التشيّع

الدكتور محمد زين الدين

التشيّع

المؤلف:

الدكتور محمد زين الدين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-514-4
الصفحات: ٢١٩

فكان لانتقال المدرسة إلى هذا الجو الفكري على يد علماء كبار أمثال المفيد والمرتضى والطوسي أثر كبير في الحركة الفكرية القائمة في حينه ، فقد تكاملت مدرسة الفقه الشيعي في (قم والري) وتأصلت ، ثم ظهرت ملامح الاستقلال عليها وتبلورت أصولها وقواعدها في (بغداد).

ومن المستحسن بنا ـ ونحن بصدد دراسة الفقه الشيعي في هذا العصر ـ أن نمرّ سريعا على تراجم ألمع فقهاء هذه الدورة :

١ ـ المفيد (٣٣٦ ـ ٤١٢ هـ) : أبو عبداللّه محمد بن محمد بن النعمان المفيد البغدادي ، ولد في (عُكبرا) من نواحي الدجيل ، وانتقل منها في أيام صباه إلى بغداد بصحبة والده ، ونشأ في بغداد ، وتفرغ منذ نعومة أظفاره لطلب العلم ، فعرف وهو بعد صغير يرتاد حلقات الدراسة بالفضل والنبوغ.

وقد قدّر للشيخ المفيد أن يكون رائدا فكريا لهذا العصر من عصور الفقه الإسلامي. وأن يدخل تغييرات وتحسينات كثيرة على الفقه ويطور من مناهجه وقواعده.

ومن استعراض حياة المفيد يستظهر الباحث أن الشيخ المفيد استطاع أن يغيّر الجو الفكري في بغداد حاضرة العالم الإسلامي يومذاك ، وأن يعزز ندوات الفقه والكلام ، ويجذب إلى نفسه طلاب العلم حتى كاد أن يغطي على المدارس الفقهية والكلامية الأخرى والفقهاء والمتكلمين من أتباع سائر المذاهب.

٨١

وقد كان الفقهاء والمتكلمون يقصدونه من أقطار بعيدة ، وكان بيته ندوة عامرة بحديث الفقه والكلام ، والنقاش والأخذ والرد.

٢ ـ المرتضى (٣٥٥ ـ ٤٣٦ هـ) : تلمّذ المرتضى علم الهدى ، وأخوه الشريف الرضي ، على الشيخ المفيد وعنى بهما الشيخ عناية فائقة ، وتفرغ المرتضى في الفقه بجانب تخصصه في الأدب.

وقد خلف استاذه المفيد ، وتولّى بنفسه مهمة التدريس ، وزعامة الطائفة ، واحتشد حوله الطلاب. وكان يُجري عليهم حقوقا تختلف حسب مكانة الطالب منه ومؤهلاته.

وحاول السيد المرتضى أن يتابع خطوات أستاذه المفيد في تطوير مناهج الفقه ودراسة الأصول ، فأوتي حظا وافرا في هذا المجال ، وطوَّر كثيرا من مناهج الفقه ، وكتب الأصول ودرّسها.

وربما يصح اعتباره من أسبق من ارتاد هذا الحقل من حقول الفكر الاسلامي ، وفتح كثيرا من مسائل الأصول وبنى الفروع على الأصول.

وكتابه (الذريعة) خير شاهد على ما نقول ، فمن يقرأ (الذريعة) يجد فيه الملامح الأولية لنشوء علم الأصول.

٣ ـ الشيخ الطوسي (٣٨٥ ـ ٤٦٠ هـ) : ولد شيخ الطائفة في طوس في شهر رمضان سنة ٣٨٥ ، بعد أربع سنين من وفاة الشيخ الصدوق ، وهاجر إلى العراق ، فهبط بغداد سنة ٤٠٨ وهو ابن ثلاث وعشرين سنة ، وكانت زعامة المذهب

٨٢

الجعفري يومذاك لشيخ الامة وعلم الشيعة محمد بن محمد بن النعمان الشهير بالشيخ المفيد ، فلازمه ملازمة الظل ، وعكف على الاستفادة منه ، وأدرك شيخه الحسين بن عبيداللّه ابن الغضائري المتوفى سنة ٤١١ ، وشارك النجاشي في جملة من مشائخه.

وكان للمفيد والمرتضى أثر كبير في تكوين ذهنية الشيخ الطوسي وثقافته. وكان في هذه الفترة يعيش تجربة تطوير البحث الفقهي والأصولي في ظل أستاذيه الكبيرين ، وكانت فترة مخاض تمخضت عنها المدرسة الفقهية الجديدة. التي تولّى زعامتها بعد وفاة أستاذه السيد المرتضى سنة ٤٣٦ هـ.

انتقل الشيخ الطوسي إلى النجف الأشرف سنة ٤٤٨ حينما كُبس على داره ببغداد وبقي في النجف حتى وفاته سنة ٤٦٠ هـ (١).

لقد اتيح للشيخ الطوسي أن يبلغ بالمدرسة ، التي فتح أبوابها أستاذه المفيد والمرتضى ، إلى القمة ، ويفرض وجودها على الأجواء الثقافية في بغداد وفي العراق عامة. حتى أن الخليفة القائم بأمر اللّه بن القادر باللّه جعل له كرسي الافادة والبحث ، ونصبه لهذا المكان الرفيع ، وكان لكرسي الافادة والكلام مقام كبير يومذاك ببغداد.

وفي بيان دور الشيخ الطوسي في الفقه وأصوله يقول السيد الخوئي أحد أبرز فقهاء عصره : «إنّ الشيخ الطوسي لم يكن وجوده ودوره على الخطّ

__________________

(١) المنتظم ٨ : ١٧٩.

٨٣

العلمي تعبيرا عن مجرّد إضافة عددية إلى العلماء الذين سبقوه ، وإنّما كان منطلق رحلة جديدة من تطوّر الفكر الفقهي والأصولي في الإطار الشيعي ، وبالرغم من أنّ طاقات علمية تدريجية ـ مهّدت لهذا المنطلق ـ اندمجت فيه ، من قبيل العطاءات العلمية التي تعاقبت من ابن أبي عقيل ، وابن الجنيد ، والشيخ المفيد ، والسيد المرتضى قدّس اللّه أرواحهم ، فإنّ نبوغ الشيخ الطوسي هو الذي استطاع أن يصبّ كلّ تلك الطاقات في بناء علمي واحد ، ويضيف إليها من عطائه وإبداعه ما هيّأ للعلم أسباب الانتقال إلى مرحلة جديدة من مراحل النموّ والتطوّر» (١).

ملامح المدرسة :

١ ـ أولى هذه الملامح : أن الفقه خرج في هذا الدور عن الاقتصار على استعراض نصوص الكتاب ، وما صح من السنّة ، إلى معالجة النصوص ، واستخدام الأصول والقواعد.

وفي هذه المرحلة انقلبت عملية (الاستنباط) إلى صناعة علمية لها اصولها وقواعدها ، وانفصل البحث الأصولي عن البحث الفقهي وأفرد بدراسات ومطالعات خاصة ، وقام البحث الفقهي على نتائج هذه الدراسات

__________________

(١) من رسالة السيد الخوئي إلى المؤتمر الألفي الذي عقد في مدينة مشهد المقدّسة بإيران سنة ١٣٨٥ هـ بمناسبة الذكرى الألفية لولادة الشيخ الطوسي قدس‌سره والرسالة مطبوعة في بداية الجزء الثاني من أعمال المؤتمر المذكور.

٨٤

والمطالعات.

٢ ـ ومن ملامح هذا العصر : تفريع المسائل الفقهية واستحداث فروع جديدة لم تتعرض لها نصوص الروايات.

والسر واضح ، فلم يقدَّر للفقه الجعفري أن يدخل قبل هذا العصر دور المعالجة والصناعة ، وتفريع فرع على فرع آخر ، أو حكم شرعي أو قاعدة شرعية تحتاج إلى شيء أكثر من استعراض نصوص الأحكام والقواعد ، فلا يتم ذلك عادة من غير المعالجة والصناعة ، وهذا لم يتوفر للبحث الفقهي قبل هذا العهد.

٣ ـ والظاهرة الثالثة من ملامح هذا العصر : ظهور (الفقه المقارن) أو (الخلافي). فحينما تمركزت المدرسة الشيعية في الفقه في بغداد وفرضت وجودها على الأجواء العلمية في حاضرة العالم الإسلامي ، أدّى ذلك إلى خصوبة البحث الفقهي ، فالخلاف والانشقاق دائما يؤدي إلى الخصوبة ، لا العقم.

وكان من آثار ذلك أن تفرغ فقهاء الشيعة لبحث المسائل الخلافية بصورة موضوعية ، وبشكل مسهب وظهر هذا النوع من البحث الفقهي لأول مرة في هذا العصر على يد المفيد والمرتضى والطوسي.

وتوسع الشيخ الطوسي بشكل خاص لدراسة هذا الجانب من البحث الفقهي في كتابه الكبير (الخلاف) بشكل موسع تناول فيه المسائل الفقهية لدى

٨٥

الشيعة والسنّة في مختلف أبواب الفقه ، وتعرض في كل مسألة لما يسند الجانبين من الأدلة ، وناقش آراء المذاهب الأخرى في كثير من المسائل. والكتاب ـ رغم قدمه ـ قيِّم لا يستغني عنه باحث فقيه.

وقبله كتب السيد المرتضى كتاب (الانتصار) ويقال إن له أيضا : (متفردات الامامية) صنفه للوزير عميد الدين في بيان الفروع التي شنع على الشيعة بأنهم خالفوا فيها الاجماع.

وقبل الجميع ظهر كتاب (الاعلام فيما اتفقت الامامية عليه من الاحكام مما اتفقت العامة على خلافهم فيه) للمفيد ، ألفه بطلب تلميذه المرتضى.

وبهذا يتّضح أنّ فقهاء الشيعة هم أوّل من فتح باب الدراسات الفقهية المقارنة بين المذاهب الإسلامية ، حيث لم يسبقهم إلى هذا أحد.

٤ ـ ومن ملامح هذا العصر : ظهور (الاجماعات) والاستدلال بها ، ذلك أن توسع البحث الفقهي وتكامله دفع الفقهاء إلى استكشاف أدلة جديدة للاستنباط ، فيما إذا لم يجدوا في المورد نصا أو لم يقتنعوا بسلامة النص من حيث السند ، أو الدلالة.

فوجدوا في إجماع فقهاء المذاهب عامة ، أو فقهاء الشيعة في عصر واحد ، دليلاً على وجود نص شرعي يجوز الاعتماد عليه.

وظهر الاحتجاج بالاجماع بصورة واضحة في هذا العصر وعند الشيخ الطوسي بصورة خاصة.

٨٦

٥ ـ مدرسة الحلة ، ومدرسة حلب

مدرسة الحلة :

برزت (مدرسة الحلة الفقهية) قبل احتلال (بغداد) على يد هولاكو التتار سنة ٦٥٦ هـ.

وحينما أحتلت بغداد من قبل المغول اجتمع في الحلة عدد كبير من الطلاب والعلماء ، وانتقل معهم النشاط العلمي من (بغداد) إلى (الحلة) ، واحتفلت هذه البلدة وهي يومئذ من الحواضر الاسلامية الكبرى بما كانت تحتفل به (بغداد) من وجوه النشاط الفكري ، ندوات البحث والجدل ، وحلقات الدراسة ، والمكاتب ، والمدارس ، وغيرها.

ولكي نلمس أثر هذا العصر وفقهائه في تطوير مناهج البحث الفقهي نستعرض بايجاز تراجم بعض رجال هذه المدرسة :

١ ـ ابن إدريس الحلي (ت / ٥٩٨ هـ) :

كانت بداية خروج الفكر الفقهي عن دور التوقّف النسبي الذي أصاب مدرسة النجف بعد وفاة الشيخ الطوسي سنة ٤٦٠ه ، على يد الفقيه المبدع محمد بن أحمد بن إدريس الحلي ، إذ بث في الفكر الفقهي روحا جديدة ، وكان كتابه الفقهي (السرائر) إيذانا ببلوغ الفكر العلمي في مدرسة الشيخ إلى مستوى التفاعل مع أفكار الشيخ ونقدها وتمحيصها ، حيث أبرز في كتابه هذا العناصر الأصولية في البحث الفقهي وعلاقتها به بصورة أوسع ممّا يقوم به كتاب

٨٧

المبسوط للشيخ الطوسي ، كما إنّ الاستدلال الفقهي في السرائر أوسع منه في كتاب المبسوط.

إنّ الفكر العلمي قد نما واتّسع في عهد ابن إدريس وعلى يديه بكلا جناحية الأصولي والفقهي حتى وصل إلى المستوى الذي يصحّ للتفاعل مع أراء الشيخ الطوسي ومحاكمتها.

واستمرّت الحركة العلمية التي نشطت في عصر ابن إدريس تنمو وتتّسع وتزداد ثراء عبر الأجيال ، وبرز في تلك الأجيال نوابغ كبار صنّفوا في الأصول والفقه وأبدعوا ، سنقتصر على ذكر بعضهم ، ويأتي في طليعتهم :

٢ ـ المحقق الحلي (٦٧٦ هـ) : نجم الدين أبو القاسم جعفر بن سعيد الحلي ، رائد مدرسة الحلة الفقهية ومن كبار فقهاء الشيعة.

وكان مجلسه يزدحم بالعلماء والفضلاء ممن كانوا يقصدونه للاستفادة من حديثه ، والاستزادة من علمه (١).

خلّف المحقق الحلّي كتبا قيمة في الفقه لايزال الفقهاء يتناولونها ، ويتعاطونها باعتزاز كـ (شرايع الاسلام) في مجلدين ، وكتاب (النافع) ، وكتاب (المختصر النافع) ، وكتاب (المعتبر) في شرح المختصر ، وكتاب (نكت النهاية) ، وكتاب (المعارج) في أصول الفقه وغيرها.

٣ ـ العلامة الحلي (٦٤٨ ـ ٧٢٦ هـ) : جمال الدين حسن بن يوسف بن

__________________

(١) الكنى والألقاب ٣ : ١٣٤ ، مجالس المؤمنين ١ : ٥٧ مترجم عن الفارسية.

٨٨

علي بن المطهر ، ولد في الحلة سنة ٦٤٨ هـ ونشأ فيها ، وتوفي سنة ٧٢٦ هـ.

تتلمذ في الفقه على خاله المحقق الحلي ، وفي الفلسفة والرياضيات على المحقق الطوسي ، فنشأ كما أراد أستاذاه ، وانتقلت الزعامة في التدريس والفتيا إليه بعد وفاة أستاذه المحقق الحلي.

وقد قُدّر للعلامة الحلي بفضل ذلك أن يسهم إسهاما فعالاً في تطوير مناهج الفقه والأصول ، وأن يوسع دراسة الفقه.

وتعتبر موسوعتة الفقهية الجليلة (التذكرة) أول موسوعة فقهية من نوعها في تاريخ تطوير الفقه الشيعي من حيث السعة والمقارنة والشمول ، وتطور مناهج البحث. كما قُدّر له أن يتفرغ لدراسة المسائل الخلافية بين (فقهاء الشيعة) بصورة مستقلة في كتابه الكبير (المختلف).

٤ ـ فخر المحققين (٧٧١ هـ) : أبو طالب محمد بن الحسن بن يوسف بن المطهر من وجوه الطائفة وأعيانها ، تلمذ على أبيه العلامة الحلي ، ونشأ برعايته ، وقرأ عليه مختلف العلوم النقلية والعقلية ، وبرز في ذلك كله.

أكمل بعض تآليف والده العلامة كـ (الألفين) وغيره ، وشرح البعض الآخر كـ (القواعد).

٥ ـ الشهيد الأول (٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ) : أبو عبداللّه محمد بن الشيخ جمال الدين مكي بن شمس الدين محمد الدمشقي الجزيني.

ولد في جزين من بلدان جبل عامل ، وهاجر إلى الحلة لطلب العلم. تتلمذ

٨٩

على فخر المحققين بالحلة ولازمه ، وتتلمذ على آخرين من تلاميذ العلامة الحلي في الفقه وأصوله ، أشهرهم الفقيه السيد عميد الدين الحسيني (ت / ٧٥١ هـ) ، ابن أخت العلاّمة الحلي.

زار كثيرا من حواضر العالم الاسلامي في وقته ، كـ (مكة المكرمة) و (المدينة المنورة) و (بغداد) و (مصر) و (دمشق) و (بيت المقدس) و (مقام الخليل إبراهيم) ، واجتمع فيها بمشايخ أهل السنّة ، وأتاحت له هذه الأسفار نوعا من التلاقح الفكري بين مناهج البحث الفقهي والأصولي عند الشيعة والسنّة.

وقرأ كثيرا من كتب السنّة في الفقه والحديث وروى عنهم ، حتى قال في إجازته لابن الخازن : «إني أروي عن نحو أربعين شيخا من علمائهم بمكة والمدينة ودارالسلام بغداد ومصر ودمشق وبيت المقدس ومقام الخليل إبراهيم».

خلف كتبا كثيرة تمتاز بروعة البيان ، ودقة الملاحظة ، وعمق الفكرة وسعة الأفق : منها (الذكرى) و (الدروس الشرعية في فقه الامامية) و (غاية المراد في شرح نكت الارشاد) وكتاب (البيان) و (الباقيات الصالحات) و (اللمعة الدمشقية) و (الألفية) (والنقلية) و (الاربعون حديثا) وكتاب (المزار) و (خلاصة الاعتبار في الفقه والاعتمار) و (القواعد) وغير ذلك.

استشهد رضي‌الله‌عنه بدمشق. حيث قتل فيها بالسيف ، ثم صلب ، ثم رجم ثم

٩٠

أحرق بفتوى خبيثة طائفية ظالمة أصدرها بحقّه بعض الخبثاء لعنهم اللّه ، بعد ما حبس سنة كاملة في قلعة الشام في محنةٍ أليمةٍ نعرض عنها هنا.

ملامح المدرسة :

١ ـ تنظيم أبواب الفقه :

في هذه المدرسة لأول مرة نلتقي بكتاب (الشرايع) للمحقق الحلي رحمه‌الله بتنظيم رائع لابواب الفقه ، استمر عليه فقهاء الشيعة بعد ذلك إلى العصر الحاضر. فقد قسم المحقق الحلي كتابه (شرايع الاسلام) إلى أقسام أربعة :

الأوّل العبادات ، الثاني العقود ، الثالث الايقاعات ، الرابع الأحكام.

وينطلق إلى هذا التقسيم الرباعي بالشكل الثاني :

الحكم الشرعي إما أن يتقوَّم بقصد القربة أم لا ، والأوّل العبادات.

والثاني إما أن يحتاج إلى اللفظ من الجانبين الموجب والقابل أو من جانب واحد ، أو لايحتاج إلى اللفظ ، فالأوّل العقود ، والثاني الايقاعات ، والثالث الأحكام ، وبذلك تندرج أبواب الفقه في أقسام أربعة كما تقدم.

وهذا تقسيم رائع يجمع مختلف أبواب الفقه ، وهي من حصيلة هذه المدرسة ، وتمت على يد (المحقق الحلي) بالذات.

٢ ـ وظهرت في هذه الدورة الكتابة الفقهية الموسوعية ، فألف العلامة الحلي موسوعته القيِّمة (تذكرة الفقهاء) في الفقه المقارن ، وهو عمل فقهي جليل لم يؤلَّف مثله بعده في الفقه المقارن في السعة والاستيعاب.

٩١

فقد حاول في كتابه هذا أن يجمع آراء مختلف المذاهب الاسلامية ، ويناقش ذلك كله بموضوعية وهدوء يعز مثله في الدراسات المقارنة الأخرى.

٣ ـ حصل الاختلاف في بعض مسائل الفروع الفقهية في هذا العصر بين فقهاء الامامية أنفسهم نتيجة لابتعادهم عن عصر الإمام ، واختلافهم في سلامة الروايات من حيث السند والدلالة. وكان لابد للفقيه نتيجة لتشعب الآراء والمذاهب في استنباط الأحكام وتذوّق المسائل ، أن يلمَّ بمختلف وجوه الرأي في المسألة حتى يستطيع أن يحكم في المسألة على ضوء استنباطه.

فلبّى هذه الحاجة العلامة الحلي ، حيث جمع المسائل المختلف فيها بين علماء الطائفة في كتابه الكبير الضخم (المختلف).

ولئن كان الشيخ الطوسي بلغ قمة الفكر الفقهي لمدرسة بغداد فقد بلغ العلامة الحلي قمة الفكر الفقهي لمدرسة الحلة.

٩٢

«جدول لبيان تنقل الزعامة للحركة العلمية الإمامية»

٩٣

مدرسة حلب :

تعد مدرسة حلب هي الأخرى امتدادا لمدرسة بغداد ، وقد كانت مواكبة زمانا لمدرستي النجف والحلّة. إذ كانت بدايتها على يد تلامذة الشريف المرتضى ، الذي كان قد بعث تلميذه المقرب إليه والمقدم لديه الشيخ حمزة بن عبد العزيز الديلمي المعروف بسلاّر ، إلى حلب ، خليفة عنه يقوم بوظيفة القضاء والإفتاء والتدريس.

وكذلك أعاد إليها ابنها وتلميذه الفقيه الشيخ أبا الصلاح الحلبي ، ليكون فيها خليفته القاضي والمفتي والمدرس.

وقد التف حولهما من كان فيها من العلماء والطلاب ، ومارس كل منهما دوره بإخلاص وجدية في بعث الحركة العلمية.

واشتهر من تلامذة الشيخ أبي الصلاح التالية أسماؤهم :

ـ الشيخ عبد الرحمن بن أحمد النيسابوري.

ـ الشيخ بواب بن الحسن.

ـ الشيخ ثابت بن أحمد بن عبد الوهاب الحلبي.

ـ الشيخ علي بن منصور الحلبي.

واشتهر من تلامذة الشيخ الطوسي في حلب : الشيخ كردي بن علي الفارسي ، الذي «كان يقول بوجوب الاجتهاد عينا ، وعدم جواز التقليد ، قرأ

٩٤

على الشيخ الطوسي ، وبينهما مكاتبات وسؤالات وجوابات» (١).

ومن أشهر علماء حلب : السيد أبو المكارم حمزة بن علي بن زهرة الحسيني المتوفى سنة ٥٨٥ هـ ، وكتابه (الغنية) من أشهر المتون الفقهية المراجع.

ومنهم تاج الدين بن محمد بن حمزة بن زهرة الحسيني نقيب حلب الذي كان حيا سنة ٧٥٣ هـ ، صاحب كتاب (غاية الاختصار في البيوتاب العلوية المحفوظة من الغبار).

نكتفي هنا بهذا القدر ، عند هذه الحقبة ، تجنبا للاطالة ، علما أن ثقل المدرسة الشيعية قد عاد ثانية إلى النجف ، ثم كربلاء والشام في عهد الشهيدين الأوّل والثاني ، ثم النجف ثالثة تشاركها أصفهان ، وتستمر النجف في ازدهارها ، لتشاركها في الحقبة الاخيرة قم أيضا.

__________________

(١) إبراهيم نصر اللّه / حلب والتشيع : ٩٤ ، ط ١ ، ١٤٠٣ هـ.

٩٥

«جدول المراكز الرئيسة للفقه الإمامي»

«وفق تسلسلها الزمني»

٩٦

دُور الكتب الكبرى

عمل علماء الشيعة في عهود الاستقرار على فتح المراكز العلمية لتهيئة المراجع وتوفير أدوات البحث وإعداد الأجواء العلمية المناسبة للدراسة والتأليف .. وكان من هذا أن أنشئت المراكز التالية :

١ ـ مكتبة سابور «دار العلم» :

كانت هذه الخزانة مفخرة أدبية رائعة ، ومأثرة أسداها إلى عشاق البحث ، رجل جمع بين الأدب والسياسة ، فخلد التاريخ ذكره بها.

ذلك الرجل ، هو «أبو نصر سابور بن أردشير» ، المتوفى سنة ٤١٦ هـ (١٠٢٥ م) ، وهو الذي وزر لبهاء الدوله البويهي ثلاث مرات ، ووزر أيضا لشرف الدولة. وكان سابور كاتبا سديدا ، عفيفا عن الأموال ، كثير الخير. غير أن أشهر ما اشتهر به كان خزانة الكتب التي أنشأها ببغداد في محلة الكرخ سنة ٣٨١ هـ (٩٩١ م) ، ووقف عليها الوقوف. فإنّه في هذه السنة ابتاع دارا في الكرخ ، بين السورين ، وعمّرها وبيّضها وسماها «دار العلم» ، ووقفها على أهله ونقل إليها كتبا كثيرة ابتاعها وجمعها ، وعمل لها فهرستا. وردّ النظر في أمورها ومراعاتها والاحتياط عليها ، إلى الشريفين أبي الحسين محمد بن أبي شيبة ، وأبي عبداللّه محمد بن أحمد الحسني ، والقاضي أبي عبداللّه الحسين بن هارون الضبي ، وكلف الشيخ أبا بكر محمد بن موسى الخوارزمي فضل عناية بها.

وأشار بعض المؤرخين ، إلى أن عدد ما اشتملت عليه هذه الخزانة ، كان أكثر من عشرة آلاف مجلد ، بل كان عددها بوجه التدقيق ـ كما قال أبو الفرج ابن الجوزي ـ عشرة آلاف مجلد وأربعمائة مجلد من أصناف العلوم ، ومنها مائة مصحف بخطوط بني مقلة.

وكانت هذه الدار موئلاً للعلماء والباحثين ، يترددون إليها للدرس

٩٧

والمناظرة والمباحثة. ومن أشهر روادها ، الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري ، المتوفى سنه ٤٤٩ هـ (١٠٥٧ م) ، فقد طالما ذكرها وذكر بعض القائمين على أمرها ، وآثر الإقامة بها يوم كان ببغداد.

وكان جماعة من العلماء يهبون مؤلفاتهم لهذه الخزانة (١).

وقد ضمت هذه الخزانة نوادر الكتب وأعلاقها. وفي أيام الشريف المرتضى (ت ٤٣٦ هـ) كان هو المتعهد بهذه الدار.

لم تعش هذه الخزانة طويلاً. بل لم يتجاوز عمرها سبعين سنة ، لأن الأحداث الجسام التي حلت ببغداد كان لها أسوأ الأثر في هذه الخزانة. قال أبو الفرج بن الجوزي : احترقت بغداد ، الكرخ وغيره وبين السورين ، واحترقت فيه خزانة الكتب التي وقفها أردشير الوزير ، ونهبت بعض كتبها. جاء عميد الملك الكندري فاختار من الكتب خيرها ، وكان بها عشرة آلاف مجلد وأربعمائة مجلد من أصناف العلوم ، منها مائة مصحف بخطوط بني مقلة وكان العامة قد نهبوا بعضها لما وقع الحريق ، فأزالهم عميد الملك وقعد يختارها ، فنُسب ذلك إلى سوء سيره وفساد اختياره. وشتان بين فعله وفعل نظام الملك. الذي عمّر المدارس ودُور العلم في بلاد الإسلام ، ووقف الكتب وغيرها (٢).

وكان السلاجقة الجهلاء وراء حرقها وتدميرها.

٢ ـ خزانة الشريف المرتضى :

نقل عن القاضي أبي القاسم التنوخي صاحب الشريف المرتضى

__________________

(١) كوركيس عواد / خزائن الكتب القديمة في العراق. (دار العلم ببغداد = خزانة سابور).

(٢) المنتظم : حوادث سنة ٤٥١ هـ.

٩٨

وتلميذه ، إنه قال عن عدد محتويات ومقتنيات مكتبة أستاذه الشريف المرتضى : حصرنا كتبه ، فوجدناها ثمانين ألف مجلد من مصنفاته ومحفوظاته ومقروءاته.

وقال الثعالبي في كتابه (يتيمة الدهر) منوها بقيمة خزانة الشريف : إنها قوّمت بثلاثين ألف دينار ، بعد أن أهدى إلى الرؤساء والوزراء منها شطرا عظيما.

كانت هذه الخزانة من أهم الدور العلمية التي يرتادها ويرجع إليها العلماء والأدباء من زملاء وتلامذة الشريف المرتضى وحضار مجلسه العلمي الذي كان يعقده على مدار السنة في منزله ببغداد.

كما أنه ـ رضوان اللّه عليه ـ اتخذ من داره الواسعة مدرسة عظيمة ، تضم بين جدرانها ثلّة من طلاب الفقه والكلام والتفسير واللغة والشعر والعلوم الأخرى كعلم الفلك والحساب وغيره ، وحتى سميت أو سماها (دار العلم) ، وأعد له مجلسا للمناظرات فيها.

وقد استفاض عنه إنفاقه على مدرسته العلمية التي تعهد بكفاية طلابها مؤونة ومعاشا ، حتى أنه وقف قرية من قراه تصرف مواردها على قراطيس الفقهاء والتلاميذ (١).

٣ ـ دار العلم للشريف الرضي :

يقول كوركيس عواد : أنشأ الشريف الرضي مؤسسة ثقافية أسماها (دار العلم).

وكان ينفق على تلامذتها من ماله الخاص ، ويلقي فيها المحاضرات العلمية.

__________________

(١) يراجع : كوركيس عواد ، خزائن الكتب القديمة في العراق.

٩٩

ولم تكن دار العلم مدرسة حسب ، بل كان يتبعها (مخزن) فيه جميع ما يحتاجه الطالب من الأمور المادية.

وإلى جانب ذلك (خزانة كتب) حافلة عرفت بـ (خزانة دار العلم) ، وقد كانت هذه الخزانة في مصاف الخزائن الكبرى ببغداد ، ومنظمة تنظيما حسنا (١).

٤ ـ دار العياشي بسمرقند :

وهو أبوالنضر محمد بن مسعود العياشي السلمي السمرقندي المتوفى نحو سنة٣٢٠ هـ. يقول فيه الزركلي : فقيه ، من كبار الإمامية ، من أهل سمرقند ، اشتهرت كتبه في نواحي خراسان اشتهارا عظيما ، وهي تزيد على مائتي كتاب ، أشهرها تفسيره المعروف بـ (تفسير العياشي) (٢).

ويقول النجاشي في هذه الدار : أنفق أبو النضر على العلم والحديث تركة أبيه سائرها ، وكانت ثلاثمائة ألف دينار ، وكانت داره كالمسجد ، بين ناسخ ، أو مقابل ، أو قارئ ، أو معلّق ، مملوءة من الناس (٣).

وغير هذا كثير من الدور الشهيرة ، ومن أشهرها وأكبرها :

٥ ـ مدرسة أبي الوفاء الرازي بالري

٦ ـ مكتبة الصاحب بن عباد

٧ ـ دار العلم بالأزهر (الفاطميون) التي أحرقها صلاح الدين الأيّوبي

٨ ـ دار العلم بطرابلس

__________________

(١) يراجع : كوركيس عواد ، خزائن الكتب القديمة في العراق.

(٢) الأعلام ٧ : ٩٥.

(٣) الرجال ٢ : ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

١٠٠