التشيّع

الدكتور محمد زين الدين

التشيّع

المؤلف:

الدكتور محمد زين الدين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-514-4
الصفحات: ٢١٩

١
٢

٣
٤

كلمة المركز

الحمد للّه رب العالمين ، وصلى اللّه على نبينا محمد سيد المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين.

وبعد ...

لا تنفك حاجة أبناء هذه الامة المسلمة قائمة إلى تعرف بعضهم على بعض على نحو إيجابي بنّاء ، مرةً دفعا لمعوقات التفاهم اللازم لحياة قوامها الشراكة الواسعة والواقعية ، سواء على الصعيد المعرفي أو الصعيد الاجتماعي والسياسي .. ومرةً أخرى إسهاما في إزاحة الحواجز النفسية التي تخلقها أجواء سياسية غير مستقيمة ، ومماحكاة طائفية ضيقة الافق. وكلا من هذين الأمرين الخطيرين؛ معوقات التفاهم ، والحواجز النفسية ، إنما يترسخ وتتعمق جذوره نتيجة لعدم توفر طوائف المسلمين على المعرفة السليمة والواضحة ببعضهم البعض ، إذ تمثل هذه المعرفة الشرط الأكيد للحوار الايجابي الذي يمهد الطريق للتفاهم والتعايش كخطوة ضرورية لصمود هذه الامة أمام الهجمات الشرسة التي تستهدفها كما تستهدف خيراتها وثرواتها ، وخطوة ضرورية لتماسكها من أجل بناء حاضرها ومستقبلها.

وفي هذا السياق كُتب العديد من المؤلفات للتعريف بالتشيع والشيعة من أبعاد وزوايا متعددة ، واتخذ الكثير منها من هذين الاصطلاحين (التشيع) و (الشيعة) أو أحدهما ، عنوانا ، إحساسا بتلك الحاجة الملحة والمتجددة ، الحاجة إلى المزيد من فرص الحوار الموضوعي البنّاء بين فصائل أمة عريضة ، تعيش واقعا اجتماعيا وسياسيا موحدا بالضرورة ، الحاجة إلى مزيد من الوعي بهذا المشترك المصيري ومتطلباته الثقافية والأخلاقية.

ويأتي كتابنا هذا ليعرف أولاً بحقيقة وجوهر التشيع بإيجاز غير مخل ، ويقدّم صفحات هامة من تاريخ الشيعة ، وليفتح فرصة أخرى للحوار الايجابي ، بعيدا عن أجواء الصراع والتخندق الطائفي الذي يجر المسلمين إلى الوراء فيما تفرض عليهم مسؤولياتهم الشرعية والاخلاقية والحياتية التقدم إلى أمام ، وتوفير كل ما يستلزمه

٥

هذا التقدم من متطلبات ، وفي مقدمتها الوعي بضرورة التوحد في إطار التعددية ، لتكون التعددية ثروة في الفكر والثقافة وحافزا للتجديد والابداع.

وفي إطار منهج الاقتباس وإعادة الصياغة ، الذي أقره مركز الرسالة ، تم إعداد هذا الكتاب ، تثمينا للجهود السابقة ، وتجنبا للعودة إلى نقطة الصفر دائما في البحوث والدراسات ، فكان لمباحث هذا الكتاب مراجع أساسية شكل بعضها معظم مادة البحث ، وبعضها الآخر شكل إطارا عاما للبحث ، مع الافادة من مصادر ومراجع أخرى متعددة ترد الاشارة إليها في مواضع الافادة منها.

أما مصادر الاقتباس فكانت على النحو الآتي :

في المبحث الأوّل من الفصل الأوّل اعتمدنا بحث الشهيد آية اللّه العظمى محمد باقر الصدر حول نشأة التشيع والشيعة.

وفي المبحث الثاني (أصول العقيدة عند الشيعة) من الفصل نفسه شكل كتاب (الشيعة) للعلامة الطباطبائي صاحب تفسير الميزان إطار البحث ومادة العديد من فقراته. وكل ما ورد عن غيره نسبناه إلى مصدره.

وفي الفصل الثاني (تاريخ الفقه الشيعي) كان الاعتماد كبيرا على كتاب (تاريخ التشريع الإسلامي) للشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي واعتمدنا في الفصل الثالث (تاريخ الشيعة السياسي) ثلاثة مصادر أساسية ، هي : مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الاصفهاني ، والشيعة والحاكمون للشيخ محمد جواد مغنيه ، وجهاد الشيعة لسميرة الليثي.

أمّا الفصل الرابع (دول شيعية وأدوار تاريخية) فأوجزنا مادته من كتاب (دائرة المعارف الإسلامية الشيعية) للسيد حسن الأمين.

آملين أن نكون أضفنا شيئا جديدا نافعا في هذا الميدان.

والحمد للّه رب العالمين

مركز الرسالة

٦

الفصل الأوّل (١)

النشأة وأصول العقيدة

المبحث الأول ـ نشأة التشيّع

التشيع لغة واصطلاحا :

في (لسان العرب) لابن منظور :

الشيعة : القوم الذين يجتمعون على الأمر. وكل قوم اجتمعوا على أمر ، فهم شيعة. وكل قوم أمرهم واحد ، يتبع بعضهم رأي بعض ، فهم شِيَع ...

والشيعة : أتباع الرجل وأنصاره ، وجمعها شِيَع. وأشياع جمع الجمع.

ويقال شايعه ، كما يقال والاهُ ، من الوَلْيِ.

ومنه قوله تعالى : «وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لاَءِبْرَاهِيمَ» (٢) أي من شيعة نوح.

وأصل الشيعة : الفرقة من الناس. ويقع على الواحد والاثنين والجمع ،

__________________

(١) أُخذ هذا الفصل ، باختصار وتصرف يسير ، عن السيد الشهيد محمد باقر الصدر / بحث حول الولاية. (أو ، نشأة التشيع والشيعة)

(٢) سورة الصافات : ٣٧ / ٨٣.

٧

والمذكر والمؤنث بلفظ واحد ومعنى واحد.

قال : وقد غلب هذا الإسم على من يتوالى عليّا وأهلَ بيته ، رضوان اللّه عليهم أجمعين ، حتى صار اسما خاصا ، فإذا قيل : فلان من الشيعة ، عُرِف أنّه منهم. وفي مذهب الشيعة كذا ، أي عندهم.

وأصل ذلك من المشايعة ، وهي المتابعة والمطاوعة.

ثم نقل عن الأزهري قوله : الشيعة قوم يهوون هوى عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويوالونهم (١).

يقول صاحب (الملل والنحل) :

«الشيعة هم الذين شايعوا عليا عليه‌السلام ، وقالوا بإمامته وخلافته ، نصا ووصاية ، إما جليّا وإمّا خفيّا ، واعتقدوا أنّ الإمامة لاتخرج من أولاده ، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره ، أو بتقيّة من عنده (٢).

هذا التعريف يتسع للشيعة بأقسامها المتعددة ، غير أنّه بعد انقسام الشيعة إلى فرق متعددة ، بقي هذا العنوان (الشيعة) مرافقا للطائفة الكبيرة منهم ، وهم الشيعة الإمامية الاثنا عشرية ، فيما استقلت الفرق الاخرى بأسماء اختصت بها ، كالزيدية ، والإسماعيلية ، والواقفة.

فأصبح (الشيعة) هم الطائفة المعروفة بمشايعة ومتابعة الأئمة الاثني عشر

__________________

(١) لسان العرب : مادة (شيع).

(٢) الشهرستاني / الملل والنحل ١ : ١٤٦ ـ ١٤٧. (الفصل السادس).

٨

من أهل البيت عليهم‌السلام ، أولهم الإمام علي ، ثم الحسن ، ثم الحسين ، ثم التسعة من ولد الحسين عليهم‌السلام على الترتيب المعروف ، والذي سيأتي ذكره في موضع لاحق.

فإذا قيل : فلان شيعي عُرِف أنّه منهم. أمّا إذا كان من غيرهم فينسب إلى التسمية الخاصة ، فيقال : فلان زيدي ، أو إسماعيلي. وهكذا.

وهكذا غلب اصطلاح التشيع على هذه الطائفة ، وانصرف المراد منه إليها ، إلاّ مع وجود قرينة تفيد شمول سائر فرق الشيعة.

طبيعة النشأة :

يتضح جليا من السيرة النبوية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ومنذ فجر الرسالة ، قد أولى شخصا واحدا عناية خاصة ، شخصا كان يرشحه عمقُ وجوده في كيان هذه الرسالة ، اختاره ليعده إعدادا رساليا وقياديا خاصا ، لتتمثل فيه المرجعية الفكرية والزعامة السياسية للتجربة ، وليواصل بعده ـ بمساندة القاعدة الشعبية الواعية من المهاجرين والأنصار ـ قيادة الاُمة وبناءها عقائديا ، وتقريبها باستمرار نحو المستوى الذي يُؤهلها لتحمل المسؤوليات القيادية.

ولم يكن هذا الشخص المرشح للإعداد الرسالي القيادي ، والمنصوب لتسلم مستقبل الرسالة ، وتزعمها فكريا وسياسيا ، إلاّ عليّ بن أبيطالب ، الذي رشحه لذلك عمقُ وجوده في كيان الدعوة ، وإنه المسلم الأول ، والمجاهد الأول في سبيلها عِبَر كفاحها المرير ضد كلّ أعدائها ، وكذلك عمقُ وجوده في

٩

حياة القائد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنه ربيبُه الذي فتح عينيه في حجره ، ونشأ في كنفهِ ، وتهيأت له من فرص التفاعل معه والاندماج بخطه ، مالم يتوفر لأي إنسان آخر.

والشواهد من حياة النبي والإمام عليّ ، على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعدُّ الإمام إعدادا رساليا خاصا ، كثيرة جدا ، فقد كان النبي يخصه بكثير من مفاهيم الرسالة وحقائقها ، ويبدؤه ، بالعطاه الفكري والتثقيف إذا استنفذ الإمام أسئلته ، ويختلي به الساعات الطوال في الليل والنهار ، يفتح عينيه على مفاهيم الرسالة ومشاكل الطريق ، ومناهج العمل إلى آخر يومٍ من حياته الشريفة.

روى الحاكم في المستدرك بسنده عن أبي إسحاق ، سألتُ القاسم بن العباس ، كيف وَرث عليٌّ رسول اللّه؟ قال : « لأنه كان أولنا به لحوقا وأشدنا به لزوقا ... » (١).

وروى النسائي في الخصائص عن الإمام عليّ أنه يقول : «كانت لي منزلةٌ من رسول اللّه لم تكن لأحدٍ من الخلائق؛ كنتُ أدخل على نبي اللّه كلّ ليلةٍ ، فإن كان يصلي سبّح فدخلت ، وإن لم يكن يصلي أذِنَ لي فدخلت» (٢).

وروى أيضا عن الإمام عليّ عليه‌السلام قوله : « كان لي من النبي مدخلان

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٣٦ / ٤٦٣٣.

(٢) السنن الكبرى / النسائي ٥ : ١٤٠ / ٨٤٩٩ (الخصائص).

١٠

مدخل بالليل ومدخل بالنهار ... » (١).

وروي عن الإمام أيضا انه كان يقول : « كنتُ إذا سألتُ رسول اللّه اعطيت ، وإذا سكتُّ ابتدأني ... » (٢). ورواه الحاكم في المستدرك أيضا ، وقال : صحيح على شرط الشيخين (٣).

وقال أمير المؤمنين في خطبته القاصعة الشهيرة ، وهو يصف ارتباطه الفريد بالرسول القائد ، وعناية النبي بإعداده وتربيته : « وقد علمتم موضعي من رسول اللّه بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولدٌ ، يضمني إلى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسني جسده ، ويشمني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه ، وما وجَدَ لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل ... ولقد كنتُ أتّبِعه اتّباع الفصيل أثر أمّه ، يرفع لي في كل يومٍ من أخلاقه علما ، ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاورُ في كل سنةٍ بحراء ، فأراه ولايراه غيري ، ولم يجمع بيتٌ واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول اللّه وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نورَ الوحي والرسالة ، وأشمُّ ريح النبوة ... » (٤).

وإذا كانت الشواهد كثيرة على أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعدّ الإمام إعدادا خاصا لمواصلة قيادة الرسالة من بعده ، فالشواهد على إعلان الرسول القائد عن

__________________

(١) السنن الكبرى / النسائي ٥ : ١٤١.

(٢) المصدر نفسه ٥ : ١٤٢.

(٣) المستدرك ٣ : ١٣٥ / ٤٦٣٠.

(٤) نهج البلاغة ، ضبط الدكتور صبحي الصالح : خ ١٩٢.

١١

تخطيطه هذا ، وإسناده زعامة الدعوة الفكرية والسياسية رسميا إلى الإمام عليّ عليه‌السلام لا تقلُّ عنها كثرةً؛ كما نلاحظ ذلك في حديث الدار (١) ، وحديث الثقلين (٢) ، وحديث المنزلة (٣) ، وحديث الغدير (٤) ، وعشرات النصوص النبوية الأخرى (٥).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ : ٢١٧ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٦٢ ـ ٦٤ ، السيرة الحلبية ١ : ٤٦١ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٣ : ٢١٠ ، تاريخ ابن عساكر ١ : ١٠٠ / ١٣٧ و ١٣٨ و ١٣٩ شواهد التنزيل ١ : ٣٧٢ ـ ٣٧٣ / ٥١٤ و ٤٢٠ / ٥٨٠ وغيرها.

(٢) مسند أحمد ٥ : ١٨٢ ، ١٨٩ و ٣ : ١٧ ، فضائل الصحابة ٢ : ٦٠٣ / ١٠٣٥ ، صحيح مسلم ـ كتاب فضائل الصحابة ٤ : ١٨٧٣ / ٢٤٠٨ بعدة طرق و ٥ : ٦٦٣ / ٣٧٨٦ و ٣٧٨٨ ، خصائص النسائي : ٢١ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٤٨ ، العقد الفريد ٤ : ١٢٦ ، السيرة الحلبية ٣ : ٣٣٦ ، وغيرها.

(٣) مسند أحمد ١ : ١٧٣ ، ١٧٥ ، ١٨٢ ، ١٨٤ ، ٣٣١ ، صحيح البخاري ٥ : ٨٩ / ٢٠٢ ، صحيح مسلم ٤ : ١٨٧٠ / ٢٤٠٤ من ستة طرق ، الترمذي في كتاب المناقب ٥ : ٣٧٣٠ ، مستدرك الحاكم ٢ : ٣٣٧ وغيرها.

(٤) مسند أحمد ١ : ٨٨ ، ١١٨ ، ١١٩ (من طريقين) ، فضائل الصحابة ٢ : ٥٨٥ / ٩٩١ و ٩٩٢ و ٦٨٢ / ١١٦٧ ، أسد الغابة ٢ : ٢٣٣ و ٣ : ٩٣ و ٤ : ٢٨ ، خصائص النسائي ٢٢ ـ ٥٥ وغيرها.

(٥) قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لأعطين الراية غدا رجلاً يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله ، كرار غير فرار» صحيح البخاري ـ كتاب الفضائل ـ ٥ : ٨٧ / ١٩٧ و ١٩٨ و ـ كتاب المغازي ـ ٥ : ٢٧٩ / ٢٣١ ، صحيح مسلم ـ كتاب الفضائل ـ ٤ : ١٨٧١ / ٣٢ ـ ٣٤ ، سنن الترمذي ٥ : ٦٣٨ / ٣٧٢٤ ، سنن ابن ماجة ١ : ٤٣ / ١١٧

١٢

وهكذا وُجد التشيع في إطار الرسالة الإسلامية متمثلاً في هذه الإطروحة النبوية التي وضعها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بأمرٍ من اللّه ـ للحفاظ على مستقبل الرسالة.

وهكذا وُجد التشيع لا كظاهرة طارئة على مسرح الأحداث ، بل كنتيجة ضرورية لطبيعة تكوّن الرسالة وحاجاتها وظروفها الأصلية التي كانت تفرض على الإسلام أن يلدَ (التشيّع) ، وبمعنى آخر كانت تفرض على القائد الأول للتجربة ان يُعدَّ للتجربةِ قائدها الثاني الذي تواصل على يده ويد خلفائه نموها الثوري ، وتقترب نحو اكتمال هدفها التغييري في اجتثاث كل رواسب الماضي الجاهلي وجذوره ، وبناء أمة جديدة على مستوى متطلبات الرسالة ومسؤولياتها.

ولادة الاصطلاح والنواة الأولى للشيعة :

إذا كان التحليل المتقدم قد أثبت أن التشيع لعلي عليه‌السلام هو ضرورة لطبيعة تكوّن الدعوة ، ولمستقبلها ، فإنّ ظهور هذا الاصطلاح على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك تميّز النواة الأولى لهذا الاتجاه على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، خير ما يؤكد تلك النتيجة ، ويرفعها إلى مستوى الحقيقة التاريخية.

__________________

وغيرها.

وحديث : « إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ... » ، وأشار صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى علي عليه‌السلام ، مسند أحمد ٣ : ٨٢ ، صحيح ابن حبان ٩ : ٤٦ / ٦٨٩٨ ، ومستدرك الحاكم ٣ : ١٢٣ ووافقه الذهبي وقال : صحيح على شرط الشيخين ، وتاريخ بغداد ٨ : ٤٣٣ ، والبداية والنهاية ٧ : ٣٧٥ وغيرها.

١٣

ولادة الاصطلاح : فأما على مستوى الاصطلاح ، فقد جاء أكثر من حديث نبوي ، يعلن عنه ، في إطاره التام ، الكاشف عن أغراضه وأبعاده المطابقة لثمرات التحليل السابق :

١ ـ أخرج أصحاب التفسير ، أنه لما نزل قول تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولـئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيِّةِ» (١). قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هم أنت يا علي وشيعتك» (٢).

وفي رواية أخرى : «هم أنت وشيعتك ، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ، ويأتي عدوك غضابا مقمحين» (٣).

٢ ـ أخرج ابن عساكر ، عن جابر بن عبداللّه الانصاري ، قال : كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأقبل علي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «والذي نفسي بيده ، إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة» (٤). وأخرجه أيضا الخوارزمي (٥) ، والكنجي الشافعي (٦).

النواة الأولى للتشيع : وعلى هذا المستوى أيضا كان الظهور مبكرا ، وفي

__________________

(١) سورة البيّنة : ٩٨ / ٧.

(٢) تفسير الطبري ٣٠ : ٣٢٠ ، الدر المنثور / السيوطي ٦ : ٣٧٩ ، فتح القدير / الشوكاني ٥ : ٣٩٨ ، روح المعاني / الآلوسي ٣٠ : ٢٠٧.

(٣) الصواعق المحرقة : باب ١١ ، فصل ١ ، الآية ١١.

(٤) ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق ٢ : ٤٤٢.

(٥) المناقب : ١١١.

(٦) كفاية الطالب : ٢١٤.

١٤

عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ كان قلة من صفوة الصحابة قد عرفوا بهذا اللقب «شيعة علي» وتميزوا به منذ ذلك الوقت ، وهم : أبوذر ، وعمار ، والمقداد ، وسلمان. فقد كان هؤلاء الصحابة الكرام يعرفون بشيعة علي. ولذا قال أبو حاتم الرازي : إن أول إسم لمذهب ظهر في الإسلام هو «الشيعة» وكان هذا لقب أربعة من الصحابة : أبوذر ، وعمار ، والمقداد ، وسلمان (١).

وفي السياق نفسه يأتي التأكيد النبوي على حبّ علي ، مائزا بين المؤمنين وبين المنافقين :

أخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم ، عن علي عليه‌السلام ، قال : «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنّه لعهد النبيّ إليّ : لا يحبني إلاّ مؤمن ، ولا يبغضني إلاّ منافق» (٢). حتى اشتهر عن الأنصار معرفتهم المنافقين ببغضهم علي عليه‌السلام :

عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه قال : إنا كنا لنعرف المنافقين ـ نحن معاشر الانصار ـ ببغضهم علي بن أبي طالب. ورُوي مثله عن جابر بن عبداللّه الانصاري أيضا (٣).

__________________

(١) كتاب الزينة / أبو حاتم الرازي : ٢٥٩ ، تحقيق عبداللّه سلوم السامرائي.

(٢) صحيح مسلم ١ : ٨٦ / ١٣١ (كتاب الإيمان) ، سنن الترمذي ٥ : ٦٤٣ / ٣٧٣٦ ، سنن النسائي ٨ : ١١٦ (كتاب الإيمان) ، سنن ابن ماجة ١ : ٤٢ / ١١٤ ، مصابيح السنة ٤ : ١٧١ / ٤٧٦٣ ، البداية والنهاية ٧ : ٣٦٨.

(٣) سنن الترمذي ٥ : ٦٣٥ / ٣٧١٧ ، الاستيعاب ٣ : ٣٦ ، اُسد الغابة ٤ : ٣٠ ، جامع الاُصول ٩ : ٤٧٣ / ٦٤٨٦.

١٥

وعن أبي ذر الغفاري رضي‌الله‌عنه أنه قال : ماكنا نعرف المنافقين إلاّ بتكذيبهم اللّه ورسوله ، والتخلف عن الصلوات ، والبغض لعلي بن أبي طالب ... (١).

هكذا إذن نشأ التشيع؛ نتيجة طبيعية لمسار الرسالة الإسلامية ، وتلبية ضرورية لمتطلباتها. وقد نشأ لافي عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحسب ، بل بتأسيس منه وتأكيد ورعاية.

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢٩ ، وقال : صحيح على شرط مسلم.

١٦

المبحث الثّاني (١)

أصول العقيدة عند الشيعة

التوحيد

مختصرة العقيدة في التوحيد :

يعتقد الشيعة الإمامية : أن اللّه تعالى واحد أحد ، ليس كمثله شيء .. قديم ، لم يزل ، ولا يزال .. سميع ، بصير ، عليم ، حكيم ، حي ، قيوم ، عزيز ، قدوس ، قادر ، غني ، إلى غير ذلك ممّا وصف تعالى به نفسه المقدّسة في كتابه.

وأنّه تعالى لا يوصف بجوهر ، ولا جسم ، ولا صورة ، ولا عرض ، ولا خط ، ولا سطح ، ولا ثقل ، ولا خفة ، ولا سكون ، ولا حركة ، ولا مكان ، ولا زمان.

وأنّه تعالى متعالٍ عن جميع صفات خلقه ، خارج من الحدّين؛ حد الإبطال ، وحد التشبيه.

وأنّه تعالى شيء لا كالأشياء ، أحد ، صمد ، لم يلد فيورَث ، ولم يولد

__________________

(١) أُخذ هذا المبحث ، باختصار وتصرف يسير ، عن العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي.

١٧

فيشارَك ، ولم يكن له كفئا أحد ، ولا ند ، ولا ضد ، ولا شبه ، ولا صاحبة ، ولا مثل ، ولا نظير ، ولا شريك.

لا تدركه الأبصار والأوهام ، وهو يدركها .. لا تأخذه سنة ولا نوم .. خالق كل شيء ، لا إله إلاّ هو. له الخلق والأمر (١).

وإنّه يجب على العاقل ـ بحكم عقله عند الإمامية ـ تحصيل العلم والمعرفة بصانعه ، والاعتقاد بوحدانيته في الاُلوهية ، وعدم الشريك له في الربوبية ، واليقين بأنّه هو المستقل بالخلق والرزق والموت والحياة والإيجاد والإعدام ، بل لا مؤثر في الوجود عندهم إلاّ اللّه ، فمن اعتقد أنّ شيئا من الرزق أو الخلق أو الموت أو الحياة لغير اللّه فهو كافر مشرك خارج عن ربقة الإسلام.

وكذا يجب عندهم إخلاص الطاعة والعبادة للّه ، فمن عبد شيئا معه ، أو شيئا دونه ، أو ليقرِّبه زلفى إلى اللّه فهو كافر عندهم أيضا (٢).

ضرورة وجود اللّه تعالى ووحدانيته :

إنّ أوّل خطوة يخطوها الإدراك والشعور لدى الإنسان تكشف له عن حقيقة وجود الخالق والمخلوق ، فإننا نعلم أن الإنسان منذ وجوده يلازمه الإدراك والشعور ، ويرى نفسه والعالم أجمع ، أي أنه لا يشك بوجوده هو ، ولا

__________________

(١) الشيخ الصدوق / الاعتقادات : ٢١ ـ ٢٢ (ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد ، ج٥).

(٢) أصل الشيعة وأصولها : ٢١٩.

١٨

يشك بأشياء اُخر غيره. ومازال الإنسان إنسانا ، فإن هذا الإدراك والشعور يكمن فيه.

فهو يدرك حقيقة واقعية قائمة في نفسه ، وفي الأشياء والظواهر المحيطة به ، والتي يعيشها ، ويرتبط معها على الدوام بعلاقة تأثير وتأثر متبادلة.

ولكن كل من هذه الأشياء والظواهر التي تنطوي على واقعية ، والتي نشاهدها عيانا ، تفقد واقعيتها وتصير إلى الفناء ، سواء في القريب أو البعيد من أدوار حياتها.

ومن هنا يتضح أن العالم المشهود وأجزاءه ، ليست هي عين الواقعية بذاتها ، بل تعتمد وتستند إلى واقعية ثابتة ، وبتلك الواقعية الثابتة ، اتصفت بالوجود وبالواقعية. ونحن نسمي هذه الواقعية الثابتة التي لايعتريها البطلان بـ (واجب الوجود) أو اللّه سبحانه وتعالى.

إنّ كل واقعية من واقعيات العالم ، هي واقعية محدودة ، فهي :

أولاً ـ إنما اتصفت بالوجود بعد وجود السبب والشرط اللازمين لايجادها. وعلى تقدير عدم السبب والشرط ، فإنها تكون عدما منذ الأساس.

وثانيا ـ فإنّ لحقيقة وجودها حد محدود ، إذ لا توجد خارج ذلك الحد.

هذا يعني أن الموجِد الأول ، والذي اتصف بالواقعية الثابتة ، هو المنزه عن الحد والمحدودية ، ولم يكن محتاجا لأي سبب وشرط ولا مرتبطا بأي علة.

وهذا بحد ذاته يعني أنه جلّ شأنه لايكون إلاّ واحدا ، أحدا ، ليس له ند

١٩

ولاشريك. فإذا ما افترض ثانٍ ، فانه غير الأول قطعا ، وفي النتيجة يكون ، الاثنان محدودان ، متناهيان ، وسيضع كل منهما حدا فاصلاً للآخر. فلو افترضنا على سبيل المثال حجما غير محدود وغير متناه ، لايسعنا افتراض حجم آخر إزاءه ، ولو قُدّر أن افترضنا هذا فان الثاني هو الأول بعينه. فعلى هذا ، فإن اللّه تعالى أحد لا شريك له.

قال تعالى : «وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللّه عَمَّا يَصِفُونَ» (١).

«لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّه رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» (٢).

معاني صفات اللّه تعالى

قال الشيخ المفيد رحمه‌الله : صفات اللّه تعالى على ضربين :

أحدهما : منسوب إلى الذّات ، فيقال : صفات الذّات.

وثانيهما : منسوب إلى الأفعال ، فيقال : صفات الأفعال ، والمعنى في قولنا صفات الذّات : أنّ الذّات مستحقّة لمعناها استحقاقا لازما لا لمعنى سواها ، ومعنى صفات الأفعال : هو أنّها تجب بوجود الفعل ولا تجب قبل وجوده ، فصفات الذّات للّه تعالى هي الوصف له بأنّه حيّ ، قادر ، عالم ألا ترى أنّه لم يزل

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٩١.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٢.

٢٠