دراسة في تنبؤات نوستردامس

دراسة في تنبؤات نوستردامس

المؤلف:


المترجم: الدكتور شريف الدين
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مركز مكالمات وپژوهشهاى فلكى نجومى
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

اقتصاد اللصوص

« الاقتصاد في تدهور ، بؤسٌ عظيم

يصيب الغربَ ومنطقة [ ميلان ]

نارٌ في السفينة ، وباءٌ وأسر

تجارةٌ ولصوصية في [ موناكو ] تُدمّر رخاءَها »

الثاني ـ ٦٥

[ ميلان Milan ] هي ثاني أكبر مدن إيطاليا وتقع في وسط السهول الشمالية وعلى بعد ٧٥ ميلاً شمال ميناء جنوا. وتقع عندها مجموعة من الأنفاق التي تربط إيطاليا ببقية أنحاء أوروبا. وهي مدينة ذات تأريخ عريق وكانت مركزاً فنياً وعلمياً وأدبياً لفترة طويلة كما وتوالى على حكمها عدد من الشعوب حتى سنة ١٨٥٩ حيث دخلت في الوحدة الإطالية تحت لواء [ فكتور إيمانويل ] أول ملك على إيطاليا الموحّدة.

موناكو هي تلك الإمارة الصغيرة الواقعة على الساحل الشمالي للبحر الأبيض المتوسط ، وعاصمتُها

١٨١

تُعرف باسم موناكو أيضاً. ويوجد في القاطع الشمالي الشرقي منها المنتج المشهور [ مونتي كارلو ] المعروف بموائد القمار العامرة وبالفنادق والمنتزهات الراقية جداً.

ونرى هنا نبوءةً بفاجعةٍ اقتصادية مدمّرة تصيب الغرب بصورة عامة وتصيب إيطاليا بشكل خاص ، كما أن إيطاليا قد لا تكون غير إشارة إلى ما حولها من مناطق أوروبية.

أما النار التي في السفينة فإنها تحتمل عدة تأويلات : الأولى ، أنها إشارة إلى حادثة بعينها ، أي حادثةَ إحتراقِ سفينة ، من قبيل تلك النار التي شبّت في ناقلة نفط في النصف الأول من شهر نيسان ( إبريل ) ١٩٩١ جنوب ساحل جنوا في مياه البحر الأبيض المتوسط والتي كانت واحدة من أكبر الكوارث البيئية التي شهدتها تلك المنطقة ، وتكون هذه الحادثة بذلك عَلَماً من معالم هذا الظرف التأريخي الذي يتحدث عنه ومشهداً من جمله مشاهد التي رآها مما يتعلق بفترة التدهور الاقتصادي هذه ، وتصح بذلك أشبه ما تكون باعطاء تأريخٍ تقريبيّ أو توقيت من نوع ما.

الثاني ، أنه إنما يرمز بالسفينة إلى ما هو أوسع منها في بابها كوسيلة للمواصلات والتنقل فتصير السفينة بذلك كل طرق المواصلات ويصير المقصود بالنار التي فيها هو

١٨٢

حالة إنهيار ودمار يُصيب طرقَ الموصلات هذه في هذا الظرف.

الثالث ، أنه قد يكون قد رمز بالسفينة إلى جملةَ ما يعرفُه الإنسان ويستعملُه من وسائل النجاة مما يوصله إلى برِّ الأمان والسلامة ، ويؤول المعنى بذلك إلى أن الناس سيعيشون حالة من البؤس والضنك لا مَخلَصَ لهم منها حتى تنقطع بهم السبل وحتى لا مخرج لهم مما هم فيه ، يأسٌ شامل وإنهيارٌ تام.

وإلى جانب ذلك فإنه يتحدث عن وباء يصيب هذا الغرب في بؤسه العظيم ، وأي وباء يمكن أن يكون هذا غير وباء ال‍ [ أيدز AIDS ] الذي يعصف بالعالم الغربي هذا اليوم ولا يجد له مانعاً من استشرائه وفتكه بأهله.

ثم إنه يتحدث عن أَسْرٍ من نوع ما ، فليت شعري أيَّ أسرٍ أراد ، هل هو أسر المعارك والحروب ، أم هو أسر الحياة المادية التي لا تعرف رحمةً لأحد ولا تأخذُها رأفة بالبشر فتُحيلُهم إلى عبيد أرقّاء لمن يملك الدينار والدرهم !!؟

ألراجع عندي أنه أراد الأمر الثاني لأن المقام هو مقام الحديث عن الاقتصاد والمال والتجارة واللصوصوية.

١٨٣

وفي السطر الأخير يذكر معنى اللصوصية المختلفة بالتجارة ولكن نوستردامس لم يأتَ بهذا اللفظ بهذه الصورة المباشرة ولكنه سلك إلى هذا المعنى مسلكاً ملتوياً كالعادة في كثير من أبيات رباعياته الشعرية فقال : ( الإله مَركَري في موناكو يدمّر رخاءها ) ، والإله [ مَركَري Mercure ] أو عطارد هو أحد الآلهة التي عبدها الرومان وهو عندهم ربّ الفصاحة والبلاغة والتجارة واللصوصية إضافة إلى كونه رسول الآلهة وابن كبيرها [ جُوبِتر ] ، ولكن محور طبيعة هذا الإله هو التجارة واللصوصية ويتفرعُ عن ذلك بلاغته وفصاحته ، فنوستردامس إذن يريد أن يقول بأن التجارة واللصوصية في موناكو ستجلب إليها الدمار والخراب ، وموناكو ـ كما هو معروف ـ هي واحدة من أهم مراكز القمار وبيوته في العالم ، وليس كالقمار لصوصية في تجارة ، فإذا ما علمنا بأن أولَ رخصة صدرت لنصب موائد القمار في ( مونتي كارلو ) كانت قد صدرت في سنة ١٨٦١ لرأينا أيّ أمر عجيب جاء به صاحبنا عندما أخبر في نبوءته عمّا سيؤول إليه أمرُ هذه المنطقة وبقي أن ننتظر بقية الخبر حيث سيحلّ الخراب التام فيها.

١٨٤

يد للسلام ويد للحرب

« يتوصّلون للسلم بيد وللحرب باليد الأخرى

لم يحصل أن تمّ تعقُب الإثنين بهذه الدرجة الكبيرة

سيبكون الرجالَ والنساءَ ، ودماءٌ بريئة على الأرض

وسيكون هذا في كل أنحاء فرنسا »

التاسع ـ ٥٢

في خصوص السطرين الأولين ، أليست هذه بالضبط هي سلوكية وصِيغة دول الإستكبار العالمي في هذه الأيام ؟؟

أليس هو تعبير آخر يصف فيه حالة الدجل السياسي الذي تمارسه دول العالم الاستكبارية هذه حيث تضع أمامك حلولاً لمشاكل العالم ومشاريعَ ظاهرها رحمة وخير وسلام وباطنها عذاب ونقمو وحرب حاقدة

١٨٥

على من تتوجّه إليهم بهذه المشاريع !!

إنك ترى العالم الإستكباري في إعلامه وفي شعاراته التي يرفعها وفي مشاريعه التي يخطط فيها للعالم المستضعف المغلوب على أمره وهو يقول لك بأنه أكبر داعية للسلم وللمحبة ولكنه في نفس الوقت ينهج ويعيش حالة حرب هوجاء ضد هؤلاء من أجل سرقة وابتلاع خيراتهم وجهودهم ومن أجل استعبادهم وتسخيرهم لخدمته ولا يهمّه في سبيل تحصيل ذلك أن يسحق عشرات الملايين بل ومئاتها من البشر لأنه يرى أن الإنسان هو مما يمكن الاستغناء عنه أمام ضروريات شهواتِه وإستعلائه في الأرض ، ويرى العالمُ الإستكباري في هذا الكيد المرعب إشباعاً لغروره ولكنه لن يجني من ذلك غير المآسي والعذاب في الدنيا قبل الآخرة سُنَّةَ من خلا من قبل ولن تجد لسُنّة الله تحويلاً ولا تبديلا.

ونرى نوستردامس وهو يذهب في رؤيته المستقبلية إلى هذه النتيجة ، فإن أهل تلك الدول المستكبرة سيبكون قتلى الرجال والنساء بينهم وأن الدماء ستراق على الأرض ، منها دماءُ الجُناة ومنها دماءُ الأبرياء ذلك بأن عذاب الله تعالى إذا ما حلّ بقوم فإنه لا يُصيب الذين ظلموا بخاصة ولكنه عذابٌ شاملٌ حارقٌ ما حق ، وهو يرى أن هذا سيحل في فرنسا بالذات وكلنا يعرف ما هي

١٨٦

فرنسا وما هو كيدها في العالم.

ولنوستردامس مقطع آخر أو رباعية أخرى في موضع آخر من كتابه تشير إلى نفس المعنى ولكن في شيء ما من التفصيل حيث يقول :

«سوف لن يلتزموا بمعاهدات السلم

سوف يتّهم حكامُ الدول بعضُهم البعضَ بالخديعة

في البرّ والبحر ترتفع إعلانات السلام

وسوف ينشَط الجيش إلى حدود برشلونه »

السادس ـ ٦٤

ونراه هنا يشير في جملة إشاراته إلى نشاطٍ عسكريّ واسع في أوروبا على ما يبدو فيشمل عديداً من دولها ويصل إلى حدود برشلونه في أسبانيا والتي يمكن اعتبارها أقصى تخوم القارة الأوروبية.

١٨٧
١٨٨

غلبه الغرب

« الميزانُ سوف نراه يحكم في الغرب

مملكتُه ستحكم في السماء وفي الأرض

ولكن قوات آسيا سوف لن ترى الدمار

ما دام هناك سبعةٌ يمسكون بسلطة هرميّة »

الرابع ـ ٥٠

الميزان أو برج الميزان هو رمز العدالة. فهو يقول بأن العدالة سوف نراها حاكمة سائدة في الوسط الغربي ، وأن هذا الغرب سوف يحطم ويسيطر على السماء والأرض وأراها بمعنى سلطته العسكرية ( الجوية منها والبرية والبحرية ) وسلطته السياسية ، وكلا الأمرين كما ترى واقعيّ وصحيح فهناك حرية واحترام لحقوق الإنسان في الغرب وبمقدار يتّفق عليه الجميع خصوصاً مع مقارنته بما يجري في أجزاء أخرى من العالم وخصوصاً ما تُسمّى بالإشتراكية منها ، إضافة إلى وضعٍ عام من سيادة القانون ومؤسساته وبالذات القضائية والتشريعية

١٨٩

منها ، والغرب كذلك يسيطر على أكثر بلدان العالم الأخرى ويفرض سلطته عليه كشرطي عالمي وكأَنّ العالم بأرضه وسمائه ، وببشره وبحيوانه ، بمعادنه وبأشجاره وكل شيء آخر إرث أرثوه عن آبائهم فهم في حلّ تامّ منه.

أما السبعة المذكورة في السطر الأخير فواضح أنها سبعة دول أو أقطار وكما يبدو فإن لها نوع من الأرتباط « بقوات آسيا » المذكورة في السطر الثالث وتكون بذلك إشارة صريخ إلى دول حلف وارشو المؤلفة من سبع دول وهي : الاتحاد السوڤيتي سابقاً ، ألمانيا الشرقية ( سابقاً ) بولندا ، رومانيا ، هنغاريا ، تشكوسلوڤاكيا ، بلغاريا. وحلف وارشو ـ كما هو معروف ـ هو إتفاقية دفاع متبادل لأقطار أوروبا الشرقيه وقد وُقِّعت في مدينة وارشو سنة ١٩٥٥ وكانت تضمّ آنذاك ألبانيا إضافة إلى الأقطار السبعة المذكورة إعلاه ولكن ألبانيا انسحبت منها سنة ١٩٨٦. والسلطة في هذه الدول تقوم بالفعل على أساس هرمي ويكون حكم الجماهير العريضة التي فيها بيد حفنة من الناس من المتربّعين على قمة هذا الهرم.

« قوات آسيا » طبعاً ما هي إلا إشارة إلى المعسكر الشيوعي الحاكم في الشرق ونوستردامس يتنبأ بأن هذه القوات الآسيوية سوف لن تتدمر أو تضعف حتى يزول أو يضعف حكم تلك الأقطار السبعة ، وأرى أن قدراً كبيراً

١٩٠

من هذه النبوءة قد حصل بالفعل في عصرنا هذا حتى شاهدنا تداعي هيبة القوة الشيوعية وزعزعة أركان النظام الإستبدادي الذي أقامته ، وقد كان الايذان بذلك هو سقوط الأنظمة القمعية في دول أوروبا الشرقية الأعضاء في حلف وارشو الواحد تلو الآخر وانفراط عقدها.

ونرى نوستردامس وهو يتنبأ بهذا المصير للدول السبعة المذكوره وذلك في الرباعية التالية :

« أخبار جديدة ، مطر ثقيل غير متوقع

يحجز فجأة بين جيشين

من السماء تسقط أحجارٌ ملتهبة تصنع بحراً

موت السبعة يأتي فجأة في البر والبحر »

الثاني ـ ١٨

فإذا علمنا بأن المطر هو رمز الثورة والهياج الشعبي لدى نوستردامس وقد درج على استخدام هذا المعنى في نبوءاته بشكل مستمر لرأينا مقدار الصحة والإصابة في رؤيته هذه ، ومفتاح الحل في تفسير هذه النبوءة نجده في السطر الرابع عندما يشير إلى السبعة التي ستموت فجأة ، وقد رأينا بالفعل أن شعوب تلك الأقطار الأوروبية الشرقية وكثيراً من شعوب الإتحاد السوڤيتي تخرج في تظاهرات عارمة تؤدي إلى تغيرات جوهرية في أنظمة ومناهج تلك الدول بل وإلى انقلابات جذرية في بعضها مثل ألمانيا

١٩١

الشرقية وقد حصل ذلك في شهور معدودة وبمجرد أن أرخى الأتحاد السوڤيتي من قبضته وسحب تأييده وذلك تحت وطأة الضغط الاقتصادي بالخصوص ، وقد كانت أخبار مفاجئة جداً ولم تكن في حسبان أحد ، وقد أدّت هذه الثورات والتغيرات إلى أن يتحاجز بالفعل جيشان أو قوتان عظيمتان هما قوات المعسكر الاشتراكي من جانب وقوات المعسكر الرأسمالي من الجانب الآخر.

وفي السطر الثالث يقول أن هناك أحجاراً ملتهبة سوف تتساقط من السماء وترجم الأرض وتصنع عليها بحراً من الحجارة ، فما هو المقصود بذلك ؟ لست أدري بالضبط ولكن لعله يقصد بأن هذا الظرف التأريخي المذكور في هذه الرباعية سوف يشهد حصول مثل هذا الأمر والذي قد يكون ظاهره طبيعية من قبيل سقوط نيازك على الأرض وبكثرة ، أو قد يكون رمزاً لضربات صاروخية عنيفة وكثيفة سوف تشهدها مناطق الثورة تلك.

وهناك رباعية أخرى تجدها في فصل آخر من الكتاب تبدو وكأنها تتمة أو تكميل لهذا الموضوع ، وهي تقول : ـ

« في يوم ما سيبقى واحد من بين القائدين العظميين

قوتهما سوف تشاهَد وهي تزداد

١٩٢

الأرض الجديدة ستكون في ذروة قدرتها

بالنسبة للرجل الدموي فإن الأرقام ستصله »

الثاني ـ ٨٩

إذ لا شك أن المقصود بهذين القائدين العظميين هو الاتحاد السوڤيتي والولايات المتحدة الأمريكية أو رئيسا هذين البلدين وقد شاهد العالم الدرجة الرهيبة التي وصل إليها كل منهما في قوة تسليحه على مدى سنوات التسابق بينهما في تحصيل أعلى قدرة تدميرية ممكنة. ثم شاهدنا ذلك اليوم الذي رآه نوستردامس حيث لم يبق من بين ذينك الإثنين غير واحد أو كاد ، وهذا الواحد أشار إليه في السطر الثالث إشارة واضحة عندما قال بأن الأرض الجديدة ستكون في ذروة قدرتها ، والأرض الجديدة هي أمريكا بطبيعة الحال وقد كان هذا الوصف مما هو معروف على زمن نوستردامس للإشارة إلى القارة الأمريكية. وقد أصاب الرجل مرة أخرى في رؤيته المستقبلية لأننا نرى الولايات المتحدة اليوم وهي تكاد أن تتفرد بالسلطة الاستكبارية في العالم وبلا منازع مهم بينما استحال الأتحاد السوڤيتي إلى متسول يتكفّف الغرب.

السطر الرابع مهم جداً في مجال نبوءات هذا الرجل الخاصة بمستقبل هذا القرن من الزمان لأنه يقول

١٩٣

بأن الأرقام أو المعلومات والتطورات والمكائد والمشاريع إلى آخر ذلك مما يُعتبَر أرقاماً تخصّ الوضع العالمي سوف تصل إلى الرجل الدموي » ، هذا الرجل الدموي يبدو جلياً في هذه المرحلة أنه هو نفس الشخص الذي سيأتي بذكره فيما بعد والذي سوف يسمّيه ب‍ ( ملك الرعب ) ، ونراه ( أي الرجل الدموي ) هنا وهو يرصد ما يجري من حوله ويراقب ويحسب حساباته ويستعد ليوم نهضته ، وهو يتكتّم على أمره ويخفي عن العيون شأنه.

١٩٤

ضعف الغرب والشرق

« مرتان يرتفع في القوة ، مرتان يهبط

الغربُ كالشرق سوف يضعف

خضمُه بعد عدة معارك سوف يُطارَد

بالبحر ، وسوف يسقط من خلال العَوَز »

الثامن ـ ٥٩

هذه رباعية تتنبأ بأن الضعف سيلحق الغرب كما أنه لحق الشرق ، ويبدو أن نوستردامس يرى هذا الضعف وقد حل بكل من المعسكرين الإشتراكي ( الشرق ) والرأسمالي ( الغرب ) بعد أن يرى كل منهما فترات أربعة ، إثنتان فيهما هبوط واثنتان صعود ، ويبدو أنه يتحدث عن الرؤوس أي الإتحاد السوڤيتي وأمريكا وحليفاتها ولكن لا يبعد أنه يعني الذيول أيضاً.

وليس الغرب بلداً واحداً بالطبع ولكل بلد من بلدانه تأريخ يختلف عن البلد الآخر في بعض الجوانب ، وما يكون هبوطاً في واحد منها قد يكون ارتفاعاً في بلد

١٩٥

آخر منها كما لاحظناه مثلاً بالنسبة لبريطانيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية عندما بدأت إمبراطوريتها التي لا تغرب عنها الشمس تتداعي وصارت مناطق نقوذها تتساقط بالتدريج لتقع في أيدي الأمريكان ولتبدأ أمريكا.

بالصعود إلى ذروة من ذُرى القوة والجبروت في الوقت الذي صارت فيه بريطانيا تنزل إلى الحضيض وهم اليوم مستمرون في انحدارهم. ولكن ما أشبه اليوم بالبارحة إذ نرى أمريكا وهي تشهد اليوم انحداراً لا توقّف فيه سواء أكان ذلك على المستوى الاقتصادي أو على المستوى الاجتماعي والسياسي ، فمثلاً الديون التي على أمريكا هي اليوم من الضخامة إلى درجة تجعل منها أكثر بلدان العالم ديوناً بعد أن كانت من أكبر الدول الدائِنة في العالم ( أي أنها كانت تعطي ديوناً للدول الأخرى الأقل حظاً منها في ثرائها ) وهي اليوم مَدينةٌ في الغالب لليابان وألمانيا. وقد كشفت الحرب الأمريكية الأخيرة ضد صدام حسين عن مدى الانهاك الذي أصاب هذه القوة العظمى عندما رأينا كيف أنهم لم يتمكنوا من شنّ هذه الحرب وأدامة عجلتها إلا بمساعدات ماليه ضخمة جداً من السعودية والكويت والإمارات العربية واليابان وألمانيا وغيرها ، كما ورأينا الساسة الأمريكان والبريطانيين وهم في جولات تسوّليه إلى هذا البلد أو ذاك.

١٩٦

ولكننا مع ذلك كله نستطيع أن نعمّم فنقول بأن هناك ارتفاعان وهبوطان في الغرب سبق وتلا كُلاً من الحربين العالميتين الأولى ( ١٩١٤ ـ ١٩١٨ ) والثانية ( ١٩٣٩ ـ ١٩٤٥ ).

وفي السطر الثالث فإن الضمير في ( خصمه ) يعود إلى كل من الشرق والغرب أي بمعنى آخر أنه يقول : كل منهما بعد عدة معارك سوف يطارَد وسوف يسقط لأسباب اقتصادية فتقتله الحاجة والعَوَز. وأما هذه المعارك المذكورة فقد يراد بها معارك بين هذين الطرفين بالذات ومباشرة من قبيل ذلك الصراع الإيديولوجي بين الشيوعية والرأسمالية أو من قبيل حرب الجواسيس والاستخبارات ، أو أن يُراد بهذه المعارك ما جرى نيابة عن هذه القوى العظمى بين مختلف دول العالم الأخرى ، ومهما كان المقصود بها فإن علّة السقوط والإنهيار في العالم الغربي والشرقي ستكون هي العَوَز والفاقة وقد رأينا ذلك يحصل في المعسكر الشرقي ويبدو أن شيئاً من هذا القبيل سيحصل في المعسكر الرأسمالي أيضاً ، وقد سبق ذكر التدهور الاقتصادي المتوقع في العالم الغربي آنفاً.

وهناك نبوءة أخرى لنوستردامس تدخل في نفس هذا الباب حيث يقول :

« في الأرض التي مناخُها خلاف الذي في

١٩٧

بابل

ستكون إراقةٌ عظيمةٌ للدماء

ستبدو الأقدار وكأنها غير عادلة ، في البر والبحر والجو

الدولُ فيها طائفية ، مجاعة ، أوبئة ، تخبط

الأول ـ ٥٥

بابل هي مدينة أثرية عريقة جداً تقع في وسط العراق الذي يعتبر مهد الحضارات البشرية ، وهو بذلك يريد أن يقول إذاً : مناخَ العراب ، ومناخه يغلب عليه الحرّ فهو يريد إذاً أن يشير إلى أراضٍ باردة مثل روسيا أو بلدان شمال أوروبا أو الدول الاسكندناڤية أو كندا أو غيرها. ومن جانب آخر فلعل المناخ المذكور هو مما لا علاقة له بالحرارة والبرودة والطقس وإنما هو المناخ الإجتماعي أو الفكري أو المنهج السياسي والاقتصادي السائد ، فإذا ما عرفنا بأن المناخ السائد في العراق هو مناخ الكبت والقهر والاستعباد ومصادرة الحريات وتدمير الإنسان وإنكار كل القيم الإنسانية الفاضلة وبطريقة منهجية مُبرمَجة وعلى يد الحكومة المتسلطة على رؤوس العباد هناك وذلك بدلاً من أن تعمل على رعاية مصالح الأهالي وتيسير أمور عيشهم وتذليل صعوبات الحياة أمامهم وصون كراماتهم ، لعرفنا بأنّ المناخ المضادّ لهذا

١٩٨

هو ذلك الذي نراه قائماً في كثير من الدول الغربية حيث الحرية الفردية محترمة إلى درجة لا بأس بها وحيث تقوم الحكومات برعاية مصالح رعاياها وغير ذلك من نقائض وأضداد مناخ بابل ذاك.

وأنا شخصياً أعتقد أن المعنى الثاني هو المقصود من المناخ ويكون العالم الغربي بذلك هو موضوع ومادة هذه النبوءة التي تنذر بالويل والثبور وبفوضى لا يقوم لها شيء.

١٩٩
٢٠٠