دراسة في تنبؤات نوستردامس

دراسة في تنبؤات نوستردامس

المؤلف:


المترجم: الدكتور شريف الدين
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مركز مكالمات وپژوهشهاى فلكى نجومى
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

والاستغلال وأقبحها ، وما الديمقراطية الغربية إلا دكتاتورية بشعة مقنّعة بألوان مبهرجة وبألوان زاهية من ممارسات هي في الغالب من نوع صمّامات الأمان التي يبيحونها للناس لغرض التنفيس من ناحية ولغرض خداعهم بحرية ممسوخة من ناحية ثانية. وسلكت ديمقراطية الغرب إلى فرض سلطتها الاستبدادية مسالك ملتوية تعتمد إثارة الشبهات وخلق حقائق مصطنعة بإسم العلم مرة وبأسماء أخرى مرات أخر ، وتعمد الإقناع عن طريق الإعلام المكثف والمتواصل ناهيك عن أساليب شتى في الخبث الشيطاني والإجرام الصريح.

٣٨١
٣٨٢

اما انسان واما قرد

إن فراعنة العصر الحديث يريدون لبني الإنسان أن يستحيلوا إلى قردة ترقص على أنغامهم ، بل إنهم أعدّوا لذلك عدّته منذ زمن بعيد عندما حاولوا إقناع الناس بأنهم نسانيس ، وبأنهم إنما أنحدروا من القردة ، فالقرود هم أجدادنا أو أبناء عمومتنا ولا بأس بأن نحذوا حذوهم وأن نتخلّق بأخلاقهم. وإنسان اليوم يجد نفسه أمام واحد في خيارين : إما الموت وإما الحياة. فهو إما أن يختار لنفسه أن يكون كمية مهملة لا ووزن لها ولا قيمة وهو التلاشي والخسران وأما أن يختار أن يكون إنساناً حراً كريماً في المقام الذي أراده له الله تعالى حيث جعله خليفة له في أرضه ، وهذه هي الحياة. فإذا كان إختياره هو الأخير وأراد أن يحسن الخلافة والقيام بها فإنه لن يجد أمامه عندئذ عالماً يتمكن من التكيّف معه ومعايشته ، لأن معايشة الفراعنة المستكبرين تعني أَن يستحيل أمامهم إلى قرد كما أرادوا له ، ولأن التكيّف معهم يعني السجود أمامهم ،

٣٨٣

وكلتا الحالتين لا تتفقان مع اختياره لنفسه وسوف لن يجد في النهاية بداً من تغيير هذا العالم الذي يريد أن يحيا فيه وأن يكون له وجود فيه.

٣٨٤

ولكن هل بامكاننا تغيير العالم ؟!

الجواب هو نعم. ليس هذا وحسب ، بل أن كل ما آمنا بأنه ممكن فإنه ممكن. فإذا آمنا بأننا قادرون على تحقيقه فقد جعلنا من مسألة تحقيقه مسأله وقت ليس إلاّ.

وكما هو واضح فإن عملية التغيير لا يمكن لها أن تأتي من جانب القوى الاستكبارية والطاغوتية لأنها تريد أن تُبقي على الأمور كما هي اليوم وتقاوم أي تغيير في ميزان القوة مما قد يؤدي بها إلى أن تخسر شيئاً من مكاسبها أو من مواقعها التي كسبتها إلى حد الآن مما هو عنوان وأساس استعلائها في الأرض. بل إن التغيير لا يمكن أن يأتي إلا على أيدي المستضعفين وبالذات على أيدي المسلمين منهم الذين يحملون كل عناصر ومقومات الدور الرياديّ في عملية تغيير كبرى تقلب الدنيا رأساً على عقب.

أما السبيل إلى التغيير فإنه يبدأ بالإنسان مثلما أنه

٣٨٥

سينتهي إلى الإنسان ، فمن أجل أن تغيّر العالم يجب أن نعرف أولاّ ماذا نريد أن يكون عليه العالم ، أي ما هو العالم الذي نهدف إلى تحقيقه ، أي ما هو هدف حركتنا ، وهو أمر يبدأ في عالم الفكر وبالذات في التصور أو في التصوير. إطلق خيالك من كل القيود التي تمسكه ، هذه القيود قد تكون أحكام على نفسك وعلى قومك وعلى مجتمعك أمنت بها نتيجة بعض التراكمات من أشياء سمعتها أو رأيتها أو تسرّبت إليك من فلم شاهدته أو مقالة قرأتها ثم جعلتها من المسلّمات التي لا تقبل الخطأ ، أنها قد تكون تصورات عن نفسك بالنقص والدونية وبعدم الكفاءة وبضعف الحول والقوة ، أنها قد تكون تصورات عن العالم الغربي « المتمدّن » تراه فيها ضخماً إلى درجة هائلة وقوياً إلى درجة مرعبة وأنه لا يقبل الهزيمة أو الدفع ، إنها قد تكون صورة ترى فيها نفسك أو ترى فيها قومك في مقابل الرجل الغربي وقومه وتكون أنت وقومك فيها صغاراً ضعافاً بلا حول ولا قوة أمام قوم ضخام الأجسام والعقول يفيضون قوة وحيوية وجبروتاً وترى فيها نفسكَّ غير قادر على شيء ، غير قادر على الأخذ بالثأر لنفسك أو للانتقام للجياع والمظلومين والمحرومين أو للأخذ بحقك وانتزاعه من أيديهم. هذه وغيرها من الصور التي نتبناها ونؤمن بها ونجدها جزءاً لا يتجزأ من طريقة حكمنا على الأشياء ومن توقعاتنا من

٣٨٦

الحياة ومن مستقبل الحياة هي السمّ الذي يقتل الهمم وهي الداء الخبيث الذي ينخر في عظامنا وفي أرواحنا منذ أجيال ، وهي القيود التي نضعها على أحلامنا وعلى آمالنا ، الآن أرجو أن نطرحها جميعاً وأن ننظر إلى العالم نظرة إنسان حر الفكر يحترم نفسه وتملؤه العزة والقوة والكرامة وتقوى الله عز وجل وحبه ، ثم أحلم حلماً كبيراً جداً وبلا حدود ، أحلم بالعالم كما تحب أن يكون عليه وارسم لنفسك صورة عنه في طبيعة ونوع العلاقة بين شعوبه وأقوامه المختلفة وفي موقع الفرد من بني الإنسان فيه. الصورة التي سوف تتكون قد تختلف في جزئيات ملامحها بين هذا الشخص وذاك ولكن بلا شك فإن هناك قواسم مشتركة وأن هناك ملامح أساسية سوف يشترك في إرادتها والرغبة بها الغالبية العظمى منا ، فنحن نريد أن نعيش عالماً كله عدل وإنصاف وخير وصلاح لا يضيع فيه حق ولا ينجو فيه مجرم جانٍ كائناً من كان ، أمريكيا أو إنكليزياً هندياً أم أفريقياً ، عالم يتم في الاقتصاص من مصّاصي دماء الشعوب حتى لا يبقى لأمثالهم مكان فيه ولا كلمة ، عالم تكون فيه كرامة الإنسان مصونة ومحفوظة كائناً من كان ، أبيض أم أسود ، عربياً أو انكليزياً ، سيراليونياً أم سويسرياً. لا فضل لأحد على أحد في حقوقه كإنسان وليس لهذا الإنسان قيمة أعلى أو حق أكبر في صيانة كرامته ولذاك الآخر حق أقل في صيانتها

٣٨٧

واحترامها ، وبهذا فقط يتحقق السلام. نريد أن نعيش في عالم لا رباً فيه ولا مرابين ، كله عدل وحب ومودة ، لا يموت فيه أحد من الجوع ، يكون الحكم فيه لله تعالى بكل ما يمثله وجوده من قيم ومعاني تبتعد عن الذهب والفضة فتجعل من المال مسألة ثانوية جداً في مقابل التقوى والفضيلة والخير والعدالة ناهيك عن أحكام شرعه التي تقطع دابر الربا وتضمن العدالة في توزيع الثروة وهذا في جملة أمور تجعل المال موفوراً لا يعجز عنه أحد. عالم لا ينال إنساناً فيه ذلٌّ ولا خزيٌ إلاّ بسبب أنه بعيد عن الله تعالى أو بسبب أنه لا تقوى له الله تعالى في نفسه أو في غيره من عباده تعالى.

فإذا اكتملت الصورة لديك عندها يبدأ العمل ، فإذا عملت فاطرح الشك جانباً ولا تظنّن بنفسك الظنون ، ظنون العجز والخبيثة ، ولا تسمحنَّ للصور القاتمة أن تتسرَّب إلى ذهنك من قبيل أن ترى نفسك دون غيرك من البشر أو تشاهد قدراتك وإمكاناتك أقل منهم أو أضعف ، إطرح الريب والتردد ، تردد الهيبة والخوف من أن تضعف أو أن تفشل ولا تنظرنّ إلاّ إلى هدفك وآمن به وآمن بأنه واقع لا محالة ، وسترى بأنك قد وضعت بقدميك على طريق الخلاص وبأن حلمك الكبير قد صار أقرب بكثير مما كنت تتصور في السابق.

٣٨٨

ولو كان لجيلنا هذا من أمة العرب وقفة أمام الله تعالى في يوم الحساب وسألنا رب العزة والقوة فقال : لماذا أذللتم أنفسكم للكفرة ولمن ناصبني وناصب ديني العداء من أهل الشرق والغرب ولماذا طأطأتم لهم رقابكم يدوسون عليها بأقدامهم وأنتم ساكتون خانعون ، ولماذا تتركونهم يقتلون الروح والعزة والكرامة في أبنائكم وبناتكم ورجالكم ونسائكم وينتهكون حرماتكم ويستبيحون أرضكم ويحضرون عليكم الحرية ولا يرضون منكم بغير التقييد والكبت والإذلال وأنتم راضون بذلك وتختلقون لأنفسكم العذر تلو الآخر. فبماذا سنجيب ؟ قد يكون جوابنا هو : أن هؤلاء كانوا قد غلبونا بعلومهم وبتكنولوجيتهم التي جعلتهم أقوياء في كل شيء في الميدان العسكري والطبي وفي وسائل المواصلات وفي توليد الطاقة وغيرها فأحسسنا أمامهم بالدونية وبأننا لا شيء وبأنهم كل شيء فوقفنا أمامهم موقف العاجز الفاشل المهزوم وتركنا لهم أن يفعلوا بنا ما يشاؤون. وهنا ماذا ترى الله سبحانه وتعالى سيقول !؟ إنه قد يجيبنا : بئس ما فعلتم ، أنا لا أترك أحداً من عبادي خلواً من أي حول ولا قوة ، ماذا عن النفط مثلاً ألم أجعله بين أيديكم ؟! وماذا سيفعل الغرب بقضّة قضيضُّه وبكل التكنولوجيا التي عنده بدون النفط الذي أودعته لديكم لو شئتم أن تمنعونه عنهم لأنتزاع حق من حقوقهم أو لجلب

٣٨٩

منفعة لكم !! وعندها سنجيب : لقد مكروا بنا وخوّفونا بأساطيلهم وبجيوشهم وبطائراتهم وبالملذات التي سيحرموننا منها لو أقدمنا على ذلك. وعندها قد يقول عز من قائل : أما مكرهم فقد كان أجدر بكم أن تمكروا بهم كما مكروا بكم ، أو لستم ترون مكري وأني خير الماكرين ؟ وأما الملذّات فقد صدق عليكم المثل القائل رُبّ أكلةٍ منعت أكلات ، فقد أشتريتم أرخص اللذات وأقلّها بلذائذ ومتع لا حصر لعددها ولا لحجمها كانت مفتوحة أمامكم في الدنيا وفي الآخرة تنتظر فقط من يمد يده لينالها ولكنكم خفتم وتهيبتم وأخذكم التردد والشك بأنفسكم وبربكم وبما أعدّه لكم في دنياكم وآخرتكم فيما لو عزمتم وأقدمتم ، وأخذكم الرعب من عدو الله وعدوكم من أولياء الشياطين وأعوان إبليس. وأما تخويفهم فما كان ينبغي لكم أن تخافوا وإنما هو الشيطان يخوّف إولياءه ويصوّر لهم صور النتائج المرعبة والمفزعة فيما لو فعلوا هذا أو أقدموا على ذاك وما كان لكم أن تستجيبوا له. ولو كانت لكم همة وعزيمة ثم لم يكن عندكم غير الحجارة والعصيّ لأستطعتم أن توقفوهم عند حدهم ولعشتم في عزة وكرامة ولما سخر منكم أحد ولا استضعفكم أحد.

٣٩٠

تكميل

نظرة قرانية في حرية الانسان وفي نواميس حركة المجتمع التاريخية

لقد أجرى الله تعالى هذا الكون في ضمنه المجتمع البشري وفق نواميس وقوانين هي من باب قضائه وقدره ، وهو الذي يطلق عليه إسم القضاء التكويني ، ويشتمل على كلّ ما له علاقة بتكوين وبطبيعة الأشياء ، كما أن له تعالى قضاءاً تشريعياً وهو ما قضاه وقدّره من أمور الأحكام الدينية التي تخصّ الفرد والمجتمع من ثم أحكام العلاقات بين أفراده من ناحية وبين أفراده والطبيعة وأجزائها من ناحية ثانية وذلك من قبيل وجوب الصلاة والصوم وأحكام الثروات الطبيعية ووجوب توزيعها بالعدل والإنصاف وفق مقاييس وأحكام وضعها لذلك مع إقامة الحدود على من يخالف تلك الأحكام عند اجتماع شروط تلك المخالفة وإلى آخر ذلك مما هو قانون تشريعي ينظم أمور المجتمع وأفراده.

٣٩١

وقد شاء الله تعالى أن يجعل هذا الإنسان حراًّ مختاراً مريداً ، ولكن حريته هذه وإرادته ليست مطلقة ومن دون قيود أو ضوابط ، قال تعالى : ( إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) الإنسان ـ ٢٩ ، وقال : ( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) فصلت ـ ٤٠ ، ولكنه تعالى يقول في مقابل ذلك وعلى سبيل المثال في آية أخرى : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ) الإنسان ـ ٣٠ ، فالإنسان وإن كان حراًّ مختاراً إلاّ أنه إنما يتقلّب بين الضرورة والحتم من كل جوانبه وذلك لأن القوانين والنواميس تحيط به من كل جانب وتشمله باطناً لظاهر وما هذه القوانين غير ضروريات وجبر. فهو يتقلب بين الجبر والاختيار ، وهذا أيضاً في قضاء الله وقدره ، فاختيار الإنسان وحريته ومشيئته لا تخرجه عن مشيئة الله ولا عن سلطان الله تعالى وإليه يعود الأمرُ كلُّه. فإنّ الواحد منا إذا ما اختار شيئاً ( وتلك هي حرّيته وإرادته ) فقد وضع قدميه على طريق سوف يؤدي به إلى نتيجة ، والذي خطّ هذا الطريق وربط المقدّمة بالنتيجة وعيّن الأسباب وحدّد سُبُلها هو الله عز وجلّ ، وهذا هو قضاء الله تعالى وقدره.

وقد بيّن الله تعالى في كتابه الكريم أن له في المجتمع سنن وقوانين تحكم حركة وتطوّر ذلك المجتمع

٣٩٢

ممّا يجعل منها نواميس تؤثر في صنع تأريخه وتعيين مصيره ، والمجتمعات الإنسانية مأمورةٌ بملاحظتها وبمجاراتها لأنَ في ذلك سعادة كلّ منها وفلاحه كمجموع من البشر ، حتى أن القرآن الكريم جعل لكل مجتمع من المجتمعات المختلفة ( الأُمم ) كتاباً خاصاً بكلّ واحد منها يحصي عليه أعماله كما إن للفرد الواحد كتاباً يحصي عليه أعماله ، فقال تعالى : ( وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ. هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) الجاثية ـ ٢٨ / ٢٩. وهي ناضرة إلى حساب جماعي للمجتمعات ، كلُّ أمَّةٍ على حِدَه. وهي في قبال الآية الكريمة التي تقول : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا. اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) الإسراء ـ ١٣. وهي تنظر إلى حساب فردي حيث يحاسَب كل فرد على حِدَه. وكأن القرآن الكريم يخبرنا بأن كل فرد منّا سيمثل أمام الله تعالى مرتين ، فمرّة يمثُل كفرد ويأتي بما قدّم من عمل كفرد فينجو من آمن وعمل صالحاً وجاء الله بقلب سليم ، ثم أنه يمثل مرّة ثانية كجزء من أمّة ، يقف موقفاً ثانياً يكون فيه وسط مجتمعه وقومه ليحضر حساباً من نوع آخر يُسأل فيه عما قدّم من عمل يكون له تأثير على الجماعة مما يتعدى تأثيره شخصَ العامل نفسه ، عملٌ

٣٩٣

يترك بصماته على المجتمع بشكل عام فيصوغ ملامحه ويعطيه شخصية جمعيّة فيجعل منه أمّة مؤمنة تعمل الصالحات أو يجعل منه أُمَةً تتّخذُ آيات الله هُزُواً وتعمل السيئات مغرورة بالحياة الدنيا ناسيةً لله تعالى ، وكلَّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيته ، كما قال رسول الله (ص) ، أعمالٌ تصبّ في النهاية في مجرى السّنن والنواميس التي تحكم حركة وتطوّر المجتمع.

ومن هذه السُّنَن يبرز نوعان أساسيان ، الأول منهما هو ما يعتبره القرآن الكريم إتجاهاً ومساراً للمجتمع لا مناص له عنه ، قانون أو ناموس قد يقبل التحديّ والمقاومة ولكن ليس إلى غير نهاية ، بل أن مخالفته ستصل إلى حدود ثم يضطر المجتمع إلى الانسياق مع هذا القانون ومسايرته ، فإذا أصر على ماقاومته فإنه سوف يتحطم ويتلاشى أشبه ما يكون بالطائرة التي تحلّق في الجو وهي تقاوم جاذبية الأرض ، فلقد انتبه الإنسان لوجود قوة أو ظاهرة إسماها بالجاذبية الأرضية واكتشف قوانينها ثم استطاع أن يتغلب على جاذبيتها باستخدام قوانين ميكانيكية الحركة والمقاومة وتأثير إختلاف الضغط على السطوح المختلفة فصنع طائرة واستخدم فيها الوقود ، وتغلب على جاذبية الأرض وقاومها ولكن إلى حدّ توفّر الوقود في الطائرة ، فإذا لم تهبط عند نفاد الوقود

٣٩٤

وأصر ربّانها على مقاومة جاذبية الأرض فإنه ساقط بها لا محالة وسيتحطم كل شيء ويُباد كل من فيها بتأثير قانون طبيعي هو جاذبية الأرض ، وكذلك الحال مع بعض قوانين وسنن الحياة الاجتماعية وأبرز مثال على ذلك هو الدين كناموس من النواميس التي تُعتبر اتجاهاً ومساراً لا بد لأي مجتمع إنساني من أن يمضي فيه وأن يتخذه سبيلاً ، يقول عز وجل : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) الروم ـ ٣٠ وهو ينصّ هنا نصّاً على أن الدين هو جزء من أجزاء الإنسان خلقةً وتكويناً وانتزاعه منه أمر لا يستقيم مع الخلقة الفطرية له. أن مجتمعاً ما قد يحاول أن يلغي الدين تحت أي شعار وتحت أية مَقولةٍ كانت ، فمرة شيوعية ومرة تقدُّميه ومرة أخرى تحت راية العلم والمدنيّة والتحضُّر ، وقد يستمر في تحدّيه هذا لأَمَدٍ قد يطول أو يقصر ولكنه لن يستطيع الإستمرار في تحديه هذا لأن طبيعة الأشياء سوف تحكم بالحكم الذي أودعه الله تعالى فيها وسيّرها ونظم أمرها بموجبه. وقد كانت نظرة الدين الإسلامي إلى المجتمع الإنساني هي أن الله تعالى قد خلق الأرض والإنسان ومن ثم استخلف الإنسان على الأرض وما فيها ليقوم بدور الخليفة لله تعالى فيها. وكما تلاحظ فقد كان هناك إنسان وطبيعة منذ أن جاء الإنسان

٣٩٥

واستوطن الأرض ولكن على مرّ التأريخ كانت لتلك العلاقة التي تربطه بالطبيعة وبأخيه الإنسان تختلف اختلافاً واسعاً تجدها في ألوان الملكية والاستغلال لموارد الطبيع المختلفة وتجدها أيضاً في أشكال السيطرة والاستعباد التي مارسها الإنسان على أخيه الإنسان وهو الأمر الذي جرّ ألواناً من الأذى والشقاء والبؤس للجماعات البشرية على مرّ التأريخ ، بينما ترى القرآن الكريم يقول : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) البقرة ـ ٣٠ ، ونرى هذه الآية وهي تضع الحق في نصابه ، وترسم صورة ما يجب أن تكون عليه الأمور ، فليس هناك مُلك مطلق للإنسان وليس له حقُّ إستعباد امتلاك أخيه الإنسان بل هو خليفة لا يملك غير ما خوّله الله تعالى من ثروات ومن قدرات وهو تاركُها وراءه لا محالة فيعود كل شيء إلى من يملك الأشياء حقيقة الملكية وهو الله عز وجل ، وإنما كان كل واحد منا على طيلة حياته التي امتدت لبضع عشرات من السنين قد أُعطي حقَّ التصرف فيما يُسمّيه ملكاً له ( وليس كذلك في عين الواقع ) تخويلاً من الله تعالى ، بل أن وجوده كله كان استخلافاً من جانب الله تعالى ، وواضح أن هذا المعنى الجديد الذي يقدمه القرآن الكريم وهذا التقييم

٣٩٦

في معنى وماهيّة دور الإنسان وموقعه في العالم الأرضي سوف يُضفي نظره جديدة تماماً على كل شيء في هذا العالم وبالصورة أو الهيئة التي أرادها خالقُها ومكوّنُها أن تكون عليه لكي تستقيم أمورها وتجري في مسارها الطبيعي الذي يحقق للبشرية سعادتها وخيرها.

والنوع الثاني من السُّنن التي تحكم تأريخ وتطور المجتمع والتي ورد ذكرها في القرآن الحكيم هو ما جاء على صورة القضيَّة الشرطية ، هناك مقدمة ونتيجة ، فإذا تحققت المقدمة فقد تحققت النتيجة وذلك من قبيل الآية الكريمة : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) الأعراف ـ ٩٦ ، وقوله تعالى : ( وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا ) الجن ـ ١٦. ومن هذا الباب قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) الرعد ـ ١١ فهذه الآية الكريمة تضع قانوناً يربط دخيلة الإنسان بعالمه الخارجي ، إنها تبيّن بأن حركة المجتمع ( القوم ) إنما تتبع قوامهم النفسي كجماعة وما يفكرون به وما يريدونه ويختارونه ويسعون إليه من أهداف وما يشكّل بواعثهم ودوافعهم في ذلك كله. عالمنا الخارجي ، حالتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، إنما هي أصداء وتَبَع

٣٩٧

لهمّتنا ، لعزيمتنا ، لشجاعتنا ، لمقدار الثقة التي عندنا بأحكامنا وبتقييمنا للأمور ، لنظرتنا المطلِقة الحرة المفتوحة على آفاق الحق والصواب والجمال والفضيلة ، لأحلامنا وحجمها وضخامتها ، ( ولقد قال رسول الله (ص) : « لو تعلقت هِمّة أحدكم بالثريا لنالها » ). فإذا كانت أحلامنا وآمالنا صغيرة كانت النتائج التي نحصل عليها صغيرة ، وإذا كانت آمالنا وأفكارنا كبيرة جداً حصلنا على نتائج كبيرة جداً.

إن هذه الآية الكريمة صرخة تدوّي عبر القرون تدعو بني الإنسان إلى ممارسة تلك الحرية الخلاقة الإبداعية التي أودعها الله تعالى في أصل تكوينهم من أجل تهيئة الجو العام الملائم لإقامة مجتمع فاضل سعيد. فلا تتوقّعنّ حصول المعجزات ، لا تنتظرنّ من الله تعالى أن يأتي إلى الظالم المستبدّ فيضربه على رأسه بعصاه كفعل الشُرطيّ ، أو أن يأتي إلى المظلوم فينتزع له حقَّه من ظالمه بتدخل مباشر ، نعم إن الله تعالى مع عباده المؤمنين بالتأييد والنصر ولكن ليس بمعنى أن يجلسوا في سكون وهدوء يتلُون الدعاء تلو الدعاء حتى يأتي نصر الله تعالى ، أنظر قوله تعالى : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ

٣٩٨

مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) البقرة ـ ٢١٤ ، إن النصر قريب ولكنه ليس بمعنى أن تجلس في مكانك وتنتظر أن يأتي الله تعالى بأفواج الملائكة لتصارع ولتكافح بدلاً منك ثم تأتيك بنصر هاديء وديع فتضعه بين يديك ، ولكنه يقول لك بأن سبيل النصر طريقه قريب منك فابحث عنه وامض فيه ، فهي بهذا المعنى تكون قريبة من معنى الآية الكريمة : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) عنكبوت _ ٦٩.

وانظر إلى قوله تعالى : ( ... وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ ... ) آل عمران ـ ١٥٤ والآية تتحدث عن طائفة من المسلمين الأوائل كانوا يرون أن اتّباعهم لدين الله بحد ذاته إضافة إلى وجود رسوله (ص) بينهم سيكون ضميناً لهم عند الله بالنصر وبدون قيد أو شرط ، فلما هُزموا في معركة أحُد صاروا يتشككون ويقولون هل لنا من الأمر شيء !! فسمّى ظنهم هذا ظنّ الجاهلية بالله بغير الحق وهو إشارة إلى العقيدة الوثنية عند العرب التي سادت فيهم وفي غيرهم من الأمم قبل الإسلام والتي كانت ترى لكل حادثة من حوادث الحياة وحالاتها كالمال والخصب والحب والحرب والبلاغة وغيرها إلهاً خاصاً وكذلك لكل ظاهرة

٣٩٩

من ظواهر الطبيعية واقسامها كالأرض والبحر والمطر والزلزال والفيضان وغير ذلك ، لكل منها ربٌ فوّض إليه الله تعالى إدارة أمور ما فُوِّض إليه وأعطاه شطراً من ملكه وسلطانه فهو وإليه وراعي شؤونه والناس تعبد هذه الأرباب المختلفة وتتضرع إليها وتقدم إليها القرابين والهدايا من أجل جلب خيرها ودفع شرّها كلُّ في باب تأثيره وولايته. فمن ظن أن مجرد انتمائه إلى هذا الدين هو أمر جعل الله فيه النصر والغلبة بنوع من التفويض فقد سار على درب وعقيدة الجاهلية الأولى وظنهم ذاك بالله بغير الحق. فالله عزوجلّ هو الذي وضع الأسباب والمسبَّبات وخطّ سُنَّتها فكيف لنا أن نتوقع منه أن يُلغيها !! وأية حكمة في ذلك !! ما كان سببه أقوى صار وقوعُه أرجح سواء أكانت الغاية حقاً أم باطلاً ، عدلاً أو ظلماً ، ولا فرق بين مؤمن أو كافر.

كل ذلك يصرخ بالإنسان وبالمجتمع الإنساني أن يعمل وأن ينشط وأن يختار لنفسه مصير نفسه ، ذلك بأن الله أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها ، وما المعجزات إلا استثناء للقاعدة عندما يكون لها محلّها من قبيل إثبات رسالة رسول أو حفظ الحق من الضياع التام وما أشبه ، ولكننا من أجل بلوغ هدف من الأهداف فلا بد لنا من الوصول إليه من طريق أسبابه ، هذه سُنّه الله تعالى وهذا

٤٠٠