دراسة في تنبؤات نوستردامس

دراسة في تنبؤات نوستردامس

المؤلف:


المترجم: الدكتور شريف الدين
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مركز مكالمات وپژوهشهاى فلكى نجومى
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

شأنٍ عراقي فإن نوستردامس هنا ينتبأ بحربٍ جديدة باعثُها الأساس هو الضغائن التي تركتها حرب الخليج التي لم تكن حرباً عادية مطلقاً لأنها حرب من جانب واحد بدل أن تكون حرباً بين جيشين أو بين قوتين ، إنها عاصفة من القنابل والصواريخ والقذائف من كل لون وصنف هبّت على العراق من قبل قوات الحلفاء وعلى رأسهم أمريكا لتحيل العراق إلى ركام وخرائب وأشلاء من القتلى من رجال وأطفال ومن شباب وعجائز والغريب فيها أن الحلفاء الأجانب قَدِموا في الموجة الأولى ثم قالوا انتهينا وانتهى دورنا لتبدأ موجة الخراب الثانية والتي قادها هذه المرة النظام الطاغوتي القائم في العراق ليتمّم عمل قوات الحلفاء وليدمر ما تبقى وليتمّم هزيمة هذا الشعب المنكوب الأسير. والباعث اللآخر هو الثأر. وأي ثأر !! إنه جمر يتلظى في القلوب.

أما فرنسا التي قدمت لنا ميشيل عفلق وبقية جوقته والتي لعبت أهم دور في دعم صدام وإسناد نظامه الطاغوتي فستقبض الثمن ولكنه لن يكون غير الرعب والخوف. هكذا تقول هذه الرباعية وما علينا إلا الانتظار لنرى حكم الله تعالى.

١٦١
١٦٢

ضد المسيح Autichrist ( المسيح الدجال )

« المسيحُ الدجّال سوف يُبيد الثلاثة عاجلاً

حربُه سوف تدوم سبعة وعشرون عاماً

يقتل من ينشق على عقيدته ، يسجنه ، ينفيه

دماء من الاشلاء تصبغ الماء ، الأرض مثقَّبة بالضربات »

الثامن ـ ٧٧

إن عبارة المسيح الدجال أو ضد المسيح ( Autichrist ) تعني ذلك الذي يُنكِر أو يعارض السيد المسيح (ع) وقد جاءت بهذا المعنى في رسائل يوحنا وإنجيل متى ، أما في كتاب ( النبوءات ) من العهد القديم فقد جاءت بمعنى [ الوحش Beast ]. وقد كانت هذه العبارة تطلق على الإمبراطور الروماني نيرو الذي بالغ في محاربة المسيحية في وقته ، ثم صارت بعد ذلك تهمةً يَرمي بها بعضُ الساسة أو بعضُ رجال الكنيسة بعضَهم الآخر وصارت في نهاية عهد الإصلاح وذلك نهاية القرن

١٦٣

الخامس عشر هي التهمة الموجَّهة إلى البابا رئيس الكنيسة الكاثوليكية بهدف تسقيطه والتقليل من شأنه ولأمور أخرى. وعلى زمن نوستردامس أصبح معناها فيما يبدو هو ذاك الذي سيدمّر الكنيسة الكاثوليكية أو يحاول أن يقضي على سلطتها.

والثلاثة التي سيبيدها هي على أغلب الظن ثلاثة أقطار أو ثلاث دول ، وهو ما يتناسب مع مستوى الدمار الذي سيُحلقه هذا الشخص بالعالم. وعبارة ( من ينشقّ على عقيدته ) هي في الأصل كلمة ( Heretique ) وهي تعني المهرطِق ( من الهرطَقَة ) أو ذاك الذي ينشق على عقيدة سائدة ، وبشيء من التوسّع فإنها سوف تعطي المعنى الذي أوردناه فتكون بمعنى من يُبدي رأياً مخالفاً لا يرضاه هذا المسيح الدجال.

أما الثقوب التي تصيب ظاهر الأرض فلا أراها إلا إشارة صريحة إلى القنابل والصواريخ التي يتّضح لكل من رأى أثار ضرباتها وخصوصاً عندما يكون ذلك بكثافة شديدة كيف أنها تترك الأرض مثقَّبة كالغربال ، وإشارتُه هذه تجعلك تتصور الرجل وكأنه جالس في مقعد على متن طائرة تحلق عالياً في الفضاء وتشرف على ما تحتها من آثار الدمار الذي خلّفته المعارك وصاحبنا يرى ويسجّل ذلك يراه بدقّة لا يدرك مغزاها إلا ابن

١٦٤

زماننا هذا.

إن هذا المسيح الدجال سوف يشنّ حروباً متتاليه تدوم لمدة سبعة وعشرين عاماً وهو لا يعرف غير القتل والسجن والنفي لكل من يُبدي رأياً مخالفاً لرأيه أو يحكم بما لا يرضاه ولا يُخلّف غير الأشلاء فوقها أشلاء فوقها أشلاء ، ظلماتٌ بعضُها فوقَ بعض ، الدماءُ تجري حتى إنها لتصبغُ الماءَ بلونها الأحمر ، قذائفُ وقنابل وصواريخ تتساقط وتجعل سطح الأرض مثقَّباً كأنَّه غربال !! ولكن من يكون هذا ؟ من تحتمل أنه يعني بذلك ؟!.

إنه يعود إلى ذكر هذا المسيح الدجّال أو ضدّ المسيح في رباعية أخرى من فصل ( قرن ) آخر من فصول كتابه ، فهو يقول :

« رئيسُ لندن تسنُده قوةُ أمريكا

عندما يُحيل البردُ منطقة إسكتلنده إلى جمادٍ كالحجر

زعيمُ الحُمُر سيكون عنده مسيحٌ دجّال

مرعبٌ إلى درجة وسوف يجرّ الجميع إلى المشاكل »

العاشر ـ ٦٦

رئيس لندن لا شك وأنه رئيس وزراء بريطانيا.

١٦٥

ولقد نصّ نوستردامس على إسم أمريكا بالحرف ، ولم يكتفَ بأن يقرنَها ببريطانيا وحسب ولكنه جعل لها قوة يحتاج إليها رئيس الوزراء البريطاني لدعمه وإسناده ، وأرى أن هذا أمر مدهش للغاية أن يتنبّأ هذا الرجل بالدور الخطير الذي ستلعبه أمريكا في مستقبل الزمن وبالصورة التي نعرفها اليوم في وقت لم تكن فيه أمريكا شيءٌ يُذكر على عهده ، بل مجرد أرض لم يسمع بإسمها الكثيرون ، بل إن أوّل مستوطنة أُقيمت فيما عُرف فيما بعد بالولايات المتحدة الأمريكية كان سنة ١٦٠٦ في منطقة فرجينيا على يد شركة تجارية إنكليزية وبتخويل من لَدُن الملك جيمس الأول الإنكليزي ، أي بعد وفاة نوستردامس بسنوات طويلة.

وزعيم الحمر لا شك أنه رئيس الإتحاد السوڤيتي ، ونحن نرى هنا في هذه الرباعية بأن المسيح الدجّال مرتبط بنوع من الإرتباط بالإتحاد السوڤيتي وبيدو أن هناك نوع من الإلتزام الذي يفرض على حكومة الحمر القيام بدعم هذا الشخص أو مداراته ونصرته.

هذه النبوءة إذن تعطينا صورة عن مشهد تأريخي مما سيأتي به المستقبل ومركز الحوادث فيها وقطب رحاها هو هذا المسيح الدجّال الذي يصفه بأنه مرعب للغاية وبأنه هو الذي سيجرّ جميعَ الأطراف المشتركة في

١٦٦

المتاعب والمشاكل. وهذه الأطراف الثلاثة التي تلعب الأدوار الرئيسية في هذا الظرف هي بريطانيا وأمريكا والإتحاد السوڤيتي ( أو روسيا ) ، كما نلاحظ وهو يعطي رئيس الوزراء البريطاني دورَ المباردرة والتقدّم الفعلي في المشاركة وتقوم أمريكا بدعمه وإسناده ونصرته.

ولا يخلو هذا المشهد من توقيت من نوع ما وذلك عندما نراه يذكر في السطر الثاني أن هذه الوقائع ستحدث عندما تأتي موجة من البرد القارص الذي سيضرب شمال الجزر البريطانية في منطقة اسكتلندا فيُحيلها إلى جليد كالحجر.

ويعود نوستردامس في رباعية أخرى من القرن التاسع إلى ذكر الدجّال ولكنّه يصفه هنا بأنه ناقص ولا يسميه بالمسيح الدجّال حيث يقول فيها :

« الدجّالُ الناقص يصلُ إلى قمة قوته عاجلاً مسبباً نكسة لأهل [ لورين Lorraine ]

الحمر سوف يضعفون في مرحلة إنتظار الملك الجديد

ومرة أخرى فإنهم المسلمون الذين يجب خشيتهم »

التاسع ـ ٥٠

١٦٧

[ لورين Lorraine ] هو إسم منطقة تقع شمال شرق فرنسا على حدودها مع ألمانيا الغربية وهي بذلك إشارة إلى فرنسا وإلى أهلها. ونفس هذا الإسم يطلق على مدينتين أخريين الأولى تقع في الولايات المتحدة ( ولاية كنساس ) والثانية تقع في كونيزلاند. ولكنه يشير إلى الأولى على أغلب الظن لأسباب ذكرت سابقاً.

والحمر هم الشيوعيون. أما كلمة ( المسلمون ) فقد جاءت في النص الأصلي بعبارة [ البرابرة Barbaris ] وهم سكان الساحل البربري الواقع شمال أفريقيا وهي إشارة إلى المسلمين عموماً على أقوى الإحتمالات كما أنها قد تحتمل الإشارة إلى سكان ذلك الساحل بالذات وحسب ولكننا رجحنا ترجمتها إلى كلمة ( المسلمين ) لما لاحظناه من خطة نوستردامس العامة في رمزه وإشارته إلى المناطق الجغرافيه وإلى طوائف المختلفة.

ولنفس الأسباب فإن النكسة المشار إليها قد لا تختصّ بأهل فرنسا وحسب ولكن وقد يكون المقصود بها أنها ستصيب الجانب الفرنسي بكل متعلقاته من أحلاف ومعاهدات سياسية وعسكرية من قبيل حلف الناتو الذي تشكل فرنسا إحدى عضواته.

وواضح أن لهذه الرباعية صلة بسابقتها وهي تضيف بعداً جديداً لطبيعة هذا الظرف التأريخي الذي

١٦٨

نحن بصدده ، فهذا الشخص الذي يصفه بأنه ناقص وبأنه دجّال سيصل إلى ذروةٍ من قوته وأنه بذلك سوف يسبب نكسة للمعسكر الغربي ، وهي نكسة لا نعرف طبيعتها أو حقيقةَ أبعادِهما ولكنها لن تكون في صالح المعسكر الشيوعي إذ أن هؤلاء سيصيبهم الضعف بدورهم ، وذلك كله سيكون في ال‍ [ Interrgnum ] ، وهي التعبير الذي جاء في السطر الثالث في النص الأصلي وترجمناها بعبارة [ مرحلة إنتظار الملك الجديد ] إذ أنها كلمة تعني الفترة التي تلي موتَ ملك أو رئيسَ دولة حيث لم يتمّ بعد تعين ملك جديد أو جلوسه على العرش حيث تحصل حالة فيها نوع من تعليق الأحكام أو ضعف العمل بها ، وهي الكلمة التي وردت في الأصل. وهذا إشارة إلى أن العالم سيكون في هذا الظرف في انتظار حاكم جديد ، ملك جديد ، سلطة جديدة أو نظام جديد أما من يكون هذا الملك وما طبيعة هذه السلطة التي سوف يمارسها فإني أراه يشير إليها في السطر الأخير عندما يقول بأن المسلمين ومرة أخرى هم الذين تجب خشيتهم والحذر منهم ، وكأنه يقول بذلك إن القوة ستكون لهم بعئذ وأن الحاكم المنتظر سيكون من هذه الطائفة من الناس وأن الصراعات العالمية سوف تؤدي في نهاية المطاف إلى أن يكونوا هم أولياء الأمور.

١٦٩

ولكن من هو هذا المسيح الدجّال الناقص الذي سيكون قطب الرحا في هذه الصراعات والخلافات العالمية !!

إننا ومن خلال الظرف التأريخي المعاصر نستطيع أن نضع إصبعنا عليه ونقول بأنه صدام حسين حاكم العراق كما نستطيع أن نقول بأن هذه نبوءات تخص عصرنا الحاضر. فالمسيح الدجّال الذي ذكره نوستردامس هو صدام حسين ، نعرف ذلك من خلال دراستنا للظرف التأريخي الذي نعيشه اليوم فإنه نصدُقُ عليه مقولة أنه يقتل كل من يبدي رأياً مخالفاً أو يسجنه أو ينفيه وواقع العراقيين اليوم يشهد بذلك ، وله معاهدة صداقة ودفاع مشترك مع الأتحاد السوڤيتي سابقاً ، وهو ما أُشير إليه بكونه موجود لدى الحمر فهناك التزام روسيّ بحمايته ، وهو الذي يترك ركاماً من الأشلاء حيثما حلّ ونزل بوجوده المشؤوم وتشهد بذلك مئات الآلاف من الجثث في داخل العراق وإيران والكويت ، أما الأرض التي هي كالغربال من أثر سقوط القنابل والصواريخ فهي أرض العراق من شماله إلى جنوبه بعد أن سقطت عليها ملايين الأطنان من قنابل الطائرات الأمريكية والبريطانية وغيرها ولعل الأرض ستشهد منها المزيد. وقد مضى عليه في السلطة قرابة أربع وعشرين عاماً كانت كلها حرباً على

١٧٠

شعب العراق بكامله من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه وكان منها ثماني سنوات حرب ضد إيران وحوالي سبعة أشهر حرب على أهل الكويت ويبدو إذا ما صحت هذه النبوءة أننا سنرى منه المزيد لسنوات أخرى قادمة.

أما الثلاثه التي يبيدها فقد تحقق منها اثنان وهما الكويت والعراق وقد يمكن أن نضيف إليها إيران أو بعض أقاليم إيران مثل غرب وجنوب إيران إذا فسرنا الثلاثه على أنها دول ، وقد تكون إشارة إلى مدن فتكون بذلك مدن المحمرة الإيرانية والكويت والبصرة على سبيل المثال ، وقد نرى في المستقبل تفسيراً آخر لها.

وبالنسبة للشيوعيين فقد رأينا ضعفهم واضحاً جلياً ومن ثم انهيارهم وزوال دولتهم في روسيا. ولعلنا سنرى المزيد ، والبشارة أننا سنرى المعسكر الغربي وهو ينتكس نكسة يكون فيها خلاص كل المستضعفين في العالم وتحررهم ، أي أننا نعيش اليوم مرحلةَ إنتظار نرى فيها القوانين والأنظمة التي سادت العالم لحقبة طويلة من الزمن وهي تضعف وتتلاشى شيئاً فشيئاً ليبزُغَ بعدها فجرُ عالم جديد وأنّ شمسَه سوف تطلع من بين المسلمين ، وتشمّ رائحة عدم الارتياح والقلق من جانب نوستردامس وهو يقول لك ذلك ولكنه يقول لك هنا ـ كما سيقوله لك فيما بعد وكما سنراه من رباعياته التالية بعونه تعالى ـ بأنه

١٧١

أمر رآه وأنه سيحصل على رغم أنوف الجميع.

إذن فنحن نستطيع أن نقول بأن هذه النبوءات الخاصة بالمسيح الدجّال إنما تتحدث عن ظرف تأريخي معاصر نعيشه اليوم وسوف نرى له تتمَّةً فيما يلي من عصرنا هذا.

ولسوف نتناول في هذه المرحلة من الكتاب رباعيات من كتاب نوستردامس ضمَّنها تنبؤاته مما يتصل بعصرنا هذا وما سوف يليه.

١٧٢

النظام المالي والتضخم

« ما يُمثّلُ الذهبَ والفضةَ ، ضحايا للتضخّم

بعد سرقة الرخاء سيُرمى بها في النار

مُنهكَةً ومضطربةً بالديُون العامة

الطاحونة تنزع اللُّب من النقد والسندات »

الثامن ـ ٢٨

أولاً مسألة [ ما يمثل الذهب والفضة ] ، فالعبارة اللاتينية التي استعملها نوستردامس وجاء بها قبل كلمة الذهب والفضة هي [ Simulachres ] وهي تعني الصورة أو النسخة أو المُمثِّل لشيء ما ، وتصير العبارة بذلك هي على ما ورد ذكره في ترجمة النص أي ما يمثل الذهب والفضة. وهي رؤية عجيبة للمستقبل حيث أنها تعني الأوراق النقدية المتداولة في يومنا هذا والتي لم تكن معروفة على زمن نوستردامس وإنما كان التعامل يتمّ على عهده باستعمال قطع النقود من مسكوكات الذهب والفضة وغيرها.

١٧٣

ولبيان معنى كون الأوراق النقدية التي نستعملها اليوم إنها تمثيل للذهب والفضة فإننا نحتاج إلى التوضيح التالي : فنحن نتداول هذه الأوراق النقدية بيننا بيعاً وشراءاً ونستعملها لتحصيل مختلف المنافع والمصالح ، فمن أين صارت لها قيمتها ولماذا صارت مقياساً لقيمة السلع والبضائع على اختلاف أنواعها وثمناً ندفعه لمختلف الخدمات .. الخ ؟ الواقع هو أن الأوراق النقدية إنما اكتسبت قيمتها المالية من كون أنها تمثّل مقداراً معيناً من معدن الذهب ينبغي أن يكون مُودَعاً في المصرف المركزي ، وهذا الرصيد من الذهب هو الذي يجعل للورقة النقدية قيمة ، ولكن مع ملاحظة مسألة مهمة وهي أن ما هو مودَعٌ فعلياً في المصرف من معدن الذهب ليس إلاّ جزءٌ من المقدار الحقيقي المحدَّد لتلك العملة أو لتلك الورقة النقدية ( مثلاً عشرة بالمائة فقط من قيمتها من الذهب ) وأما ما تبقّى من مقدار الذهب فإنه غير موجود كرصيد فعليّ في المصرف ومع ذلك فإننا نستعمل تلك الأوراق النقدية « وكأنها » تمثّل بالفعل رصيدَها المُفتَرض من الذهب مستودَعاً في المصرف المركزي. فمن أين اكتسبت النقود بقيةَ قيمتها الحقيقية ؟ الواقع أن ما تبقّى من القيمة الحقيقية للنقود هو عبارة عن ثقة الناس والمؤسسات المختلفة بالدولة التي أصدرت تلك العملة وعبارة عن إطمئنان إلى قدرتها على تسديدِ

١٧٤

كامل كمية الذهب التي تمثّلها وتعادلها ، الأمر الذي يجعل من هذه الأوراق النقدية بمثابة التعهّد أو الضمان الذي يقدّمه المصرف المركزي في تلك الدولة لحامل تلك الورقة بتسديد ما يعادل قيمتَها أو ما يمثّلها من الذهب. وتقوم هذه الثقة على أساس القدرة الصناعية والانتاجية للدول المختلفة وقدرتها على تحصيل الثروات أو مدى استقرارها السياسي والاقتصادي وغير ذلك من عوامل.

هذا هو النظام النقدي السائد في عالم اليوم وهذا هو الذي يمثل الذهب والفضة. وهو أمر يصدق بالذات على العملات الصعبة كالدولار الأمريكي والمارك الألماني والباوند الأنكليزي وأما بقية دول العالم وخاصة الثالث منها فإن قوتها النقدية تعتمد على خزينها من هذه العملات الصعبة أو خليط من الذهب ومن العملات الصعبة.

وقد رأى نوستردامس أن هذه الأوراق النقدية ستكون ضحية للتضخم وهي رؤية صادقة تماماً وهو أمر لا يخفى على أحد اليوم كما لا يخفى أن التضخم ينتقل من سيء إلى أسوأ وأنه آفة اليوم التي تعصف بكل شيء ولا تنفع معها حيلة مطلقاً. الضخم والديون العامة ستكون كالطاحونة التي تنتزع اللّب من هذه النقود ومن

١٧٥

السندات بمعنى أنها ستفقد العناصر التي تجعل لها قيم وأنها سوف تستحيل إلى مجرد أوراق ، وهو يتضمن أيضاً إشارة إلى معنى تخفيض قيمتها الحقيقية ( Devaluation ).

وهناك إشارة قوية إلى أن هذا النظام سيخلق رخاءاً ورفاهاً ولكن هذا الرخاء سوف يُسرَق فيتكدّس الثراء في بعض الأيدي وتُحرَم منه أكثر الأيدي وسيؤول الأمر إلى أن يُلقى بهذه الأوراق في النار بعد أن يأتي يوم تفقد فيه هذه الأوراق قيمتها سواء في ذلك دولارها أو ماركها أو غيرها. ولا بد لنا هنا من وقفة ، إذ كيف يمكننا أن نتصور أن يفقد الدولار الأمريكي مثلاً قيمته فلا يعود أثمن من الورقة التي طُبع عليها ؟ الجواب يكمن في ما سبق أن ذكرناه حول مصدر القيمة في الأوراق النقدية وأن مقداراً خطيراً من ذلك إنما هو عبارة عن ثقة ، وهو أكثر عناصر قيمة العملة عرضة للإهتزاز والسقوط ، هنا يقع مقتل العملات النقدية ومن هنا ستؤتى.

ومسألة الثقة بالدولة التي تُصدرُ العملة له علاقة وثيقة جداً بأحداث العالم وأوضاع السياسة واستقرار الأنظمة ، فعلى سبيل المثال إذا ما رضي المسلمون بالخنوع وبالذل وبالعبودية فسيبقى الدولار الأمريكي قوياً منيعاً وسيبقى المسلمون يدورون في فلكه لأن رفاههم

١٧٦

الرخيص سوف يقتضي ذلك من أجل أن يعيشوا ما يتصورونه دنيا وما هي إلا مسخٌ من الدنيا أو نسخة زائفة ومشوّهة منها ، وأما إذا ما أرادوا العزة والحياة الحقيقية والدنيا الحقيقية واختاروا أن يكونوا سادة لا عبيداً فسيسقط الدولار الأمريكي في مستنقع لا مخلص له منه وسيكون لعبةً سهلة بأيديهم.

ونوستردامس يتنبأ هنا بحالة من الفوضى الأقتصادية العالمية سوف تجتاح العالم كجزء من حالة الأنهيار الذي سيصيب المعسكر الغربي أو كعنصر أساس في تسبيب ذلك وهي الحالة التي يذكرها في رباعية أخرى سنأتي عليها يقول فيها بأن الغرب كالشرق سوف يضعف وبأنهما كلاهما سوف يسقطان من خلال العَوَز ( القرن الثامن ـ ٥٩ ) ، وذلك في جملة أخرى من النبوءات التي يتوقع منها للغرب سقوطه وانهياره.

وله رباعية أخرى في القرن الثالث تبدو وكأنها تتمّة لهذه أو توسُّعُ فيها ، وهي تقول :

« الملوكُ والأمراءُ سيختلفون نسخَ زائفة

عرّافون سيأتون بنوءات فارغة

سيذهب الصفاءُ ضحيةً وسيتبعهُ العنف

النبوءات سوف يتم تفسيرها »

الثالث ـ ٢٦

١٧٧

وهذه النسخ الزائفة قد تعني الأوراق النقدية مرة ثانية ولكنها هنا يبدو وكأنها تطبع بدون تغطية مناسبة من رصيد الذهب أما نتيجة لإفلاس الدول أو نتيجة للزيف الذي يعم كل شيء ، والملوك ولأمراء هو إشارة بالطبع إلى رؤساء الدول وكبار معاونيهم. أما هولاء العرافين أو المتكهنين فما هو إلا السّاسة وخبراء الاقتصاد الذين يرشقونك ليل نهار بوابل تنبوءاتهم عن مستقبل الاقتصاد وعن الرفاه والعدل الذي سيأتي به الغد والتي نادراً ما يصيبون فيها ناهيك عن مدى عنايتهم بمحتواها وبصدقها. ويرى بأن هذا هو موعد زوال الرفاه والصفاء الذي يخيمّ على سماء عالم هؤلاء وإن هناك عنفاً وشدة سوف تتبع.

وكأني به يشير في السطر الأخير إلى أن تنبوءاته حول مستقبل هذا القرن سوف يتم فهمها عند تحقق هذا الذي يذكره أي أن هذه الفترة من التأريخ التي يصفها هنا ستحمل معها تفسيرات نبوءاته التي سيلي ذكرها في هذا الكتاب فيما بعد إنشاء الله تعالى.

كما وله رباعية أخرى في موضع آخر تتعلق بالموضوع بنوع من التعلُّق تقول :

« عندئذ بعد كسوف المعدنين اللامعين

الذي سيظهر بين أبريل ومارس

١٧٨

آه أي حرمان ، ولكنّ اثنين من أصل كريم

سيأتيان بالنجدة بالبرّ وبالبحر »

الثالث ـ ٥

والمعدان اللامعان هما بلا شك الذهب والفضة ، ولعله يعني بالكسوف الذي سيحل بهما هو نقصانهما أو استحواذ فئة محدودة عليهما بحيث يغيبان عن تداول أكثرية الناس فيكون ذلك لهما مثل كسوف الشمس. وإبريل ( نيسان ) هو بداية السنة المالية في العصور الحديثة وكما ترى فإنه أصاب قوية في ربطه للمال بهذا الشهر من السنة.

إذن فهذه نبوءة أخرى عن المستقبل الأقتصادي للعالم يمكن ربطه بما مضى وهي صورة قاتمة عن العوز والحرمان.

ولا أعرف تفسيراً لهذين الإثنين من الأصل الكريم ولعلها مما ستكشف عنها الأيام فيما يأتي به المستقبل.

١٧٩
١٨٠