دراسة في تنبؤات نوستردامس

دراسة في تنبؤات نوستردامس

المؤلف:


المترجم: الدكتور شريف الدين
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مركز مكالمات وپژوهشهاى فلكى نجومى
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

( اقمار الصناعية ) كل ذلك تحت سيطرة يهودية خالصة تقريباً ولا مجال للنفوذ إليها من جانب غيرهم إلا بموافقتهم ومباركتهم لذلك. ولم يكن قيامُ دولة إسرائيل وبقائها إلى حد الآن إلا إفرازاً لهذه السيطرة ونتاجاً فرعياً لها وليس هو بالحدث المنعزل أو المنفرد ، وإن كان قيام إسرائيل بحد ذاته هو حدث تأريخي فريد للغاية بعد إنتهاء دولة بني إسرائيل قبل ما يزيد على ثمانية وعشرين قرناً.

ويرى نوستردامس في نبوءاته بأن كل هذا إلى زوال مع نهاية هذا القرن وبقيام حرب التغييرات الجذرية الكبرى ونرى ذلك في بعض رباعياته التي نختار منها ما يلي ، ولا ننسى أنه كتب رباعياته تلك في وقت كان فيه اليهود في أدنى حضيض من التشرد والتشرذم وضعف تأثير.

١ ـ طوفان يهودي

« طوفان حبرون سيصل [ پو ] ، [ تاكس ] ،

[ تايبر ] وروما وعند بحيرة جنيف و [ أريزو ]

المدنيتان الرئيستان العظيمتان في [ غارون ]

تؤخذان وتموتان غرقاً ، الغنائم البشرية تُقتَسمَ »

الثالث ـ ١٢

٣٦١

[ حبرون ] هي مدينة الخليل الواقعة في الضفة الغربية من نهر الأردن وتقع ٣٥ كيلومتراً جنوب غرب القدس ( أورشليم ) وهي واحدة من أقدم مدن العالم وقد كانت عاصمة الملك داود قبل انتقاله إلى أورشليم وجعلها عاصمة لمملكته.

ويوجد فيها قبر إبراهيم الخليل عليه السلام وإسحاق ويعقوب وسارة (ع). ونفس الإسم [ جبرون Hebron ] يطلق على ما لا يقل عن ثمان مدن أمريكية في الولايات المتحدة.

[ پو Po ] هو نهر يجري وسط السهول الواقعة شمال إيطاليا ويتجه شرقاً ليصب في بحر الأدرياتيك ويبلغ طوله حوالي ٢٦١ كم.

[ تاكس Tagus ] هو أطول أنهار شبه الجزيرة الأسبانية ( ٣٥١ كم ) ينبع في الجبال الواقعة شرق مدريد ويجري إلى البرتغال حيث يصب في المحيط الأطلسي عند مدينة لشبونه التي تعتبر من أجمل موانيء الدنيا.

[ تايبر Tiber ] هو ثالث أكبر نهر في إيطاليا ( ١٥٢ كم ) وتقع عليه مدينة روما ودولة ال‍ڤ‍اتيكان بالقرب من مصبّه في البحر الأبيض المتوسط.

[ أريزو Arezzo ] مدينة تقع في مقاطعة تسكانيا في

٣٦٢

وسط إيطاليا ، وهي مقاطعة ذات تأريخ قديم وتشكل مدينتا فلورنس وبيزا مدنها الرئيسية ، فتكون أريزو إشارة إلى إيطاليا أو إلى وسطها بالذات.

[ غارون Garrone ] نهر ينبع في جبال [ بايرنيز ] جنوب فرنسا ويجري في الأراضي الفرنسية بالاتجاه الشمالي الشرقي ليصب في خليج يؤدي إلى المحيط الأطلسي ويبلغ طوله ٥٧٥ كيلومتراً والمدينتان الرئيسيتان الواقعتان عليه هما [ تولوس ] و [ بوردو ].

حبرون المدينة العتيقة جداً التي كانت عاصمة مملكة بني إسرائيل على زمن الملك داود قبل انتقاله إلى عاصمته الجديدة أورشليم هي إذن إشارة إلى « إسرائيل » الدولة القائمة في يومنا هذا والتي هي بدورها رمز السيطرة اليهودية العالمية في عالمنا المعاصر. وطغيان مملكة اليهود هذه وطوفانها سوف يصل إلى فرنسا وأسبانيا وسويسرا وإيطاليا والتي هي إشارة إلى عموم أوروبا والعالم الغربي. هذا الطوفان اليهودي سيكون من جملة العوامل التي ستؤدي إلى نشوب الحرب الكبرى القادمة وسوف يؤدي ذلك إلى غزو فرنسا والإستيلاء على بعض مدنها وإغراقها وأسر بعض أهلها وأخذهم كغنائم هم وما يملكون.

وتأتي إشارة أخرى في نبوءات نوستردامس إلى

٣٦٣

الدور اليهودي في إثارة المشاكل وإشاعة الفساد وخلق الأجواء العالمية المريضة المسمومه والتي ستكون من جملة العوامل التي ستؤدي إلى حرب التغييرات الكبرى في عالم المستقبل القريب ، وهو ما يذكره في جملة الرباعية التالية.

٢ ـ الايمان القرطاجي والبغل

« الإيمان القرطاجي يشطر الشرق

يهودي كبير يسبب تغيرات في [ الرون ] ، [ لوا ] ، [ تاكس ]

حينما يتمّ إشباع نَهَم البغل

الأسطول يتبعثر والجثث تسبح بالدم »

الثاني ـ ٦٠

[ لوا Loire ] هو أطول أنهار فرنسا ( ١٠٢٠ كم ) ويسمى واديه جنة فرنسا وهو يصب في خليج ضيق عند مدينة [ نانس ] الفرنسية وهو يؤدي في النهاية إلى المحيط الأطلسي.

[ الرون Rhone ] نهر ينبع في جبال الألب في سويسرا ويجري في فرنسا ويصب في البحر الأبيض المتوسط عند ميناء مارسيل الفرنسي.

[ تاكس Tagus ] هو نهر إيطالي سبقت الإشارة إليه للتوّ.

٣٦٤

والإيمان القرطاجي يحتمل تأويلين ، فهو إما أن يكون المقصود منه الدين الإسلامي باعتبار أن قرطاجة بلد إسلامي ويسكنها مسلمون وإيمان أهلها هو الإيمان بدين الإسلام وهو من باب الإستعارة أو الكناية أو أن المقصود به هو الأيمان الذي هو على مذهب أهل قرطاجة القدماء من أهل المدينة القرطاجية التي سبق ذكرها ويكون مذهبهم بذلك هو حالة العداء والتنافس مع الأمبراطورية الرومانية التي كانت قائمة على عهدهم والتي اشتبكوا معها في حروب دامت لثلاثة قرون كما كان من مذهبهم أو تفكيرهم الاستراتيجي هو أنهم لكي يقهروا الرومان ويتخلّصوا من شرهم فلا بد لهم من أن يغزوهم في عقر دارهم وأن يحاربوهم على أرضهم وفي داخل حدودهم وهو ما فعلوه تكراراً وبلغوا الذروة في تطبيق هذا المذهب الإستراتيجي على عهد قائدهم التأريخي هانيبعل الذي دخل وسط إيطاليا ومركز الأمبراطورية الرومانية في حملته الشهيرة التي سبق ذكرها لكي يلحق بهم واحدة من أعظم هزائمهم التي شهدوها في تأريخهم الطويل الذي دام اثني عشر قرناً.

فنوستردامس يقول بذلك أن الإيمان القرطاجي ( وعلى كلا التفسيرين ) سيؤدي إلى حصول إنقسام في الشرق بين مؤيد ومعارض ، متحمِّسيٍ له وناكصٍ عنه ، بين من يسلك هذا المذهب ومن يقف ضده ويدفعه وفي السطر

٣٦٥

الثاني فإننا لا نعرف باضبط أيَّ اليهود الكبار يعني فهم كثيرون من عائلتي روتشفيلد وروكفلر الأمريكيين إلى مردوخ الإسترالي إلى ماكسول وشامير ومن لف لفّهم ، المهم أن يهودياً بارزاً سوف يكون له دور مهم في تغييرات مهمة تحصل في فرنسا وإيطاليا أو في أوروبا والغرب بصورة عامة. والذي يغلب على ظني هو أن ماكسويل هو هذا اليهودي الذي أشار إليه نوستردامس ، وقد شاهدنا جميعاً تلك الضجة العالمية التي ثارت بعد وفاته. وعبارة البغل النَهِم الجشِع التي وردت في السطر الثالث هي أفضل تشبيه لليهود في صفاتهم العامة ، عناد إلى درجة حَرَن البغل وشموسه ، وصبر على تحمل المشاق في سبيل الوصول إلى هدفهم في التحكّم بالعباد والبعث بهم وتسييرهم كالبهائم وفق إرادتهم ، إضافة إلى جشع وحبّ جمّ للمال وجمعه بأيّ سبيل كان ، فهل يمكن إشباع هذا النهم وإسكات هذا الجوعْ ! وكيف يكون ذلك لإبن آدم وهو الذي إذا أعطي جبلاً من ذهب لقال أريد الآخر ولو أعطي جبلاً آخر لقال أريد الآخر ، لا يملأ فم ابن آدم وعينه إلا التراب على حسب ما نقل عن رسولنا الكريم (ص) من حديث بهذا المضمون ، فكيف به إذا كان ابن آدم هذا يهودياً !!

ليس هناك من سبيل لإشباع الجشع الطاغي إلا بأن تملأ فاه بحجر وتملأ يديه بالتراب ، لن يشبع نهم

٣٦٦

هذا البغل إلا بقوة وبشدة توقفه عند حده وتمنعه من التمادي في طغيانه وشره ، وهذه إشارة قوية أخرى إلى الإسماعيلي العظيم الذي يتوقع له نوستردامس أن يأتي نهاية هذا القرن لتطهير الأرض من أرجاسها ، وهو يشير مرة أخرى إلى أن ذلك الأمر إنما يتم في أجواء حرب وصراعات دامية تغرق فيها الأساطيل في البحار وتنتشر الجثث في كل مكان وهي تسبح بالدماء.

٣ـ قيام اسرائيل وسقوطها

« [ السِنِكوك ] العقيم بدون أية ثمرة

سوف يحلُّ بين الكفّار

ابنة أولئك المضطهدين في بابل

بائسة ، تعيسةٌ وسوف يقصّون أَجنحتها »

الثامن ـ ٩٦

[ السِنِكوت Synagogue ] هو إسم يطلق على المجتمع اليهودي المحلِّي في مدينةٍ أو منطقة ما ، وهو أيضاً محل عبادة اليهود ( الكنيس أو الكنيست ) ، وهو ها هنا إما إشارة إلى تجمعهم في فلسطين تحت إسم إسرائيل أو أنه إشارةٌ إلى الصهيونية عموماً كحركة تهدف ليس إلى جمع اليهود في وطن قوميّ لهم وحسب ولكن إلى السيطر اليهودية الجميعة على مقدَّرات الناس والشعوب في كلّ أرجاء المعمورة.

٣٦٧

والكفار المذكرون هنا هم العرب والمسلمون لأنهم لا يؤمنون بما يدين به اليهود والنصارى فهم كفار بالنسبة لهم ، وقد حصل بالفعل أن حلّ هذا التجمع اليهودي بين العرب المسلمين. المُضطَهَدون في بابل هم اليهود أنفُسُهم وهي إشارة إلى ما فعله الملك البابلي [ نبوخذ نصر ] في القرن السادس قبل الميلاد حيث أنه غزا أورشليم ودمَّر هيكل اليهود سنة ٥٨٦ قبل الميلاد وأسر عظماء وكبار اليهود وأخذهم أسرى إلى بابل عاصمة مملكته وسبى نساءهم وذريتهم واتخذ منهم عبيد أرقّاء يعملون في بابل ، واستمر أسرهم هذا لمدة سبعين سنة حتى جاء الملك الفارسي الفاتح كورش [ سايرس ] وأسقط الدولة القائمة في بابل سنة ٥٤٧ قبل الميلاد وسمح عندئذ لليهود بالرجوع إلى أورشليم. ويُعتقَد بأن ابتداء نشوء المعابد أو المحافل الدينية اليهودية المعروفة بالسنكوك كان في فترة أسرهم وسبيهم في بابل. كما إنّ أحبارَ اليهود بدأوا كتابة ( التلموذ ) هناك أيضاً وهو كتابهم المقدس الذي دوّنوا فيه حكمة بني إسرائيل المتوارثة شفهياً وعلى شكل مرويّات.

وإشارة نوستردامس إلى الكيان اليهودي القائم اليوم على أرض فلسطين باسم دولة إسرائيل على أنها إبنة أولئك الذين سباهم نبوخذ نصر هي بحق إشارة

٣٦٨

ذكية ، فهذه الدولة بنت لأولئك ليس سياسياً فقط وبمعنى أن هؤلاء المشردين هم أبناء أولئك المشرّدين ولكن في وراثة هؤلاء لأحقاد أولئك ولضغائنهم تجاه العرب والبشرية ناهيك عن الإسلام والمسلمين.

ولكن هناك فيما يخبر به في رباعيته هذه بشارةٌ فيما يبدو ، وهي أن البؤس والشقاء سوف لن يفارق هذه الأمة الملعونه جزاء فعلهم المنكر وأكلهم السحت وأنهم مهما فعلوا من أفاعيل المكر والخبث فإن العقم سيكون نصيبهم ولن يجنوا ثمرة ما زرعوه وأن أجنحتهم سوف يقصّها أولئك « الكفّار » الذين حلّوا بينهم سواء من الذين اغتصبوا منهم أرضهم وقراهم وشرّدوا بهم واستابحوا حرماتهم أم من الذين من حولهم من المغلوبين على أمرهم من أبناء العرب المسلمين.

وقد صدق الرجل فيما أخبر به في قسمة الأول الخاص بقيام ونشوء إسرائيل وهو ما يجعل لبقية الخبر قدراً مهماً من الاعتبار لأنه يحمل إمكانية التحقّق وبنفس الدرجة التي حملها صدرُ الخبر.

٤ـ المنشأة اليهودية تتهاوى

« على ميادين ميديا والجزيرة العربية وأرمينيا

جيشان عظيمان سوف يتحشّدان ثلاثاً

٣٦٩

قرب شواطيء نهر الآراس

أُسرة سليمان العظيم سوف تهاوى إلى الأرض »

الثالث ـ ٣١

ميديا هي منطقة إيرانية تقع شمال غرب إيران وقد سبق ذكرها.

أرمينيا هي إحدى جمهوريات الإتحاد السوڤ‍يتي سابقاً وتقع كل من تركيا وإيران على حدودها الجنوبية.

ونهر الآراس هو نهر ينبع في جبال أرضروم في تركيا ويتجه شرقاً ليكوّن الحدود الطبيعية والسياسية بين جمهورية أرمينيا إلى الشمال وبين إيران وتركيا إلى الجنوب وهو يصب في النهاية في البحر الكاسيبي ( بحر الخزر).

سليمان العظيم هو نبي الله سليمان بن داود (ع) ملك بني إسرائيل العظيم الذي ورث الملك عن أبيه داود (ع) حوالي سنة ٩٧٣ قبل الميلاد واستمر حكمه لمدة أربعين سنة ، ويقال أنه ورث أباه على مملكة بني إسرائيل وله من العمر عشرون عاماً ، وقد قام ببناء عدة مدن عامرة وأحاط عاصمة ملكه أورشليم ( القدس ) بسور محكم وبنى قصره الملكي فيها بالإضافة إلى المعبد الشهير المعروف بإسم هيكل سليمان الذي اكتسب صفة

٣٧٠

مقدّسة للغاية عند اليهود فيما بعد. وهو عند اليهود مؤلف كتاب أناشيد سليمان وكتاب الأمثال وغيرها من كتب العهد القديم. وقد ألصق الهيود بهذا النبي الكريم ألوان الفواحش والتهم والمعاصي حتى جعلوا منه كافراً مشركاً ، فقد حدّثوا عنه أنه كان يعبد الآلهة والأصنام التي كانت تعبدها زوجاته اللاتي تزوج بهنّ من أمم وشعوب مختلفة.

وأُسرة سليمان العظيم هم اليهود كما هو ظاهر. وهذه الرباعية تصف ظرفاً تأريخياً يكون فيه تحشيدٌ عظيم للجيوش على أراضي كلٍّ من أرمينيا وإيران والجزيرة العربية ويكون ذلك على ثلاث مراحل ، هذه الجيوش العظيمة ستمثل معسكرين متخاصمين يواجه كل منهما الآخر وسوف يلتقيان عند ضفاف نهر الآراس الذي تجري مياهه بين أرمينيا من طرف وبين تركيا وإيران من الطرف الثاني والمقابل ، وستكون محصِّلة نتيجة هذا التصادم بين هذين المعسكرين هي أن تتهاوى المنشأة اليهودية إلى الأرض وينتهي دور اليهود ( أسرة سليمان ) في السيطرة على مقدرات العالم والتحكم به وابتزازه ، وهو يعني ضمناً سقوط إسرائيل الدولة وانتهائها كوجود ، إن هذا بحدِّ ذاته يعني أن أحد المعسكرين سيكون هناك للدفاع عن مصالح اليهود والإسرائليين وحمايتهم وهو بلا

٣٧١

شك معسكر الاستكبار والطغيان العالمي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها حلفاؤها الصغار والكبار ، وأما المعسكر المقابل فيضم جيوش الجزيرة العربية وإيران وهو بمعنى أنه معسكر الإسلامي الذي سيكون النصر له وستكون الدولة له على الكافرين ، وهذا يعود بنا مرة أخرى إلى ذلك البركان الذي سوف يتفجّر في السنوات القليلة القادمة فيزلزل الأرض من أقصاها إلى أقصاها حسب ما تنبأ به صاحبنا نوستردامس قبل أكثر من أربعة قرون.

٣٧٢

في الختام

إنني أسأل الله تعالى أن تكون نبوءة نوستردامس صادقة فيرى جيلنا هذا نهاية وانهيار العالم الغربي لأن في ذلك انعتاق آلاف الملايين من البشر الذين كبّلتهم أيدي الغرب وقيدت عقولهم وحكمت مشاعرهم ومسالكهم وأفكارهم ، لقد كانت مدنيّة المجتمع الغربي نصراً عظيماً للعقلية الإنسانية وتجلّياً لإمكانيات الإنسان وقدراته ولكنها كانت بلا قيم نبيلة تَتّسم بالتسامح الشديد في قبول تلك المجتمعات لإستعباد المجتمعات الأخرى وذلك لأن المجتمع الغربي نفسه مُستعبَدٌ لفئات قليلة من أصحاب رؤوس الأموال الضخمة وهم الذين تقف حكومات العالم الغربي على قدميها في خدمتهم بجيوشها الجرّارة وبأداراتها الضخمة وبجيوش رجال الاستخبارات والخدمات السرية. هذا كله بالإضافة إلى أنانيّة شديدة وحرص على إبقاء ما يسمى بالعالم الثالث في حاجة مستمرة وعَوَز دائم إلى دعم الغرب وإلى صَدَقاته وهِباته بينما يقف إبنُ العالم الثالث خانعاً ذليلاً

٣٧٣

مادّاً بيده مستجدياً ومستطيعاً سيّدَه الأمريكي أو الانكليزي أو الفرنسي تحكُمُه الحاجةُ حيناً ويحكمه الهوى حيناً آخر.

إن عالم الغرب لم يخلُ يوماً من روحِ التجبّر والاستكبار والطغيان ، ولا يرضى إلا بأن يصوغَنا على صورته أو على وفق ما يريد ، كما أنهم يسرقون أموالنا وخيرات بلادنا ثم يعودون إلينا فيبيعوننا ما سرقوه من بضاعتنا بأفدح الأثمان وهم مع ذلك أهل المِنّة والفضل.

إنهم يحاصروننا من كل جانب ويدفعون بنا دفعاً إلى الأسفل في سلّم الرقيّ الإنساني والمدنيّ لكي يجدوا ما يتبجّحون به وما يفخرون به على غيرهم من بني الإنسان ، ولكي تكتمل حالة الاستعلاء في الأرض لديهم فإنهم جعلوا من بلداننا متاحف وآثار حية يزورونها ليشاهدوا فيها هيئة الإنسان المتخلّف الذي ما زال يعيش كما فعل أسلافه منذ مئات السنين في تلك الأصقاع من الأرض وليجعلوا من مجتمعاتنا الإنسانية حدائق حيوان يذهبون إليها ويتجولون في أطرافها لمشاهدة أحوال هذه الكائنات الغريبة وليزدادو زهواً بما هم فيه من رفاه وخدمات وتسهيلات.

لقد أرادوا أن يهزموننا ولا يمكن أن نُهزم إلا إذا ما قبلنا بالهزيمة ، وهو ما يحصل في أغلب الأحيان ، إن

٣٧٤

هزيمتنا إنما تحصل عندما نؤمن بأننا قد هُزمنا ، وعندها تتحقق التبعيّة الفكرية والحضارية والخُلُقية والتي تجعل من الإنسان الغربي مثلاً أعلى لنا دون الله عز وجل ( وله المثل الأعلى ) فتصير أمنيتنا هي أن يرضون عنا وأن يعترفوا بوجودنا ، ويصير الخير هو ما إختاروه وتصبح الفضيلة ما جعلوه فضيلة وتصير أساطيرهُم ومختلقاتهم وأمجادهم المصطنعة حلماً نسعى إلى تحصيله والفخر باقتنائه.

٣٧٥
٣٧٦

من ثمار التجربة

معيار القوة في عالم اليوم هو قدرة الشعوب الاقتصادية بالدرجة الأولى ، ومن كان عنده المال فإنه يستطيع أن يشتري به كل شيء. وينقسم العالم إلى معسكرين ، معسكر المستكبرين ومعسكر المستضعفين ، وجوهر الصراع بينهما هو صراع إرادات ، وهو صراع حضاري ( بما يتضمنه معنى الحضارة من قيم وتصورات ) يصل إلى حد الصراع بين الوجود أو الفناء. وأعتقد بأن أعظم الثمار التي حصل عليها العالم الإسلامي والعربي في تجربته مع المدينة الغربية هي إدراك إنسان اليوم بأنه لا بديل له عن حريته وعن اختياره الحرّ ، لأن هذا الأمر هو الذي يجلسه على عرش إنسانيته ويجعله في أقرب حالاته من الله عز وجل ، وفي أحسن حالاته لإكتساب الفيض الإلهي من رب الوجود.

لقد إنتهت فترة الإنبهار بالغرب والدهشة بإنجازات مدنيته.

٣٧٧

إننا اليوم أقدر مما مضى على الوقوف أمام تيارات المفاهيم والقيم التي تردنا من الغرب لننقد ولنحلّل وليس فقط أن نتسلم ونقبل بكلّ شيء ، ووقفاتنا التحليلية هذه لا تتناول بالنقد مسائل ثانوية أو كمالية من حياتنا ولكنها تتناول أساسيات من الأمور من قبيل ثقل وجودنا وحجمه في هذا العالم ، خصوصاً عندما نصطدم بمقادر التفاهة والتبعية للغرب في كل شيء تقريباً التي تلفّ وجودنا هذا. إن إنسان اليوم يستطيع أن يضع في كفّتي ميزان ، عبوديته للغرب ومنجزاته في كفّه ، وتسليمه لله تعالى الذي هو حربته وإنطلاقته في كفه أخرى ، فيرى بأن الكفة الثانية هي الأرجح بلا نزاع. وذلك أنه سيجد بأن بإمكانه أن يستغني بالفانوس عن مصباح الكهرباء وبالأعشاب الطيبة عن الحبوب والحقن ، وبالنظافة وبالعيش النظيف عن الأمصال والحقن المضادة ، وبالخيل والبغال عن السيارات والقاطرات ، ولكنه لن يطيق أن يتخلّى عن حرية قراره وعن كرامته ولن يطيق أن يبقى على الذل والهوان يلعب به وبمصيره صبيان الغرب ولصوصه ويقررون له سير حياته واتجاهها ، يسلبون منه أرضه ويسرقون ثرواته ويدمرون زراعته وريّه ويفسدون عليه بيئته ومحيطة وهم ينتفخون ويتبجحون في نفس الوقت بأنهم المتفضلون عليه وبأنهم هم أهل الخير وبأنهم هم أرباب الكرم والجود. وأيّة لذّة في أن أعيش

٣٧٨

في أفخم القصور وأن أركب أفره السيارات وأن أكل ألذّ الطعام في صحون من ذهب إذا ما كنت من قوم لا يحترمهم أحد ولا يقيم لهم أحد وزناً وهم في الدنيا والآخرة من الخاسرين ، أي لذّة في عيش مترف كهذا وأنا منتهك العرض مهدور الكرامة ، أقبّل أيادي الجبابرة الطغاة الملطخين بدماء الملايين من بني الإنسان وامسّح أحذيتهم من أجل أن يعطوني حقاً غصبوه مني أو أتوسل إليهم أن يعترفوا بوجودي في هذا العالم وأن يعطوني وثيقة يعترفون فيها بقيمتي وبجدوى وجودي هذا. وما كان لأهل الغرب أن يفعلوا بنا ذلك كله بدون موافقتنا نحن وبدون مطاوعتنا لهم ، فنحن وأياهم كالإنسان مع الشيطان إذ دعاه إلى الشرك فأشرك وما كان عليه من سلطان إلا أن دعاه فاستجاب. لقد كنا للغرب عونا على أنفسنا ، بعناله أنفسنا وديننا ودنيانا وتطوّعنا أن نكون له عبيداً وخدماً ووضعنا القيود بأختيارنا في أيدينا وصرنا نرضى بشتى ألوان الأعذار والتبريرات ، فمرة الغرب هو القوة الغالبة وأن ما نحن فيه سنة طبيعية يتبع فيها المغلوبُ الغالبَ وينحني فيها المهزومُ للمنتصر فيخضع له ويجري على منواله. ومرة أننا يجب أن نقلّدهم ونجري على خطتهم في حياتهم وبموجب تصوراتهم عن العالم حتى نصير مثلهم في التقدم التكنولوجي والمدني والثقافي وآل الأمر إلى الأخذ بالقشور وترك اللباب

٣٧٩

وخسرنا رهاننا هذا أو أنكشفت شبهتنا هذه لنا وتبيّن لنا بأن واحدنا إذا لم يحترم نفسه ولم يحترم عقله وقيّمه التي يدركها إدراكاً فطرياً فإنه لا يمكن له أن يرى الخير والسعادة لا في الدنيا ولا في الآخرة. ومع ذلك فإننا لم نفلت تماماً من شباك الشيطان الغربي وشراكه فقد نصب لنا فخاًّ جديداً إسمه الديمقراطية الغربية وأوهم العالم بأن تجربته الديمقراطية هي الحرية المنشودة بعينها ونصب من نفسه وبزعامة أمريكا حامياً وشرطياً للديمقراطية في كل أرجاء المعمورة ، وأن شئت فقل أنه الدين الجديد الذي بدأت أمريكا وأوروبا الغربية تبشّر به ويرفع انبياؤهما لواء الدعوة إليه وإلى النظام العالمي الجديد ، وصار هذا المبدأ هو أداته الجديدة في إسباغ الشرعية على إفساده في الأرض ولصوصيته وإذلاله للناس وإبادته للشعوب ، يقتل حرية الشعوب بإسم الحرية التي يدعو إليها تحت إسم الديمقراطية. وما هي إلاّ شبهة أحسن شياطين الغرب صياغتها. الديمقراطية الغربية ليست هي الحرية كما أن للحرية من الوسائل التي تعبّر بها عن نفسها ما هو أفضل بمئات المرات من الوسيلة التي عرفها الغربيون والتي أسموها بالدميقراطية. وفي الواقع فإن في ديمقراطية الغرب من الأستبداد ومن فرض آراء وتصورات وأهواء أنفار معدودين من المجتمع على مئات الملايين من أبنائه ما يجعل منها واحدة من أشنع صور الظلم

٣٨٠