شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار - ج ٣

القاضي النعمان بن محمّد التميميّ المغربي

شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار - ج ٣

المؤلف:

القاضي النعمان بن محمّد التميميّ المغربي


المحقق: السيد محمّد الحسيني الجلالي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٩

[ أيام فتنة ابن الزبير ]

[١١٦٤] وروي عنه عليه‌السلام ، أنه قال : خرجت يوما من منزلي أيام فتنة ابن الزبير ، وقد ضاق صدري بما ينتهي إليّ منها ، فانتهيت الى حائط [ لي ] (١) فاتكيت عليه ، ووقفت كذلك مقاربا ، فاني لعلى ذلك إذ وقف عليّ رجل عليه ثياب بيض ما أعرفه فنظر الى وجهي ، فقال لي : يا علي بن الحسين ، مالي أراك كئيبا محزونا ؛ أعلى الدنيا حزنك؟ فرزق [ الله ] حاضر يأكل منه البرّ والفاجر. أم على الآخرة [ فهو ] وعد صادق ويحكم به ملك قادر.

قلت : اللهمّ ما آسي على الدنيا ، ولا من أجل الآخرة كان مني ما ترى.

قال : ففيم حزنك؟

قلت : تخوفت فتنة ابن الزبير.

فضحك ، وقال : يا علي بن الحسين ، هل رأيت أحدا قط توكل على الله فلم يكفه؟

قلت : لا. وبقيت مفكرا في قوله ، ثم رفعت رأسي ، فلم أجد أحدا (٢).

[ دين زيد بن اسامة ]

[١١٦٥] واعتل زيد بن اسامة بن زيد علته التي مات فيها ، فلما احتضر ،

__________________

(١) كلمة ( لي ) نقلناها من الارشاد.

(٢) وأضاف في الفصول لابن الصباغ ص ٢٠٣ : ... فاذا قائل أسمع صوته ولا أرى شخصه يقول : يا علي بن الحسين هذا الخضر ناجاك.

٢٦١

حضره علي بن الحسين عليه‌السلام ، فجعل يبكي ، فقال له علي بن الحسين عليه‌السلام : ما يبكيك؟

قال : [ يبكيني ] خلفت عليّ خمسة عشر ألف دينار دينا ، وليس فيما أخلفه وفاء ذلك.

فقال له علي بن الحسين عليه‌السلام : فطب نفسا فعليّ وفاء ذلك عنك.

فوفّاه عنه.

[ السجاد لعبده : اقتصّ منّي ]

[١١٤٦] وقيل : إن مولى لعلي بن الحسين عليه‌السلام [ كان ] يتولى له عمارة ضيعة ، فجاء ليطلعها ، فأصاب منها فسادا وتضيّعا كثيرا أغاضه من ذلك ما رآه ، فغمه ، فقرع المولى بسوط كان في يده وكان ذلك ما لم يكن منه الى أحد قبله مثله.

وندم على ما كان منه ندامة شديدة ، فلما انصرف الى منزله أرسل يطلب المولى ، فأتاه فوجده مقاربا والسوط بين يديه ، فظنّ يريد عقوبته ، فاشتدّ خوفه. فأخذ علي بن الحسين عليه‌السلام السوط ، ومدّ يده إليه ، وقال : يا هذا قد كان مني إليك ما لم يتقدم لي مثله ، وكانت هفوة وزلة. فدونك السوط اقتصّ مني.

فقال المولى : يا مولاي والله إن ظننت إلا أنك تريد عقوبتي ، وأنا مستحق العقوبة فكيف أقتصّ منك.

قال عليه‌السلام : ويحك اقتص.

قال : معاذ الله أنت في حلّ وسعة.

فكرر عليه مرارا والمولى في ذلك يتعاظم قوله ويجلله ، فلما لم يره يقتصّ قال له عليه‌السلام : أما إذا أبيت ، فالضيعة صدقة عليك.

٢٦٢

فأعطاه إياه.

[١١٦٧] وكان إذا انقضى الشتاء تصدق بكسوته في الشتاء ، وإذا انقضى الصيف تصدق بكسوته في الصيف. وكان يلبس من خير الثياب.

فقيل له : تعطيها من لا يعرف بقيمتها ولا يليق به لباسها ، فلو بعتها وتصدقت بثمنها.

فقال عليه‌السلام : اني لأكره أن أبيع ثوبا صلّيت فيه.

[ انقطاعه الى الله ]

[١١٦٨] وكان إذا وقف في الصلاة لم يشتغل بغيرها ولم يسمع شيئا لشغله بالصلاة. وسقط بعض ولده في بعض الليالي ، فانكسرت يده ، فصاح أهل الدار ، وأتاهم الجيران ، وجيء بالمجبّر [ فجبّر الصبي ] وهو يصيح من الألم ، وكل ذلك لا يسمعه.

فلما أصبح رأى يد الصبي مربوطة الى عنقه ، فقال : ما هذا؟ فأخبروه.

[ فرزدق وقصيدته ]

[١١٦٩] وكان عليه‌السلام ورعا حليما وقورا جميلا ، وحجّ في بعض السنين فجعل الناس ينظرون الى جماله وكماله. ويقول من لم يعرفه لمن عسى أن يعرفه ؛ من هذا؟! ليخبروه. قال قائل من الناس لفرزدق (١) من هذا؟

__________________

(١) وهو همام بن غالب بن صعصعة ، وأمه : ليلى بنت عابس ، قيل إنه ولد سنة ١٠ ه‍. دخل أبوه على أمير المؤمنين في البصرة ومعه ابنه فرزدق ، فأخبره أنه يقول الشعر. وكان له أخ وهو هميم بن غالب واخت جعثن وكانت امرأة صدق ، وكان جرير يذكرها في مهاجاته لفرزدق ، وكان يقول : أستغفر الله فيما قلت لجعثن. تزوج ابنة عمه ، النوار بنت أعين بن صعصعة. توفي سنة ١١٠ ه‍ عن عمر يناهز المائة سنة.

٢٦٣

فأنشأ يقول :

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحلّ والحرم

هذا ابن خير عباد لله كلّهم

هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلم

يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم إذا [ ما جاء ] يستلم

يغضي حياء ويغضي من مهابته

فلا يكلم إلاّ حين يبتسم

إذا رأته قريش قال قائلها

الى مكارم هذا ينتهي الكرم

__________________

ودفن في مقابر البصرة.

وأما القصيدة فمؤلفة من ٢٨ بيتا ذكرها عبد الوهاب المكي في طبقات الشافعية الكبرى ١ / ١٥٣.

وقال ابن شهرآشوب في المناقب ٤ / ١٦٩ : إنها مؤلفة من ٤١ بيتا وذكر تمام القصيدة. وكذا في حلية الابرار ٢ / ٥٠ ، وفي مجمع فنون الشعر ص ٧٠ ط حجر ١٣٣٥ : عدها ٤٠ بيتا.

المناسبة : لما حجّ هشام بن عبد الملك ، فلم يقدر على استلام الحجر من الزحام ، فنصب له منبر ، وجلس عليه ، وأطاف به أهل الشام. فبينما هو كذلك ، اذ أقبل علي بن الحسين عليه‌السلام وعليه ازار ورداء من أحسن الناس وجها وأطيبهم رائحة ، بين عينيه سجادة كأنها ركبة عنز ، فجعل يطوف ، فاذا بلغ موضع الحجر تنحى الناس حتى يستلمه هيبة. فقال له شامي : من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال : لا أعرفه!! لئلا يرغب فيه أهل الشام. فقال الفرزدق : أنا أعرفه ( وكان حاضرا ). فقال الشامي : من هو ، يا أبا الفراس؟ فأنشأ القصيدة التي مطلعها :

يا سائلي أين حلّ الجود والكرم

عندى بيان إذا طلاّبه قدموا

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحلّ والحرم

الى آخر الأبيات.

فغضب هشام ومنع جائزته ، وقال : ألا قلت فينا مثلها ، فحبسه بعسفان ( بين مكة والمدينة ) فبلغ ذلك علي بن الحسين فبعث إليه باثني عشر ألف درهم ، وقال : اعذرنا يا أبا فراس. فلو كان عندنا أكثر من هذه لوصلناك به ، فردها ، وقال : يا بن رسول الله ما قلت هذا الذي قلت إلا غضبا لله ولرسوله ، وما كنت لأرزأ عليه شيئا ، فردها عليه. فقال له علي بن الحسين عليه‌السلام : بحقي عليك لما قبلتها ، فقد رأى الله مكانك وعلم نيتك ، فقبلها. فجعل فرزدق يهجو هشاما ، وهو في الحبس ، فكان مما جاء به قوله :

أيحبسني بين المدينة والتي

إليها قلوب الناس يهوى منيبها

يقلب رأسا لم يكن رأس سيد

وعينا له حولاء تبدو عيوبها

فاخبر هشام بذلك فأطلقه. وفي رواية أبي بكر العلاف : أنه أخرجه الى البصرة.

٢٦٤

أيّ القبائل (١) ليست في رقابهم

لأولية هذا أوله نعم

[ عليّ الأكبر ]

وكان للحسين عليه‌السلام ابنان ، يدعى كل واحد منهما عليا.

فالعامة تزعم أن المقتول منهما معه هو الاكبر (٢).

وأهل العلم من [ أوليائهم ] وشيعتهم وغيرهم من علماء العامة [ العارفين ] بالأنساب والتواريخ يقولون : إن المقتول مع الحسين عليه‌السلام هو الاصغر وان الباقي منهما هو الأكبر ، وانه كان يوم قتل الحسين عليه‌السلام دنفا شديد العلة فذلك كان سبب بقائه. وقد تقدم ذكر ذلك.

ذكر محمد بن عمر الواقدي : أن علي بن الحسين ولد سنة ثلاث وثلاثين من الهجرة ، وقتل الحسين عليه‌السلام يوم عاشوراء سنة إحدى وستين ، وكان على هذا يوم قتل أبوه عليه‌السلام ابن ثمان وعشرون سنة.

وذكر غير الواقدي : أنه ولد في أيام عثمان ، فيما ذكر الواقدي وغيره ، قتل في ذي الحجة من سنة خمس وثلاثين ، وهذا قريب المعنى فيما تقدم ذكره.

وزعم عوام الناس : أنه كان يوم قتل أبوه طفلا ، وأن أباه أوصى به الى غيره ليعدلوا بالامامة عنه (٣).

أما أهل العلم بالأخبار والأنساب والتواريخ منهم فقد قالوا مثل ما ذكرنا أنه كان رجلا ، وان زعموا أنه الأصغر.

__________________

(١) وفي رواية اخرى : أيّ الخلائق ليست.

(٢) الاصابة لابن الحجر ٣ / ٤١٢ ، البداية والنهاية لابن كثير ٩ / ١٠٣ ، الاخبار الطوال للدينورى ص ٢٥٤ ، لوائح الانوار للشعراني ١ / ٢٣ ، المعارف لابن قتيبة ص ٩٣ ، حياة الحيوان ١ / ١٦٩ ، الكامل لابن الأثير ٤ / ٣٠ ، الروض الانف ٢ / ٣٢٦ ، تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٠ ، الفصول المهمة لابن الصباغ ص ٤٦٩.

(٣) كتاب عبيد الله المهدي ص ٨٠ وذكر الطبري في الذخائر : أنه كان صغيرا.

٢٦٥

[١١٧٠] وروى الزبير البكاري (١) عن مصعب بن عبد الله ، أنه شهد علي بن الحسين الأصغر مع أبيه [ في ] كربلاء ، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة (٢) ، وكان مريضا ، وكان ابن أمّ ولد.

[ أمه ]

واختلفوا في أمه ، فقال بعضهم : كانت سندية.

وقال آخرون : تسمى جيدة.

وقال بعضهم : كانت تسمى سلامة (٣).

وقال ابن الكلبي : ولّى علي بن أبي طالب عليه‌السلام الحريث بن جابر الحنفي جانبا من المشرق ، فبعث إليه ببنت يزدجرد شهرياران بن كسرى ، فأعطاها علي عليه‌السلام ابنه الحسين عليه‌السلام (٤) فولدت منه عليا (٥).

__________________

(١) وهو الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام. كنيته : أبو عبد الله المدني ، ولد بالمدينة سنة ١٧٢ ه‍ وهو أحد النسابين المعروفين ، وكان شاعرا صدوقا راوية نبيل القدر ، ولي قضاء مكة ، توفي في مكة ٢٥٦ ه‍ ( رجال المامقاني ١ / ٤٣٧ ، الاعلام ١ / ٣٣٢ ).

(٢) غاية الاختصار لتاج الدين ابن زهرة المتوفى ٧٥٣ ه‍ ص ١٥٦.

(٣) قال ابن قتيبة في المعارف ص ٩٤ : إن اسمها سندية ، ويقال لها : سلافة ، ويقال : غزالة. وفي مرآة الجنات لليافعي ١ / ١٩٠ هكذا. وفي النجوم الزاهرة لابن التغربردي ١ / ٢٢٩ : أن اسمها سندية.

(٤) وفي الارشاد ص ١٣٩ : وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام ولّى حريت بن جابر الحنفي جانبا من المشرق ، فبعث إليه بابنتي يزدجرد بن شهرياران بن كسرى ، فنحل ابنه الحسين شاه زنان منهما ، فأولدها الامام زين العابدين. وفي اصول الكافي ١ / ٤٦٦ : إن اسمها شهربانويه بنت يزدجرد بن شهريار. وفي المناقب ٤ / ١٧٦ : إن اسمها شهربانويه ، ويسمونها أيضا شاه زنان. وفي الفصول المهمة لابن الصباغ ص ١٩٩ : اسمها شاه زنان بنت كسرى. ولم يتعرض المؤلف الى اسمها في هذا النقل. ومعنى شاه زنان أي ملكة النساء وشهربانويه أي ملكة المدينة. وربما يعود اختلاف الروايات في تسميتها الى ما قيل إن أمير المؤمنين عليه‌السلام سألها يوما عن اسمها ، فقالت : شاه زنان. فقال عليه‌السلام : أنت شهربانويه. وأظن هذا التغير لاجل اختصاص الزهراء بذلك كما مرّ في ج ١١ أن فاطمة هي سيدة نساء العالمين.

(٥) والى هذا يشير أبو الاسود الدؤلي :

٢٦٦

وقال غيره : إن حريث بن جابر بعث الى أمير المؤمنين ببنتي يزدجرد بن شهرياران بن كسرى ، وأعطى واحدة منهما ابنه الحسين عليه‌السلام فأولدها علي بن الحسين ، وأعطى الاخرى محمد بن أبي بكر فأولدها قاسم بن محمد بن أبي بكر فهما ابنا خاله.

فهذا نقض الخبر الأول الذي فيه أن علي بن الحسين عليه‌السلام ولد في سنه ثلاث وثلاثين من الهجرة (١) في أيام عثمان ، وذلك قبل أن يصير ظاهر الامر الى علي عليه‌السلام.

والأول أثبت ، ويؤيد ذلك أن علي بن الحسين عليه‌السلام قد روى عن علي بن أبي طالب أخبارا حملت عنه منها :

[ ما يتبع الرجل بعد موته ]

[١١٧١] ما رواه عن سعيد بن طريف ، أنه قال : حدثني علي بن الحسين عليه‌السلام ، أنه قال : سمعت علي بن أبي طالب عليه‌السلام يقول :

أيها الناس أتدرون ما يتبع الرجل بعد موته؟

فسكتوا.

فقال عليه‌السلام : يتبعه الولد ، يتركه فيدعو له بعد موته ويستغفره. ويتبعه الصدقة أوقفها في حياته ، فيتبعه أجرها بعد موته.

ويتبعه السنّة الصالحة يعمل بها ، فيعمل بها بعد موته فيتبعه أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقض من أجرهم شيئا.

[ موقفه الصمودي ]

[١١٧٢] وروي عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنه

__________________

وان غلاما بين كسرى وهاشم

لأكرم من نيطت عليه التمائم

(١) دلائل الامامة للطبري ص ٨١ ، وبحار الانوار ١١ / ٤.

٢٦٧

قال : قدم بنا على يزيد بن معاوية لعنه الله بعد ما قتل الحسين عليه‌السلام ونحن اثنا عشر غلاما ليس منا أحد إلا مجموعة يداه الى عنقه وفينا علي بن الحسين. فقال لنا يزيد : صيرتم أنفسكم عبيدا لأهل العراق ، ما علمت بمخرج أبي عبد الله حتى بلغني قتله.

( كذب عدوّ الله بل هو الذي جهز إليه الجيوش وقد ذكرت خبره فيما مضى ).

فتلا علي بن الحسين : ( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) (١).

فأطرق مليا وجعل يعبث بلحيته وهو مغضب ثم قرأ ( ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (٢). ثم قال : يا أهل الشام ما ترون في هؤلاء؟

فقال قائلهم : قد قتل (٣) ولا تتخذ جروا من كلب سوء.

فقال النعمان بن بشير : انظر ما كنت ترى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يفعله فيهم لو كان حيا ، فافعله.

فبكى يزيد ، فقالت فاطمة بنت الحسين عليه‌السلام : يا يزيد ما تقول في بنات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سبايا عندك.

فاشتدّ بكاؤه حتى سمع ذلك نساؤه ، فبكين حتى سمع بكاؤهن من كان في مجلسه.

__________________

(١) الحديد : ٢٢ و ٣٣.

(٢) الشورى : ٣٠.

(٣) هكذا في الاصل.

٢٦٨

وقيل : إن ذلك بعد أن أجلسهنّ في منزل لا يكنهنّ من برد ولا حر. فأقاموا فيه شهرا ونصف حتى اقشرت وجوههنّ من حرّ الشمس ، ثم أطلقهم.

[ دين الحسين عليه‌السلام ]

[١١٧٣] وروي عن جعفر بن محمد ، أنه قال : اصيب الحسين عليه‌السلام وعليه دين بضع وسبعون ألف دينار. قال : وكفّ يزيد عن أموال الحسين عليه‌السلام ، غير أن سعيد بن العاص هدم دار علي بن أبي طالب ودار عقيل ودار الرباب بنت امرئ القيس ، وكانت تحت الحسين ، وهي أم سكينة.

قال : واهتمّ أبي ـ علي بن الحسين عليه‌السلام ـ بدين أبيه هما شديدا حتى امتنع من الطعام والشراب والنوم في اكثر أيامه ولياليه.

فأتاه آت في المنام ، فقال له : لا تهتمّ بدين أبيك فقد قضاه الله بمال بجيش.

( فقال علي له : والله ما أعرف في أموال أبي مالا يقال له : بجيش ) (١).

فلما كان في الليلة الثانية رأى مثل ذلك ، فسأل عنه أهله.

فقالت له امرأة من أهله : كان لأبيك عبد رومي يقال له بجيش ، استنبط له عينا بذى خشب ، فسأل عن ذلك ، فأخبر به. وأن الحسين كان [ قد ] أعطى الرباب بنت امرئ القيس منها سقي يوم السبت وليلة السبت نحلة فورثت ذلك سكينه بنتها.

فما مضت بعد ذلك قلائل حتى أرسل الوليد بن عتبه بن أبي

__________________

(١) قال ابن شهرآشوب في المناقب ٤ / ١٤٤ : بجنس. وفي سفينة البحار ١ / ٤٧٧ : نحيس بالحاء المهملة.

٢٦٩

سفيان الى علي بن الحسين عليه‌السلام يقول له : انه ذكرت لي عين أبيك بذي خشب تعرف بجيش ، فان أحببت بيعها ابتعتها منك.

قال له علي بن الحسين عليه‌السلام : خذها بدين الحسين عليه‌السلام ، وذكر له. قال : أخذتها.

واستثنى منها ما كان لسكينة. وأوفى دين الحسين عليه‌السلام.

[ دعاؤه على قاتل أبيه ]

وكان علي بن الحسين عليه‌السلام يدعو في كل يوم وليلة أن يريه الله قاتل أبيه مقتولا. فلما قتل المختار (١) قتلة الحسين عليه‌السلام بعث برأس عبيد الله بن زياد ورأس عمر بن سعد (٢) مع رسول من قبله الى علي بن الحسين عليه‌السلام. وقال لرسوله : إنه يصلّي من الليل فإذا أصبح وصلّى الغداة هجع (٣) ثم يقوم [ فيستاك ] ، يؤتى بغذائه ، فاذا أتيت بابه ، فاسأل عنه ، فاذا قيل لك إن المائدة وضعت بين يديه فاستأذن عليه وضع الرأسين على [ مائدته ] ، وقل له :

__________________

(١) وهو المختار بن أبي عبيدة مسعود الثقفي ، كنيته : أبو إسحاق ، ولد في السنة الاولى للهجرة ، وهو من أهل الطائف. انتقل منها الى المدينة مع أبيه في زمن عمر ، وتوجه أبوه الى العراق ، فاستشهد بوم الجسر ، وبقى المختار في المدينة منقطعا الى بني هاشم وعمه سعد بن مسعود الثقفي أمير المدائن ، وسكن البصرة. ولما قتل الحسين عليه‌السلام قبض عليه ابن زياد أمير البصرة ونفاه بشفاعة عبد الله بن عمر ( زوج اخت المختار ) الى الطائف ، ولما مات يزيد بن معاوية رجع الى العراق ودخل الكوفة وقتل قتلة الحسين عليه‌السلام ، قاتله مصعب بن الزبير ، فقتله ( تاريخ الطبري ٧ / ١٤٦ ، الحور العين ص ١٨٢ ، الكامل ٣ / ٤٠٤ ).

(٢) وهو عمر بن سعد بن أبي وقاص ، أرسله عبيد الله بن زياد على أربعة آلاف لقتال الديلم ، وكتب له عهده على الري. ثم لما علم ابن زياد بمسير الحسين عليه‌السلام من مكة الى الكوفة ، كتب الى عمر بن سعد أن يعود بمن معه فولاه قتال الحسين عليه‌السلام ، فاستعفاه أولا ، ثم أطاع فكانت الفاجعة بمقتل الحسين عليه‌السلام ، وعاش الى أن خرج المختار فقتل بيده ( طبقات ابن سعد ٥ / ٩٣٥ ، الكامل ٤ / ٣١ ).

(٣) وفي المناقب ٤ / ١٤٤ : نام.

٢٧٠

المختار يقرئ عليك السلام ويقول لك : يا ابن رسول الله قد بلغك الله ثارك.

ففعل الرسول ذلك. فلما رأى علي بن الحسين رأسين على [ مائدته ] خرّ لله ساجدا ، وقال : الحمد لله الذي أجاب دعائي (١) وبلغني ثاري من قتلة أبي.

ودعا للمختار وجزاه خيرا (٢).

[١١٧٤] وروي عن عبد الله بن موسى ، عن أبيه ، عن جده ، أنه قال : كانت أمي فاطمة بنت الحسين عليه‌السلام تأمرني أن أجلس الى خالي علي بن الحسين عليه‌السلام ، فما جلست إليه مجلسا قط إلا أفدت منه علما (٣).

[ زهده عليه‌السلام ]

[١١٧٥] سعيد بن كلثوم ، قال : كنت عند أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه‌السلام فذكر علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقال : والله ما أكل من الدنيا حراما قط حتى مضى لسبيله ، وما عرض عليه أمران هما رضاء الله إلا أخذ بأشدها عليه في دينه ، [ وما نزلت ] برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نازلة [ قط ] إلا ودعاه يقدمه أمامه لها ثقة به ، وما أطاق عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من هذه الامة غيره ، وأنه كان ليعمل عمل رجل كان وجهه بين الجنة والنار يرجو ثواب هذه ويخاف عقاب هذه.

__________________

(١) وفي المناقب أيضا : دعوتي.

(٢) وعن الامام الباقر عليه‌السلام : لا تسبوا المختار ، فانه قتل قتلتنا وطلب ثارنا وزوّج أراملنا وقسّم فيئنا ( بحار الانوار ١٠ / ٢٨٣ ). قالت فاطمة بنت أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما تحنأت امرأة منا ولا أجالت في عينها مرودا ، ولا امتشطت حتى بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد. قال الكشي في رجاله ص ١١٥ : وصفوة القول في شأن المختار : كان رجلا صادقا في أخذه لثار الحسين عليه‌السلام.

(٣) وفي بحار الانوار ٤٦ / ٧٣ : فما جلست إليه قط إلا قمت بخير قد أفدته إما خشية لله تحدث لله في قلبي لما أرى من خشيته لله ، أو علم استفدته منه.

٢٧١

ولقد أعتق من ماله ألف مملوك ابتغاء وجه الله ، والنجاة من النار مما كدّ فيه بيده ورشح فيه جبينه ، وأنه كان ليقوت بالخل والزبيب والعجوة ، وما كان لباسه إلا الكرابيس ، إذا فصل شيء من يده من كمه قطعه بالجلم ، وما أشبهه من أهل بيته أحد ، وان كان أقرب القوم شبها في أحواله وأفعاله علي بن الحسين عليه‌السلام.

[ عبادته عليه‌السلام ]

[١١٧٦] وجاء عن أبي جعفر محمد بن علي عليه‌السلام ، أنه دخل على أبيه علي بن الحسين عليه‌السلام فرآه في حال رق له بها ، لما بلغت به العبادة ، وقد اصفرّ لونه من السهر والصيام ورمضت عيناه من البكاء ودثرت [ جبهته ] وانخرم [ أنفه ] من السجود ، وورم كفاه وقدماه من القيام فلم يملك أن بكى رحمة له.

قال : فعلم أني بكيت لما رأيت منه. فقال : يا بني أعطني بعض الصحف التي فيها ذكر عبادة علي عليه‌السلام. فأعطيته منها صحيفة ، فنظر في شيء منها ، ثم وضعها بين يديه ، وقال : ومن يقوى على عبادة علي. ثم لم يمت حتى عمل بعمل علي عليه‌السلام.

[١١٧٧] وعن أبي جعفر عليه‌السلام ، أنه قال : كان علي بن الحسين عليه‌السلام يصلّي في كل يوم وليلة ألف ركعة وان كانت الريح لتميله اذا هو قائم في الصلاة كما تميل السنبلة.

[١١٧٨] وعن سفيان بن عيينة ، أنه قال : ما رؤي علي بن الحسين عليه‌السلام جائرا بيده فحدثه فهو يمشى زاره (١).

[١١٧٩] وروي عن زرارة بن أعين ، أنه قال : كانت لعلي بن الحسين

__________________

(١) وفي بحار الانوار ٤٦ / ٩٣ : جائزا بيديه فخذيه وهو يمشي.

٢٧٢

عليه‌السلام ناقة ، حج عليها أربعا وعشرين حجة ما أقرعها قرعة قط.

[١١٨٠] إبراهيم بن علي الواقفي (١) ، عن أبيه ، قال : حججت مع علي بن الحسين عليه‌السلام يوما وهو على ناقة له ، فالتاثت عليه ، فرفع القضيب ، فأشار عليها به ، وقال : لو لا خوف القصاص لفعلت.

[١١٨١] ومرّ علي بن الحسين عليه‌السلام يوما على سعيد بن المسيب وعنده رجل [ قرشي ] فقال له : من هذا؟

فقال ابن المسيب. هذا سيد العابدين علي بن الحسين.

[١١٨٢] أبو حمزة اليماني ، قال : سمعت علي بن الحسين يقول : ما احب أن لي بنصيبي من الدنيا حمر النعم. وما تجرعت جرعة هي أحب إليّ من جرعة غيظ لا اكاف عليها صاحبها.

[ الإنفاق في سبيل الله ]

[١١٨٣] وروي عن جعفر بن محمد ، أنه قال : كان علي بن الحسين عليه‌السلام يعجبه العنب ، فدخل منه الى المدينة شيء حسن ، فاشترت منه أمّ ولده شيئا ، وأتت به عند افطاره ، فأعجبه ، فمن قبل أن يمدّ يده إليه وقف بالباب سائل ، فقال لها : احمليه إليه ، فقالت : يا مولاي بعضه يكفيه ، قال : لا. وأرسله إليه كله. واشترت له من غد ، وأتت به إليه فوقف السائل ، ففعل مثل ذلك [ فأرسله إليه ]. واشترت له في الليلة الثالثة ، ولم يأت السائل ، فأكل ، وقال : ما فاتنا عنه شيء والحمد الله.

[ مسرف يهدّد السجاد ]

[١١٨٤] وانتهى الى علي بن الحسين عليه‌السلام : أن مسرفا استعمل على

__________________

(١) هكذا في الاصل ، وقد أورد المفيد في الارشاد : الرافعي. وفي نسخة ز : الواثقي.

٢٧٣

المدينة وأنه يتواعده بسوء وكان يقول عليه‌السلام : لم أر مثل التقدم في الدعاء له لأن العبد [ ليس يحضره ] الاجابة في كل [ وقت ] فجعل يكثر من الدعاء لما اتصل به عن مسرف.

وكان من دعائه : ربّ كم من نعمة أنعمت بها عليّ قلّ لك عندها شكري ، وكم من بلية ابتليتني بها قلّ لك عندها صبري ، فكم من معصية أتيتها فسترتها عليّ ولم تفضحني. يا من قلّ له عند نعمته شكري ، فلم يحرمني ، [ و ] يا من قلّ له عند بليته صبري فلم يخذلني ، ويا من رآني على المعاصي فلم يفضحني. يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا ، [ و ] يا ذا النعم التي لا تحصى عددا ، صلّ على محمد وعلى آل محمد وبك أدفع نحره وبك أستعيذ من شره.

فلما قدم مسرف الى المدينة أرسل الى علي بن الحسين وعنده مروان بن الحكم ، وقد علم ما ذكره من وعيده ، فجعل يغريه به ، فلما دخل عليه ، قام إليه ، فاعتنقه وقبّل رأسه ، وأجلسه الى جانبه ، وأقبل عليه بوجهه ليسأله عن حاله وأحوال أهله ، فلما رأى ذلك مروان جعل يثني على علي بن الحسين عليه‌السلام ويذكر فضله.

فقال مسرف : دعني عن كلامك ، فاني إنما فعلت ما فعلت من بره واكرامه وقضاء حوائجه ما قد أمرني به أمير المؤمنين.

ثم قال لعلي بن الحسين عليه‌السلام : إنما جعلت الاجتماع معك لما سبق إليك عني لأن لا تستوحش مني ، وأنا احب الاجتماع معك والانس بك ، والتبرك بقربك ، والنظر فيما تحب من صلتك وبرك وأنا على ذلك ، لكني أخاف أن يستوحش أهلك إن طال عندي مقامك ، فانصرف إليهم ليسكنوا ويعلموا ويعلم الناس مالك عند أمير المؤمنين وعندي من الجميل.

ثم قال : قدّموا دابته.

٢٧٤

قالوا : ماله دابة.

قال مسرف : قدّموا له دابتي.

فقدّموها له بين يديه ، وعزم عليه أن يركبها ، فركب ، وانصرف الى أهله ، وهم والناس ينظرون ما يكون منه فيه.

[ وفاته ]

توفي علي بن الحسين عليه‌السلام بالمدينة أول سنة أربع وتسعين (١) ، وكان يكنى : أبا الحسين (٢).

[١١٨٥] وغسله أبو جعفر ابنه محمد بن علي ، فلما أراد أن يغسل فرجه ، قال : لقد كنت أجلّك عن أمسّ فرجك حيا ، وأنت ميتا كما كنت حيا فما كنت لأمس عورتك. ودعا بام ولد له فتولت غسل عورته.

ودفن في البقيع.

وضربت امرأته على قبره فسطاط ( فلما كان العشي جاءت ناقة له فوضعت جرانها على الفسطاط ) وجعلت تحن.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام لبعض مواليه : نحّها لأن لا يرى الناس. فأخذ بمشفرها ونحاها عن الفسطاط.

وتوفي علي بن الحسين وهو ابن ثمان وخمسين سنة.

[ ضبط الغريب ]

الجران : مقدم العنق من مذبح البعير الى منحره ، فاذا برك البعير ومدّ عنقه على الارض قيل ألقى بجرانه على الارض.

مشفر البعير : شفته السفلى المتدلية.

__________________

(١) وفي الارشاد واصول الكافي ١ / ٤٦٩ : قبض في سنة خمس وتسعين وله سبع وخمسون سنة.

(٢) وفي نسخة ز : أبا الحسن.

٢٧٥

الامام محمد الباقر عليه السلام

وأما أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين عليه‌السلام كانت أمه أمّ عبد الله [ فاطمة ] بنت [ الحسن ] بن علي بن أبي طالب. وقيل إنه أول من اجتمعت له ولادة الحسن والحسين.

[١١٨٦] وروى يحيى بن الحسن ، عن أبي برة قال : حدثنا عبد الله بن ميمون القداح ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي عليه‌السلام قال : دخلت على جابر بن عبد الله الانصاري ، وقد كفّ بصره ، فسلّمت عليه ، فردّ عليّ السلام ، وقال : من أنت؟ قلت : محمد بن علي بن الحسين عليه‌السلام ، فقال لي : بأبي وامّي ادن مني. فقبّل يدي ثم أهوى الى رجلي ليقبّلهما ، فاجتذبتهما. ثم قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقرئك السلام. فقلت : على رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته ، وقلت له : وكيف ذلك يا جابر؟ قال : كنت ذات يوم ، فقال لي : يا جابر ستلقى بعدي محمد بن علي بن الحسين من ولدي ، وهو رجل يهب الله له النور والحكمة ، فأقرته مني السلام.

وحديث جابر هذا مع محمد بن علي عليه‌السلام حديث مشهور معروف يرويه عند الخاص والعام ، رواه فقهاء أهل المدينة وأهل العراق من العامة ،

٢٧٦

ويؤثر عن كبرائهم ، يرويه أبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم.

ومنه أخذوا ذكر حجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لان أبا جعفر محمد بن علي عليه‌السلام سأل عنها جابر بن عبد الله الانصاري في هذا المجلس لانه شهدها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخبره بها شيئا فشيئا مذ خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة الى قضاء الحج ، وهو أتم حديث جاء في ذلك يروي عن أبي جعفر [ محمد ] بن علي عليه‌السلام.

وكان أفقه أهل زمانه ، وأخذ عنه ظاهر علم الحلال والحرام أهل الفقه من الخواص والعوام (١). وسمي باقر العلوم لانه أول من يقرأ عنه من الائمة من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأظهره ، وذلك لانه وجد من الزمان لينا من بني أميّة لقرب انقطاع أيامهم ولشغل من بقي منهم بلهوهم وآثامهم (٢).

[١١٨٧] وروي عن عبد الرحمن بن صالح الازدي ، عن ابي مالك الحسني ، عن عبد الله بن العطاء المكي ، قال : ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين لتواضعهم

__________________

(١) قال محمد بن مسلم : سألت الباقر عليه‌السلام عن ثلاثين الف حديث ( المناقب ٤ / ١٩٥ ).

(٢) وقد أشار المؤلف الى هذا في ارجوزته :

أظهر ما رواه عن آبائه

من جملة الفقه على استوائه

وحدّث الناس بما كان سمع

من ظاهر الحديث عنهم فاتبع

واحتاج للذي روى كل أحد

فأقبلوا إليه من كل بلد

وضرب الناس من الآفاق

إليه في الركب وفي الرفاق

ودخلوا في جملة الوفود

وعدد الجماعة العديد

الى أن يقول :

ووجدت شيعته بعض الفرج

وزال عنها كل أسباب الحرج

وكان ذاك من ولي النعمة

حياطة لدينه ورحمة

ولو تمادت شدة البلية

لا نقطع الدين على الكلية

والله ذو النعمة والآلاء

يمتحن العباد بالبلاء

( الارجوزة المختارة ص ١٨٨ )

٢٧٧

له ولمعرفتهم لحقّه ولعلمه واقتباسهم منه. ولقد رأيت الحكم بن عيينة على حالته في الناس وسنّه وهو بين يديه يتعلم منه ، ويأخذ منه كالصبي بين يدي المعلم.

[ الخضر مع الامام الباقر ]

[١١٨٨] وروي عن جعفر بن محمد بن علي ، أنه قال : حججت مع أبي محمد بن علي ، فبينا هو يصلّي من الليل في الحجر في ليالي العشر ، وأنا خلفه إذ جاء رجل أبيض الرأس واللحية جليل العظام بعيد ما بين المنكبين عريض الصدر عليه ثوبان غليظان أبيضان في هيئة المحرم ، فجلس الى جانبه فكأنه ظن أنه يريد حاجة ، فخفف الصلاة ، فلما سلّم أقبل إليه بوجهه ، فقال له الرجل : يا أبا جعفر أخبرني عن بدء خلق هذا البيت كيف كان؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : ممن أنت؟

فقال له الرجل : من أهل الشام.

فقال له عليه‌السلام : إن أحاديثنا إذا اسقطت الى الشام جاءتنا صحاحا ، واذا اسقطت الى العراق جاءتنا وقد زيد فيها ونقص. ( يعني أن شيعتهم بالعراق كثيرا بأخذ ذلك بعضهم من بعض ، فيقع من ذلك الزيادة والنقصان بين النقلة ، وهم بالشام قليل ، فاذا سقط الحديث الى من يسقط إليه بقي على حاله ).

قال : ثم أقبل عليه فقال : بدء خلق هذا البيت ، إن الله تعالى لما قال للملائكة ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (١).

فردّوا عليه بقولهم : ( أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ

__________________

(١) البقرة : ٣٠.

٢٧٨

الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ).

وقالوا بأنفسهم : نحن الحافّون بعرشه والمسبّحون بحمده ، فيستخلف غيرنا ، ونحن أقرب إليه.

قال الله عزّ وجلّ : ( إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ). ( وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ». ) فعلموا أنهم قد وقعوا في الخطيئة ، فعاذوا بالعرش ، فطافوا سبعة أشواط ليسترضوا ربهم عزّ وجلّ ، فرضي عنهم.

وقال لهم : اهبطوا الى الارض فابنوا لي بيتا يلوذ به من أذنب من عبادي ، ويطوف حوله كما طفتم أنتم حول عرشي ، فأرضى عنهم كما رضيت عنكم.

فبنوا هذا البيت ، فهذا يا عبد الله بدء هذا البيت.

قال له الرجل : صدقت يا أبا جعفر ، فما بدء هذا الحجر؟

قال عليه‌السلام : إن الله عزّ وجلّ لما أخذ ميثاق بني آدم أجرى نهرا أحلى من العسل ، وألين من الزبد ، ثم أمر القلم [ فاستمدّ ] من ذلك النهر وكتب اقرارهم ، وما هو كائن الى يوم القيامة ثم ألقم الكتاب هذا الحجر. فهذا الاستلام الذي ترى إنما هو بيعة على إقرارهم.

قال جعفر بن محمد عليه‌السلام : وكان أبي إذا استلم الركن قال : « اللهمّ أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته ليشهد لي عندك بالوفاء ».

فقال له الرجل : صدقت يا أبا جعفر. ثم قام ، فلما ولى [ قال لي ] أبي : اردده عليّ. فخرجت وراءه وأنا وراءه الى أن حال الزحام بيني وبينه حتى الى الصفا ، فعدت الى الصفا ، فلم أره.

( فذهبت الى المروة فلم أره ، فجئت الى أبي ، فأخبرته. قال [ أبي ] : إني أراه الخضر عليه‌السلام ).

٢٧٩

فهذا يؤثر عن أبي جعفر محمد بن علي عليه‌السلام على ظاهر القول فيه وتحته من سرّ الحكمة في الباطن ما هو جوهره ولبابه وسرّ الحكمة فيه.

[ مع هشام بن عبد الملك ]

[١١٨٩] ويروى عن الزهري ، أنه قال : حج هشام بن عبد الملك ، فدخل المسجد الحرام معتمدا على يد سالم مولاه ، ورأى محمد بن علي جالسا في المسجد والناس حوله يسألونه.

فقال له سالم : يا أمير المؤمنين هذا محمد بن علي بن الحسين عليه‌السلام.

قال له هشام : المفتون به أهل العراق؟

قال : نعم.

قال [ هشام ] : اذهب إليه ، وقل له يقول لك أمير المؤمنين : ما الذي يأكل الناس يوم القيامة ويشربون الى أن يفصل بينهم.

فجاء إليه فذكر له ذلك.

فقال له أبو جعفر : إن الله عزّ وجلّ يقول : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ) (١). فيحشر الناس يوم القيامة على الارض. وتكون لهم الخبزة النقية يأكلون منها [ وأنهار متفجرة يشربون منها ] الى أن يفرغ من حسابهم.

فانصرف سالم الى هشام ، فأخبره بجوابه ، فرأى هشام أنه ظفر به.

فقال : الله اكبر ، ارجع إليه ، فقل له : ما شغلهم عن الأكل والشراب يومئذ ما هم فيه من هول يوم القيامة.

فرجع إليه فقال له ذلك.

__________________

(١) ابراهيم : ٤٨.

٢٨٠