شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار - ج ٣

القاضي النعمان بن محمّد التميميّ المغربي

شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار - ج ٣

المؤلف:

القاضي النعمان بن محمّد التميميّ المغربي


المحقق: السيد محمّد الحسيني الجلالي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٩

ومال عقيل بعد ذلك الى حبّ المال والكسب لما رأى الناس قد مالوا الى ذلك.

وأتى عليا عليه‌السلام وهو في الكوفة. فقال له : اعطني من المال ما اتسع فيه كما اتسع الناس (١).

فعرض عليه ما عنده ، فلم يقبضه.

وقال : اعطني ما في يديك من مال المسلمين.

فقال له : أما هذا فما إليه من سبيل ، ولكني أكتب لك الى مالي [ بينبع ] فنأخذ منه.

قال : ما يرضيني من ذلك شيئا وسأذهب الى رجل يعطيني (٢).

[١١٤٩] فأتى معاوية ، فسرّ معاوية بقدومه عليه ، وجمع وجوه أهل الشام ، وأحضره. وقال لهم : هذا أبو يزيد عقيل بن أبي طالب قد اختارنا على أخيه علي ورآنا خيرا له منه.

فقال له عقيل : هو كذلك يا معاوية إن فينا اللين في غير ضعف ، وعزة في غير صلف ، وأنتم بني أميّة فلينكم غدر ، وعزكم كبر.

__________________

(١) والى هذا المعنى يشير عليه‌السلام في كلامه : ( والله لقد رأيت عقيلا وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعا ، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم كأنما سودت وجوههم بالعظلم ، وعاودني مؤكدا. وكرر عليّ القول مرددا ، فأصغيت إليه سمعي ، فظن أني ابيعه ديني ، وأتبع قياده مفارقا طريقتي ، فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها ، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها ، وكاد أن يحترق من ميسمها. فقلت له : ثكلتك الثواكل يا عقيل ، أتئن من حديدة أحماها انسانها للعبه وتجرّني الى نار سجّرها جبارها لغضبه ، أتئن من الاذى ولا أإن من لظى ( شرح ابن أبي الحديد ١١ / ٢٤٥ ).

(٢) أخرجه البغوي ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه أن عقيلا جاء الى علي عليه‌السلام بالعراق ، فسأله ، فقال عليه‌السلام : أحببت أن أكتب لك الى مالي بينبع ، فاعطينك منه. فقال عقيل : لأذهبن الى رجل هو أوصل لي منك. فذهب الى معاوية ( ذخائر العقبى ص ٢٢٢ ).

قال ابن أبي الحديد : أن عقيل ذكر قصة الحديدة لمعاوية ، فجعل معاوية يتعجب ويقول : هيهات هيهات عقمت النساء أن يلدن مثله [ أي مثل علي عليه‌السلام ].

٢٤١

ثم نظر الى معاوية وتصفح وجوه من حوله ، وضحك.

فقال معاوية : ما أضحكك يا أبا يزيد ، أمنا ضحكت أم من علي؟

فقال : ضحكت والله بما قسم الله لعلي. اني كنت في مجلسه ، فنظرت الى من فيه ، فلم أر غير المهاجرين والانصار ونظرت الى من في مجلسك ، فلم أر غير الطلقاء وبقايا الاحزاب.

فقال معاوية لأهل الشام : ألا تعجبون من رجل يقول هذا القول وأنتم تقرءون قول الله عزّ وجلّ : ( تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ. سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ ) (١) وهو عمّ علي (٢).

وأقبل على عقيل ، فقال له : يا أبا يزيد أين ترى عمك أبا لهب الآن من النار ، وما هو الآن صانع فيها؟

فأقبل [ عقيل ] على أهل الشام ، فقال : ألا تعجبون من معاوية يقول مثل هذا القول ، وأنتم تقرءون : ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) (٣) وهي عمة معاوية.

ثم أقبل على معاوية ، فقال : إذا شئت أن تعلم أين أبو لهب من النار ، فأنت تراه فيها إذا دخلتها مفترشا عمتك حمالة الحطب ، فتعلم

__________________

(١) المسد : ١ ـ ٣.

(٢) والى هذا يشير أمير المؤمنين عليه‌السلام في قوله :

أبا لهب تبّت يدا أبا لهب

وصخرة بنت الحرب حمالة الحطب

خذلت نبي الله قاطع رحمه

فكنت كمن باع السلامة بالعطب

لخوف أبي جهل فأصبحت تابعا

له كذلك الرأس يتبعه الذنب

( الكنى والألقاب ١ / ١٤٣ ط صيدا ١٣٣٧ ه‍ )

(٣) المسد : ٤ و ٥.

٢٤٢

حينئذ أن الراكب أفضل من المركوب.

فندم معاوية على اعتراضه ، قال : ما كل هذا أردنا يا أبا يزيد ، وإنما أردنا أن نمازحك ونبسطك.

قال عقيل : وكذلك أيضا أردت أن نبسطك ونمازحك.

قال معاوية : ونحن يا أبا يزيد بعد هذه نفعل بك ما لم يفعله علي بك. فقد انتهى إليّ أنك سألته فمنعك ، ونحن نعطيك دون أن تسألنا. ـ أراد بذلك أن يرضيه ليلين في القول معه ـ

فقال : نعم ، فقد سألت عليا فبذل لي ماله ، فلم يرضني ، وسألته دينه ، فمنعني. وأنت تسمح بما يمنعه عليّ وتبخل بما بذله.

فسكت معاوية. فلما انصرف أهل الشام عنه ، فدعا بمال كثير فأعطاه عقيلا. وقال : يا أبا يزيد قد كنا نحبّ مقامك عندنا ، فأما بعد ما لقيناه منك ، فانصرف الى مكانك.

فقال عقيل : والله اني لأرغب في ذلك منك ، وما كثرة عطائك إياي وقلّته عندي سواء ، وان فضل ما بيننا عندي ليسير ، وما كنت من يسمح لك بعرضه ونقصه طمعا فيما يناله منك.

وانصرف.

[ عقيل يسقي الحجيج ]

[١١٥٠] وروى عطاء بن أبي رياح ، أنه قال : رأيت عقيل بن أبي طالب ينزع بغرب (١) على بئر زمزم ، وعليها غروب كثيرة يسقي الحجيج ومعه رجال من قومه وما معهم أحد من مواليهم ، وأن أسافل قميصهم لمبتلة بالماء ينزعون من قبل الحج في أيام منى ، وبعد الحج يبتغون بذلك

__________________

(١) كذا في الأصل.

٢٤٣

الأجر لا يكلونه الى عبد لهم ولا مولى.

وفي علي وعقيل يقول [ جعدة ] بن هبيرة المخزومي (١) هذا البيت :

أنا من بني مخزوم (٢) ان كنت سائلا

ومن هاشم أمي لخير قبيل

فمن ذا الذي ينوء عليّ بخاله

وخالي علي ذو الندا وعقيل

[ ضبط الغريب ]

ينوء : يقوم. أي يقوم بفخر خاله. يقال ناء : إذا نهض فتثاقل ، وناء اذا مال للسقوط.

قال أبو إسحاق : كان عقيل بن أبي طالب من أنسب الناس ، وكان يقول معد : يكنى : ابا فضاعة.

[ عبد الله بن عباس ]

وأما عبد الله بن عباس ، فكان من خاصة أولياء أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وأهل محبته ، وكان خصيصا به ، مائلا إليه يتولاه ، ويبرأ من أعدائه ، ويشهد [ معه ] حروبه ، وكان على ولايته الى أن مات بالطائف ، وقد كفّ بصره سنة ثمان وستين ، وهو ابن اثنين وسبعين سنة.

وقد تقدم من ذكر ولايته لعلي عليه‌السلام ، وقوله فيه كثير من ذكر فضائل علي عليه‌السلام ، وعلى ذلك كان العباس وولده كلهم من الولاية لعلي عليه

__________________

(١) وجعدة بن هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عابد بن عمران بن مخزوم ، وأمه : أم هاني بنت أبي طالب. شهد مع علي عليه‌السلام صفين وأبلى بها بلاء حسنا. ولاه خاله أمير المؤمنين عليه‌السلام على خراسان قالوا : وكان فقيها. توفي في حكومة معاوية ( الدرجات الرفيعة ص ٤١٢ ، الاستيعاب ١ / ٢٤٠ ) ومن الملاحظ أنه كان في الاصل ونسخة ز : جعفر بدل جعدة وهو خطأ وقد صححناه.

(٢) ونقل في الاستيعاب لعبد ربه المتوفى ٤٦٣ ه‍ ١ / ٢٠٤ : أبي من مخزوم. وفي شرح النهج لابن أبي الحديد ١ / ٧٩ : فمن ذا الذي ينائي.

٢٤٤

السلام ولولده من بعده ويعتقدون امامتهم بذلك يعرفون.

واذ قام من قام منهم ، وأظهروا السواد أو لباسه حزنا بزعمهم على الحسين عليه‌السلام ، وأظهروا القيام بثاره والدعوة الى الائمة من ولده ، فلما تمكنوا عادوا عليهم من العداوة والطلب والتوثب باضعاف ما كان من بني [ أميّة ] مثل ذلك إليهم ، فعادت ولايتهم اياه عداوة ، ومودتهم بغضا ، مما استأثروا بحقهم وتباعدوا مما توسلوا إليه بهم بعد الولاية والمودة وقرب القرابة (١).

__________________

(١) أقول : لم يتعرض المؤلف الى من استشهد في ركب الحسين عليه‌السلام من أصحابه ، ولذا نذكر أسماءهم نقلا عن كتاب تسمية من قتل مع الحسين عليه‌السلام تأليف الفضل بن الزبير بن عمرو بن درهم الاسدي الكوفي من أصحاب الامامين الباقر والصادق عليهما‌السلام.

الشهداء من أصحاب الحسين :

١ ـ سليمان مولى الحسين بن علي عليه‌السلام قتله سليمان بن عوف الحضرمي.

٢ ـ منجح مولى الحسين بن علي عليه‌السلام قتله حسان بن بكر الحنظلي.

٣ ـ قارب الديلمي مولى الحسين بن علي عليه‌السلام.

٤ ـ الحارث بن نبهان مولى حمزة بن عبد المطلب.

٥ ـ عبد الله بن يقطر رضيع الحسين بن علي. بالكوفة رمي به من فوق القصر فتكسر ، فقام إليه عبد الملك بن عمير اللخمي ، فقتله واحتز رأسه.

وقتل من بني أسد بن خزيمة :

٦ ـ حبيب بن مظاهر ، قتله بديل بن صريم الغفقاني ، وكان يأخذ البيعة للحسين عليه‌السلام.

٧ ـ أنس بن الحارث ، وكانت له صحبة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٨ ـ قيس بن مسهر الصيداوي.

٩ ـ سليمان بن ربيعة.

١٠ ـ مسلم بن عوسجة السعدي من بني سعد بن ثعلبة ، قتله مسلم بن عبد الله وعبيد الله بن أبي خشكارة.

وقتل من بني غفار بن مليل بن صمرة :

١١ و ١٢ ـ عبد الله وعبيد الله ابنا قيس بن أبي عروة.

١٣ ـ جون بن أحوى مولى لأبي ذر الغفاري.

٢٤٥

__________________

وقتل من بني تميم :

١٤ ـ الحر بن يزيد ، وكان قد لحق بالحسين بن علي بعد.

١٥ ـ شبيب بن عبد الله من بني نفيل بن دارم.

وقتل من بني تغلب :

١٦ و ١٧ ـ قاسط وكردوس ابنا زهير بن الحارث.

١٨ ـ كنانة بن عتيق.

١٩ ـ الضرغامة بن مالك.

وقتل من قيس بن ثعلبة :

٢٠ ـ جوين بن مالك.

٢١ ـ عمرو بن ضبيعة.

وقتل من عبد القيس من أهل البصرة :

٢٢ ـ يزيد بن قاسط.

٢٣ ـ عبد الله بن يزيد.

٢٤ ـ عبيد الله بن يزيد.

٢٥ ـ عامر بن مسلم.

٢٦ ـ سالم مولى عامر بن مسلم.

٢٧ ـ سيف بن مالك.

٢٨ ـ الأدهم بن أميّة.

وقتل من الأنصار :

٢٩ ـ عمرو بن قرظة.

٣٠ ـ عبد الرحمن بن عبد رب ، من بني سالم بن الخزرج ، وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام رباه وعلّمه القرآن.

٣١ ـ نعيم بن العجلان الأنصاري.

٣٢ ـ عمران بن كعب الانصاري.

٣٣ ـ سعد بن الحارث.

٣٤ ـ أبو الحتوف ابن الحارث.

وقتل من بني الحارث بن كعب :

٣٥ ـ الضباب بن عامر.

٢٤٦

__________________

وقتل من بني خثعم.

٣٦ ـ عبد الله بن بشر الاكلة.

٣٧ ـ سويد بن عمرو بن المطاع ، قتله هانئ بن ثبيت الحضرمي.

٣٨ ـ بكر بن حي التيملي من بني تيم الله بن ثعلبة.

٣٩ ـ جابر بن الحجاج مولى عامر بن نهشل من بني تيم الله.

٤٠ ـ مسعود بن الحجاج.

٤١ ـ عبد الرحمن بن مسعود بن الحجاج.

وقتل من عبد الله :

٤٢ ـ مجمع بن عبد الله.

٤٣ ـ عائذ بن مجمع.

وقتل من طي :

٤٤ ـ عامر بن حسان بن شريح بن سعد بن حارثة بن لام.

٤٥ ـ أميّة بن سعد.

وقتل من مراد :

٤٦ ـ نافع بن هلال الجملي ، وكان من أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٤٧ ـ جنادة بن الحارث السلماني.

٤٨ ـ واضح الرومي غلام جنادة بن الحارث.

وقتل من بني شيبان بن ثعلبة :

٤٩ ـ جبلة بن علي.

وقتل من بني حنيفة :

٥٠ ـ سعيد بن عبد الله.

وقتل من خولان :

٥١ ـ جندب بن حجير.

٥٢ ـ حجير بن جندب بن حجير.

وقتل من صيدا :

٥٣ ـ عمرو بن خالد الصيداوي.

٥٤ ـ سعد مولاه.

٢٤٧

__________________

وقتل من كلب :

٥٥ ـ عبد الله بن عمرو بن عياش بن عبد قيس.

٥٦ ـ أسلم مولى لهم.

وقتل من كندة :

٥٧ ـ الحارث بن امرؤ القيس.

٥٨ ـ يزيد بن زيد بن المهاصر.

٥٩ ـ زاهر صاحب عمرو بن الحمق ، وكان صاحبه حين طلبه معاوية.

وقتل من بجيلة :

٦٠ ـ كثير بن عبد الله الشعبي.

٦١ ـ مهاجر بن أوس.

٦٢ ـ سلمان بن مضارب ، ابن عمه.

٦٣ ـ النعمان بن عمرو.

٦٤ ـ الحلاس بن عمرو الراسبيان.

وقتل من خرقة جهينة :

٦٥ ـ مجمع بن زياد.

٦٦ ـ عباد بن أبي المهاجر الجهني.

٦٧ ـ عقبة بن الصلت.

وقتل من الازد :

٦٨ ـ مسلم بن كثير.

٦٩ ـ القاسم بن بشر.

٧٠ ـ زهير بن سليم.

٧١ ـ مولى لأهل شدة يدعى رافعا.

وقتل من همدان :

٧٢ ـ أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائدي ، وكان من أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قتله قيس بن عبد الله.

٧٣ ـ يزيد بن عبد الله المشرقي.

٧٤ ـ حنظلة بن أسعد الشبامي.

٢٤٨

__________________

٧٥ ـ عبد الرحمن بن عبد الله الارحبي.

٧٦ ـ عمار بن سلامة الدالاني.

٧٧ ـ عابس بن أبي شبيب الشاكري.

٧٨ ـ شوذب مولى شاكر.

٧٩ ـ سيف بن الحارث بن سريح.

٨٠ ـ مالك بن عبد الله بن سريح.

٨١ ـ همام بن سلمة القانصي.

٨٢ ـ سوار بن حمير الجابري ، مات لستة أشهر عن جراحته.

٨٣ ـ عمرو بن عبد الله الجندعي ، مات من جراحة كانت به على رأس سنة.

٨٤ ـ هانئ بن عروة المرادي بالكوفة ، قتله عبيد الله بن زياد.

٨٥ ـ بشير بن عمر.

٨٦ ـ الهفهاف بن المهند الراسبي من البصرة ، حين سمع بخروج الحسين عليه‌السلام ، فسار حتى انتهى الى العسكر بعد قتله فدخل عسكر عمرو بن سعد ثم انتضى سيفه وشد فيهم. [ وكان آخر من استشهد مع الحسين عليه‌السلام في أرض الطف ].

٢٤٩

( ذكر فضائل الائمة من ولد الحسين بن علي عليه السلام )

( ذكر فضل علي بن الحسين عليهما السلام )

وكان علي بن الحسين عليه‌السلام أعبد أهل زمانه وأفضلهم ، يشهد له بذلك الخاص والعام وكان يدعى سيد العابدين.

[ السجاد وواقعة الطف ]

وكان مع أبيه الحسين عليه‌السلام يوم الطف ، وهو وصيه. وقد ولد له : محمد بن علي وهو يومئذ في جملة العيال ، وكان علي بن الحسين عليه‌السلام يومئذ عليلا دنفا ( ثقيل العلة ، شديدها ) (١) ، فلم يستطع القتال ، وكان مع النساء يمرضنه.

وقتل علي الاصغر أخوه ، فلما أن قتلوا عن آخرهم حملوه مع جملة النساء والصبيان فرآه رجل من أهل الشام على ما هو عليه من العلة ، فرقّ له ، فأخذه إليه ، وقال علي بن الحسين عليه‌السلام : فكان يمرضني ويرفق بي ويبكي إذا رأى ما بي من الضعف والعلة ، وأسلمني النساء خوفا عليّ وظنوا به خيرا ، وأنه يسترني ، فلما أن صرنا الى الكوفة ذكر خبري لعبيد الله (٢) بن زياد ، فطلبني ،

__________________

(١) لسان العرب ٩ / ١٠٧.

(٢) وفي الاصل : عبد الله.

٢٥٠

فلم يجدني ، فسمعت النداء على أنه من وجد علي بن الحسين وجاء به فله ثلاثمائة درهم ، فدخل الرجل إليّ وأنا في منزله ، فقال : يا ابن بنت رسول الله قد تسمع النداء ، وأنا أخاف على نفسي إن كتمت أمرك ، وأخذ بيدي فشدها الى عنقي ، وأخرجني الى عبيد الله بن زياد ، وأخذ منه ثلاثمائة درهم [ وأنا انظر إليها ] (١).

ولما أن رآه اللعين عبيد الله بن زياد (٢) ، قال : أنت علي بن الحسين.

قال له عليه‌السلام : نعم.

قال : أولم يقتل الله علي بن الحسين؟

قال علي بن الحسين عليه‌السلام : كان لي [ أخ ] يسمى عليا ، فقتله الناس (٣).

قال عبيد الله : إن الله قتله.

قال علي عليه‌السلام : ( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) (٤).

فأمر عبيد الله اللعين ليقتل. فصاحت زينب بنت علي : حسبك من دمائنا ، أناشدك الله إن عزمت على قتله إلا قتلتني قبله.

__________________

(١) طبقات ابن سعد : مخطوط.

(٢) ولد سنة ٣٩ ه‍ وأبوه زياد بن سمية ، وهو ابن لعبيد الرومي لكن معاوية ألحقه بأبيه وكان يعرف بزياد ابن أبيه. وأم زياد : مرجانة ، وكانت مجوسية ، وقد اشتهرت بالبغي وقد فارقها زياد فتزوج بها شيرويه ، وكان كافرا ، ونشأ منذ طفولته عند زوج أمه ، ولما ترعرع اخذه أبوه ، وقد قال عبيد الله في احدى خطبه : أنا ابن زياد اشبهته من بين وطء الحصى ولم ينزعن فيه خال ولا ابن عم. قتله إبراهيم بن الاشتر قائد جيش المختار سنة ٦٧ ه‍ في خازر من أرض الموصل ( البداية والنهاية ٨ / ٢٨٤ ، عيون الاخبار ١ / ٢٩٩ ).

(٣) قال ابن الاثير في تاريخه ٣ / ٢٧ : قال عليه‌السلام : كان لي أخ يسمى عليا قتلتموه ، وان له منكم مطالبا يوم القيامة ( الحدائق الوردية ١ / ١٢٨ ).

(٤) الزمر : ٤٢.

٢٥١

وقال له بعض من حضره : هو على ما ترى من العلة ، وما أراه إلا ميتا عن قريب.

فتركه ، وصار مع جملة الحرم الى يزيد اللعين (١) فلما أن صاروا بين يديه قام رجل من الشام ، فقال : يا أمير المؤمنين نساؤهم لنا حلال.

فقال علي عليه‌السلام : كذبت إلا أن تخرج من ملة الاسلام ، فتستحل ذلك بغيرها.

فأطرق يزيد ، ولم يقل في ذلك شيئا.

ولما بلغ من النداء على رأس الحسين عليه‌السلام (٢) والاستهانة [ بحرمه ]

__________________

(١) وهو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ، ولد بالماطرون سنة ٢٥ ه‍ ثاني ملوك الدولة الاموية ، تولى الخلافة بعد وفاة أبيه سنة ٦٠ ه‍ وكان نزوعا الى اللهو ، ويروى له شعر رقيق ، وهو من أشقى الخلفاء توفي بحوارين من أرض حمص سنة ٦٤ ه‍ ( تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٥ ، تاريخ ابن الاثير ٤ / ٤٩ ).

(٢) وهو يترنم بهذه الأبيات :

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الاسل

لأهلّوا واستهلّوا فرحا

ثم قالوا يا يزيد لا تشل

قد قتلنا القرم من ساداتهم

و عدلناه ببدر فاعتدل

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

( اعلام النساء ١ / ٥٠٤ ، البداية والنهاية ٨ / ١٩٢ ) وذلك في محضر العقيلة ، والتي ردت عليه بخطبتها المشهورة منها : وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنان ، والاحن والاضغان. ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم :

لأهلّوا واستهلّوا فرحا

ثم قالوا يا يزيد لا تشل

منحنيا على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة تنكثها بمخصرتك ، وكيف لا تقول ذلك؟ وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة باراقتك دماء ذرية محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب ، وتهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم ، فلتردن وشيكا موردهم ، ولتودن إنك شللت وبكمت ، ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت.

اللهمّ خذ لنا بحقنا وانتقم ممن ظلمنا ، وأحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا ... ( بلاغات النساء لاحمد بن أبي طاهر ص ٢١ ، الخوارزمي في مقتله ٢ / ٦٤ ، السيدة زينب وأخبار الزينبيات للعبيدي

٢٥٢

ونساء من قتل معه من أهل بيته ما أراده ، وعلي عليه‌السلام على حاله من العلة. وما أراده الله تعالى من سلامته ، وأن لا تنقطع الامامة بانقطاعه. فسرحهم يزيد اللعين ، وانصرف الى المدينة.

[ عبادته ]

وهو امام الائمة ، وأبو الائمة ومنه تناسل ولد الحسين عليه‌السلام كلهم.

__________________

ص ٨٦ ، اللهوف ص ٧٩ ط ١٣٦٩ ه‍ ).

قال ابن تيمية المتوفى سنة ٧٢٨ ه‍ في رسالته ( سؤال في يزيد بن معاوية ) التي كتبها بعد قرون من واقعة الطف الرهيبة منتصرا ليزيد منكرا كونه المردد لشعر ابن الزبعري : ليت اشياخي ببدر شهدوا ص ١٤. وقال في ص ١٥ : إنه [ يزيد ] قتل الحسين تشفيا ، وأخذ بثار أقاربه من الكفار فهو أيضا كاذب مفتر. وقال أيضا في ص ١٧ : ومع هذا فيزيد لم يأمر بقتل الحسين ولا حمل رأسه الى بين يديه ، ولا نكث بالقضيب على ثناياه.

قال الغزالى : وقد زعمت طائفة أن يزيد بن معاوية لم يرض بقتل الحسين وادعوا أن قتله وقع خطأ.

وكيف يكون هذا وحال الحسين لا يحتمل الغلط لما جرى من قتاله ومكاتبة يزيد الى ابن زياد به ، وحثه على قتله ومنعه من الماء. وقتله عطشانا ، وحمل رأسه وأهله سبايا عرايا على اقتاب الجمال إليه ، وقرع ثناياه بالقضيب ، ولما دخل علي بن الحسين عليه‌السلام على يزيد قال : أنت ابن الذي قتله الله. فقال :

أنا علي ابن من قتلته. ثم قرأ ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ) ( تذكرة الخواص ص ٦٢ ).

ولما وفد مسلم بن زياد على يزيد بجله وكرمه تقديرا لأخيه عبيد الله بن زياد ، وقال له : لقد وجبت مودتكم ومحبتكم على آل أبي سفيان وولاه خراسان ( ينابيع المودة ١ / ١٤٩ ، الصراط السوي في مناقب آل النبي ص ٨٥ ، الفتوح ٥ / ٢٥٤ ).

وكتب إليه يزيد بعد مقتل الحسين عليه‌السلام : أفد عليّ لاجازيك على ما فعلت. ولما جاء استقبله يزيد ، وقبّل ما بين عينيه وأجلسه على سرير ملكه ، وقال للمغني : غن ، وللساقي : اسق. ثم قال :

اسقني شربة أروي فؤادي

ثم صل فاسق مثلها ابن زياد

موضع السرّ والامانة عندي

وعلى ثغر مغنمي وجهادي

وأوصله ألف ألف درهم ، ومثلها لعمر بن سعد ، وأطلق له خراج العراق سنة ( مرآة الزمان في تواريخ الاعيان ص ١٠٦ ).

٢٥٣

وليس للحسين عليه‌السلام عقب إلا منه. ولزم الخمول (١) للتقية والعبادة.

[١١٥١] وكان يقال له : ذو الثفنات لأنه كان بموضع السجود منه ( ثفنات كثفنات البعير ) ، وهي مباركه التي يبرك عليها من يديه ورجليه ـ لانه كان من علي بن الحسين في مواضع السجود مثل ذلك لادمانه اياه. ولانه كان يصلّي في كل يوم وليلة ألف ركعة (٢) ، وكان ربما سقط من ذلك شيء فجمع ، فلما أن مات وغسّل جعل معه في اكفانه.

[١١٥٢] ولمّا أن جرد ليغسّل وجدوا على عاتقه حبلا قد أثر مثل ذلك فسألوا عنه ابنه محمد عليه‌السلام ، فقال : والله ما علم بهذا غيري ، وما كان أطلعني عليه ، ولكني علمته من حيث لم يكن يعلم أني علمت به ، كان إذا جنّ الليل وهدأت العيون قام الى منزله ، فجمع كلما يبقى فيه من قوت أهله ، وجعله في جراب ، ورمى به على عاتقه ، وخرج ، فكنت أخرج في أثره مخافة عليه ، فأراه يقصد قوما في دورهم من أهل الفقر يفرق ذلك ، وهو متلثم لا يعرفونه ، وكنت كثيرا ما أجدهم قياما لا يعرفونه ، وكنت كثيرا ما أجدهم قياما على أبوابهم ينتظرون ، فاذا أقبل وأنا وراءه مستتر منه تباشروا. وقالوا : قد جاء صاحب الجراب ، فلا يزال كذلك يختلف حتى لا يكون في منزله

__________________

ولا أدري كيف يقول ابن تيمية ذلك الكلام رغم سعة اطلاعه كما يدعون إن لم يك متعمدا على التناسي وقلب الحقائق ، والله خير الحاكمين.

(١) من الصعب تسمية هذا الشكل من النضال بالخمول بل الاولى التعبير عنه بتغير اسلوب المواجهة مع الظالمين.

(٢) ولهذا يشير المؤلف في ارجوزته :

كانت له لغير معنى السمعة

في اليوم والليلة ألف ركعة

وأثر السجود في مساجده

فكان من ذلك في مشاهده

يدعوه من عمر البلادا

ذا الثفنات العابد السجّادا

( الارجوزة المختارة ص ١٨٦ )

٢٥٤

شيء ما يفضل من قوت أهله ، فهذا هو أثر ذلك الجراب.

[١١٥٣] وقيل : إنه كان في المدينة عدة بيوت يأتيهم قوتهم من علي بن الحسين عليه‌السلام ، ولا يدرون من حيث يأتيهم ذلك ، فما عرفوا ذلك حتى مات. فانقطع ذلك عنهم وعلموا أن ذلك كان من عنده.

وانما فعل ذلك لما جاء في الصدقة بالسرّ من الفضل (١). وقيل : إن تلك البيوت [ حصيت ] فوجدت مائة بيت ، في كل بيت جماعة من الناس.

[ من دعائه عليه‌السلام ]

[١١٥٤] وكان علي بن الحسين عليه‌السلام يصوم النهار ويقوم الليل ، فاذا أرقدت كل عين دعا بدعاء (٢) وكان يدعو به كل ليلة يقول فيه :

إلهي غارت نجوم سماواتك ، ونامت عيون خلقك ، وهدأت أصوات عبادك ، وغلقت ملوك بني اميّة عليها أبوابها ، وطاف عليها حرّاسها ، واحتجبوا عمّن يسألهم حاجة أو يبتغي منهم فائدة ، وأنت إلهي حيّ قيّوم لا تأخذك سنة ولا نوم ، ولا يشغلك شيء عن شيء.

أبواب سماواتك لمن دعاك مفتّحات ، وخزائنك غير مغلّقات ورحمتك غير محجوبة ، وفوائدك لمن سلكها غير محظورات. أنت إلهي الكريم الّذي لا تردّ سائلا من المؤمنين سألك ، ولا تحتجب عن طالب منهم أرادك ، لا وعزّتك ما تختزل حوائجهم

__________________

(١) راجع الكافي ٤ / ٨ وبحار الانوار ٤٦ / ٨٩ و ١٠٠.

(٢) قال طاوس الفقيه : رأيته يطوف من العشاء الى السحر ويتعبد ، فلما لم ير أحدا رمق الى السماء بطرفه وقال : الهي غارت ... ( بحار الانوار ٤٦ / ٨١ ).

٢٥٥

دونك ، ولا يقضيها أحد غيرك.

اللهمّ وقد ترى وقوفي ، وذلّ مقامي [ و ] موقفي بين يديك ، وتعلم سريرتي ، وتطلع على ما في قلبي ، وما يصلحني لآخرتي ودنياي.

إلهي وترقب الموت ، وهول المطّلع ، والوقوف بين يديك نقصني مطعمي ومشربي ، وغصني بريقي ، وأقلقني عن وسادي ، وهجعني ومنعني من رقادي.

إلهي كيف ينام من يخاف وثبات ملك الموت في طوارق الليل وطوارق النهار.

ثم يبكي حتى ربما أيقظ أهله بكاؤه ، فيفزعون إليه ، فيجدونه قد ألصق خدّيه بالتراب وهو يقول : ربّ أسألك الراحة والروح والأمن والأمان.

[١١٥٥] وروي عن طاوس اليماني (١) ، أنه قال : حججت فدخلت الحجر ليلا ، فرأيت علي بن الحسين عليه‌السلام فيه قائما يصلّي ، فدنوت منه ، وقلت : رجل من الصالحين ، لعلّي أسمع منه نداء (٢) ، فأنتفع به ، فسمعته يقول في دعائه وهو ساجد : عبدك بفنائك ، مسكينك بفنائك ، فقيرك بفنائك ، سائلك بفنائك.

ثم يدعو بما يريد.

__________________

(١) وهو أبو عبد الرحمن ، طاوس بن كيسان اليماني الخولاني وأمه قادسية ، وأبوه من النمر بن قاسط ، ولد سنة ٣٣ ه‍ ، وقيل إن اسمه ذكوان ولقبه طاوس.

وهو من فقهاء العامة ، وقال العلاّمة النوري في المستدرك ٣ / ٣١٩ : لم يشك أحد في كونه عامي المذهب ، وقال المامقاني في تنقيح المقال ٢ / ١٠٧ : هو من زهاد العامة ، وعدّه الشيخ الطوسي من أصحاب الامام السجاد عليه‌السلام ولعله لما روى ابن شهرآشوب عنه.

توفي حاجا بمكة قبل التروية سنة ١٠٦ وصلّى عليه هشام بن عبد الملك. ( تهذيب التهذيب ٥ / ٨ ).

(٢) وفي نسخة ز : دعاء.

٢٥٦

قال طاوس : فأخذتهنّ عنه ، فما دعوت بعد ذلك بهنّ في كرب إلا فرّج الله عليّ.

[١١٥٦] وقيل : إن سائلا يسأل في بعض سكك المدينة في جوف الليل.

فقال : أين الزاهدون في الدنيا ، الراغبون في الآخرة؟

فنودي من ناحية البقيع لا يعرف من ناداه ، ذلك علي بن الحسين.

[ حلمه عليه‌السلام ]

[١١٥٧] وقيل : إن [ الحسن بن الحسن ] بن علي وقف على [ علي ] بن الحسين ، فأسمعه ، [ وشتمه ] وعنده جماعة ، فسكت عليه‌السلام فلم يجبه ، فلما مضى قال لمن معه : قد سمعتم ما قال هذا الرجل؟

قالوا : سمعنا وساءنا ما سمعناه ولقد كنا نحبّ أن تقول.

فتلا عليه‌السلام : ( وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (١).

ثم قال : احبّ أن تقوموا معي الى [ منزله ] حتى تسمعوا ردّي عليه ، فانه لم ينبغ لي أن أردّ عليه في مجلسي.

فقام القوم معه ، [ وهم ] يرون أنه يستنصف منه. فلما أتى الى منزله استأذن عليه ، فخرج إليه ، وظنّ أنه إنما جاء ليتنصف منه ، فبدأه ، فواثبه بالكلام.

فقال : على رسلك يا أخي ، قد سمعت ما قلت في مجلسي ونحن في مجلسك ، فاسمع ما أقول لك : إن كان الذي قلت لي كما قلت فإنّي أسأل الله أن يغفر لي ، وإن لم يكن ذلك كما قلت فإنّي أسأل الله أن يغفر لك.

__________________

(١) آل عمران : ١٣٤.

٢٥٧

فاستحى الحسن ، وقام إليه وقبّل رأسه وما بين عينيه ، وقال : بل قلت لك والله ما ليس فيك ، واستغفره واعتذر إليه.

[١١٥٨] وروي عنه عليه‌السلام ، أنه كان إذا قام الى الصلاة تغير لونه ، وأصابته رعدة ، وحال أمره. وربما يسأله عن حاله من لا يعرف أمره في ذلك فيقول : إني اريد الوقوف بين يدي ملك عظيم.

[ السجاد والزهري ]

[١١٥٩] وقيل : إن الزهري (١) غارف ذنبا فخاف منه على نفسه ، فاستوحش من الناس ، وهام على وجهه ، فلقيه علي بن الحسين عليه‌السلام فقال له : يا زهري ، لقنوطك من رحمة الله التي وسعت كل شيء أعظم من الذنب الذي خشيت منه على نفسك.

فسكن الزهري الى قوله ، وقال : الله أعلم حيث يجعل رسالته. ثم وعظه علي بن الحسين عليه‌السلام بمواعظ ، وتلا عليه آيات [ من القرآن ] فيما قار به في التوبة (٢) والاستغفار. فتاب واستغفر ورجع الى أهله ، ولزم علي بن الحسين عليه‌السلام ، وكان يعدّ من أصحابه ، وكان يروي عنه ويحدث بفضله. وكذلك قال له بعض بني مروان : يا زهري ما فعل نبيك؟ ـ يعني علي بن الحسين عليه‌السلام ـ لما كان يرفع

__________________

(١) الزهري بالضم وسكون الهاء ، وهو محمد بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، ولد سنة ٥٨ ه‍ ، وهو من فقهاء المدينة ومن التابعين وكان مع عبد الملك بن مروان ومع ابنه هشام ، واستقصاه يزيد بن عبد الملك ، وكان يبغض عليا وينال منه ، قال السيد ابن طاوس : إنه عدوّ منهم.

روى الزهري عن عائشة ، قالت : كنت عند النبي إذ أقبل العباس وعلي ، فقال : يا عائشة : إن سرك أن تنظري الى رجلين من أهل النار فانظري الى هذين قد طلعا ، فنظرت فاذا هما العباس وعلي بن أبي طالب ( شرح النهج ١ / ٣٥٥ ) وتوفي سنة ١٣٥ ه‍ ودفن في ضيعة خلف وادي القرى تسمى سغب. ( معجم البلدان ٥ / ٢٧٧ ).

(٢) وفي نسخة ز : التورية.

٢٥٨

به الزهري ويذكر من فضله.

[١١٦٠] وكان علي بن الحسين عليه‌السلام يقول : الحلم هو الذل (١).

[١١٦١] وقيل : إن جارية له كانت قائمة عليه توضئه ، فسقط الإبريق من يدها على وجهه ؛ فشجه ؛ فنظر إليها ، فقالت : يا مولاي إن الله عزّ وجلّ يقول : ( وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ ).

قال عليه‌السلام : كظمت غيظي.

قالت : ويقول : ( وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ ).

قال عليه‌السلام : قد عفوت عنك.

__________________

(١) إن الحلم من الصفات الحميدة التي تزين الانسان وترفعه من التسرع في مواجهته للمشاكل بما لا يحسن عواقبه ، وتزيده رفعة وعلوا. وقد عدّ علماء الاخلاق أسبابا للحلم :

١ ـ الرحمة للجاهل : وهو من أكد أسباب الحلم.

٢ ـ الترفع عن السباب : وذلك من شرف النفس وعلو الهمة.

٣ ـ القدرة على الانتصار : وذلك من سعة الصدر ، وحسن الثقة.

٤ ـ الاستهانة بالمحلوم عنه ، وفيه قال عمر بن علي :

سكتّ عن السفيه فظن أني

عييت عن الجواب وما عييت

إذا نطق السفيه فلا تجبه

فأحسن من اجابته السكوت

٥ ـ الاستحياء من الجواب : وهذا من صيانة النفس وكمال المروءة.

٦ ـ التفضل على السباب : وهو في نهاية الكرم وعلو الهمة وحب التفضل والتألف.

٧ ـ استكفاف السباب وقطع الجواب : وهذا يكون من الحزم.

٨ ـ الوفاء ليد سالفه وحرمة لازمه : وهذا يكون من الوفاء وحسن العهد.

٩ ـ الخوف من العقوبة على الجواب : وهذا من ضعف النفس وربما اقتضاء الحزم.

١٠ ـ المكر وتوقع الفرص الخفية : وهذا من الدهاء.

١١ ـ قصد ايلامه وتزايد غضبه بالسكوت عنه.

فاذا عدم أحد هذه الاسباب كان ذلا لا حلما. والى هذا المعنى يشير الامام زين العابدين عليه‌السلام بقوله : الحلم هو الذل. فالحلم : هو ضبط النفس عن هيجان الغضب. فاذا فقد الغضب بعد سماع ما يغضب كان ذلك من ذل النفس ومهانتها وقلة الحمية وفقد الشجاعة والغيرة. قال الشاعر :

... أرى الحلم في بعض المواضع ذلة

وفي بعضها عزّا يسود فاعله

٢٥٩

قالت : يقول : ( وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (١).

قال عليه‌السلام : فأنت حرة لوجه الله.

[ الله أعلم حيث يجعل رسالته ]

[١١٦٢] وولّي هشام بن اسماعيل المخزومي (٢) المدينة ، فنال علي بن الحسين عليه‌السلام من الاذى والمكروه عظيما ، ثم عزله الوليد (٣) بعد ذلك وأمر أن يوقف للناس ، فلم يكن أخوف من أحد [ كخوفه ] من علي بن الحسين عليه‌السلام لما ناله منه أن يرفع ذلك عليه ويقول فيه ويشكره ، فلم يقل فيه شيئا ونهى خاصته وأهل بيته ، وكل من سمع له من القول فيه بسوء.

ثم أرسل إليه وهو واقف عند دار مروان : انظر ما أعجزك من مال تؤخذ به فعندنا ما يسعك ، وطب نفسا منا ، ومن كل من يطيعنا.

فنادى هشام ـ وهو قائم ـ بأعلى صوته : الله أعلم حيث يجعل رسالته.

[١١٦٣] ونادى علي بن الحسين عليه‌السلام يوما مملوكا له ، فلم يجبه وهو يسمعه ، فقال : يا بني اناديك فلا تجيبني أما تخاف أن اعاقبك؟

قال : لا والله ما أخافك وذلك الذي حملني على أن لم اجبك.

فقال علي بن الحسين عليه‌السلام : الحمد الله الذي جعل مملوكي آمنا مني (٤).

__________________

(١) آل عمران : ١٣٤.

(٢) وكان يؤذي علي بن الحسين ويشتم عليا على المنبر وينال منه. ( تذكرة الخواص ص ٣٢٨ ).

(٣) وهو الوليد بن عبد الملك.

(٤) وفي الارشاد ص ١٤٧ الحديث ١٧ : يأمنني.

٢٦٠