التشيّع

الدكتور محمد زين الدين

التشيّع

المؤلف:

الدكتور محمد زين الدين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-514-4
الصفحات: ٢١٩

مرابطا في العراق.

وكانت شعارات الثائرين مع زيد «يا أهل الكوفة ، اخرجوا من الذل إلى العز ، وإلى الدين والدنيا» (١).

ويبدو أن الدعوة إلى الثورة لقيت استجابة واسعة من الجماهير المسلمة في أقطار كثيرة من بلاد الإسلام ، فقد بويع زيد على الثورة في الكوفة ، والبصرة وواسط ، والموصل ، وخراسان ، والري ، وجرجان. ولقد كان حريا بثورته أن تنجح لولا اختلال التوقيت ، فقد حدث ما دفع زيدا إلى إعلان الثورة قبل الموعد الذي بينه وبين أهل الأمصار (٢).

وقد تكوّن بفضل هذه الثورة جهاز ثوري دائم على استعداد للمساهمة في كل عمل ثوري ضد السلطة. وهو طائفة الزيدية الذين يرون أن الإمام المفترض الطاعة هو كل قائم بالسيف ذودا عن الدين ضد الظالمين.

قال ولهاوزن :

«ولئن كان عصيان زيد قد انتهى انتهاءً مفجعا فإنّه مهم. ذلك أن ثورات الشعب التي حدثت بعده والتي أدت إلى انهيار دولة دمشق انهيارا نهائيا كانت ذات علاقة بها ، وسرعان ما ظهر أبو مسلم بعد وفاة يحيى آخذا بثأره قاتلاً قتلته» (٣).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ١٣٩.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٣٥ ـ ١٣٦.

(٣) الدولة العربية : ٢٧١.

١٦١

وهذا يبرز بوضوح عظيم تأثير ثورة الحسين عليه‌السلام في تغذية الروح الثورية ومدها بالعطاء. فما ثورة زيد إلاّ قبس من ثورة جده في كربلاء.

ثورة النفس الزكية وأخيه

هو محمد بن عبداللّه بن الحسن السبط ، المعروف بالنفس الزكية لزهده ونسكه. وكان أبو العباس السفاح وأبو جعفر المنصور قد بايعا له بالخلافة أيام التخطيط للثورة ضد الأمويين ، وتحت شعار «الرضا من آل محمد». غير أن العباسيين كانوا يضمرون سرا آخر ، فحرفوا مسير الثورة واستقلوا بها ، فامتنع النفس الزكية وأخوه إبراهيم عن البيعة لهم. ولم تتصد لهم الدولة الجديدة لانشغالها في توطيد أمرها ومواجهة مشكلاتها الأخرى. فلما كانت أيام أبي جعفر الدوانيقي (المنصور) أفرغ اهتمامه لإخضاعهما ، فكانا يفران من مدينة إلى أخرى ويدعوان الناس إلى النصرة ، وفي هذه الاثناء كان المنصور الدوانيقي قد اعتقل أباهما عبداللّه بن الحسن والعديد من العلويين.

وفي سنة ١٤٥ هـ ، حيث توالت الأحداث وطالت المطاردة ، علم المنصور أن النفس الزكية قد عاد إلى المدينة المنورة ، وأخذ البيعة من الناس بالخلافة وتلقب بأمير المؤمنين ، وقد تابعه العديد من القبائل العربية في الحجاز ، وأنفذ دعاته إلى الآفاق ، حتى إن مالك بن أنس قد أفتى بالخروج معه ، فلما قال بعض أهل المدينة : إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر قال : إنّما بايعتم مكرهين وليس على المكره يمين.

لم يكن النفس الزكية يريد إعلان الثورة في هذا الوقت ، حتى يستكمل دعاته في الأمصار مهماتهم ، غير أن جملة الأحداث قد ألجأته إلى هذا تحت

١٦٢

ضغط إلحاح عامة رجاله.

أرسل أبو جعفر لمواجهة هذه الثورة جيشا معظمه من الخراسانيين الموالين للدولة العباسية ، بقيادة ولي عهده عيسى بن موسى العباسي ، فحاصر المدينة ، واستمرت الحرب أياما حتى قتل محمد النفس الزكية رحمه‌الله.

ولم تخل هذه الثورة من شائبة توضيف بعض المعتقدات الدينية بطريقة خاطئة للاستحواذ على عواطف الناس ، وإن لم يكن صاحب الثورة هو سببها والمسؤول الأوّل عنها ، إذ أشاع بعض أتباعه أن محمدا هذا هو المهدي الموعود الذي أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله به وبظهوره ، ومن هنا كان أول ظهور لزيادة في تسمية المهدي الموعود على الحديث النبي المعروف «لاتقوم الساعة حتى يملك الناس رجلاً من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي» فجاءت الزيادة عليه «واسم أبيه اسم أبي» إذ النفس الزكية هو محمد بن عبداللّه بن الحسن ، فإسم أبيه أيضا يواطئ اسم أب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

لذلك كان الأمام جعفر الصادق عليه‌السلام إذا رأى محمد النفس الزكية تغرغرت عيناه ، ثم يقول : بنفسي هو ، إن الناس ليقولون فيه إنه المهدي ، وإنه لمقتول ، ليس هذا في كتاب أبيه علي من خلفاء هذه الأمة (٢).

وانتهت ثورة النفس الزكية ، وبقي أخوه إبراهيم الذي لايزال متخفيا في

__________________

(١) راجع في تحقيق ذلك : الدكتور السيد ثامر هاشم العميدي / المهدي المنتظر في الفكر الاسلامي : ٧٦ ـ ٨١ ، مركز الرسالة ، ط ٢ ، ١٤٢٥ هـ.

(٢) تفصيل أخبار هذه الثورة في : مقاتل الطالبيين : ٢٠٦ ـ ٢١٧ ، تاريخ الطبري٧ : ٥١٧ ـ ٦٠٩ ، الكامل في التاريخ ٥ : ١٣٧ ـ أحداث سنة ١٤٤ و ١٤٥ هـ ، الفخري في الآداب السلطانية : ١٦١ ـ ١٦٣.

١٦٣

البصرة يدعو الناس إلى البيعة لأخيه ، بعد جولة طويلة من التخفي والدعوة قضاها في مدن عديدة ، منها : عدن ، والكوفة ، والموصل ، والانبار ، وبغداد ، والمدائن ، وواسط ، وقد نجحت دعوته في البصرة إلى حد كبير ، وامتدت إلى الأهواز ، وتسلل إليه الكثير من الناس من المدن الأخرى يبايعون له.

أدرك أبو جعفر خطورة الأمر ، فأرسل إلى قائد جيشه الذي كان يقاتل الخوارج في الجزيرة يأمره بالعودة والتوجه إلى البصرة ، لكن أهالي بعض المدن الواقعة على الطريق اعترضوا هذه الجيش بقولهم : لا ندعك تجوز لتنصر أباجعفر على إبراهيم. وكانت معارك من هذا القبيل تدور في أنحاء مختلفة.

هنا أعلن إبراهيم ثورته ، في عام ١٤٥ هـ نفسه ، وحاصر مع بعض جنده دار الإمارة بالبصرة واستولى عليها ، ثم استولى على الأهواز وماجاورها ، ونجح في إلحاق الهزيمة بالجيش العباسي في هذه المدن كلها ، يقول الطبري : فصارت البصرة والأهواز وفارس في سلطان إبراهيم.

وكان إلى جانب إبراهيم ومن أهم رجاله : عيسى بن زيد بن علي بن الحسن بن علي بن الحسين السبط ، وهو زعيم الشيعة الزيدية في عصره. ومعه أيضا رجال المعتزلة ، وأعلن أبو حنيفة تأييده له جهرا ، وأفتى الناس بالخروج معه. فكان لهذه المواقف أثر كبير في انضمام الأنصار لهذه الثورة ، وفي تعزيز موقعها في القلوب والنفوس.

وكان الموقف أكثر من ذلك ، إذ يقول أبو الفرج الاصفهاني : «ولم يتخلف أحد من الفقهاء ـ عن نصرة هذه الثورة ـ ومن هؤلاء الفقهاء : عباد بن العوام ، وأبو العوام القطان ، وهو من جملة محدثي البصري ومن أصحاب الحسن

١٦٤

البصري».

لم يكن بين الأخوين تنسيق تام في العمل العسكري ، فخرج محمد النفس الزكية تحت ضغط أنصاره ، فيما كان إبراهيم يحقق نجاحا متواصلاً في التوطيد للثورة العامة في التوقيت المناسب ، فبلغه استشهاد أخيه ومقتل العديد من أصحابه وتفرق الآخرين. وهذا وإن كان قد زاد إبراهيم وأصحابه حماسا إلاّ أنه قد قلّص من مساحة الثورة واختزل الكثير من أنصارها وامتداداتها. وكان موقف الخليفة العباسي حرجا أمام توسع سلطان إبراهيم إذ لم يكن معه من الجند في العاصمة سوى ألفين معظمهم من السودان ، فاستخدم الحيل ليوهم أهل الكوفة بعضمة جيشه كي لايجسروا على الثورة ، ثم كتب إلى عيسى بن موسى يستحثه على الرجوع ، ودعا مسلم بن قتيبة من الريّ ، فضم الجيشين معا ، وجيشا من الري وجهه إلى الأهواز ، ودارت المعارك فانهزم الجيش العباسي هزيمة نكراء ، حتى أمر أبو جعفر باعداد الدواب على أبواب الكوفة ليهرب عليها. غير أن الخبرة في فنون الحرب خانت أصحاب إبراهيم إذ نادى مناديهم : «لا تتبعوا مدبرا»! هذا بالرغم من أن أبا حنيفة قد بعث إلى إبراهيم كتابا يقول فيه : «إذا أظفرك اللّه بعيسى وأصحابه ، فلا تسرفيهم مسيرة أبيك يعني أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام في أهل الجمل ، فإنّه لم يقتل المنهزم ولم يأخذ الأموال ولم يتبع مدبرا ولم يذفف على جريح لأنّ القوم لم يكن لهم فئة ، ولكن سرفيهم بسيرته يوم صفين فإنّه سبى الذرية وذفف على الجريح وقسم الغنيمة ، لأنّ أهل الشام كانت لهم فئة وكانوا في بلادهم». فتمكّن لذلك الجيش العباسي من إعادة جمع فلوله والهجوم ثانية ، فاصيب إبراهيم بسهم قاتل ،

١٦٥

وانهزم جيشه ، في ٢٥ ذي القعدة من سنة ١٤٥ هـ ، في مدينة باخمرى قرب الكوفة (١).

ثورة الحسين بن علي صاحب فخّ

هو الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

كانت ثورته في أيام الهادي العباسي الذي شدّد السطوة على العلويين ، وجعل على المدينة عمر بن عبد العزيز بن عبداللّه بن عبداللّه بن عمر بن الخطاب فكان شديد الاضطهاد للعلويين حتى طالبهم بعرض أنفسهم عليه كل يوم. وقدم الحسين بن علي على والي المدينة ينفي عن العلويين الاتهامات التي ألصقها بهم ، ومنها أنه اتهم بعضهم بشرب الخمر! فعفا عنهم لكنه عهد إلى أحد عماله بتفقد العلويين في كل يوم ، فعرضهم يوما في المسجد بعد صلاة الجمعة فلم يجد فيهم الحسن بن محمد الذي كان قد تزوج قبل ثلاثة أيام ، فطالبهم باحضاره ، ونشب جدال طويل وعنيف ، ثم استدعى الوالي الحسين ابن علي ويحيى بن عبداللّه بن الحسن فوبخهما وهددهما.

فأراد الحسين أن يخفف من ثورة الوالي ، فقال له : أنت مغضب يا أبا حفص. فأبدى مزيدا من الغضب ، فقال : أتهزأ بي وتخاطبني بكنيتي؟ فقال الحسين : قد كان أبوبكر وعمر ، وهما خير منك ، يخاطبان بالكنى فلا ينكران

__________________

(١) تفصيل أخبار هذه الثورة في : مقاتل الطالبيين : ٢٧٢ ـ ٣٣١ ، تاريخ الطبري ، والكامل في التاريخ : حوادث سنة ١٤٥ هـ ، الفخري في الآداب السلطانية : ١٦٣ ، وينظر في ذلك كتاب (غيبة الإمام المهدي عند الإمام الصادق عليهما‌السلام) للسيد الدكتور ثامر العميدي ، الباب الثالث ، الفصل الثالث : ٢١٥ ـ ٢٤٨ ففيه تفصيل ثورة محمد النفس الزكية وأسبابها ومن اشترك فيها وإخمادها.

١٦٦

ذلك ، وأنت تكره الكنية وتريد المخاطبة بالولاية.

فقال الوالي : آخر قولك شر من أوله ..

فتدخّل يحيى بن عبداللّه ، فقال : فما تريد منا؟

قال : أريد أن تأتياني بالحسن بن محمد.

قال يحيى : فابعث إلى آل عمر بن الخطاب فاجمعهم كما جمعتنا ثم اعرضهم رجلاً رجلاً ، فإن لم تجد فيهم من قد غاب أكثر من غيبة الحسن عنك فقد انصفتنا. لكن الوالي كان يزداد غضبا ، حتى أقسم أن يحرق دار الحسين بن علي ويضربه ألف سوط إن لم يحضر الحسن إليه في يوم وليلة. كما أقسم أن يقتل الحسن إذا رآه.

فبعث الحسين بن علي إلى الحسن بن محمد أن يهرب من المدينة ، فقال الحسن : لا واللّه يابن عمي ، بل أجيء معك الساعة حتى أضع يدي في يده.

فقال الحسين : ما كان اللّه ليطلّع علي وأنا أجيء الى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو خصمي وحجيجي في دمك ، ولكن أقيك بنفسي لعلّ اللّه أن يعفيني من النار.

فاجتمع ستة وعشرون رجلاً من ولد علي بن أبي طالب عليه‌السلام ومعهم نفر من أنصارهم. فدخلوا مسجد النبي عند أذان الفجر ، ونادوا : «أحد ، أحد» ثم تقدم أحدهم الى المؤذن وبيده السيف فقال له : أذن بحيّ على خير العمل. فأذن بها. فلما سمع ذلك العمري دهش واضطرب في كلامه. ثم هرب وله ضراط حتى نجا بنفسه. وصلى الحسين بالناس ، ثم دعا بالشهود الذين حضروا قسم العمري ، فقال لهم : هذا الحسن قد جئت به ، فهاتوا العمري وإلا واللّه خرجت من يميني ومما عليَّ. وخطب بالناس فقال : «أنا ابن رسول اللّه ، على منبر

١٦٧

رسول اللّه ، وفي حرم رسول اللّه. أدعوكم الى سنة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

أيها الناس ، أتطلبون آثار رسول اللّه في الحجر والعود ، وتتمسحون بذلك ، وتضيعون بضعةً منه؟!»

ثم خرجوا قاصدين مكة وهم نحو ثلاثمئة رجل ، فتلقتهم الجيوش بأرض يقال لها «فخ» وقادتها : موسى بن عيسى ، والعباس بن محمد بن سليمان ، ومبارك التركي وآخرون ، فقتل الحسين وأصحابه بعد معركة وكرّ وفر وحصار.

ثم دعا القادة العباسيون أبناء الحسن والحسين ممن بقي في المدينة ، وطرحوا بينهم رؤوس الشهداء ، فتكلم الإمام موسى بن جعفر الصادق عليه‌السلام حين قال له العباس : هذا رأس الحسين!

فقال : «نعم : إنا للّه وإنا اليه راجعون ، مضى واللّه مسلما صالحا صوّاما قوّاما ، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ، ما كان في أهل بيته مثله» فلم يجيبوه بشيء (١).

هذه حلقات من سلسلة الانتفاضات الطويلة التي كان سببها دائما المبالغة في الاضطهاد والامتهان ، كما كان قادتها دائما من رموز الاسلام وخيار رجاله دينا وعلما وشرفا.

__________________

(١) أخبار هذه الثورة في مقاتل الطالبيين : ٣٦٤ ـ ٣٨٥.

١٦٨

الفصل الرّابع

دول شيعية وأدوار تاريخية

الدّولة الفاطمية

(٢٩٦ ـ ٥٧٦ هـ)

كانت هذه الدولة ، كما وصفها الدكتور حسن إبراهيم حسن ، بضرورة من ضرورات العالم الإسلامي في ذلك الحين الذي تمزقت فيه قوى المسلمين وتفرقت كلمتهم وتلاشت دولتهم وأصبحوا يتطلعون إلى الحمى الذي يمكن أن يلجؤوا إليه من الخطر الداهم المهدد لوجودهم بتزايد قوى الروم وإصرارهم على غزو الإسلام في دياره واسترداد ما أخذه منهم والثأر للماضي البعيد حتى أن نقفور فوقاس لم يكن يخفي مطامعه الهوجاء في الزحف إلى الحجاز نفسه والوصول إلى مكة والمدينة.

في هذا المعترك الرهيب كان المنقذ هو نشوء دولة فتية وزعامة قوية تجمع حولها ما تشتت من القوى وتوحد ما تفرق من البلاد ، فكانت الدولة الفاطمية هي المنقذ فجمعت الشمال الإفريقي في كيان واحد وقيادة واحدة متماسكة جعلته دولة بعدما كان عدة دول متطاحنة متقاتلة.

١٦٩

يقول الدكتور محمد جمال الدين سرور أستاذ التاريخ الاسلامي في جامعة القاهرة : «اتجهت سياسة الفاطميين بعد أن امتد نفوذهم إلى مصر في عهد المعز لدين اللّه الفاطمي سنة ٣٥٨ هـ (٩٦٩ م) إلى استعادة المدن التي استولى عليها البيزنطيون في شمال الشام».

وهكذا أصبحت الدولة الجديدة ذات كيان خطير قضى على الدويلات وجمع الشمل في إطار يشدها لتواجه الأحداث الرهيبة ، وكان في أولها حفظ بلاد الشام واسترداد ما تساقط منها في أيدي الروم الذين وصلوا في إحدى نوباتهم في عهد الإمبراطور حنا زيمسكيس ، سنة ٩٧٥ م ، ٣٦٥ هـ ، إلى حمص وبعلبك واضطرت دمشق نفسها إلى التسليم ودفع الجزية لهم ثم ساروا فاستولوا على بعض مدن الساحل مثل صيدا وبيروت.

وظل الروم يتقدمون وظلت الاستعدادات الفاطمية تتوالى لإنقاذ الشام حتى اصطدمت بالروم في طرابلس الشام برا وبحرا فأوقعت الهزيمة بهم فارتدت قواهم إلى أنطاكية.

وقد كان للأسطول الفاطمي الشأن العظيم في دفع عادية الروم ثم الصليبيين.

وكانت أوروبا تحاول ضرب الدولة الجديدة قبل أن يشتد ساعدها ويعلو أمرها فهاجمتها في مواقعها الأوروبية لتقضي عليها فيها ولكن الفاطميين صمدوا لأوروبا في بلادها كما صمدوا لها في بلاد الشام وغير بلاد الشام. ويحدثنا ابن الأثير عن واحدة من المعارك الرهيبة التي خاضها الفاطميون في

١٧٠

سبيل صون الوطن الإسلامي سنة ٣٥٤ هـ ، وذلك قبل امتداد دولتهم إلى مصر. ولما كانت هذه المعركة من أروع الصفحات في تاريخنا العسكري فإننا ننقل وصفها بنصه من ابن الأثير :

« ... ذلك أن أحمد بن الحسن والي المعز على صقلية أرسل يستمده فبعث إليه المعز المدد بالعساكر والأموال مع أبيه الحسن وجاء مدد الروم فنزلوا عبر سهل (مسيني) وزحفوا إلى رمطة ومقدم الجيش الفاطمي الحسن بن عمار وابن أخيه الحسن بن علي.

فأحاط الروم بهم وعظم الأمر على المسلمين فاستماتوا وحملوا على الروم وعقروا فرس قائدهم منويل فسقط عن فرسه فقتل هو وجماعة من البطارقة معه وانهزم الروم وتتبعهم المسلمون بالقتل وامتلأت أيديهم بالغنائم والأسرى. ثم فتحوا مدينة رمطة عنوة وغنموا ما فيها وركب فل الروم من صقلية وجزيرة (ريو) في الأساطيل ناجين بأنفسهم فأتبعهم الأمير أحمد وأصحابه في الماء وأحرقوا كثيرا من مراكبهم فغرقت وكثر القتل في الروم فانهزموا لا يلوي أحد على أحد» (١).

هذه المعركة خلدها الشاعر محمد بن هاني الأندلسي بقصيدة فريدة يخاطب بها الخليفة الفاطمي المعز لدين اللّه تعد من أسمى ما في تراثنا الشعري من روائع الكفاح البطولي ، يقول ابن هاني :

يومٌ عريضٌ في الفَخار طويلُ

لا تنقضي غُررٌ له وحُجولُ

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٧ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ «نحوه» ، أحداث سنة ٣٥٤ هـ.

١٧١

مَسحتْ ثُغورُ الشام أدمعَها به

ولقد تبلّ التُرْبُ وهي هَمولُ

وجلا ظلامُ الدينِ والدنيا بهِ

مَلِكٌ لما قال الكرام فَعولُ

متكشّفٌ عن عَزمةِ عَلَويةٍ

للكُفرِ منها رَنَّةٌ وعويلُ

للّه عينا من رأى إخباته

لمّا أتاه بريدها الأجفيلُ

وسجودُهُ حتى التقى عَفْرُ الثرى

وجَبينُهُ والنَظمُ والإكليلُ

لو أبصرتْكَ الرومُ يومئذٍ دَرَتْ

أنَّ الإلـهَ بما تشاءُ كفيلُ

إن التي رام (الدمستقُ) حربها

للّه فيها صارمٌ مسلولُ

نامت ملوكٌ في الحشايا وانثنتْ

كَسْلَى وطرفُكَ بالسُهاد كحيلُ

تُلهيكَ صَلْصَلَةُ العوالي كلّما

ألهتْ أولئكَ قِينةٌ وشَمولُ

وفيما قاله الدكتور محمد كامل حسين يتضح لنا الجانب الآخر من الصورة الفاطمية؛ فإذا كان الفاطميون قد أقاموا الوحدة بعد التجزئة ، وأنشؤوا الجيش الضخم والأسطول الفخم ، فحموا بذلك العالم الإسلامي من أكبر كارثة كانت ستحل به ، فإنهم إلى جانب ذلك قد وضعوا منذ الساعة الأولى لحكمهم خطة هي أن يقوم هذا الحكم على قواعد ثابتة من العلم والمعرفة ، وخططوا كما نقول اليوم لسياسة تعليمية شاملة ترتكز على إنشاء جامعة كبرى ، ثم على تفريغ العلماء للعلم وحده ، فلا يشغلهم شاغل العيش عن الانصراف إلى العلم ولا يلهيهم الفقر عن التوسع في البحث والدرس ، فجعلوا لهم موارد من الرزق تضمن لهم العيش الكريم ثم أرسلوا يستدعون العلماء من الخارج. وقد اشتد هذا المنهج واتسع وقوي بعد إقامة الوحدة بضم البلاد الأخرى إلى مصر

١٧٢

وإنشاء القاهرة وإقامة الأزهر ، وقد تم ذلك على الشكل الآتي :

١ ـ خصصوا لكل مذهب من المذاهب الإسلامية في جامعتهم الكبرى (الأزهر) كرسيا لتدريس ذلك المذهب.

يقول على مصطفى مشرفة في مجلة المقتطف (ص ١٠٦ ج ٤) إنه يخالف ابن خلدون والسيوطي في أن الفاطميين ضغطوا على المذاهب الأخرى بما ذكره السيوطي بنفسه من أن أبابكر النعماني إمام المالكية كانت تدور حلقته على ١٧ عمودا وكان للمالكية ١٥ حلقة وللشافعية مثلها ، ولأصحاب أبي حنيفة ثلاث حلقات فقط. ثم يورد شواهد كثيرة.

وكذلك كان للمذهب الجعفري حلقاته ولكننا لم نستطع معرفة عددهما في أقوال المؤرخين.

٢ ـ كان العلماء في البلاد الخارجة عن النفوذ الفاطمي يعانون محنة الفقر وكانت حياتهم مأساة مفجعة ، فأرسل الفاطميون يستدعونهم إليهم ويضمنون لهم العيش الكريم. وكأمثلة لما كان يجري نورد أسماء محدودة من كل عصر إذ ليس من المستطاع الإلمام بأسماء الجميع ، والذي يدعو إلى الإعجاب بالفاطميين أن جميع العلماء الذين استدعوهم أو وفدوا إليهم ووفروا لهم التفرغ للعلم كانوا على غير مذهب الفاطميين.

فمن تلك الأسماء :

ـ عبد السلام القزويني : شيخ المعتزلة ، الذي وفد إلى مصر فأقام فيها أربعين سنة يلقي تعاليم مذهبه.

١٧٣

ـ القاضي أبو الفضل محمد البغدادي : إمام الشافعية ، الذي وفد هو الآخر إلى مصر وأخذ يملي من مذهبه ما شاءاللّه أن يملي حتى مات سنة ٤٤١.

ـ أبو الفتح سلطان بن إبراهيم الفلسطيني (٥١٨).

ـ أبو الحجاج يوسف الميروقي (٥٢٣).

ـ مجلى بن جميع المخزومي (٥٥٠).

ـ القاضي على الموصلي الخلعي (٤٤٨).

ـ أبو محمد عبداللّه السعدي (٥٦١).

هؤلاء كانوا ممن ولي القضاء للفاطميين ، وهم جميعا من فقهاء الشافعية.

ومن فقهاء المالكية.

نعم .. عرفت مصر الفاطمية لكثرة الوافدين إليها من فقهاء المذاهب أمثال :

ـ محمد بن سليمان : المعروف بأبي بكر النعّال الذي كانت إليه الرحلة في مصر ، وكانت حلقته في الأزهر تدور على سبعة عشر عمودا لكثرة الطلاب الذين كانوا يقصدونه.

ـ الفقيه المالكي عبد الوهاب بن علي : أحد الأئمة المجتهدين في المذهب ، والذي وصفه الخطيب في تاريخ بغداد بأنه لم ير في المالكية أفقه منه ، لقد ضاقت به دنيا العرب والإسلام فكاد يموت من الجوع في بغداد فلم يجد إلاّ مصر الفاطمية يحتمي بها ، فلما جاءها تدفق عليه المال وأمروه بالانصراف إلى علمه وبحثه ، ولكن الأمر لم يطل فأصيب بالفالج فقال : «لا إله إلاّ اللّه ، عندما عشنا متنا» فتوفي هناك سنة ٤٢٢ هـ.

١٧٤

ـ عبد الجليل مخلوف الصقلي (٥٤٩).

ـ أبوبكر الطرطوشي (٥٢٥). وغيرهم العديد والوافر.

وكان الحاكم يأمر بإحضار جماعة من المتخصصين في كل علم بعضهم من أهل الحساب والمنطق ، والفقهاء والأطباء للمذاكرة بين يديه ، فكانت تحضر كل طائفة على انفراد ثم يخلع الحاكم على الجميع ويصلهم.

ومن أبلغ ما ورد في هذا الشأن ما قاله ابن أبي أصيبعة : «أنه لما وصل المهذب ـ وكان فاضلاً في صناعة الطب ـ إلى الشام من بغداد أقام بدمشق مدة ولم يحصل له بها ما يقوم بكفايته ، وسمع بالديار المصرية وإنعام الخلفاء فيها وكرمهم وإحسانهم إلى من يقصدهم ولا سيما أرباب العلم والفضل ، فتوجه إلى مصر فوهبت له الأموال وأقام فيها مكرما».

إضافة إلى هذا فقد تفرد الفاطميون بإنشاء دور الكتب الكبرى في الإسلام ، وبلغت تلك الدور حدا عجيبا واجتمع فيها ما يثير اليوم دهشتنا. ويكفي أن مكتبة القصر وحدها مثلاً كانت تضم ستمئة ألف وألف كتاب (٦٠١٠٠٠) ولتسهيل المطالعة على المراجعين كانوا يقتنون من أمهات الكتب الكبرى التي تكثر حاجة الناس إليها كانوا يقتنون منها عشرات النسخ ، فقد كان يوجد من (تاريخ الطبري) وحده ألف ومائتا نسخة ، منها نسخة بخط ابن جرير نفسه ، ومن كتاب (العين) نيفا وثلاثين نسخة منها بخط الخليل ، إلى غير ذلك من هذا وأشباهه.

وأدرك الدولة الفاطمية ما يدرك غيرها من الدول في أيامها الأخيرة ،

١٧٥

فشاخت وضعفت واستنفدت معظم قواها في مقارعة الصليبيين برا وبحرا وفي إخماد الفتن.

وفي العام ٥٦٤ هـ بدا أن تهديدا صليبيا ربما وصل إلى مصر نفسها وذلك في عهد الخليفة العاضد آخر الخلفاء. وقد أيقن العاضد أن لا قبل له بمقاومة الصليبيين وأن جيوشه في وضع لاتستطيع معه الصمود في وجه الزحف الفرنجي ، فلم يتردد لحظة واحدة في أن يضع خلافته وملكه وكل بلاده في أيدي غير فاطمية ، يعرف مطامعها به ويدرك ما تضمره لما يعتقد ، ولم يتوان في أن يسلمها كل شيء ما دامت تستطيع المعاونة على دفع الصليبيين عن مصر ، وأقدم على تضحية ليس لها شبيه ولا نظير.

لقد أرسل يستدعي نور الدين محمود ، وهو يعلم ما فعل نور الدين بالشيعة في حلب وغير حلب ، أرسل يستدعيه ليحتل بلاده بمن شاء من قواده ، وقصَّ شعور نسائه وأرسلها مع كتب الاستنجاد ، قائلاً لنور الدين : «هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لتنقذهن من الفرنج».

فكانت خاتمة الدولة الفاطمية ، وهي أشرف خاتمة تصنعها دولة من الدول لنفسها بيديها.

الدّولة الحمدانية

(٣٣٣ ـ ٤٠٦ هـ)

جد الحمدانيين الذي ينتسبون إليه هو حمدان بن حمدون التغلبي. وكان له ثمانية أبناء ، هم : أبو الهيجاء عبداللّه والد سيف الدولة ، وأبو إسحاق إبراهيم ،

١٧٦

وأبو العلاء سعيد والد أبي فراس ، وأبو الوليد سليمان ، وأبو السرايا نصر ، وعلي ، وأبو علي الحسين ، وسليمان الحرون.

وفي قلعة منيعة ببلدة ماردين من أعمال الموصل ، وفي باكورة النصف الثاني من القرن الثالث الهجري ، كانت السيادة لحمدان بن حمدون ، وكان حمدان يخرج بين الحين والحين للجهاد ومحاربة الروم ، وكثيرا ما توغل في أرضهم لمسافات طويلة ، يحرر الثغور ويجدد بناء أسوار حصونها ويحميها ، حتى أنه بنى سورا على «ملطية» كلفه سبعين ألف دينار.

وبدأ نجم ولده الحسين يلمع كسيف من سيوف الخلافة ، يخوض المعارك فلا يكاد ينهزم في واحدة إلاّ لكي ينتصر في عشر بعدها.

وفي ذلك الوقت تفزع الخلافة بغارات القرامطة ، فيقذف الخليفة هؤلاء بالحسين بن حمدان ، فطاردهم في الشام وقتل زعيمهم صاحب الشامة الذي كان قد جبى الخراج من دمشق ولقب نفسه بأمير المؤمنين.

ويحتل القرامطة الأردن فيتجه الحسين إليهم ولا يكادون يشعرون به حتى يفروا إلى السماوة ، ويحاصر بنو تميم حلب فيردهم عنها.

ويخرج الطولونيون على الخلافة فيسيّر الخليفة إليهم الحسين وإخوته ، فيضرب الحسين قائد الطولونيين بعنف ويقتله ويطارد فلول جيشهم حتى الأراضي المصرية ، ويدخل مصر ويلي أمرها فلا يعجبه المقام فينصرف غانما.

ويتجه الحسين إلى فارس فاتحا فيعجب أهلوها بشجاعته ، ويبذلون له مئات الآلاف من الدنانير لكي يقيم بينهم ، ولكنه لأمر ما رفض الإقامة في

١٧٧

مكان واحد حتى يكون قريب الصلة ببغداد ، ويلي أمر حلب فترة من الوقت ثم يتركها راضيا أو كارها ، ويحكم ديار ربيعة فترة من الزمن ، ويعيش في كل تلك الأماكن كما يعيش الملوك ، له فرسانه وسلاحه وقصوره ، يقصده الشعراء فيفيض عليهم.

ولم يكن الحسين بن حمدان الوحيد بين إخوته في الشجاعة والفتوة ، فقد كان لكل واحد منهم طابعه الخاص في الجرأة وخوض الغمار والاستئثار بالنصر ، فكانت وقائع داود كثيرة ، أهمها معركته مع بني عامر بن صعصعة وطئ¨ حينما أوقع بهم هو وأخوه أبو الهيجاء وهزماهم شر هزيمة في طريق الحج.

وأما سليمان بن حمدان بن حمدون ، فكان يعتبر ـ بعد أبيه ـ شيخ بني حمدان ، وكان جرئ القلب صبورا على الحرب عالي الشأن في المعامع ولذلك سمي «بالحرون».

ومن أبناء حمدان ، أبو العلاء سعيد ، والد الشاعر الأمير الفارس أبي فراس ، وكان ملازما مجلس الخليفة المقتدر مكينا عنده ، وكان شأنه في الشجاعة والحرب شأن إخوته ، فحينما هوجم المقتدر في قصره من الجنود الشاغبة ، كان أبو العلاء على غير أهبة للقتال ، إلاّ أن الخليفة استنجد به ودفعه إليهم وأمره بقتالهم ، فأخذ يضرب فيهم وقد أثخنوه بالجراح ، كما كانت له وقعة أخرى مع الجند والقواد في دار الوزير ابن مقلة.

وكما حارب سعيد في دار الخلافة وناضل في دار الوزير ابن مقلة ، فإنّه حارب أيضا في الصحراء والنجود ، وحارب بني سليم وقد تعرضت للحجاج ،

١٧٨

وكان سعيد يحج في تلك السنة فأوقع بالمعتدين.

وأبو الهيجاء عبد اللّه بن حمدان : هو أحد السيوف البواتر التي أنجبها حمدان بن حمدون ، عاش حياته كلها محاربا ثائرا شأنه شأن أخيه الحسين ، وكان لجرأته على الحرب يسمى أبا الهيجاء ، ولي أمر الموصل أكثر من مرة وعزل أكثر من مرة ، وحدث أن أغارت الأكراد على حلب وكان حديث عهد بها فطاردهم حتى أرمينية ولم يزل بهم حتى استأمنوا له.

وحج بالناس ذات مرة فهاجمت الحجيج بنو كلاب فلاحقهم أبو الهيجاء وأوقع بهم وكان معه أخوه داود.

وكما ولي حلب وديار ربيعة فقد ولي خراسان والدينور ، وكانت إقامته غالبا في بغداد ومنها يحكم الإقليم التي يلي أمرها عن طريق أبنائه أو أنصاره ، ولقد ثار على الخليفة غير مرة ودخل السجن غير مرة ، واشترك في خلع المقتدر سنة ٣١٧ هـ غير أن الخطة فشلت فأرسل الخليفة إليه من قتله.

ولعل أبا الهيجاء يعتبر أسعد إخوته حظا لأنه أنجب أشهر حمدانيَّين عرفهما التاريخ وهما سيف الدولة «علي» وناصر الدولة «الحسن».

إمارة الموصل

والواقع أنهم اختاروا الموصل لأكثر من سبب؛ فهي جماع عصبتهم ، وهي غنية بخيراتها ، حتى أن ميرة بغداد كانت منها ، هذا فضلاً عن أن المنطقة كلها من العرب المتعصبين للحمدانيين من أمثال ديار ربيعة وديار بكر وديار مضر.

على أن أبا الهيجاء عبداللّه بن حمدان هو الأمير الوحيد من بين إخوته

١٧٩

الذي استقامت له ولاية الموصل أطول مدة من الزمن رغم أنه عزل عنها ثلاث مرات لكن يعود إلى إمرتها من جديد ، وقتل فيها سنة ٣١٧ هـ ، لكي يكمل من بعده ابنه الآخر علي الذي لقب بسيف الدولة ملكا مجاورا في حلب.

وقد تمكن أبو الهيجاء أن يقنع الخليفة المكتفي بأن يوليه إمرة الموصل وأعمالها لأول مرة سنة ٢٩٣ هـ وهو التاريخ الذي يذهب كثير من المؤرخين إلى أنه البداية الحقيقية لدولة بني حمدان.

وإذا ما تتبعنا تاريخ إمرة أبي الهيجاء للموصل ، وجدناه قد وليها ثلاث مرات منذ سنة ٢٩٣ هـ حتى سنة ٣١٧ عزل خلالها مرتين ، إحداهما سنة ٣٠١ والأخرى حينما قبض عليه مع إخوته في بغداد سنة ٣٠٣ هـ ، ويلاحظ أن فترة بعده عن الموصل بعد عزله في المرة الثالثة قد طالت بعض الوقت.

دخل البريديون بغداد سنه ٣٣٠ هـ ، فاضطر الخليفة المتقي أن يلتمس لنفسه مكانا للنجاة فلم يجد خيرا من الموصل ، حيث الأمير الحمداني القوي القادر علي حمايته وإعادة عرشه إليه ، فيمم وجهه شطرها وبرفقته أمير الأمراء أبو بكر محمد بن رائق ، ولما كان الأمير الحمداني طموحا ، نزّاعا إلى توطيد ملكه ، نهّازا للفرص فقد أرسل إلى ابن رائق من قتله.

ولم يشأ الأمير الحمداني أن يضيع وقتا فاصطحب الخليفة وسار على رأس جيش كبير معقود لواؤه على أخيه الأصغر علي ، وما كاد الركب يصل بغداد حتى نجا البريديون بأنفسهم ، وفروا أمام الجيش الحمداني ، وعاد الخليفة إلى قصره آمنا مطمئنا ، فأنعم على الحسن بن حمدان بلقب (ناصر

١٨٠