تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

الشيخ علي القوچاني

تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي القوچاني


المحقق: محمّد رضا الدّانيالي
الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 978-600-5213-31-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-29-4

الصفحات: ٦٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين

الطاهرين المعصومين واللعنة الدائمة على أعدائهم

أعداء الدين أجمعين.

٣
٤

المقصد السادس

الامارات المعتبرة

شرعا أو عقلا

٥
٦

القطع

٤٢٣ ـ قوله : « وكان أشبه بمسائل الكلام لشدة مناسبته مع المقام ». (١)

وجه كون أحكام القطع أشبه بالكلامية : لكون مثل وجوب اتّباعه ، وتنجيزه الواقع والعذر في مخالفته ، وسائر أحكامه الآتية ، عقلية صرفة بدون أن يكون واحد منها واقعا في طريق الاستنباط. نعم الادلة التي صارت سببا لحصول القطع بالحكم الشرعي قاعدة اصولية كانت نتيجتها حكما فرعيا.

ومنه يظهر وجه مناسبته مع المقام ، لانّ القطع بالحكم قطع بالنتيجة للمسائل الاصولية ، فيكون معيارا لتميزها وضابطا لكون المقدمات التي كانت مفيدة له من مهمات الاصول ؛ بخلاف القطع بغير الحكم الشرعي ، فانّه لا ربط له بالاصول ولا نتيجتها كما هو واضح.

فقد ظهر انّ البحث عن المقدمات مثل خبر الواحد والاجماع وغيرهما من سائر الاسباب ـ وجودا تارة وحجية اخرى ـ من المهمات ؛ والبحث عن القطع نتيجتها من المناسبات.

٤٢٤ ـ قوله : « فاعلم انّ البالغ الذي وضع عليه القلم اذا التفت الى حكم فعلي .... الخ ». (٢)

ولا بد في المقام من بيان المرام مما أخذ في المقسم من القيود ، فنقول :

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٩٦ ؛ الحجرية ٢ : ٣ للمتن ، و ٢ : ٣ للتعليقة.

(٢) كفاية الاصول : ٢٩٦ ؛ الحجرية ٢ : ٣ ، و ٢ : ٤ للتعليقة.

٧

انّ المراد منه على ما يظهر من حاشية الاستاذ (١) ليس خصوص من تنجز عليه التكليف وقطع عنه العذر. ولكن الحق انّ المراد منه خصوص الفعلي كما سيظهر وجهه ، وانّ قيد الالتفات احترازي على ما هو الاصل في القيود احترز به عن غير الملتفت ، فعدم تعلق غرض الاصولي به لكون المهم عنده بيان الحكم الذي يصلح أن يستند اليه المكلف في مقام العمل ، ولا يعقل الاستناد الى حكم غير الملتفت.

ثم انّ قيد الالتفات إنما هو لدخالته في حكم الاقسام لا في نفس [ المقسم ] (٢) كما لا يخفى. والمراد من الحكم الفعلي هو الحكم الالهي المتعلق بالموضوعات الكلية الذي من شأنه أن يؤخذ من الشارع ، بلا فرق فيه : بين كونه ثابتا للعناوين الاولية للاشياء بما هي هي الذي يسمى في الاصطلاح « واقعيا أوليا » ، أو ثابتا لها بما هي مشكوكة الحكم سواء كان الشك مأخوذا في موضوعه كما في الاصول الشرعية ، أم لا كما في مورد الامارات.

ووجهه عدم الفرق ـ في جريان آثار القطع وأحكامه من وجوب الاتّباع عقلا ونحوه وأقسامه الآتية من الطريقي والموضوعي والاجمالي والتفصيلي ونحوها ـ بين أن يتعلق بالحكم الواقعي أو الظاهري.

وتوهم : الفرق بعدم الإجزاء فيما لو انكشف الخلاف في صورة القطع [ بالواقعي ] (٣) الاولي ، دون ما اذا تعلق بالظاهري ، فانّ الحكم بحسب القاعدة هو الإجزاء في صورة كشف الخلاف في خصوص مؤدّى الاصول ، أو في مؤدى الامارات أيضا كما مال اليه الشيخ رحمه‌الله كما هو. (٤)

مدفوع : بأنّ الإجزاء في موردها ـ على القول به ـ إنما هو في صورة تخلف

__________________

(١) درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٢١ ، والطبعة الحجرية : ١.

(٢) في الاصل الحجري ( القسم ).

(٣) في الاصل الحجري ( بالواقع ).

(٤) فرائد الاصول ١ : ٣٣.

٨

المقطوع عن الواقع ، لا فيما تخلف القطع عن متعلقه كما لو قطع بحجية خبر الواحد ثم انكشف عدم الحجية ، فانّه لا اشكال في عدمه أيضا كما في صورة كشف الخلاف في القطع بالواقع.

واذا ظهر عدم الفرق في آثار القطع في موارد تعلقه بالحكم الفعلي ، فلا وجه لمقابلة الامارات والاصول الشرعية مع القطع كما في كلام شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه في أول الفرائد ـ ان كان مراده اختصاص آثاره بخصوص ما اذا تعلق بالواقعي الاوّلي ، وإلاّ فلا فائدة في هذه المقابلة فيما هو المهم من بيان الضابط لجريان الآثار الخاصة للشقوق.

ان قلت : ما ذكرت في وجه عدم الاختصاص ـ من عمومية آثاره لمطلق القطع بالحكم الفعلي ـ يقتضي جعل المقسم الالتفات الى مطلق الحكم ولو لم يكن شرعيا أيضا ، لا سيّما بناء على كون تعيين وظيفة العمل عقلا من الاصول أيضا ، فما وجه الاختصاص؟

قلت : الوجه : كون المهم للاصولي البحث عما يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي والتوصل الى ما ينتهي اليه في مقام العمل ، فلا وجه لتعميم صور المبحث لأن يشمل مطلق الحكم ولو كان عقليا. وامّا العقلي المتعلق بحكم العمل فانما هو في مورد الالتفات الى الحكم الشرعي ؛ فلا بد من جعل المقسم خصوص الملتفت الى الحكم الشرعي ثم بيان حكمه في صورة القطع به وفي صورة عدمه على حدة ، ولو بناء على كون تعيين وظيفة العمل مطلقا من مسائل الاصول أيضا كما لا يخفى.

ومنه يظهر انّ البحث عن الاصول العقلية مع عدم وقوعها في طريق الاستنباط ـ لكون البراءة مجرد الأمن من العقاب عند البيان مثل عدم التنجيز العقلي المستلزم لصحة المخالفة عملا ، عكس الاشتغال الحاكم بالعقاب عند المخالفة ـ إنما

٩

يكون مقصودا بالاصالة بناء على تعميم الفرض.

فان قلت : فعلى ما ذكرت ـ من جعل المقطوع الحكم الفعلي الشرعي ـ يخرج من حكم القطع ما جعل منه وهو قيام الامارة مقامه ، لأنها إن كانت حجة فيدخل ذلك في القطع ، وإلاّ فلا تقوم مقامه أصلا.

قلت : وجه جعله من حكمه باعتبار ذات الامارة مع قطع النظر عن دليل اعتباره ، وان كان بملاحظة دلالته على الحجية التي عين قيامها مقام القطع يدخل في أقسامه أيضا.

فان قلت : بعد جعل متعلق القطع مطلق الحكم الشرعي ولو كان ظاهريا ، فما وجه تخصيصه بالفعلي؟

قلت : الوجه انّ للحكم مراتب أربعة :

أولاها : مجرد وجود المقتضي للحكم.

وثانيتها : انشاء الحكم على طبقه دون بعث وزجر على العمل فعلا ، امّا لعدم المقتضي للمرتبة الفعلية كعدم استعداد المكلفين مثلا ، أو لوجود المانع عنها.

ثالثتها : وصولها الى المرتبة الفعلية من قبل الشارع من دون أن يكون منجزا موجبا لاستحقاق العقوبة والمثوبة على المخالفة والموافقة عقلا ، لعدم العلم به مثلا.

رابعتها : وصولها الى مرتبة التنجز الموجب للاستحقاق المذكور.

ولا يخفى انّه انّ ما هو بحكم العقل بمجرد القطع بالمرتبة [ الرابعة ] (١) كما سيجيء ، كما انّ الثلاثة السابقة [ إنما ] (٢) هي من قبل الحاكم.

اذا عرفت ذلك فاعلم : انّ آثار القطع من وجوب الاتّباع ونحوه إنما تترتب عليه اذا تعلق بالحكم الفعلي لا بالمرتبتين الأوّلتين ، لعدم التكليف بالعمل فيهما

__________________

(١) في الاصل الحجري ( الثالثة ).

(٢) في الاصل الحجري ( انها ).

١٠

حقيقة ، وان كان ربّما يترتب عليه آثار أخر غير ما نحن بصدده من بيان أحكامه في مقام العمل المحركة للمكلف اليه.

فان قلت : على ما ذكرت من التقسيم الثنائي يتداخل القسمان في الحكم ، من جهة كون بعض ما لا يحصل فيه القطع بالحكم الشرعي الفعلي بحكمه في وجوب الاتباع عقلا ، مثل الظن في زمان الانسداد بناء على الحكومة.

قلت : الفرق : انّ حكم العقل في القطع إنما هو بنحو التنجيز والعلية ، وفي الظن إنما هو بنحو الاقتضاء والتعليق بعدم المنع الشرعي.

نعم الأحسن في التقسيم الثنائي أن يقال هكذا : « المكلف : امّا أن يحصل له القطع بالحكم الفعلي وما بحكمه في بعض الآثار على بعض الوجوه كالظن المذكور فيتّبع عقلا ، أو لا ، فالمرجع الاصول العقلية » ليشمل قوله : « وما بحكمه الامارات الشرعية » بناء على ما ذهب اليه الاستاذ (١) قدس‌سره من كون المجعول فيها الحجية ، لا الحكم المماثل لمؤداها على ما هو المشهور. نعم بناء على تعميم متعلق القطع للأعم من الحكم التكليفي والوضعي فلا يحتاج الى الالحاق كما لا يخفى.

ثم انّ الظاهر من كلام شيخنا العلامة أعلى الله مقامه ـ بقرينة تثليث الاقسام باعتبار القطع والظن والشك بقوله : « فامّا ان يحصل له الشك فيه أو القطع أو الظن » ـ (٢) جعل المقسم هو الحكم الواقعي ، والامارات الشرعية من القسم الثاني ، والاصول من الثالث.

ولكنه أورد عليه الاستاذ : (٣)

أولا : بأنه يلزم اختلاف القطع مع الظن والشك في المتعلق من حيث لزوم أخذه فيه خصوص الحكم الفعلي ـ كي يترتب عليه آثاره من وجوب الاتباع عقلا

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣١٩.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٢٥.

(٣) درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٢١ ، والطبعة الحجرية : ٢ السطر ١٤.

١١

ونحوه كما عرفت ـ والأعم منه ومن الانشائي فيهما ، حيث انّ العمل على طبقهما :

ان كان بحكم العقل كالظن الانسدادي ـ حكومة ـ والاصول العقلية فمتعلقهما الحكم الفعلي ، لعدم حكم العقل بدون أخذه كذلك.

وان كان بحكم الشرع كالامارات المعتبرة والاصول الشرعية فمتعلقهما الحكم الشأني ، حيث انّ الواقع في مورد الامارات والاصول انما يكون شأنيا ، وإلاّ لزم اجتماع المثلين أو الضدين بدونه.

والتحقيق : عدم الفرق بحسب المتعلق ، بأن يجعل في الجميع الحكم الفعلي بمعنى انّه لو علم به المكلف لتنجز ، لا بمعنى الحكم البعثي كما يأتي في بعض المباحث الآتية وان كان واصلا الى حدّه في مورد القطع دون مورد الامارات والاصول الشرعية ؛ إلاّ أنه لا يوجب التفاوت بينهما في جعل المتعلق فعليا بمعنى في الجميع كما لا يخفى.

وثانيا : بأنه يلزم تداخل الاقسام بحسب الحكم مع كون غرضه قدس‌سره بيان الضابط بحسبه ، حيث انّه ربّ ظن غير معتبر يجري عليه أحكام الشك ، وربّ شك قد اعتبر في مورده أمارة لا تورث الظن ؛ وتعميم الظن الى الشخصي والنوعي لا يجدي بالنسبة الى الامارات المعتبرة تعبدا ـ لا من باب افادة الظن ولو نوعا ـ كأصالة الصحة والقرعة ، مع استلزامه الفرق بين الظن وبين القطع والشك بأخذه نوعيا وأخذهما شخصيا ؛ وقد عدل ـ بناء على جعل المقسم هو الحكم الواقعي ـ مما ذكره الشيخ (١) رحمه‌الله من التقسيم الثلاثي الى ما ذكره قدس‌سره في المتن. (٢)

ولكنه وان سلم عن التداخل إلاّ أنه يبقى اختلاف المتعلق في الصور الثلاثة ـ بأخذه فعليا في القطع وشأنيا في غيره ـ بحاله وان كان متعلق الامارة بحسب مؤداها فعليا ، وإلاّ فلا يجب اتباعها كما لا يخفى ، إلاّ أنه بحسب مقام الاثبات ؛ امّا

__________________

(١) في بداية فرائد الاصول ١ : ٢٥.

(٢) كفاية الاصول : ٢٩٦.

١٢

بحسب مقام الثبوت فلا بد من أن يجعل الواقع شأنيا ، دفعا لمحذور الاستحالة.

نعم قد يدفع اشكال الاختلاف بجعل المقسم هو الفعلي ـ بالمعنى الذي عرفت ـ بلا لزوم اجتماع الضدين أو المثلين في مورد الامارات أو الاصول ؛ مع أنّه لو جعل الحكم في مؤدّى الامارات هو الحجيّة أو الحكم الطريقي فلا بأس بجعل المقسم في موردها فعليا بقول مطلق كما سيأتي في التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي.

ولكنه مع ذلك يختلف البحث في تقسيمه قدس‌سره بكونه كبرويا في الاول والثالث وصغرويا في الثاني ؛ وان شئت ان يكون فيه كبرويا أيضا فلا بد أن يجعل اللحاظ والاعتبار في ناحية الموضوع ، لا في ناحية الحكم ، بأن يقال : وعلى الثاني فان قامت عنده أمارة ملحوظة شرعا أو عقلا موضوعا للحجية فهي المرجع ، وإلاّ فيرجع الى الاصول العملية عقلية أو نقلية.

ثم انّ تعيين الضابط لمجرى الاصول العملية في القسم الثالث وان كان يتعذر أو يتعسر ـ بنحو لا يتداخل في المجاري ، لكثرة الشروط لكل منها ، فيتوقف الضبط على ملاحظة شروط كل واحد في تعيين مجراه ، ولذا أورد الاستاذ (١) دام ظله على الضابط المذكور في كلام الشيخ (٢) رحمه‌الله بما هو مسطور في تعليقته على الفرائد ـ إلاّ أنّ الأصوب في الضبط بنحو لا يتطرق اليه الاختلال إلاّ نادرا أن يقال :

التكليف المشكوك : امّا أن يكون ملحوظا فيه الحالة السابقة فهو مجرى الاستصحاب ، أم لا. وعلى الثاني : امّا أن ينهض حجة على المشكوك ، أم لا ، والثاني مجرى البراءة. وعلى الاول : امّا أن يمكن فيه الاحتياط فهو مجرى الاحتياط ، أم لا فهو مجرى التخيير.

والمراد من التكليف المشكوك جنس الالزام.

__________________

(١) درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٢٢ ، والطبعة الحجرية : ٢.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٢٥.

١٣

والمراد من اللحاظ لحاظ الشارع الحالة السابقة موضوعا لحكم الاستصحاب.

والمراد من الحجة ما يصح معه المؤاخذة ولو كان مجرد الاحتمال قبل الفحص.

اذا عرفت ذلك فاعلم :

انّه يدخل في الاستصحاب كل ما يشمله دليله ولم يكن مانع عنه من اجماع وغيره ، كالشبهات البدوية بعد الفحص مطلقا ، وقبله فيما كانت الحالة السابقة للتكليف ، والشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي فيما اذا كانت الحالة السابقة لأحد الطرفين ، وفيما اذا كانت الحالة السابقة للتكليف فيهما بناء على ثبوت المقتضي له في مورد العلم ، الى غير ذلك من الموارد.

ويدخل في البراءة الشك في الجنس بعد الفحص سواء أمكن فيه الاحتياط كدوران الامر بين الوجوب وغير الحرمة ، والدوران بين الوجوب والحرمة والاباحة.

ويدخل في الاشتغال الشك في التكليف قبل الفحص ، ومورد العلم الاجمالي مطلقا فيما أمكن فيه الاحتياط مع عدم حالة سابقة ملحوظة للشارع.

ويظهر مما ذكر مجرى التخيير بلا انتقاض لواحد من المجاري على الآخر ، كما في الضوابط المذكورة في الفرائد (١) فراجع.

٤٢٥ ـ قوله : « الامر الاول : لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلا ». (٢)

لا يخفى انّ هذا الحكم إنما هو عند تعلقه بالمرتبة الفعلية ، بلا فرق بين كونه متعلقا بها ابتداء وبين كون الوصول [ الى تلك ] (٣) المرتبة بنفس القطع عند تحقق

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) كفاية الاصول : ٢٩٧ ؛ الحجرية ٢ : ٤ للمتن ، و ٢ : ١٠ للتعليقة.

(٣) في الاصل الحجري ( بتلك ).

١٤

المقتضي وعدم المانع عنها إلاّ الجهل لو قلنا باستفادة كون القطع بالواقع شرطا في الفعلية من الأخبار ، فيحصل القطع بها ثانيا.

ثم لا اشكال في انّ حكمه في المتن إنما هو ثابت بالضرورة والوجدان بلا احتياج الى اقامة بيان وبرهان ، حيث انّ كل برهان إنما هو لانتهائه الى القطع فحجيته تكون بذاته ، كما انّ سلسلة الموجودات تنتهي الى وجود الواجب وهو يكون موجودا بذاته وإلاّ لدار أو تسلسل ، ولا شبهة في ذلك.

إنما الكلام في انّ هذا الحكم هل هو بنحو العلية التامة أو الاقتضاء؟

وبعبارة اخرى : هل يقبل الحكم المذكور [ الجعل ] (١) التأليفي أصالة ، بمعنى صيرورة القطع ذا حكم كذلك؟ أو لا يقبل ذلك إلاّ بالعرض ، تبعا للجعل البسيط المتعلق بالقطع تكوينا.

ويبتني معرفة ذلك على معرفة الاحكام والآثار الثابتة للاشياء ، وهي على قسمين :

الاول : ما يكون من عوارضه القابل انفكاكها عن الشيء.

والثاني : ما يكون من لوازمه الضرورية.

والقابل للجعل أصالة هو الاول لا الثاني ، لانّ الضرورة مناط الغنى ، وإلاّ لكان مناط الحاجة.

اذا عرفت ذلك فنقول : انّ الحكم المذكور من لوازم القطع بالحكم الفعلي ، بحيث يكون ثبوته عند القاطع من البديهيات عند الالتفات ، فلا يقبل [ الجعل ] (٢) اصلا تكوينا :

لا اثباتا ، وإلاّ لزم تحصيل الحاصل وتسلسل أيضا ، ومع ذلك لا يثبت التنجز بعدم الانتهاء الى ما لا يحتاج الى الجعل. ولا يخفى انّ التسلسل يعرض : تارة : في

__________________

(١) في الاصل الحجري ( للجعل ).

(٢) في الاصل الحجري ( للجعل ).

١٥

وجوب اتّباع القطع ؛ واخرى : في نفس القطع ، لتكثره بتكثير الحكم المتعلق به ؛ ثالثة : في الارادات الكاشف عنها وجوب الاتّباع. وفرض القضية الطبيعية في الانشاء وان كان يجدي في رفع [ حالة ] (١) التسلسل في وجوب الاتّباع ، إلاّ أنّه لا يجدي بالنسبة الى افراد القطع والارادة المتعلقة باتّباعها كما لا يخفى.

ولا نفيا ، لانّه مع تعلق الجعل برفع هذا اللازم عن القطع بالحكم الفعلي :

فان ارتفع ذلك عن الملزوم لزم تخلف اللازم ، أو نفس الملزوم أيضا لزم الخلف.

وان بقيا لزم التناقض في نفس هذا اللازم ، والتضاد بين الجعل المتعلق برفعه مع الجعل المتعلق بالحكم المقطوع وهو المراد من التضاد في عبارة المتن ، لا التضاد بين الحكم المقطوع كالوجوب مثلا وبين ضده كالترخيص مثلا في موضوعهما وهو عمل المكلف ، لأنّه ـ مضافا الى انّ الظاهر من التصرف في حجية القطع عدما هو نفي وجوب الاتّباع الفعلي اللازم لحكم المولى عند القطع به مع بقاء الملزوم بحاله بلا تصرف آخر في البين انّه ـ على تقدير التسليم يلزم منه نفي الوجوب المقطوع ، فيلزم منه الخلف لاجل حكم آخر ، كي يلزم منه اجتماع الضدين ، فتدبر.

واذا عرفت عدم تعلق الجعل التكويني تعرف عدم الجعل التشريعي بطريق أولى لأنّه ـ مضافا الى ما مر ـ لا يتعلق بالامور الواقعية ولوازمها كما في ما نحن فيه ، ولا يتفاوت ذلك باختلاف أسباب القطع.

وما نسب الى الأخباريين (٢) من عدم حجية القطع الحاصل من الدليل العقلي فسيجيء ما فيه مع توجيهه ان شاء الله تعالى.

__________________

(١) في الاصل الحجري ( الحالة ).

(٢) الفوائد المدنية : ٢٥٦ ـ ٢٥٩ ؛ غاية المرام في شرح تهذيب الاحكام ( مخطوط ) : ٤٥ ـ ٤٧ ؛ الحدائق الناظرة ١ : ١٢٥ ـ ١٣٣ ؛ الدرر النجفية : ١٤٨ السطر ٨.

١٦

وقد توهم بعض (١) بكون القطع قابلا للرفع ، قياسا بالظن الثابت في حال الانسداد.

وأجاب عنه الاستاذ (٢) قدس‌سره في التعليقة : بأنّه مع الفارق ، لكون الحجية في القطع بنحو العلية التامة وفي الظن بنحو الاقتضاء والتعليق ، وانّ الموضوع للحكم الظاهري لا يكون محفوظا مع العلم فيلزم المضادة من منع العمل به ، وحيث انّه محفوظ مع الظن فلا يلزم المضادة معه في صورة النهي عنه.

ولكنه يرد عليه : بلزومه فيه أيضا مع تعلقه بالفعلية الحتمية ، حيث انّ الظن باجتماع الضدين كالقطع في الاستحالة. وان أخذ المتعلق الفعلي التعليقي الممكن الاجتماع مع حكم آخر فنقول : كذلك في القطع أيضا ، غاية الامر لا يسمى الحكم الآخر فيه ظاهريا.

نعم يمكن أن يقال : انّ الحكم التعليقي بمعنى لو علم به المكلف لتنجز ، لا بد أن يصل الى الفعلية الحتمية في القطع بحصول المعلق عليه فيه ، وفي الظن يكون كذلك لو لم يمنع عنه بعد امكانه (٣) ، فيحصل الفارق.

ثم انّه عند من يذهب بين الحكم الظاهري والواقعي الى الترتب بين الموضوعين ـ لا الى فعلية الحكم وشأنيته ـ لا يلزم المضادة من النهي عن القطع المستلزم للترخيص على الخلاف ، لاختلاف الموضوعين أيضا. نعم يثبت الامتناع بالتضاد في اللازم وهو القدرة على الامتثال وعدمه كما لا يخفى.

٤٢٦ ـ قوله : « فهل يوجب استحقاقها في صورة عدم الاصابة على التجري بمخالفته ... الخ ». (٤)

__________________

(١) لم نعرف هذا البعض.

(٢) درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٢٦ ، والطبعة الحجرية : ٥ السطر ٨ ـ ١١.

(٣) امكانه فيه. نسخة

(٤) كفاية الاصول : ٢٩٨ ؛ الحجرية ٢ : ٤ للمتن ، و ٢ : ١٤ للتعليقة.

١٧

ومن الواضح انّه من حيث وجوب الاتّباع ـ وكونه سببا تاما لتنجز ما تعلق به بنظر القاطع ـ مثل قطع المصيب بلا تفاوت ؛ ولكنه لمّا أخطأ ولم يكن الحكم المتعلق به واقعا ، ولا استحقاق اللازم بمخالفته عند وجوده ، يقع الكلام في ايراثه وسببيته بنفسه لحدوث شيء في الموضوع الذي قطع بحكمه ، بحيث يكون عنوان المقطوع تمام الموضوع بالنسبة اليه.

وليعلم انّ المسألة :

تقرر تارة : كلامية ، فيبحث عن كون القطع علة تامة لاستحقاق العقاب على الفعل بعنوان انّه مقطوع الحرمة ، وعليه فهو بالعلية التامة لا بالاقتضاء ، كي يقبل طرو المانع ـ كما هو ظاهر الفصول (١) في قبح التجري ـ إلاّ على توهم عدم كون العلم علة تامة لوجوب الاتّباع عقلا فلا بأس بالذهاب اليه حينئذ ؛ إلاّ أنك عرفت خلافه.

كما انّه لو قلنا باستحقاق العقوبة على المخالفة فلا بد من استحقاق المثوبة على الموافقة ، لكونهما توأمين يرتضعان من ثدي واحد معلولين للمعصية والاطاعة والتجري والانقياد على القول بهما فيهما أيضا. فالفرق بالاستحقاق في طرف المثوبة (٢) دون العقوبة (٣) ـ كما عن الشيخ قدس‌سره ـ لا وجه له ؛ إلاّ أن يرجع الى العفو في طرف العقوبة تفضلا ، وهو خارج عن محل الكلام.

واخرى تقرر : اصولية عقلية ، بأنّ القطع بوجوب شيء ما وحرمته هل يوجب حسنه أو قبحه عقلا ، كي تحصل صغرى الملازمة فيستنبط منها الوجوب والحرمة الشرعيان ، أم لا يوجب شيئا منهما أصلا؟

وثالثة تقرر : فقهية ، بأنّ الفعل المقطوع الحرمة أو الوجوب هل يصير حراما

__________________

(١) الفصول الغروية ، الفصل الاخير من الاجتهاد والتقليد : ٤٣١ السطر ٣٦ ـ ٣٧.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ١٠٧.

(٣) فرائد الاصول ١ : ٣٩ و ٤١ و ٤٥.

١٨

أو واجبا شرعا واقعا بمجرد تعلق القطع بهما أم لا؟ وعليه يكون الوجهان الاوّلان من قبيل المبادئ بالنسبة الى المسألة.

ولكن التحقيق : ـ على ما سيجيء من عدم امكان القطع بالحرمة موضوعا للحكم الشرعي ـ عدم صحة تقرير المسألة إلاّ عقلية واقعة في مجرد حكم العقل ، ولو بناء على البحث عن الحسن والقبح. وعلى تقدير الاغماض عنه وتصحيح امكان كونه موضوعا للحكم الشرعي فالصواب تقريرها اصولية ، ولو على البحث عن صحة العقوبة أيضا ، لكونها بناء عليه واقعة في طريق الاستنباط ، غاية الامر بالإنّ لا باللمّ ؛ فلا فرق بين البحث عن الحسن والقبح وبين البحث عن صحة العقوبة وعدمها كما لا يخفى.

ومن هنا ظهر انّ الحق تقرير المسألة كلامية ثم بعد ذلك هو الاصولية بناء عليه.

وكيف كان فعلى تقرير المسألة اصولية فالتحقيق : عدم كون القطع بالحرمة أو الوجوب ـ بعد خطئه ـ من الوجوه المقبحة والمحسنة للفعل ، لوجوه :

الاول : عدم وجود جهة محسنة أو مقبحة فيه مما يتصور كونه مقتضيا لهما ، حيث انّ العناوين الموجودة في مورد التجري امّا شرب مقطوع الحرمة ، أو شرب الخمر ، أو شرب الماء ، والاخيران غير اختياريين لعدم الالتفات اليهما ، والاول لا يمكن أن يكون موضوعا للحكم الشرعي لعدم امكان أخذ القطع بحكم شرعي في موضوع مثله ، ولا عقلا لعدم كونه من العناوين المحسنة والمقبحة كما هو واضح عقلا ، فلا يوجب استحقاق العقوبة عقلا لعدم ما يستتبعه من الحسن والقبح والوجوب والحرمة الشرعيين.

وامّا ما قررناه من عدم الاختيارية بهذا العنوان فهو ـ على خلاف التحقيق ـ يكون تبعا للاستاذ (١) قدس‌سره ؛ وتفصيل ما ذكرنا يحتاج إلى بيان أمرين :

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٩٩.

١٩

أحدهما : انّه لا بد في اتصاف الفعل بالوجه المقبح والمحسن بنظر العقل من اتيانه بقصد ذاك الوجه مع كون الفعل مما يمكن أن يتصف به بالقصد ؛ وإلاّ فمع عدم الالتفات الى الوجه أو عدم اتيان الفعل بقصده أو عدم قابليته للاتصاف به أو مع عدم كون ذاك الوجه من المقتضيات للحسن والقبح عقلا ، فلا يكون ذلك بمعنى الوجوه المقبحة والمحسنة بنظره.

الثاني : انّه لا موطن للحسن والقبح إلاّ الوجدان ولا حاكم لهما إلاّ العقل ، فمع عدم حكم العقل وخلوّ الوجدان عنهما يستكشف عدم تحققهما واقعا ، بل ولا امكانهما بلا مئونة برهان ، وإلاّ لتسلسل ، للزوم الانتهاء في البرهانيات الى الوجدان.

اذا عرفت ذلك يظهر لك انّ القطع الطريقي الصرف المتعلق بالحكم الشرعي لا يكون من تلك الوجوه ، لا بنفسه ، لعدم الالتفات اليه حين الفعل ، لكونه مرآة لما يتعلق به حين ينظر به اليه فيكون بطبعه ومتلونا بلونه بلا إحداثه لونا من قبل نفسه.

مع انّه على تقدير الالتفات لا يكون عنوانه محسنا أيضا :

لا بنفسه ، لعدم اتيان الفعل بقصده.

ولا ما تعلق به ، لعدم كونه مما يحصل بالقصد ، لكونه من العناوين الواقعية الخارجية كالخمر اذا تعلق به القطع ، أو من العناوين التي لا بد لها من منشأ انتزاع واقعي لها كالحكم الشرعي.

ولا يقاس بالعناوين المتقومة بالقصد التي يتصف الفعل الخالي منها بها اذا أتى به بقصدها ، كعنوان التعظيم اذا نهض الجالس بقصده ، هذا.

مع كون القطع بالحرمة مثلا من الموجبات للقبح الفعلي عقلا ما لم يتصف بقبح في ذاته ، ولا القطع بالمبغوضية موجبا لصيرورته مبغوضا اذا لم يكن الفعل كذلك بنفسه ، خصوصا اذا كان محبوبا بنفسه (١) كما يظهر بالمراجعة الى الوجدان.

فاذا كان كذلك ، فيحكم بعدم امكان كون القطع بالحرمة موجبا لقبح الفعل ،

__________________

(١) محبوبا في نفسه. نسخة

٢٠