الأفعال ـ فلا ملازمة بين حسنه العقلي ووجوبه الشرعي كما فيما لم تتم الحجة على التكليف أصلا كما في الشبهات البدوية ، فانّه لا شبهة في حسن الاحتياط فيها مع عدم وجوب التحذر قطعا ؛ وأمّا الملازمة الشرعية فلم يثبت بين مثل هذا الحسن في خبر الواحد ووجوب القبول ، وانّما المسلّم منها فيما إذا كان الحسن مستتبعا للحكم الشرعي ، لا مطلقا.

وأمّا عن الثاني : فبأنّ لزوم لغوية ايجاب الانذار عند عدم وجوب القبول تعبدا مسلّم لو لم يكن له فائدة اخرى ، وهي هاهنا موجودة وهو افشاء الحقّ واظهاره كي يحصل العلم للمتخلفين أو النافرين على اختلاف التفاسير من جهة كثرة النافرين ، أو المتخلفين ، أو الانذارات ، فيتمّ به الحجة عليهم ليهلك من هلك

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٢٨.

(٢) معالم الدين : ١٩٠.

١٢٤

عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بينة.

وترتب فائدة افشاء الحق وحصول العلم بكلّ واحد من الانذارات يكفي في كونه جزء سبب له ولو لم يحصل منه بنفسه ، مع انّه لو حصل لهم العلم من الخارج من جهة اخرى سابقة فلا يلزم اللغو في ايجاب الانذار أيضا للتنبيه والترغيب إلى امتثال الأحكام بذكر ما يترتب على مخالفتها من الوعيد والعقاب كما هو ديدن الواعظين.

وأمّا عن الثالث : فبأنّ الحكم بالملازمة بين وجوب الغاية مطلقا ووجوب ذيها إذا كان ذكر الغاية في اللفظ بعد احراز الاطلاق بمقدمات الحكمة ، فيتوقف على احراز كون المتكلّم في مقام البيان من جهتها وهو في الآية غير محرز وإنّما المتيقن احرازه بالنسبة إلى النفر والانذار ، لا الحذر ، والمتيقن منه حينئذ ما إذا حصل العلم من قول المنذرين ، مع انّ الظاهر منه في الآية هو صورة حصول العلم حيث انّ التفقه الواجب والانذار المترتب عليه إنّما هو بالامور الواقعية فلا بدّ من كون التحذر بالنسبة إليها أيضا وهو يتوقف على احراز كون المنذر صادقا ، ومع كون انذاره بالحكم الواقعي فينحصر وجوب التحذر على ذلك في صورة العلم.

نعم لا بدّ من كون الغاية غاية لجميع افراد الانذار ولكن أعمّ من أن يكون ذو الغاية تمام السبب بالنسبة إليها ، أو جزئه ، أو تحمل الغاية على الحكمة ولو لم يطرد في الجميع صحيح ، أو غاية لبعضها حتى يكون المذكور غاية بعض الانذارات لا جميعها.

ثم انّه بعد تسليم تمامية الاستدلال قد أورد عليه شيخنا العلامة (١) أعلى الله مقامه بما حاصله :

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥.

١٢٥

انّ مفاد الآية وجوب الحذر عند الابلاغ مع التخويف ، بحيث كان التخويف داخلا في اخباره وكان ابلاغه حجة على المنقول اليه بهذه الخصوصية بمقتضى دلالة الآية على حجية الاخبار الانذاري ؛ ومن المعلوم انّ هذا إنّما يتحقق فيما إذا كان تشخيص كون الحكم المخبر به ممّا يتخوّف به أم لا ، بفهم الناقل ، وهذا إنّما هو شأن المجتهد بالنسبة إلى مقلده حيث كان تعيين انّ الحكم ممّا يتخوّف به أم لا بفهمه وبرأيه ، فتدل الآية على حجية الفتوى ، لا ذكر الأخبار بالنسبة إلى المجتهد ممّا كان تعيين الحكم وانّه ممّا يتخوّف به أم لا بفهم المنقول إليه وكان وظيفة الناقل مجرد نقل الألفاظ بحيث يكون انضمام التخويف منه إليها وضع الحجر في جنب الانسان.

ولكن الظاهر : عدم المنافاة بين حجية القول من باب حجية الأخبار وصحة كونه بنحو الانذار والتخويف ، كما يظهر بالمراجعة إلى حال نقلة الفتاوى بالنسبة إلى المقلدين ، مع وضوح انّهم غالبا ينقلونها بنحو يشتمل على التخويف ويصدق عليهم انّهم منذرين وعلى أخبارهم الانذار.

ومن المعلوم انّ حال المتفقهين المطلعين برأي الامام عليه‌السلام بالنسبة إلى النافرين أو المتخلفين حال نقلة الفتاوى في صدق كونهم منذرين إذا أخبروا بها بنحو الانذار مع عدم حجية رأيهم للمنقول إليهم ، كما إذا أخبروا كذلك عن موافقة منهم فيكون الناقل للإخبار بنحو الانذار حجة بمقتضى الآية ، وبضميمة عدم الفصل يكون دليلا على تمام المدّعى من حجية الاخبار مطلقا ولو بغير الانذار في جميع الأحكام ولو في غير ما ينذر به من غير الوجوب والحرمة.

ومن جملة الآيات التي استدل بها على حجية أخبار الآحاد قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ

١٢٦

أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ). (١)

وتقريب الاستدلال كما يظهر من الشيخ رحمه‌الله نظير ما مرّ في آية النفر : من انّ حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول ، للزوم اللغوية بدونه ؛ وقد أجاب : بما مر في آية النفر من عدم التعرض فيها لوجوب القبول مطلقا ولو لم يحصل العلم ؛ أو ظهورها في خصوص صورة حصول العلم.

ولا يخفى انّ ما مرّ من الجوابين في آية النفر إنّما كان بالنسبة إلى الاستدلال بذكر الغاية لفظا فانّه يجاب حينئذ بعدم الاستكشاف من اللفظ أزيد من ذلك ، وما نحن فيه إنّما كان بالنسبة إلى الاستدلال باستكشاف اللغوية لحرمة الكتمان بدون وجوب القبول بحكم العقل ؛ ومن المعلوم انّه لا إهمال في حكم العقل ولا تخصيص بعد تسليم الملازمة ولزوم محذور اللغوية لولاه.

فالأولى الجواب : بعدم تسليم الملازمة لعدم انحصار الفائدة في وجوب القبول تعبدا ، بل الفائدة هو افشاء الحقّ وإظهاره بكثرة المخبرين كي يحصل للمنقول إليهم العلم بذلك فتتمّ الحجة بذلك عليهم ، كما كان الجواب ذلك في آية النفر بناء على الاستدلال بها بلزوم اللغوية.

ويشهد لذلك فيما نحن فيه ورود الآية في كتمان علماء اليهود علامات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن المعلوم انّه لا يكتفى فيها بالظن بل المطلوب هو تحصيل العلم.

ومن جملة الآيات التي استدل بها على حجية الخبر قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ). (٢)

وتقريب الاستدلال بها : ما مرّ في آية الكتمان.

والجواب عنها : انّ المتبادر من هذه العبارة في المتعارف هو وجوب تحصيل

__________________

(١) سورة البقرة : ١٥٩.

(٢) سورة النحل : ٤٣ ؛ سورة الانبياء : ٧.

١٢٧

العلم ويكون مفادها : « ان كنت لا تعلم فاسأل أهل الذكر حتى تعلم » لا حتى تعمل به بعد السؤال تعبدا ، ولا أقل من الاهمال المقتصر فيه على المتيقن.

وقد أورد على الاستدلال بها الشيخ قدس‌سره (١) ، بعد تسليم دلالتها على وجوب القبول تعبدا بعد السؤال : بأنّ المراد من أهل العلم ليس مطلق من علم بشيء ولو من سماع لفظ الرواية من الامام عليه‌السلام حيث انّ المطّلع على شيء من طريق السمع أو البصر لا يقال انّه من أهل العلم به بل يقال أهل العلم شيء إذا كان العلم به محتاجا إلى اعمال رويّة وفكر بحيث لم يكن كلّ الناس بالنسبة إليه على السويّة بل كان لبعضهم مزيد اختصاص به ، فالمناسب الاستدلال بالآية على حجية الفتوى لا على نقل الأخبار بحيث لم يكن المطلوب فيه إلاّ سماع اللفظ من الامام عليه‌السلام.

وفيه : انّ بعض الرواة من أمثال زرارة ومحمد بن مسلم المطلعين على آراء الامام عليه‌السلام يصدق عليهم انّهم أهل العلم بآرائه عليه‌السلام ، مع انّه لا يصدر منهم إعمال رويّة إلاّ مجرد فهم ظهور الفاظه عليه‌السلام على طريقة مخاطبة أهل العرف ، كما يصدق ذلك على نقلة الفتاوى المطلعين بآراء المجتهدين ، وحينئذ يصدق على الرجوع إليهم والسؤال عنهم من رأي الامام عليه‌السلام انّه سؤال من أهل العلم ولو كان السائل أفقه منهم بحيث يكون الرجوع إليهم لمجرد اطّلاعه على رأيه عليه‌السلام لا من جهة السؤال من فتواه ، فحينئذ يجب العمل بنقلهم رأيه عليه‌السلام تعبدا بمقتضى دلالة الآية ، ويتمّ في الباقي من الرجوع إليهم لاستماع لفظ الرواية وإلى غيرهم ممّن لا يصدق عليهم أهل العلم وإلى غير المسبوق منهم بالسؤال بضميمة عدم القول بالفصل.

ومن جملة الآيات قوله تعالى : ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٢٩٠ « وثالثا ».

١٢٨

قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) مدح الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بتصديقه للمؤمنين بل قرنه بتصديقه صلى‌الله‌عليه‌وآله به تعالى ، فيدل على حسن التصديق للمؤمن ، وإذا كان حسنا فيكون واجبا كما عرفت.

ولكن يرد عليه :

أولا : بأنّ المراد بالاذن كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله سريع التصديق والاعتقاد بكل ما يسمع به ، أي يبرز نفسه صورة سريع الاعتقاد بقول المؤمنين لحسن الظن بهم وعدم اتهامهم ولو لم يعمل بقولهم كما في مورد الآية كما لا يخفى ، فيدل على مدح من كان كذلك ، فلا دلالة [ لها ] على وجوب [ تصديق ] قول الغير تعبدا بحيث يجب عليه ترتيب الآثار ولو لم يحصل العلم.

وثانيا : بأنّه على تقدير تسليم حمل الآية على تصديق قول الغير تعبدا ولو لم يحصل منه العلم فالأحسن المناسب لموردها التبعيض في الآثار بالاقتصار بترتيب ما كان منها نفعا للمؤمنين جميعا لا أزيد بقرينة كلمة « اللام » في الآية ، كما انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله صدّق الله تعالى بقول مطلق وصدّق النمّام بأن لم يحدّه ولم يهنه وإلاّ فكيف يصير التصديق المطلق في مقابل قوله تعالى.

ويشهد على ما ذكرنا قوله عليه‌السلام : « يا أبا محمد كذّب سمعك وبصرك عن أخيك فان شهد عندك خمسون قسامة انّه قال قولا وقال لم أقله فصدّقه وكذّبهم » (٢) حيث انّ الحكم بتصديق الواحد في مقابل قول خمسين قسامة وتكذيبهم لا يكون إلاّ بترتيب ما ينفعه من الأثر ولا يضرّهم وهو مجرد عدم اتهامه وعدم تحديده (٣) حيث

__________________

(١) سورة التوبة : ٦١.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ٦٠٩ الباب ١٥٧ من ابواب العشرة ، الحديث ٤ ، لكن فيه « يا محمد » ؛ الكافي ٨ : ١٤٧ الحديث ١٢٥.

(٣) الظاهر انه بمعنى عدم اجراء الحدّ الشرعي للكذب على الكاذب.

١٢٩

انّه ينفعه ولا يضرّهم لا انّ المراد ترتيب جميع آثار الصدق على قوله ولو كان مضرا عليهم كما لا يخفى ذلك من ملاحظة سياق الرواية مع استلزام التصديق كذلك الترجيح بلا مرجح بل ترجيح المرجوح.

ويؤيّد ما ذكرنا من حمل التصديق في الآية على التبعيض في الآثار استدلال أبي عبد الله عليه‌السلام بها في قصة ابنه اسماعيل بعد تسليمه دنانيره إلى رجل من قريش خرج إلى اليمن للتجارة مع قول الناس لاسماعيل بكون الرجل شارب الخمر فانّ تهديد الامام عليه‌السلام بعدم تصديقهم أو أمره به ليس إلاّ مجرد عدم استيمانه له المستلزم لتصديقهم في بعض الآثار النافع بحاله غير المضرّ بحال أحد ، كما لا يخفى.

وما ذكرنا هو الظاهر من هذه الروايات الواردة بلسان التصديق ؛ وبناء عليه فلا دلالة لها ولا للآية على حجية الخبر الواحد المطلوب فيه ترتيب جميع الآثار ، لا ما ذكره شيخنا العلامة (١) أعلى الله مقامه في الجواب من حملها على ما ورد في حمل فعل المسلم على الصحيح أي على الجائز لا على المحرم ، حيث انّه لا يستلزم ذاك الحمل التصديق ولو في بعض الآثار لكونه أعمّ من وجه بالنسبة إليه لكون الكذب جائزا حسنا بل واجبا في بعض الاحيان والصدق حراما كذلك ايضا ، فالحمل على الجائز غير الحمل على الصدق ولو بنحو التبعيض في الآثار كما هو واضح.

ومن جملة الأدلة على حجية خبر الواحد : السنّة ، وهي على طوائف :

منها : ما دل على حجية الخبر مطلقا بظاهر اللفظ أو بفحواه مثل قول الحجة

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٢٩٥.

١٣٠

عجّل الله فرجه لاسحاق بن يعقوب : « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم .... الخ ». (١) ومثل قوله عليه‌السلام : « إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنّا فانظروا إلى ما رووه عن علي عليه‌السلام ». (٢) وقوله عليه‌السلام للراوي : « اكتب وبثّ علمك .... فانّه يأتي زمان هرج لا يأنسون إلاّ بكتبهم » (٣) ؛ إلى غير ذلك من الروايات المشتركة مع ما ذكر في الدلالة على حجية الخبر مطلقا.

[ و ] منها : ما دل على حجية قول الثقة ، مثل ما ورد في الخبرين المتعارضين من الأخذ بالأوثق مثل قوله عليه‌السلام في رواية المغيرة : « إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم ». (٤) ومثل قوله عليه‌السلام في رواية اخرى : « خذ بأعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك » (٥) بحيث يظهر منه أنّ الوثوق وحده كاف في أصل الحجية والترجيح ؛ وهكذا غيرها من الأخبار.

ومنها : ما دل على حجية قول الموثق العدل مثل قوله عليه‌السلام في الرواية المذكورة : « خذ بأعدلهما عندك ». ومثل بعض الروايات الحاكمة إلى ارجاع بعض الرواة إلى آحاد أصحابهم العدول الموثقين ، مثل إرجاعه عليه‌السلام إلى زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير وزكريا بن آدم.

نعم بعض الأخبار تدل على حجية قول من كان فوق العدالة مثل :

ما ورد في العمري وابنه الذين كانا من النواب والسفراء مثل ما في الكافي عن أحمد بن اسحاق قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام وقلت له : من اعامل؟ أو عمّن

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ١٠١ الباب ١١ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٩.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ٦٤ الباب ٨ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٤٧.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٥٩ الباب ٨ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ١٨.

(٤) وسائل الشيعة ١٨ : ٨٧ الباب ٩ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٤١.

(٥) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ الحديث ٢ ؛ بحار الانوار ٢ : ٢٤٥ الباب ٢٩ الحديث ٥٧.

١٣١

آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال له : « العمري ثقة فما أدّى إليك عني فعني يؤدي وما قال لك فعني يقول فاسمع له وأطع فانّه الثقة المأمون ». (١)

وعنه أيضا انّه سأل أبا محمد عن مثل ذلك فقال له : « العمري وابنه ثقتان فما أدّيا إليك عني فعني يؤديان وما قالا لك فعني يقولان فاسمع لهما وأطعهما فانّهما الثقتان المأمونان » الخ. (٢)

ومثل ما في تفسير العسكري عن الصادق عليه‌السلام في جواب السائل عن الفرق بين علماء اليهود وعلماء الامّة بعد ذمّ العالم الفاسق وعدم جواز العمل بقوله فقال عليه‌السلام « .... فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم » (٣) الخ ، وظاهره وان كان في الفتوى إلاّ أنّ الانصاف شموله للرواية أيضا كما يظهر من ملاحظة صدرها وذيلها ؛ إلى غير ذلك من الروايات.

ثم انّ هذه الطوائف :

وان كان كلّ واحد منها بنفسه خبرا واحدا غير صالح للاستدلال به على حجية خبر الواحد ولم يكن المجموع منها متواترا لفظيا كما هو واضح ولا معنويا بالنسبة إلى الجامع بينها لعدم كونه مقصودا بالإخبار بحيث كان الإخبار به مقصودا على حدة ولو انتفت الخصوصية : من التعارض في بعض ، وكون المخبر ثقة في بعض ، والارجاع إلى خصوص بعض الرواة في بعض كما هو شرط التواتر المعنوي كما في الإخبار بغزوات أمير المؤمنين عليه‌السلام المشتركة في الإخبار

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٣٠ باب في تسمية من رآه عليه‌السلام ، الحديث ١.

(٢) الكافي ١ : ٣٣٠ باب في تسمية من رآه عليه‌السلام ، الحديث ١.

(٣) تفسير العسكري (ع) : ٢٩٩ ـ ٣٠٠ / ١٤٣ ؛ وسائل الشيعة ١٨ : ٩٥ الباب ١٠ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠.

١٣٢

بشجاعته الجامعة ولو انتفت الخصوصيات ، وكما في الكنايات الدالة على جود المخبر عنه مثل : زيد « مهزول الفصل » و « جبان الكلب » ونحوهما ولو انتفت الخصوصيات أيضا.

إلاّ أنّها متواترة اجمالا بمعنى انّه يعلم اجمالا بصدق بعض منها وعدم كذب الجميع الناشئ من كثرتها الموجبة للعلم المذكور عادة.

ولازم ذلك أن يؤخذ بأخصّ الطوائف مضمونا ، لكونه متيقنا من حيث المضمون ، فيؤخذ فيما نحن فيه بالطائفة الدالة على حجية خبر العادل الموثوق الصدور ، وبعده فيلحظ : فان كان الباقي بالغا في الكثرة حدّا يعلم بعدم كذب الجميع أيضا فيؤخذ بأخص ما بقي منها مضمونا ، وهكذا إلى أن لم يكن علم عادة بصدق البعض.

كما لا يبعد أن تكون الطائفة الدالة على حجية الخبر الموثق معلوم الصدق مضمونا فيؤخذ بها أيضا فيكون الخبر الموثوق بصدوره حجة وان لم يكن الوثوق من جهة صدق الراوي بل من جهة اخرى ، من : اشتهاره بين الأصحاب ، ووجوده في أسانيد عديدة ، وكونه معمولا به عند بعض ، إلى غير ذلك من أسباب الوثوق.

ويمكن التعدي إلى مطلق الخبر الموثق من جهة اخرى أيضا : بأن قامت الطائفة الاولى على حجية خبر كان كذلك ، ومن المعلوم كفاية الخبر الموثق في الفقه بحيث لا يحتاج إلى اعمال مقدمات الانسداد بعد ذلك.

ومن جملة الادلة على الحجية الاجماع ؛ وتقريره من وجوه : بعضها في مقابل قول السيّد بالمنع (١) وهو على وجهين :

__________________

(١) الذريعة الى اصول الشريعة ٢ : ٥٣٩ و ٥٤١ ؛ رسائل المرتضى ١ : ٥١ و ٣ : ٣١٣ ؛ وقد اشبع الكلام حول ـ خبر الواحد في المسائل التبانيات من رسائل المرتضى ١ : ٢١ ـ ٩٦.

١٣٣

الاول : تتبع أقوال العلماء وفتاويهم من زماننا هذا إلى زمان الشيخ قدس‌سره فيحصل القطع برضاء المعصوم عليه‌السلام ؛ أو عن وجود نص معتبر عليه ، ولا اعتناء في ذلك بمخالفة السيّد وأتباعه امّا لكونهم معلومي النسب ، وامّا للاطّلاع على حصول الشبهة كما ذكره العلامة رحمه‌الله. (١)

والثاني : تتبع الاجماعات المنقولة كما ذكره شيخنا العلامة أعلى الله مقامه في الفرائد (٢) فراجع.

ولكن الظاهر عدم تمامية التمسك بهذين الوجهين.

أمّا الاول : ففيه : ـ مضافا (٣) إلى عدم تحصيل اتفاقهم على حجية قسم من الخبر عموما ولا خصوصا بل ذهب كل منهم إلى حجية قسم خاص منه فبعضهم على حجية الخبر الموثق وبعضهم على اعتبار العدالة في الرواة إلى غير ذلك بحيث لا يكشف ذلك عن اتفاقهم على جامع حيث انّ القائل بحجية قول الثقة مثلا لو اخذت خصوصية الثقة عنه لا يقول بحجية الخبر لا أعمّ منه ولا أخصّ منه بل يكون حينئذ من النافين وكذا القائل بحجية مطلق الخبر بالنسبة إلى ذهاب العموم عن يده ـ انّه على فرض التسليم يكون ذلك تحصيلا لفتاوى العلماء وحدسياتهم ـ في مقابل السيّد رحمه‌الله وأتباعه ـ على الحجية ؛ ومجرد الاتفاق على الفتوى على أمر مع احتمال التمسك في ذلك بل التصريح من بعض بما ذكر من الادلة لا يكشف عن دليل قطعي أو عن التلقّي عن المعصوم عليه‌السلام كما في فتاوى العلماء في سائر المسائل.

وأمّا الثاني : ففيه : مضافا إلى ما ذكرنا في الوجه [ الاول ] ؛ انّ عدد الناقلين

__________________

(١) نهاية الوصول ٣ : ٤٠٣.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٣١١.

(٣) جملة معترضة طويلة.

١٣٤

ان لم يكن بقدر التواتر فلا يصح التمسك به على حجية خبر الواحد ، وان كان فكذلك أيضا ، لكون النقل منهم سواء كان راجعا إلى نقل الكاشف أو المنكشف إنّما يكون حدسيا فلا يكون حجة ولو بناء على حجية الخبر عن الحس مع وجود ما يمنع عن استكشاف الدليل القطعي من الاتفاق من الآيات والسنة.

الثالث : أن يدّعى الاجماع العملي من العلماء بل من كافة المسلمين على العمل بخبر الثقة في امورهم الشرعية ، كما في نقل الزوج فتاوى المجتهد بالنسبة إلى الزوجة ، واخبار الوكيل فيما وكّل فيه ، ونقل العالم بالفتاوى بالنسبة إلى المقلدين.

بل السيّد رحمه‌الله داخل في هذا الاجماع في مثل زماننا هذا وشبهه ممّا انسدّ فيه باب العلم حيث أجاب بعد الاعتراض على نفسه بأنّه إذا سددتم طريق العمل بأخبار الآحاد فعلى أي شيء تعولون في الفقه كله بما حاصله :

انّ معظم الفقه يعلم بالضرورة والاجماع والأخبار العلمية وما يبقى من المسائل الخلافية يرجع فيها إلى التخيير ، فانه يعلم منه انّه على فرض الانسداد لا بأس بالعمل به كما اعترف به على ما حكي عنه في المعالم. (١)

ولكنه يرد على هذا الوجه على فرض تسليمه مضافا إلى ما ذكرنا في الوجهين الأوّلين : انّ العمل غير معلوم الوجه لو لم يدّع انّه من جهة كونهم من العقلاء لو كانت طريقتهم على ذلك ، ومعه فلا يعدّ وجها على حدة ، وبدونه فلا وجه للطريقة العقلائية.

الرابع : استقرار طريقة العقلاء وديدنهم على الرجوع إلى خبر الثقة في امورهم العادية ومنها الأوامر الجارية من الموالي إلى العبيد ، وهذه الطريقة كانت

__________________

(١) معالم الدين : ١٩٦.

١٣٥

مأخوذة عندهم خلفا عن سلف سواء كان الوثوق من جهة الراوي أو من جهات اخرى إلى الأديان السالفة والشرائع الخالية وكانت مستمرة إلى زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين وكان أصحابهم [ جارين ] (١) على ذلك بمرأى منهم ، فلولا رضاهم عليهم‌السلام على ذلك مع كونه العمدة والاساس لاثبات الأحكام الفرعية الالهية وعدم المانع من تقية ونحوها في إظهاره لكان عليهم ـ لئلاّ يلزم نقض الغرض ـ ردعهم عنها ، ولو كان لبان ، لتوفر الداعي إلى نقله لكون الحاجة إليه ثابتة في اليوم والليلة في إطاعة الأحكام بل في الامور العادية ، فحيث لا نقل فلا ردع ، فيكشف ذلك عن رضاهم عليهم‌السلام عليها.

فان قلت : يكفي في ردعهم الآيات المتكاثرة والأخبار المتظافرة المانعة عن العمل بما عدى العلم مثل قوله تعالى : ( لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (٢) ( وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (٣) و ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ) (٤) إلى غير ذلك.

قلت :

أولا : انّ هذه الآيات إنّما وردت في قبال المشركين غير المتدينين بهذه الشريعة الآخذين بدين آبائهم كما حكى الله عنهم بقوله تعالى : ( إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) (٥) ومن المعلوم انّ المناسب بحالهم حمل النهي على الارشاد إلى ما هو طريقة العقلاء من عدم صلاحية الظن غير الجاري

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( جارية ).

(٢) سورة الاسراء : ٣٦.

(٣) سورة يونس : ٣٦.

(٤) سورة الانعام : ١١٦.

(٥) سورة الزخرف : ٢٣.

١٣٦

عليه الطريقة للاستناد إليه والعمل به كما في الاصول وخبر غير الثقة لا حمله على الردع عن مولوية ، كي يشمل الظن الجاري عليه الطريقة المستمرة.

وثانيا : انّه على تقدير حمله على المولوي انّ المحتمل بل الظاهر كونه نهيا تشريعيا دالا على حرمة استناد المظنون بالظن غير المعتبر إليه تعالى ، فيتوقف على كون الظن مع قطع النظر عنه منهيا عنه وغير حجة ، فلا يشمل مثل الموثق القائم على حجيته السيرة إلاّ أن يستكشف من الاطلاق كون جميع الظنون غير حجة كما في استكشاف عدم كون صلاة الحائض عبادة مقربة من قوله عليه‌السلام : « دعي الصلاة أيام اقرائك » (١) ، إلاّ أنّ منع الاطلاق بناء عليه أظهر.

وثالثا : انّه على فرض تسليم كون النهي مولويا دالا على حرمة العمل بما عدى العلم ذاتيا يكون منع الاطلاق لعدم احراز مقام البيان ، أو لدعوى الانصراف إلى النهي عن الظن في الاصول أو غير الموثق والظنون القياسية ، أو دعوى كونهما القدر المتيقن من الاطلاق في التخاطب بحيث لا ينسبق إلى الذهن غيرهما من الظنون المعتبرة كما هو كذلك في الظواهر ، بمكان من الامكان.

ورابعا : على فرض تسليم الاطلاق عن العمل بما وراء العلم مطلقا ؛ انّه لا تصلح الاطلاقات الناهية عن ذلك للردع عن الخبر الموثق القائم عليه السيرة إلاّ على وجه دائر. توضيحه يحتاج إلى بيان أمرين :

الأول : انّ حجية الاطلاق فعلا حتى في النهي عن غير الموثق يتوقف على عدم المقيد على خلافه وإلاّ فيكون المقيّد مقدما عليه.

الثاني : انّ السيرة المستمرة من الشرائع السابقة إلى زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنه إلى زمان نزول الآيات الناهية كانت ممضاة وحجة ولم يكن ردع عنها من غيرها

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢ : ٥٤٦ الباب ٧ من ابواب الحيض ، الحديث ٢.

١٣٧

وإذا كان كذلك فحجية مثل هذه السيرة الممضاة بعد ذلك لا يحتاج إلى عدم ردع عنها واقعا بل يكفي في العمل بها عدم قيام حجة صالحة للردع عنها وان استكشف منه ذلك بالإن وإذا لم يقم ذلك فيصلح لتقييد المطلقات الناهية لخصوصيتها في الخبر.

إذا عرفت [ ذلك ] : تعلم انّ السيرة في المقام صالحة للتقييد بمجرد عدم ثبوت ردع عنها في مقام الاثبات بلا توقف على شيء آخر. وأمّا حجية الاطلاقات في قبالها يتوقف على عدم حجية السيرة وإلاّ فيقدم عليها وعدم حجيتها يتوقف على الردع عنها وحيث انّه لا رادع [ آخر ] (١) غير الاطلاقات فلو ثبت الردع بها للزم الدور. نعم كانت حجة مطلقا ولو لم يثبت الردع عن السيرة لكان لها وجه إلاّ انّه خلاف الواقع وامّا معه فلا يكون حجة إلاّ على وجه دائر كما عرفت ، وإذا لم يكن حجة فيثبت ما تتوقف عليه حجية السيرة من عدم حجّة قائمة على الردع فيقيد بها الاطلاقات.

وتوهّم الدور في العكس : بأنّ حجية السيرة تتوقف على عدم حجية الاطلاق واثباته بها مستلزم للدور ، مدفوع :

بأنّ ثبوت التقييد بها يكفي فيه عدم اثبات حجة على خلافها وعرفت عدم كون الاطلاق حجة قائمة إلاّ على وجه دائر فيحصل ما يتوقف عليه السيرة دون الاطلاق ولو عند ملاحظتهما معا وتعارضهما. نعم لو كانت حجية السيرة متوقفة على عدم الردع عنها واقعا فيشكل العمل بها مع مثل هذا الاطلاق الاّ انه غير صحيح.

الرابع : دليل العقل ، وهو من وجوه : يختص بعضها باثبات حجية الخبر

__________________

(١) في الاصل المخطوط ( اخرى ).

١٣٨

وحده ، وبعضها يثبت حجية الظن مطلقا أو في الجملة فيدخل فيه الخبر.

أمّا الاول : فتقريره من وجوه :

الاول : ما اعتمد عليه الشيخ المرتضى الأنصاري قدس‌سره القدّوسي. (١)

وحاصله : انّ من تتبع أحوال الرواة في كيفية نقلهم للروايات ، ولاحظ حال أرباب الكتب من المشايخ الثلاثة وغيرهم في تنقيح ما أودعوه في كتبهم ، وعدم الاكتفاء بأخذ الرواية من كتاب ، وايداعها في تصانيفهم حذرا من كون ذلك مدسوسا فيه من بعض الكذّابين ، وانحصار روايتهم عن طريق السماع لا عن كل من يسمعونها عنه بل عمّن يثقون به بأسباب الوثوق إذا كان ناقلا عن الموثوق به أيضا وإلاّ فلا يعتنون بنقل الموثّق إذا لم يكن جميع الوسائط إلى الانتهاء إليهم عليهم‌السلام موثوقا به أيضا حتى أنّهم يتركون روايات من عمل بالقياس كروايات الاسكافي ومن عدل عن الحق وان كان إماميا في حال سماع الرواية ونقلها حتى أذن لهم الإمام عليه‌السلام أو نائبه ككتب بني فضّال المأذون فيها من العسكري عليه‌السلام وكتب أبي عذافر المأذون فيها من الشيخ أبي القاسم بن روح هذا ، مع كون بعض الرواة المبتنية عليهم قوام الدين كما ورد في شأن جماعة منهم « لو لا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست » (٢) إلى غير ذلك من أسباب الوثوق ، يحصل (٣) له الجزم بصدور غالب الروايات التي فيما بأيدينا من الكتب الأربعة وغيرها ؛ ولازمه وجوب العمل بكل خبر مثبت للتكليف وناف له إذا لم يكن مخالفا للأصل ، والاحتياط لازم في المسألة.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٣٥١.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ١٠٣ الباب ١١ من ابواب صفات القاضي ، الحديث ١٤. والمصنف نقل الحديث هكذا : « لولاهم لاندرست آثار النبوة ».

(٣) خبر « انّ » في اول المقطع.

١٣٩

هذا لو لم يلزم من العمل بالجميع محذور العسر وإلاّ فيجري فيه تبعيض الاحتياط أو العمل بمظنون الصدور على التفصيل الآتي في دليل الانسداد لا العمل بمظنون الصدور أقلا كما عن الشيخ رحمه‌الله (١) ولذا قد أضرب عنه فراجع.

وقد أجاب عنه الشيخ رحمه‌الله (٢) : بأنّ امتثال هذا العلم الاجمالي من جهة وجوب امتثال أحكام الله الواقعية المدلول عليها بتلك الأخبار فالعمل بقول الإمام عليه‌السلام حينئذ من جهة كشفه عنها ، ومن المعلوم انّ العلم الاجمالي بها في ضمن الأخبار منطو في العلم الاجمالي الكبير منها بين الأخبار وسائر الأمارات ؛ والقرينة على هذا العلم انّه مع اخراج ما ينحلّ به العلم الاجمالي في خصوص الأخبار منها يبقى علم اجمالي بالأحكام أيضا بين الباقي منها وسائر الأمارات ، وبانضمام سائر مقدمات الانسداد من تعسّر الاحتياط أو تعذّره وخروج المخالفة القطعية بالرجوع إلى أصالة البراءة وعدم إمكان الاحتياط أو عدم وجوبه يرجع إلى دليل الانسداد المنتج لحجية الظن أو لتبعيض الاحتياط على ما يأتي ان شاء الله.

ولكنه يمكن الدفع : بأنّ العلم الاجمالي إنّما يكون منجّزا وواجب العمل إذا لم ينحل بالمصادفة بنفس المعلوم بالاجمال أو بما يحتمل الانطباق عليه ولم يكن الباقي من المعلوم بالاجمال بعد المصادفة بمقدار منه دائرا بين أطراف غير محصورة ؛ وكلّ منها ممنوع في المقام.

أمّا أولا فلا يبعد دعوى كون الأحكام الواقعية بين خصوص الأخبار بمقدار المعلوم بالاجمال منها بين جميع الأمارات وبقاء العلم الاجمالي بعد الاخراج المذكور على فرض التسليم لا يثمر لاحتمال موافقة المعلوم بالاجمال بينها مع

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٣٥٧.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٣٥٧ « والجواب عنه اولا ».

١٤٠