شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار - ج ٣

القاضي النعمان بن محمّد التميميّ المغربي

شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار - ج ٣

المؤلف:

القاضي النعمان بن محمّد التميميّ المغربي


المحقق: السيد محمّد الحسيني الجلالي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٩

عند الله تعالى. وقد كان المهدي والمنصور و [ من ] كان بعد هما ويكون كذلك ائمة مهديون وينجز الله لهم ما وعدهم في كتابه ، وعلى لسان رسوله بحوله وقوته.

[١٢٨٤] ومن رواية الدغشي ، يرفعه الى أبي الحارث ، أنه قال : يكون المهدي وسبعة من بعده من ولده كلهم صالح لم ير مثلهم.

وهذا أيضا مما انتهى إليه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله [ ويحقق ] ما قدمناه.

[١٢٨٥] وعن الدغشي ، يرفعه الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنه قال : يخرج بعدي من بني هاشم رجل يبايع بين الركن والمقام ، فيغلب صاحب الشام أربعة آلاف يخسف لهم بالبيداء (١) ، ثم يسير إليهم. والمحروم من حرم غنيمتهم ، ثم يملك بعد ذلك سبع سنين.

فهذا مما ينتظر ويكون يبايع الناس الإمام يومئذ بين الركن والمقام ، ويهلك الله تعالى عدوه كما وعد بذلك على لسان نبيه بحوله وقوته.

[١٢٨٦] وعنه ، يرفعه الى عبد الله بن مسعود ، أنه قال : بينا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جالس في جماعة من أصحابه ، إذ مرّ به فتية من قريش (٢) ، فتغير وجهه ، فقال له بعض من حضره : يا رسول الله قد ساءنا ما رأينا في وجهك.

فقال : إن أهل بيتي اختار الله لهم الآخرة على الدنيا ، وسيصيبهم بعدي تطريد وبلاء وتشريد. حتى يخرج قوم من هاهنا ـ وأومى الى جهة المشرق ـ ومعهم رايات سود يسألون الحق فلا يعطونه ، ثم يدفعونها الى رجل من أهل بيتي ، فيملأها عدلا.

[١٢٨٧] ( ومن ) صفوان الجمّال ، قال : قلت يوما لأبي عبد الله جعفر بن

__________________

(١) بين مكة والمدينة.

(٢) وفي سنن ابن ماجة ٢ / ٢٥ : من بني هاشم.

٤٠١

محمد عليه‌السلام ، وأنا عنده : يا ابن رسول الله ، أمنكم السفاح؟

فأطرق الى الارض مليا.

ثم قال : يا ثابت منا السفاح ، ومن النفاخ ، ومنا الصدّيق ، ومنا الفاروق ، ومنا الهادي ، ومنا المهدي ، ومنا المهتدي ، ومنا من يهتدي به ، ومنا من تغرب الشمس على رأسه ، وتطلع من مغربها ، نحن ثلة الله ، منا أسد الله ، ونحن خزّان الله.

يا ثابت ، ما نحن خزانة على ذهب ولا فضة ، ولكن على المكنون من علمه. نحن دعائم الله ، نحن ذخيرة الله ، ورسوله أبونا الأكبر ، وعلي أبونا الأصغر ، وفاطمة امنا ، وخديجة بنت خويلد والدتنا ، وجعفر الطيار في الجنة عمنا ، وحمزة سيد الشهداء عم أبينا. فمن له (١) حسب كحسبنا ، ونسب كنسبنا؟ استودعنا الله سره ، وائتمننا على وحيه وعلمه ، وأنطقنا بحكمته ، فهذه حالنا عنده.

فالذين سماهم ائمة منهم قد مضى ، ومنهم من يأتي ، كنى عنهم لصفاتهم وأفعالهم.

وقوله : نحن ثلة الله. الثلة في لغة العرب الجماعة. ويقال لخاصة الرجل جماعته يعني أنهم أهل الخاصة عند الله تعالى الذين اختصهم بفضله.

[١٢٨٨] وعن أبي جعفر محمد بن علي عليه‌السلام ، أنه قال : إذا قام قائم آل محمد اوتي عصى موسى ، وأخرج التوراة من أنطاكية ، ونزع الله الرعب من قلوب شيعته ، وألقى في قلوب عدوهم حتى يكون قلوبهم كزبر الحديد ، وحتى يدعو الرجل ، فيضرب عنقه ، فيقال : فيما قتلته فلا يكون قتله بعلمه (٢).

__________________

(١) هكذا صححناه وفي الاصل : فمن ذا له.

(٢) هكذا صححناه وفي الاصل : بعمله.

٤٠٢

[ بدء الدعوة الفاطمية ]

المهدي والدلائل عليه

[ في اليمن ]

ما أخبره الثقات من أصحاب أبي القاسم ـ صاحب دعوة اليمن ـ وهو الحسن بن فرج بن حوشب بن دادان الكوفي ، وكان من أجلة الدعاة ، وخيارهم ، وثقاتهم ، ومن أهل الصدق والورع والفضل والدين ، وإخلاص الولاية لأولياء الله تعالى ، وكذلك كان ، وعليه مات رضوان الله عليه.

وكان بسبب اتصاله بأولياء الله شواهد للحق يطول ذكره ، وقد ذكرنا في كتاب الدولة الطاهرة المرضية. وكان اتصاله واطلاقه داعيا باليمن من قبل أن يظهر المهدي في أيام الإمام الذي سلّم الأمر إليه في حياته إذ كان أمانة في يديه ، فصار أبو القاسم الى اليمن في جملة من حجّ منهم في ذلك العام ، وصار الى اليمن في أول سنة تسعين ومائتين بعد اذن له في ذلك وفي الجهاد ، فنصر ، ولم يقم أحد فسمي المنصور. وقد ذكرت جاء في الخبر قيل : إنه يقوم باليمن رجل يقال له [ أبو القاسم ] قبل قيام المهدي يوطئ له. وكان اذا سمع من يسميه المنصور يقول : المنصور إمام آل محمد ، أما سمعتم قول الشاعر :

إذا ظهر المنصور من آل أحمد

فقل لبني العباس قوموا على رجل

وهذا مما ذكر أنه من خبر ما يكون ، فان ذلك لم يكن إلا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مما أتاه عن الله.

٤٠٣

فقال قائل : هذا البيت لما بلغه عنه ، وكذلك كان الأمر لما قام المنصور وهو أمر بني العباس ، وان كان واهيا من قبل ذلك الوقت والى اليوم كالقائم على رجل كما قال صاحب البيت : من ترفع سقط وما هي إلا رجل واهية ، والله يغرب [ ويظهر وليه ] عليهم وعلى جميع أعدائه بحوله وقوته.

فذكر أن الثقات من أصحاب أبي القاسم هذا الذي قدمنا ذكره صاحب دعوة اليمن ، أنه قال : بشرت مرارا بدعوة المهدي ، وبأني أقوم بها قبل أن أقوم بذلك ، وأن أعرفه ، فمن ذلك أني لما توجهت الى اليمن قصدت صنعاء (١) واني لسائر يوما بقرب قرية من قراها إذا انقطع شسع نعلي ، فملت الى الصخرة كانت بقربي ، فجلست عليها لا صلحه ، فنظرت الى الشيخ قصد إليّ مسرعا حتى وقف عليّ ، وقد أدركه النفس ، فقال لي : ممن الرجل؟

فقلت له : رجل غريب.

فقال : هل معك خبر من المهدي؟

قلت : ومن المهدي ، ما أعرفه؟

قال : إذا كنت لا تعرفه ، فأظنّ هذا شيء جرى باتفاق.

قلت : وما هو؟

قال : كان بهذه القرية شيخ لحقناه من الشيعة ، وكان يقول لنا : سيدخل داعي المهدي هذا البلد ، ويمرّ بهذه القرية ، فينقطع شسع نعله ، فيجلس هذه يصلحه.

قلت : كلام الشيعة كثير.

قال : اي والله كثير.

وولّى عني ولم أر فيه قبولا افاتحه.

قال : دخلت صنعاء ، فقصدت المسجد الجامع بها ، فصلّيت ركعتين ، وقد

__________________

(١) وهي عاصمة جمهورية اليمن.

٤٠٤

أدركني كلل (١) ، فلففت ردائي ، واستلقيت ، وجعلته تحت رأسي ، ورفعت إحدى رجليّ على الاخرى ، فلما اطمأن بي المكان حتى وقف عليّ شيخ ، فرفسني برجله ، وقال : قم. وانتهرني.

قلت : مالي أيها الشيخ ، قصدت دون هؤلاء الجماعة في المسجد قد تضجعوا.

فقال : قم ، لا تشبه بمن له هذا المضجع.

قلت : ومن هو؟

قال : نأثر (٢) من شيوخ لنا أن داعي المهدي يدخل هذا المسجد ، فيضطجع على هذه الاسطوانة مثل هذا الاضطجاع ، فنحن لا ندع أحدا يتشبه به.

فقمت وجلست ، وأقبل عليه رجل. قال : ما أعجب أمرك ، أفترى هذا هو داعي المهدي. وأخذ في الكلام في مثل ذلك.

ولم أر فيهما قبولا فافاتحهما ، وقمت وتنحيت عن المكان.

قوله : رفسني. الرفسة : الصدمة بالرجل في الصدر.

وسمع أبو القاسم صاحب دعوة اليمن حديثا يرويه الشيعة باليمن ، وقد تمكن أمره ، وذلك أن الشيعة قديما كانوا كثيرا باليمن لمقام علي أمير المؤمنين عليه‌السلام فيهم لما بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم.

[١٢٨٩] وقيل : إن رجالا منهم وفدوا على جعفر بن محمد عليه‌السلام ليأخذوا عنه ، ويسمعوا منه. فسألهم عن مواضعهم ، فذكر بعضهم أنه من المذيخرة (٣) ، وذكر أنها من قرى اليمن.

فقال جعفر بن محمد عليه‌السلام : هي مدينة صفتها كذا

__________________

(١) أي تعب.

(٢) ننقل عن.

(٣) اسم قلعة حصينة في رأس جبل صبر وفيها عين ماء يسقي عدة قرى باليمن ( معجم البلدان ٥ / ٩٠ ).

٤٠٥

وكذا (١). وصفها بصفتها حتى كأنه يراها بين يديه.

قالوا : نعم.

ثم قال عليه‌السلام : أما أنه لا يزال لنا فيها عدو.

وقال آخرون : إنهم من مدينة ، يقال لها : الجند (٢) من صفتها كيت وكيت.

فوصفها حتى كأنه من أهلها.

قالوا : نعم.

قال : ما أبعد بينها وبين المذيخرة ، إن الجند لا يزال لنا فيها مواليا بقيت.

وقام قوم : نحن من جيشان (٣).

قال : مدينة من صفتها كذا وكذا.

قالوا : نعم.

قال : هي مدينة ، وبأعلاها سدرة وأسفلها سدرة.

قالوا : نعم.

قال : إن بين السدرتين لكنز لآل محمد.

فلما حدّثوا أبا القاسم صاحب دعوتهم ، قال : مولاي جعفر بن محمد عليه‌السلام ، قال : ولقد انكشف لي من أمر هذه المدائن كلما ذكر فيها. أما الكنز الذي ذكر أنه من جيشان بين السدرتين ، فأنا والله استخرجته. لقد استخرجت منها سبعين رجلا أعدتهم دعاة كلهم ، ولقد أقام الله تعالى بهم لآل محمد أمرا عظيما.

__________________

(١) وفي هامش الاصل : كيت وكيت.

(٢) وهي من المدن النجدية باليمن بينها وبين صنعاء ٥٨ فرسخا ( معجم البلدان ٢ / ١٦٩ ).

(٣) بالفتح ثم السكون وشين معجمة وألف ونون مدينة باليمن.

٤٠٦

وكان الغالب على أهل جيشان التشيع ، وابن جيران الشاعر منهم.

قال أبو القاسم : وأما المذيخرة فما زلت أعرف فيها عدوا لآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كما قال الصادق عليه‌السلام : ولقد مخضتها مخض السقاء ، وأكفيتها إكفاء الإناء ، وهم على مثل ذلك الى اليوم كما علمهم.

وأما الجند ، فاني كان لي بها خير عظيم ، دخلتها وأنا مستتر ، فقصدت المسجد الجامع بها ، فصلّيت به الظهر والعصر والمغرب ، ونظرت الى قوم معهم هيئة المبيت ، فقلت لهم : [ هل ] يبيت في هذا المسجد ، فاني رجل غريب أردت المبيت فيه؟

قالوا : نعم ، وكلنا غرباء ، ونحن نبيت فيه.

وجلست ، فلما صلّينا العشاء الآخرة ، تحلق فيه جماعة يتناظرون في العلم ، فأقاموا على ذلك من الليل ، وكانوا على حلقتين ، حلقة من الشيعة وحلقة من الجماعة ، فجلست فيما بين الحلقتين أسمع كلام هؤلاء وهؤلاء ، حتى انصرف الشيعة ، وقام الآخرون لينصرفوا ، فقال لهم رجل منهم : اجلسوا.

فجلسوا ، وجعل ينظر الى اولئك الشيعة وهم ينصرفون ، حتى انصرف آخرهم ، فعطف وأصحابه ، وقال : أتعرفون لهذه الليلة خبرا تقدم؟

قالوا : لا.

فاستخرج كتابا من كمه ، قال : ما تعرفون هذا الكتاب الذي يروي ما فيه عن فلان أو سماه هؤلاء الشيعة؟ وسمى الكتاب.

قالوا : نعم.

فقرأ عليهم منه أخبارا كثيرة من روايات الشيعة وأخبار المهدي ، وما يكون من أمره ، وذكر أن داعيه يدخل أرض اليمن ، وأنه يبيت

٤٠٧

ليلة كذا وكذا في جامع الجند. ثم عطف على القوم ، فقال : ألم تسمعوا هذا الخبر؟

قالوا : بلى والله قد سمعناه.

قال : فانظروا الى غفلة هؤلاء ـ يعني الشيعة ـ عن هذه الليلة أن يذكروها.

قال أبو القاسم : فاقشعر جلدي ، وتداخلني خوف شديد. ثم قال : ما ترون؟

قالوا : نرى ما تريد.

قال : الذي أرى أن نخرج جميع من في المسجد ، ولا يبيت فيه الليلة أحد ، فإذا كان غدا عرفناهم فساد روايتهم وكذب من روى ذلك لهم.

قالوا : هذا هو الرأي.

فقام قائما ، وقال : ليخرج كل من كان في المسجد ، [ لا يبيت ] الليلة فيه أحد. وجعل أصحابه يخرجون الناس ، فآويت الى ركن من أركان المسجد حتى خرج عامتهم ولم يبق إلا رجل يطفئ القناديل وانتهى إليّ ، فرآني ، فقال : من هذا؟ فقلت : رجل غريب.

قال : قم ، فاخرج ، أما سمعت ما قال الشيوخ.

قلت : إني رجل والله ما اعرف أين أتوجه ، فأحتسب ثوابي ، وآوني هذه الليلة في بيتك.

قال : والله ما عندي لك مكان.

قال : قلت : يا هذا تخرجني من بيت الله ولا تؤويني في بيتك وتعرض بي الهلاك.

فكأنه استحيا ، فقال : قم إن شئت. وخرج وأغلق الباب ، فناولني لذلك خوف شديد ، وبتّ على حذر ولم آمن أن يختبروا

٤٠٨

المسجد من غد ، وهل بات فيه أحد؟ فما اختبروا لذلك ، وسلّم الله وأحسن.

وذكر ذلك أبو القاسم بعد أن ظهر أمره لمن حضر تلك الليلة منهم المسجد ، وكان ذلك عندهم من البراهين (١).

قال أبو القاسم : وخرجت من الجند اريد ناحية من نواحي اليمن ، فاني لسائر على الطريق الذي أخذته اني رأيت عسكرا عظيما قد أقبل ، وكان معي نفر ، قالوا : هذا والله جيش أبي يعفر ، وقد جاء لحرب جعفر بن إبراهيم صاحب المذيخرة ، وتفرقوا في وعر جبل كنا فيه يستترون الى أن يجوز العسكر خوفا من معرفتهم. وقصدت وحدي ناحية من الوعر ، فوافقت كهفا ، فدخلت فيه ، فاني جالس ، فدخل عليّ رجل ، فسلّم عليّ ، وجلس ، وقال : ممن الرجل؟

قلت : من هذه السيارة أتانا الجيش ، فتخوفنا ، وافترقنا نستتر الى أن يمضي [ الجيش ].

فدعا بالخير ؛ وأقبل يحدثني ، ثم قال لي : أعندك علم من الفتيا؟

قلت : عندي من ذلك مثل ما يكون عند مثلي.

فسألني عن مسائل ، فأجبته فيها. فلما أتيت على آخرها ملأ عينيه مني ، وأهملتا دموعا ، ثم قبّل رأسي ويدي ورجلي ، وقال : يا سيدي ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أرسلني إليك لتستنقذني ، وتأخذ بيدي.

قلت : وكيف ذلك أيها الرجل؟

قال : كنت رجل أرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منامي في كل عام في ليلة معروفة من السنة ، وكنت أتأهب لتلك

__________________

(١) أقول : والبرهان كما ترى.

٤٠٩

الليلة فلا يحرم رؤياي. فلما كانت تلك الليلة من هذا العام ، فلم أر فيها ولا بعدها. اغتممت غما شديدا ، فلما بتّ البارحة رأيته ، فجعلت أبكي إليه ، فأقول : يا رسول الله ، لقد طال شوقي إليك ؛ وحرمت منك ما كنت تعودته ، وساء ظني بنفسي لذلك. فقال : لا يسوء ظنك فهذا داعي المهدي قد حلّ بالبلد الذي أنت فيه بين ظهراني أهله ، فاذهب إليه.

قلت : وأين أجده يا رسول الله ومن هو؟

قال : اذهب غدا الى الكهف الفلاني ـ وسماه لي هذا الكهف ـ فانك تجده مستترا.

قلت له : يا رسول الله صفه لي. فوصفك بصفتك ، وقال : سله كذا وكذا ـ وذكر لي المسائل التي سألتك عنها ، فان أجابك بكذا وكذا ـ وذكر لي ما أجبتني ـ فهو صاحبك.

قال أبو القاسم : فأدركتني خشية ، وقلت في نفس : ما عسى أصنع فيمن أرسله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكشفت له أمري ، ودعوته ، فأجاب ، فأخذت عليه العهود في مقامه.

وكان هذا الرجل معروفا من أجلة أصحابه.

قال أبو القاسم : وكان الامام لما بعثني الى اليمن ، أمرني أن أقصد عدن لاعة (١). فلما سرت الى اليمن سالت عدن لاعة ، فكل من سألته عن ذلك ، قال : انما نعرف بعدن أبين (٢) ، فقلت في نفسي : لعل هذا الاسم قد غيّر وبدّل عما يعرفه الامام.

فقصدت عدن أبين لما أجد ، وسألت عما يحمل إليه من التجارة ،

__________________

(١) وهي قرية بجنب مدينة لاعة من أعمال صنعاء ( معجم البلدان ٤ / ٨٩ ).

(٢) الساحلية.

٤١٠

ولأستتر بذلك ، فقيل : العطب ـ يعنون القطن ـ ، وقيل لي : إن بها ناس من الشيعة فانها فرضة الهند وأم البلد.

فاشتريت قطنا ، وقصدت إليها ، فلما وصلت إليها سألت عن [ سوق ] بيع القطن ، فدللت إليها ، فاكتريت فيه حانوتا فيها بما معي منه ، ورأيت في [ ذلك ] (١) السوق قوما يتذاكرون فضائل علي عليه‌السلام ، فأصابنا مطر دائم ، فاني يوما لجالس في داخل الحانوت ، والمطر يسكب إذ دخل عليّ جماعة منهم ، فجلسوا وتحدثوا عندي ، ثم أخذ أحدهم بيدي فخلا بي ، فقال : ما هذا وجه بياع قطن ، ولكن معك شيء من علم آل محمد.

قلت : أنا رجل تاجر.

قال : دعني من هذا ، لعلك سمعت ببني موسى؟

قلت : نعم.

قال : فنحن هم ، ونحن شيعته ، وهذا أوان ننتظر فيه دخول داعي المهدي إلينا على ما تقدمت به الروايات عندنا ، وانّا لنجد صفته فيك ، ولهذا جئناك ، فهات ما عندك ، فنحن إخوانك.

قال أبو القاسم : ولم يزل بي حتى كشفت له الأمر وما برح حتى أخذت عليه العهد. وقام فأتاني بأصحابه ، فأخذت عليهم ، فعزموا عليّ ، فنقلوني الى محلهم ، وكنت عندهم ، وآتوني برجال ممن كان بالموضع من أصحابهم ، فأخذت عليهم. ثم قالوا : إن اخواننا من الشيعة بعدن لاعة فترى نرسل إليهم؟

قلت : وثمّ عدن لاعة؟

قالوا : نعم.

__________________

(١) وفي الاصل : تلك.

٤١١

قلت : وإليها أرسلت ولم أجد أحدا يخبرني عنها.

فارسلوا إليها ، فأتاني رجال منهم ، وأخذت عليهم وسرت معهم ، فأصبت دار شيعة وأخبروني عن رجل منهم يقال [ له ] (١) : أحمد بن عبد الله بن خليع ، كان فيهم ذا علم وأنه كان ينتظر قدومي ويقول لهم : بهذا العام يدخل عليكم داعي المهدي. واشترى سلاحا ، وأعدّه لقدومي ، وأتوني بذلك.

قالوا : خبره اتصل بابن يعفر صاحب اليمن ، فرفعه إليه فحبسه ، فمات في محبسه.

قال : وأنزلوني بدار من دوره.

وتزوج أبو القاسم بنت أحمد هذا المتوفى. وبعث بابن أخيه ـ الهيثم ـ داعيا [ له ] ، فكان أول [ داع ] له ، واستجاب له خلق عظيم من أهله. والدعوة الى اليوم بها قد قويت ، وظهرت ، وقهرت من خالفها ، وغلب أمرها بحمد الله تعالى.

قال أبو القاسم : ولما تمكنت لي الامور ببعض ما احبّ كتبت الى الامام بذلك ، فورد على جواب كتابي (٢) وبأنه الامام المهدي ، وبأنه سلّم الامر إليه ، فمن قبل أن يصل إليّ جوابه تمكنت لي الامور وقويت ، ورأيت من النصر والفتح ما لم أكن أعرفه. فلما صار إليّ الكتاب بما كان من أمر المهدي علمت أن ذلك إنما كان ببركته ، وبمنّ دعوته ودولته ، وتهيأت لي امور من أعمال المؤمنين فبعثت بها إليه ، وطرائز وظرائف من طرائز اليمن وظرائفها ، فكان ذلك أول شيء وصل إليه.

__________________

(١) وفي الاصل : يقال لهم.

(٢) وفي الاصل : جواب كتابه.

٤١٢

واستأذنه أبو القاسم بعد ذلك بالحرب ، فأذن له ، فأظهر أمره ، وقام بالحرب ، وافتتح مدائن باليمن ، وغلب على ملوكها ، وافتتح صنعاء ، وأخرج بني يعفر منها ، وفرق الدعاة في سائر اليمن وما يليه من البلدان ، ولم يزل أمره يعلو ويزيد الى أن كانت فتنة محّص الله تعالى المؤمنين منها ومحق الكافرين والمنافقين من بناحيه منها ما نال غيرهم في أخبار يطول شرحها. وتوفي أبو القاسم رحمة الله عليه باليمن في غربة ومنعة وفي وفد من المؤمنين وسعد من الدين ، وكانت بعده أحداث وأخبار يطول شرحها.

[ في شمال إفريقيا ]

وآيات المهدي في الدعوة التي أيده الله تعالى بها وأعز نصره بأيدي أهلها وهي الدعوة التي قام بها أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن زاكي (١) الكوفي ببلد كتامة ، وقد ذكرنا سيرته فيها من أولها الى آخرها في كتاب الدولة. ولكنا نذكر في هذا الكتاب طرفا من ذلك لما جرى للمهدي. ونبتدئ أنه قدم الى المغرب من قبله مدة طويلة رجلان من أهل المشرق ويعرفان [ الأول ] بالحلواني ، والثاني بأبي سفيان. فنزل كل واحد منهما بناحية. فلما صارا الى مرماجنة نزل أحدهما ـ وكان يعرف بأبي سفيان ـ بها بموضع يقال له : تالا في موضع بأرض مرماجنة. بنى فيه مسجد الروم ، وتزوج امرأة. وكان له عبد وأمة. وكان عابدا

__________________

(١) هكذا في الاصل والصحيح : زكريا.

وهو أبو عبد الله الشيعي المعروف بالمعلم. الممهد لخلافة المهدي والمبشر للمذهب الاسماعيلي ، اتبعه خلق كثير من أهل المغرب ، وقوى أمره وثار على الحاكم وانتزع الحكم من إبراهيم بن الاغلب وسلمه الى المهدي الذي بدوره لما استقرت له الامور فتك بأبي عبد الله وأخيه أبي العباس في مدينة رقادة ثم أمر له بتشييع رسمي. ( الدولة الفاطمية لعباس الحمداني ص ١٦٩ ، الاعلام للزركلي ٢ / ٢٤٩ ، دول الشيعة في التاريخ لمغنية ٦٢.

٤١٣

عالما يصوم النهار ويقوم الليل ملازما لمسجده ، وكان أهل تلك الناحية قد عرفوا فضله ، وكان يروي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه‌السلام ، وكان ورعا زاهدا فاضلا ، ويروي عنه في ذلك اخبار كثيرة ، وتشيع على يديه بشر كثير ، ومن أجل ذلك استقرت الشيعة قديما بمدينتي الأندلس ومجانة.

[ أما الحلواني ]

ونزل الحلواني بسوجمار بالقرب من بلد كتامة ، وكان أحواله كأحوال أبي سفيان وتشيع على يديه كذلك عالم كثير من أهل تلك الناحية.

ومما كان يؤثر ، أنه قال : بعثت أنا وأبو سفيان الى هذه الجهة ، ووصف لنا. وقيل لنا : إنكما تأتيا أرضا بورا واحرثاها وذللاها الى أن يأتي صاحب البذر ، فيبذر. وكان يقول : سيأتي داعي المهدي. ووصف أبا عبد الله بصفته ، ويقول : إن في فيه اصبعا في اخبار له ذكرها.

[ داعي المغرب ]

وكان الإمام الذي أخرج أبا القاسم ، فلما تمكنت الدعوة واظهر أمرها أرسل الى أبي القاسم داعي اليمن أبا عبد الله الحسين بن أحمد داعي المغرب بالمقام عنده ليقتدي بسيرته ، وأفعاله ، ويشاهد ذلك ، ثم يسير الى المغرب ، ويقصد بلد كتامة ، فصار الى اليمن ، وأقام عند أبي القاسم شهورا. وكان أبو القاسم به معجبا يذكر فضله ويثني بالجميل عليه.

وقيل : إنه لما ودعه لينصرف عنه وهو بقلعة لاعة ـ بالموضع الذي بنى فيه ـ نظر إليه منصبا منحدرا منها ، ومعه جماعة من أصحابه. فنظر أبو القاسم إليه ، ثم قال لهم ـ وأشار الى أبي عبد الله ـ : إن بين كتفيه لنجاة خلق عظيم.

٤١٤

وكان أبو عبد الله من خيار المؤمنين وأفضلهم من الدين في نهايته ، ومن الورع في غايته ، لطيفا عاقلا عالما بالتأويل ، يحسن منه ما يقول.

وانصرف من عند أبي القاسم من اليمن في وقت خروج الحجيج من اليمن للحج ، فصار الى مكة. فلما استقرّ الحجيج بمنى في أيام التشريق ، جعل أبو عبد الله يسأل عن موضع نزول أهل المغرب ليخرج في جملتهم إذا نفروا. فمرّ برجال من كتامة قد كانوا حجوا في ذلك العام ممن كان تشيع بأسباب الحلواني ممن لم يلحقه ، فسمعهم يتذاكرون فضل أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، وجلس إليهم وفاتحهم في ذلك ، فمالوا إليه ، ووجدوا عنده من ذلك ما لم يكونوا سمعوا به ، واعجبوا به ، وسألوه عن بلده ، فذكر لهم أنه من أهل المشرق ولكنه يريد المغرب ، فسرّوا بذلك ، واغتبطوا بصحبته ، وكان منهم إليه اكرام واجلال ، وجرى من حضره معهم ما يطول ذكره مما قد ذكرناه في غير هذا الكتاب مما ذكرنا إنا ألّفناه.

وخرج معهم من مكة حتى صاروا الى سوجمار حيث كان الحلواني ، فهو من بلد كتامة ، مسيرة يوم ، نزلوا عند شيوخ لهم من الشيعة قد أدرك بعضهم الحلواني ، واجتمع اولئك الشيوخ عند أبي عبد الله فوجد عندهم المعرفة والتهيؤ للقبول ما لم يجده عند الذين قدم معهم ، ففتح لهم بعض ما عنده ، فخلوا به في ليلتهم تلك ، وذعنوا إليه في تعريفهم أمره.

وقال ـ من أدرك الحلواني منهم ـ : والله لقد وصفك لنا شيخنا بصفتك ما غادر غير أنه ذكر أن في فيك اصبع.

فتبسم أبو عبد الله ولم يزالوا حتى أظهر لهم أمره ، وأخذ عليهم في ليلتهم تلك ، ولما أخذ عليهم بالكتمان وضع اصبعه في فيه كما يفعل من يأمر بالصمت ، وقال لهم : هذا الاصبع الذي ذكر الحلواني في فيّ.

٤١٥

ولما أصبحوا أجلسوا أصحابهم ، وأظهروا من تعظيم أبي عبد الله ما لم يكن قبل منهم ، وقالوا لأصحابهم : نحن نخرج معكم ، فأقيموا عندنا اليوم. ثم اطلعوه على خبره ، فأخذ عليهم.

ودخل بلد كتامة في سنة ثمان ومائتين ، ومضى معه الرجال الذين أخذ عليهم بسوجمار. فلما صار الى جبل بلد كتامة تنازع الذين قدموا معه من الكتاميين فيه ، وأراد كل فريق منهم أن يكون قصده إليه ، ونزوله عليه. ثم اتفقوا على أن يخبروه في ذلك ، فقال لهم : أين فج الاخيار؟

فنظر بعضهم الى بعض بما قال ، قالوا له : ومن أين تعلم أنت هذا الفج؟

قال : ما أعلمه ، ولكن امرت أن يكون دخولي الى بلد كتامة منه ، فأيكم كان طريقه عليه ، وقصد موضعه من جهته كنت معه.

فكان ذلك طريق جميلة ، فسار معهم. وقال للآخرين : أنا أزوركم ، وآتي كل قوم منكم في مواضعهم. ونزل ايكجان من بلد كتامة في حدّ بني سكتان.

أبو عمر ، قال : اشتريت ثوبا من الزهافي ومتاع كنت اشتريته سرت به الى بغداد. وطلب الثوب مني لخليفة كان يقرب ما استخلف وأدخلت الى القصر لأقبض ثمنه ، فدفعت الى شيخ له هيئة حسنة ، وهو جالس ، وعن يمينه فتى جميل الوجه حسن الهيئة ، فاشترى الشيخ الثوب مني ، وأمر لي بثمنه ، ثم سألني عن بلدي ، فقلت : من أهل المغرب.

قال : من أيّ المغرب أنت؟

قلت : من مدينة يقال لها : مجانة.

قال : وأين أنت من مكان يقال له جيحل؟

٤١٦

قلت : وثم موضع يقال له : جيجل؟

قال : ما سمعت بهذا الموضع؟

ثم أنكرت ، فقلت له : تريد جيحن (١).

قال : وثم موضع يقال له : جيجن.

قلت : هو من موضع كتامة بيننا وبينه مسافة خمسة أيام.

قال : قد يكون صحّف.

ثم ضرب بيده على كتف الفتى ، فقال : اذا خرج الخارج من جيجن هذه ، فان خروجه سبب انقطاع دولتكم يا بني العباس.

وكان كثير ما يرد كتب بني العباس الى عمالهم بافريقية وفي أواخرها.

وأحسن الرباط خيلا ، ورجلا ، وعدة ، فان السجل إنما يطوى من آخره.

وذلك كما صحّ عندهم من الروايات في اخبار ما يكون انقطاع دولتهم هناك. وهذا ما يجري مجراه من الاخبار عما يكون انما يأتي من أنبياء الله الذين أطلعهم عليه من عليم غيبه الذي لا يطلع عليه إلا من ارتضى من رسوله ، كما قال تعالى (٢). فصار من ذلك ما صار ، الى من صار إليه عنهم عليهم‌السلام ، ورفع الى من حدث به وذكره على ما قدمنا القول فيه من ذلك من مثل هذا ، ومن غيره مما هو في معناه.

[١٢٩٠] ومن هذا المعنى ما رواه محمد بن سلام الكوفي ، باسناده ، عن عبد الله بن الحسن ، أنه كان في أيام بني أميّة ، إذا خلا بمن يثق به

__________________

(١) هكذا صححناه وفي الاصل : جيجل.

(٢) اشارة الى الآية : ( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) الجن : ٢٦ و ٢٧.

٤١٧

ذكر له سرّ أحوال بني أميّة ، وأومى الى القيام عليهم. فلما ظهر أبو مسلم بخراسان ، سكت عن ذلك.

فقيل له : هذا أبو مسلم قد قام يدعو الى الرضا من آل محمد ، ولبس السواد ، وسود راياته على الحسين عليه‌السلام ، وقد كنت تذكر مثل هذا ، وأنت اليوم لا تذكره ، فما الذي فيه؟

فقال : والله لهذه الرايات أضرّ عليكم وأغلظ عليكم من رايات بني أميّة. ولكن انظروا هل طلعت رايات من المغرب؟

قالوا : لا.

قال : فهي التي يكون الفرج معها ، فاذا طلعت فبادروا إليها.

[١٢٩١] وروى يحيى بن سلام ـ صاحب التفسير ـ رفعه باسناده الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنه قال : تطلع الشمس من مغربها على رأس الثلاثمائة من هجرتي.

وهذا حديث مشهور ، ولم تطلع الشمس من مغربها في هذا الوقت ولا قبله ولا بعده ، وإنما عنى عليه الصلاة والسلام بذلك قيام المهدي بالظهور من المغرب.

والعرب تقول : طلع علينا فلان ، وطلع من مكان كذا وكذا إذا أقبل منه.

ويسمّون الرجل الفاضل شمسا ، قال الشاعر :

فانك شمس والملوك كواكب

اذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب

وقد سمّى الله تعالى نبيه سراجا ، فقال : ( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَداعِي اًإِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً ) (١). وسمّى الله تعالى الشمس سراجا ، فقال : ( وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً ) (٢) وقال : ( سِراجاً وَهَّاجاً ) (٣) يعني الشمس.

__________________

(١) الاحزاب : ٤٥ و ٤٦.

(٢) نوح : ١٦.

(٣) النبأ : ١٣.

٤١٨

والمهدي هو المراد بالشمس التي ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنها تطلع من المغرب على رأس الثلاثمائة من هجرته ، وكذلك طلع هو عليه‌السلام في سنة سبع وتسعين ومائتين ، ورأس الثلاثمائة ما دخل في عقد آخر عدها أعني العشرة الآخرة من عدد الثلاثمائة ، ولم يطلع في ذلك الوقت ، ولا فيما قرب منه من قبله ولا من بعده شمس من المغرب ، ولا انسان يشبه بالشمس ويضاف اسمها إليه غيره.

ومن ذلك ما قاله الفهري في المهدي عليه‌السلام في قصيدة له طويلة :

فعند الست والتسعين قطع القول والعذر

لأمر ما يقول الناس بيع الدر بالبعر

وصار الجوهر المكنون علفا غير ذي قدر

يتيم كان خلف الباب فانقضّ على الوكر

ففي سنة ست وتسعين ظهر أبو عبد الله على مملكة إفريقيا ، وأقام دعوة المهدي ، ورأى الناس أن الاشراف فيهم ، وهم الارذلون ، وقد سلب ملكهم قوم لا خلاق لهم وهم أصحاب أبي عبد الله وأنصار دولة الحق.

وقوله : يتيم كان خلف الباب ، يعني المهدي ، وكذلك كان. مات أبوه وهو صغير وكذلك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . وهذا مما قدمنا ذكره أن قائله قالوا منه ما انتهى إليهم عن أنبياء الله تعالى ، ومن أخبار ما يكون.

ومن ذلك قول الحربي ، وكان شيخا من قرية من قرى تونس ، يقال لها : أعرابي ، قد خرف ، وكان عنده أخبار ما يكون ، فانتهى خبره الى إبراهيم بن أحمد الأغلبي (١) ، وكان قد بحث عن هذه الاخبار ، فطلبها ، ولحق أيام أبي

__________________

(١) وهو ابن الاغلب ابراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب من امراء الأغالبة ، المولود ٢٣٧ ه‍ تولى الحكم في افريقية سنة ٢٦١ ه‍ وانتقل إلى تونس سنه ٢٨١ فسكنها واتخذ بها القصور ، وغزا الإفرنج ، فافتتح كثيرا من حصونهم وقلاعهم. وأخيرا اصيب بالماليخوليا فقتل كثيرا من أصحابه وكتابه وحجابه ونسائه ، وقتل اثنين من أبنائه وثمانية إخوة له وبناته. عزله المعتضد العباسي سنة ٢٨٩ ه‍ ومات في نفس السنة في صقلية ودفن بها وقيل حمل الى القيروان ومدة ولايته ٢٨ سنة وستة اشهر ( ابن خلدون ٤ / ٢٠٣ ، البيان المغرب ١ / ١١٦ ، الاعلام ١ / ٢٢ ).

٤١٩

عبد الله ، وأرسل إليه وهو ببلد كتامة يدعوه الى الرجوع عما هو عليه ، ويحذره نفسه. وقد ذكرت ما جرى بينهما في كتاب الدولة. ولما تبين أنه صاحب الامر أعرض عنه ، وكان إذا خلا مع من يثق به فجرى ذكره يقول : والله لو دخل من آخر أبواب مدينتي هذه لأخرجن من باب آخر. ثم ظهر يومه ، فخرج من إفريقيا الى بلد الروم (١) غازيا ، وأسلم ملكه (٢) لما علم أن أمر أبي عبد الله وظهوره على إفريقيا قد قرب.

وكان لما بلغه أمر الحربي هذا بعث في طلبه ، فحمل إليه وهو ابن أربع وتسعين سنة ، فسأله أن يخبره بما عنده في أمر مدتهم ودولتهم ، فأنكر أن يكون عنده علم من ذلك ويلوك منه ، فجزم عليه ، وآمنه ، وحلف له أن اخبره ليحسن إليه ، وأن لا يناله إلا كل ما يحبه ، وتواعده بالمكروه إن تمادى على كتمان ذلك عنه ، وكان الحربي شاعرا ، وكان له قصيدة في ذلك تعرف بقصيدة الحربي طويلة ، عرض فيها لخبر ما يكون تعريضا دون التصريح لما خاف أن يهيجه ذلك ، فيناله مكروه منه ، أولها :

أقول وأسلمت القريض لأهله

وعشت زمانا وهو خير مكاعب

أمن بعد تسعين سنينا أعدها

وأربعة من بعد ذاك رواتب

ازاحم أهل الشعر بالشعر راجزا

أبى الله هذا بعد أن جبّ غاربي

ولكنني أرجو من الله عفوه

بأوبة مأمون السريرة تائب

وآمل غفرانا بفضل تلاوة

ارددها ليلي بفكرة آئب

صرفت اموري للّذي أنا عبده

على ربّ العرش معطي الرغائب

فلست حياتي سائلا غير ذي العلى

وإلا فجبّت من يميني رواجبي

ألا يا أمين الله وابن أمينه

وعاشر سادات الملوك الأغالب

__________________

(١) الى صقلية.

(٢) الى ابنه أبي العباس عبد الله.

٤٢٠