التشيّع

الدكتور محمد زين الدين

التشيّع

المؤلف:

الدكتور محمد زين الدين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-514-4
الصفحات: ٢١٩

المبحث الثّاني

الانتفاضات الشيعية

في العهدين الأموي والعباسي

على امتداد العهدين قامت ثورات وانتفاضات شيعية عديدة ، وفي أماكن متعددة ، وكانت الأسباب الأساسية الدافعة لها تكاد تكون واحدة ، تمثلت دائما بالاضطهاد الشديد لزعماء أهل البيت عليهم‌السلام ومحاولات تصفيتهم جسديا ، إلى جانبها الانحراف الكبير في أساليب السياسة والادارة ، المصحوب دائما باضطهاد عامة الناس وحرمانهم من حقوقهم ، وبالفساد المالي والإداري المتفاقم ، الذي يجري كله باسم الدين.

نسلط الأضواء في هذا المبحث على جملة بارزة من هذه الحركات الثورية ، لأنّ ذكرها جميعا يستدعي المزيد من الإطالة.

ثورة الحسين عليه‌السلام

موقف الحسين عليه‌السلام من البيعة ليزيد :

مات معاوية حين مات ، وكثير من الناس ، وشيعة آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بنوع خاص ، يرون بغض بني أمية من الدين الذي أمر اللّه به ورسوله ، وأنّ حب أهل

١٤١

البيت فرضا واجبا عليهم (١).

وقد عجل تلهف يزيد على أخذ البيعة له من كبار زعماء المعارضة ـ وعلى رأسهم الحسين عليه‌السلام ـ في تتابع الأحداث. فكتب إلى الوليد بن عتبة والي المدينة كتابا يخبره فيه بموت معاوية وكتابا آخر جاء فيه : «أما بعد فخذ حسينا ، وعبداللّه بن عمر ، وابن الزبير بالبيعة أخذا ليس فيه رخصة ، حتى يبايعوا ، والسلام» (٢).

ولقد آثر الحسين عليه‌السلام أن يتخلص من الوليد بالحسنى حين دعاه إلى البيعة ، فقال له : «مثلي لايبايع سرا ، ولا يجتزئ بها مني سرا ، فإذا خرجت للناس ودعوتهم للبيعة ، ودعوتنا معهم كان الأمر واحدا».

ولكن مروان ـ الذي هو قصص من لعنة اللّه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال للوليد : لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ، ولكن احبسه فإن بايع وإلاّ ضربت عنقه!

فوثب الحسين عليه‌السلام عند ذلك وقال : «ويلي عليك يابن الزرقاء ، أنت تأمر بضرب عنقي؟ كذبت ولؤمت» (٣).

ثم أقبل على الوليد. فقال : «أيها الأمير ، إنّا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح اللّه ، وبنا ختم ، ويزيد فاسق ، فاجر

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٩٥ ـ ١٩٦.

(٢) الكامل في التاريخ ٣ : ٢٦٣ ، أنساب الأشراف ٤ ، قسم ثان : ١٢.

(٣) أنساب الأشراف ٤ ، قسم ثان : ١٥.

١٤٢

شارب الخمر ، قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق والفجور ، ومثلي لايبايع مثله» (١).

بهذه الكلمات أعلن الحسين عليه‌السلام ثورته على الحكم الأموي الفاسد على عظمته وجبروته وقسوته في مؤاخذة الخارجين عليه.

وكان على الحسين عليه‌السلام وحده أن ينهض بهذا الدور ، لقد كانت الثورة قدره المحتوم ، أما الآخرون الذين أبوا البيعة ليزيد فلم يكن لهم عند المسلمين ما للحسين من المنزلة وعلو الشأن ، أما ابن عمر فسرعان ما سلم قائلاً : «إذا بايع الناس بايعت» (٢). واما ابن الزبير فقد كان الناس يكرهونه ويتهمونه بأنه يريد الأمر لنفسه ، فلم تكن دوافعه دينية خالصة ، وإنّما كان يدفعه الطمع في الخلافة ، وما كان الناس يرونه لذلك أهلاً.

وإذن ، فقد وجد الحسين عليه‌السلام نفسه وجها لوجه أمام دوره التاريخي : الحكم الأموي بكل مافيه من ارتداد وفساد وانحطاط ورجعية وظلم وجور ، والأمة المسلمة بذلها وجوعها وحرمانها ، ومركزه العظيم في المسلمين ، كل ذلك وضعه وجها لوجه أمام دوره التاريخي ، وخطط له المصير الذي يتحتم عليه أن يصنعه لنفسه. وعند ذلك أعلن ثورته بهذه الكلمات التي مرت عليك ، وقد أجمل فيها أسباب هذه الثورة : التهتك ، والتطاول على الدين ، والاستهتار بحقوق الشعب ، هذه هي أسباب ثورة الحسين عليه‌السلام.

__________________

(١) أعيان الشيعة ٤ ، قسم أول : ١٨٣ ـ ١٨٤.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٢٥٤ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٢٦٥.

١٤٣

ويبدو أن يزيد بن معاوية أراد أن يخنق ثورة الحسين قبل اشتعالها وذلك باغتياله في المدينة. وقد وردت إشارتان إلى ذلك في كتاب أورده اليعقوبي في تاريخه (٢) من ابن عباس إلى يزيد بن معاوية صريحتان في الدلالة على أن يزيد دس رجالاً ليغتالوا الحسين في المدينة قبل مغادرته إياها إلى العراق.

ولعل هذا ما يكشف لنا عن سبب خروج الحسين من المدينة إلى مكة.

بواعث الثورة عند الحسين عليه‌السلام :

إن العنصر الاجتماعي شديد البروز في ثورة الحسين ، ويستطيع الباحث أن يلاحظه فيها من بدايتها حتى نهايتها ، ويرى أن الحسين ثار من أجل الشعب المسلم : لقد ثار على يزيد اللعين الكافر الفاجر باعتباره ممثلاً للحكم الأموي ، هذا الحكم الذي جوّع الشعب المسلم ، وصرف أموال هذا الشعب في اللذات ، والرشا وشراء الضمائر ، هذا الحكم الذي مزق وحدة المسلمين وبعث بينهم العداوة والبغضاء ، هذا الحكم الذي شرد ذوي العقيدة السياسية التي لاتنسجم مع سياسة البيت الأموي وقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وقطع عنهم الأرزاق وصادر أموالهم ، هذا الحكم الذي شجع القبلية على حساب الكيان الاجتماعي للأُمة المسلمة.

هذا الحكم الذي عمل عن طريق مباشر تارة وعن طريق غير مباشر تارة أُخرى على تقويض الحس الإنساني في الشعب ، وقتل كل نزعة إلى التحرر بواسطة التخدير الديني الكاذب. كل هذا الانحطاط ثار عليه الحسين عليه‌السلام ، وها

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٣٤ ـ ٢٣٦.

١٤٤

هو يقول لأخيه محمد بن الحنفية في وصيته له :

«إني لم أخرج أشرا ، ولا بطرا ولا مفسدا ، ولا ظالما ، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أُمة جدي ، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. فمن قبلني بقبول الحق فاللّه أولى بالحق ، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم بالحق ، وهو خير الحاكمين».

فالإصلاح في أُمة جده صلى‌الله‌عليه‌وآله هو هدفه من الثورة.

ثمّ إنه لم يقل : فمن قبلني لشرفي ، ومنزلتي في المسلمين ، وقرابتي من رسول اللّه ، وما إلى ذلك ... لم يقل شيئا من هذا .. إن قبوله يكون بقبول الحق فهذا داع من دعاته ، وحين يقبل الناس داعي الحق فإنما يقبلونه لما يحمله إليهم من الحق والخير ، لا لنفسه ، وفي هذا تعال وتسام عن التفاخر القبلي الذي كان رأس مال كل زعيم سياسي أو ديني في عصره عليه‌السلام.

وظهر العنصر الاجتماعي في ثورة الحسين أيضا حين التقى مع الحر بن يزيد الرياحي ، وقد كان ذلك بعد أن علم الحسين بتخاذل أهل العراق عنه بعد بيعتهم له ، وبعد أن انتهى إليه نبأ قتل رسوله وسفيره إليهم مسلم بن عقيل ، وبعد أن تبين له ولمن معه المصير الرهيب الذي ينتظرهم جميعا ، فقد خطب الجيش الذي مع الحر قائلاً :

«أيها الناس إن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من رأى سلطانا جائرا ، مستحلاً لحرام اللّه ناكثا لعهد اللّه ، مخالفا لسنة رسول اللّه ، يعمل في عباد اللّه بالاثم والعدوان ، فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقا على اللّه أن يدخله

١٤٥

مدخله .. ألا وأن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلوا حرام اللّه ، وحرموا حلاله ، وأنا أحق من غير ، وقد أتتني كتبكم ، وقدمت علي رسلكم ببيعتكم ، وأنكم لاتسلموني ولا تخذلوني ، فإن تممتم علي بيعتكم تصيبوا رشدكم ، فإني الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهليكم ، فلكم فيَّ أُسوة. وإن لم تفعلوا ، ونقضتم عهدكم ، وخلعتم بيعتي من أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم بن عقيل ، والمغرور من اغترّ بكم ، فحظكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيعتم ، ومن نكث فإنّما ينكث على نفسه» (١).

فهو هنا يبين لهم أسباب ثورته : إنها للوقوف بوجه الظلم ، والاضطهاد والتجويع ، وتحريف الدين ، واختلاس أموال الأمة. إنّها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم انظر كيف لمح لهم إلى ما يخشون ، لقد علم أنهم يخشون الثورة لخشيتهم الحرمان والتشريد ، فهم يؤثرون حياتهم على ما فيها من انحطاط وهوان على محاولة التغيير خشية أن يفشلوا فيعانوا القسوة والضنك.

لقد علم منهم هذا فقال لهم :

«وأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول اللّه ». فبيّن لهم مركزه أولاً ، ثم قال لهم : «نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهليكم ، فلكم فيّ أسوة»

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٣٠٤ ـ ٣٠٥ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٢٨٠ ، أعيان الشيعة ٤ ، قسم أول : ٢٢٨ ـ ٢٢٩.

١٤٦

فيما قد يحدث من اضطهاد وحرمان.

ويقف المتأمل وقفة أُخرى عند قوله : «وأنا أحق من غيَّر» فهو تعبير عن شعوره بدوره التاريخي الذي يتحتم عليه أن يقوم بأدائه.

بواعث الثورة لدى الرأي العام

ولم يكن المغزى الاجتماعي للثورة مدركا من قبل الحسين عليه‌السلام وحده ، فقد كان المسلمون يحسون بضرورة العمل على تطوير واقعهم السيء إلى واقع أحسن ، أدرك هذا أولئك الذين كتبوا إلى الحسين عليه‌السلام يطلبون منه القدوم إلى العراق. وأدرك هذا أولئك الذين صبروا أنفسهم على الموت معه.

والذين كتبوا إليه من العراق لم يكونوا أفرادا معدودين ، وإنما كانوا كثيرين جدا. ففي المؤرخين من يقول أن كتب أهل العراق إلى الحسين عليه‌السلام زادت على مئة وخمسين كتابا (١). وقال مؤروخون آخرون إنه قد اجتمع عند الحسين عليه‌السلام في نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب من أهل العراق. ونستطيع أن نكوِّن فكرة صحيحة عن ضخامة عدد الكتب التي دعت الحسين عليه‌السلام إلى القيام بالثورة ، إذا قرأنا هذا الخبر الذي رواه أغلب المؤرخين : وهو أن الحسين عليه‌السلام لما لقي الحر بن يزيد كان من جملة ما قاله للحر ومن معه : «أما بعد أيها الناس؛ فإنكم إن تتقوا اللّه ، وتعرفوا الحق لأهله ، يكن أرضى للّه ، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، وإن أنتم كرهتمونا ، وجهلتم حقنا وكان رأيكم غير

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٣ : ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

١٤٧

ما أتتني به كتبكم. وقدمت به عليَّ رسلكم انصرفت عنكم».

فقال له الحر بن يزيد : «إنّا واللّه ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر. فقال الحسين عليه‌السلام : يا عقبة بن سمعان أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إلي ، فأخرج خرجين مملوئين صحفا فنشرها بين أيديهم» (١).

تحطيم الإطار الديني :

استغل الأمويون الدين لإيهام رعاياهم أنهم يحكمون بتفويض إلهي ، وأنهم خلفاء رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حقا ، هادفين من وراء ذلك إلى أن يجعلوا من الثورة عليهم عملاً محظورا ، وإن ظلموا وجوعوا وشردوا المؤمنين ، وأن يجعلوا لأنفسهم باسم الدين الحق في قمع أي تمرد تقوم به جماعة من الناس وإن كانت محقة في طلباتها.

وقد استعانوا على ذلك بطائفة كبيرة من الأحاديث المكذوبة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله . وقد وضعها ونسبها إلى النبي نفر من تجار الدين الذين كانوا يؤلفون جهاز الدعاية عند معاوية بن أبي سفيان. واستعان معاوية بهؤلاء وغيرهم في عقد مجالس القصص والوعظ التي دأب القصاصون والوعاظ على أن يدسوا فيها هذه الأحاديث ، ويبشروا فيها بهذه الأفكار فيؤيدون بها الحكم الأموي عن طريق الدين.

وقد جعل معاوية القصص عملاً رسميا تابعا للدولة ، فرتب قصاصا

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٣٠٣ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٢٨٠ ، أعلام الورى : ٢٢٩ ، أعيان الشيعة ٤ ، قسم أول : ١٥٥ ـ ١٦٠ ، الأخبار الطوال : ٢٤٩.

١٤٨

يوميين في المحافل والمساجد ، وأنفق عليهم من مال الدولة. قال الليث بن سعد : «وأما قصص الخاصة فهو الذي أوجده معاوية ، ولى رجلاً على القصص فإذا سلم من صلاة الصبح جلس ، وذكر اللّه عز وجل ، وحمده ومجده ، وصلى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ودعا للخليفة ، ولأهل بيته ، وحشمه وجنوده ، ودعا على أهل حربه ، وعلى المشركين كافةً» (١).

وعن طريق هذه المؤسسات آمن الناس إيمانا غيبيا بالحكم الأموي وبحرمة الثورة عليه ، وإن خرج عن حدود الدين الذي هو المبرر الوحيد لوجوده. ولقد عملت هذه المؤسسات عملها ، وأعطت ثمارها الخبيثة في صورة تسليم تام ، وخضوع أعمى للحكم الأموي مهما اقترف من مظالم ، وهذه بعض الشواهد على ذلك من ثورة الحسين نفسها :

فهذا ابن زياد يقول للناس في خطبته التي خذّل فيها عن مسلم بن عقيل :

«اعتصموا بطاعة اللّه وطاعة أئمتكم» (٢).

وهذا عمرو بن الحجاج الزبيدي ـ من قادة الجيش الأموي في كربلاء ـ صاح قائلاً حين رأى بعض أفراد جيشه ينسلون إلى الحسين ، ويقاتلون دونه :

«يا أهل الكوفة ، الزموا طاعتكم وجماعتكم ، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين ، وخالف الإمام» (٣).

__________________

(١) فجر الإسلام : ١٥٨ ـ ١٦٠.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٢٧٥.

(٣) تاريخ الطبري ٤ : ٣٣١.

١٤٩

وقد كان حريا بهذه العقيدة ـ إذا عمت جميع طبقات المجتمع ، واستحكمت في أذهان الناس دون أن تكافح ودون أن يظهر في الناس من يفضح زيفها وبعدها عن الدين ـ أن تقضي تماما على كل محاولة مقبلة يراد منها تطوير الواقع الإسلامي ، وتقويض أركان الحكم الفاسد الذي يمارسه الأمويون وأعوانهم ، وكلما تقدم الزمن بهذه العقيدة دون أن تجد مناوئا تزداد استحكاما وتأصلاً في النفوس كما نجده اليوم في بعض النفوس العفنة التي لا زالت إلى الآن تتغنى بسيرة الشجرة الملعونة في القرآن الكريم ، وذلك كفيل في النهاية بحمل المجتمع على مناوئة كل حركة تحررية.

لقد كان أضمن السبل لتحطيم هذا الإطار الديني هو أن يثور عليه رجل ذو مركز ديني مسلّم به عند الأمة المسلمة بأسرها ، فثورة مثل هذا الرجل كفيلة بأن تفضح الزخرف الديني الذي يتظاهر به الحكام الأمويون ، وأن تكشف هذا الحكم على حقيقته ، وبعده الكبير عن مفاهيم الإسلام. ولم يكن هذا الرجل إلاّ الحسين عليه‌السلام. فقد كان له في قلوب المسلمين رصيد من الحب والإجلال عظيم ، وقد رأيت مصدق ذلك عند الحديث عن إقامته في مكة ، ثم عند الحديث عن خروجه منها إلى العراق.

ولقد زاد الحسين عليه‌السلام حراجة مركزهم حين لم يصر على القتال .. لقد طلب من الحر بن يزيد ـ وهو أول قائد أموي واجه الحسين بألف محارب ـ أن يتركه ليرجع من حيث أتى ، فلم يجبه الحر إلى ذلك. وكانت الأوامر تقضي عليه ألا يفارق الحسين حتى يقدمه الكوفة إلى زياد. ومن نافلة القول ان نذكر

١٥٠

أن الحسين عليه‌السلام رفض ذلك (١).

حتى إذا قدم عمر بن سعد قائد الجيش الأموي فاوضه الحسين طويلاً ، وأقنعه بأن يمسك الطرفان عن القتال ويرجع الحسين من حيث أتى أو يذهب إلى حيث يريد من بلاد اللّه. وكتب عمر بن سعد بذلك إلى عبيد اللّه بن زياد فأبى ابن زياد ذلك ، وكتب إليه : «أما بعد ، فإنى لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه ، ولا لتطاوله ، ولا لتمنيه السلامة والبقاء ، ولا لتقعد له عندي شافعا ، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم ، واستسلموا فابعث بهم إلي سلما ، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم فإنهم لذلك مستحقون ، فإن قُتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره ، فإنّه عاق مشاق! قاطع ظلوم! وليس في هذا أن يضر بعد الموت شيئا ، ولكن علي قول ، لو قد قتلته فعلت هذا به» (٢)!!

لقد أعطاهم الحسين عليه‌السلام فرصة يتقون بها ارتكاب قتله وقتل آله وصحبه ، ولكنهم أبوا إلاّ القتل ، وأصروا عليه ، فزادهم ذلك فضيحة في المسلمين.

ولقد جعلهم موقفهم هذا من الحسين عليه‌السلام بمثابة الثائرين على الإسلام نفسه.

وقد استغل الحسين عليه‌السلام هذه النقطة ـ إصرارهم على قتله ، وامتناعهم عن الاستجابة لكل حل سلمي ، ومركزه في المسلمين ـ استغلالاً رائعا ، فقد دأب في كل فرصة تواتيه للكلام على تأكيد هذه الحقيقة للجيش الأموي ، وهذا

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ، والكامل ٣ : ٢٨٠.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٣١٤ ، والكامل ٣ : ٢٨٤.

١٥١

نموذج من كلامه معهم في هذا الشأن :

«أيها الناس اسمعوا قولي ، ولا تعجلوني حتى أعظكم بما يجب لكم علي ، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم ، فإن قبلتم عذري ، وصدقتم قولي ، وأنصفتموني ، كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليّ سبيل ، وإن لم تقبلوا مني العذر فأجمعوا أمركم وشركائكم ، ثم لايكن أمركم عليكم غمة ، ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ، إن ولييَ اللّه الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين ..

أما بعد. فانسبوني ، فانظروا من أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها ، وانظروا : هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وابن وصيِّه وابن عمِّه ، وأول المؤمنين باللّه ، والمصدِّق لرسوله بما جاء به من عند ربه؟ أوليس حمزة سيّد الشهداء عمَّ أبي؟ أوليس جعفر الشَّهيد الطيّار عمّي؟ أو لم يبلغكم قول مستفيض فيكم أنَّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي ولأخي : «هذان سيِّدا شباب أهل الجنّة»؟ فإن صدَّقتموني بما أقول ـ وهو الحق ـ واللّه ما تعمَّدت كذبا مذ علمت أنَّ اللّه يمقت عليه أهله ، ويضرّ به من اختلقه ، وإن كذّبتموني فانَّ فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم : سلوا جابر بن عبداللّه الأنصاري ، أو أبا سعيد الخدري ، أو سهل بن سعد السّاعدي ، أو زيد بن أرقم ، أو أنس بن مالك ، يخبروكم أنَّهم سمعوا هذه المقالة من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لي ولأخي ، أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي»؟

١٥٢

فقال له شمر بن ذي الجوشن : هو يعبد اللّه على حرف إن كان يدري ما تقول.

فردّ عليه حبيب بن مظاهر : واللّه إني لأراك تعبد اللّه على سبعين حرفا وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع اللّه على قلبك.

ثم قال لهم الحسين : «فإن كنتم في شكٍ من هذا القول أفتشكّون في أنّي ابن بنت نبيِّكم؟ فواللّه ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري منكم ولا من غيركم ، وأنا ابن بنت نبيّكم خاصّة. أخبروني أتطلبوني بقتيلٍ منكم قتلته؟ أو مالٍ لكم استهلكته؟ أو بقصاص من جراحة»؟

فأخذوا لا يكلمونه. فنادى : يا شبث بن ربعي ، ويا حجار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا يزيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إلي : أن قد أينعت الثمار ، واخضر الجناب ، وطمت الجمام ، وإنّما تقدم على جند لك مجندة ، فاقبل»؟! قالوا له : لم نفعل! فقال : «سبحان اللّه! بلى واللّه ، لقد فعلتم» ثم قال : أيها الناس : إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض.

فقال له قيس بن الأشعت : أولا تنزل على حكم بني عمك ، فإنهم لن يروك إلاّ ما تحب ، ولن يصل إليك منهم مكروه.

فقال له الحسين : أنت أخو أخيك ، أتريد أن يطلبك بنو هاشم باكثر من دم مسلم بن عقيل (١)؟

«لا واللّه لا أعطيهم بيدي إعطاء الذَّليل ، ولا أُقرُّ إقرار العبيد. عباد اللّه :

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٢٨٠ ـ ٢٨١.

١٥٣

إني عذت بربي وربِّكم أن ترجمون. أعوذ بربي وربِّكم من كلّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب» (١).

بهذا الكلام فضح الحسين عليه‌السلام الزخرف الديني في الحكم الأموي ، فليس إنسانا عاديا هذا الذي ثار على هذا الحكم ، إنه ركيزة من أعظم الركائز التي قام عليها الاسلام ... الدين الذي يبرر به هذا الحكم وجوده. ومن ناحية أخرى أشعرهم أن الظلم يجب أن يقابل بالثورة. والاحتجاج ... بالعمل الاستشهادي حتى ولو كان هذا الظلم صادرا من جهاز حكمٍ يحكم باسم الدين ، لأن الحكم بمجرد أن يظلم يتنكر للدين.

لقد توجه بخطابه إلى الجنود ...

الجنود الذين يعلم أنهم مأمورون ، وأنهم لايملكون أن يفعلوا ما يريدون ، توجه إليهم ليؤكد في أذهانهم ومشاعرهم الحقيقة التي سترعبهم وسترعب المجتمع الاسلامي كله بعد قليل ... الحقيقة الصارخة بأنه ومن معه أبناء رسول اللّه نبي الدين الذي يحكم باسمه الأمويون ، إنه ومن معه منحدرون من هذه الأصول العريقة في تاريخ الإسلام : محمد رسول اللّه ، علي ، فاطمة ، جعفر ، حمزة. إنه يقرر في أذهانهم أنهم لايطلبونه بقتيل قتله منهم ، ولا بمال أحتجبه عنهم ، ولا بجراحة أصاب بها أحدهم ، وإنّما يطلبونه لأنّه ثار على الحكم الأموي الفاسد ، هذا الحكم الذي يصر على قتله باسم الدين ، وهو في مركزه الديني العظيم!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤٢٥ ـ ٤٢٦ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

١٥٤

على هذا النحو ينبغي أن يفهم هذا النص وغيره من النصوص.

وانتهت فاجعة كربلاء بمصرع الحسين عليه‌السلام وآله وصحبه. ولكن نضال

بقية آل البيت في سبيل إشعار المسلمين بالزيف الديني الذي يقوم عليه الحكم الأموي ، وفي سبيل بث الوعي في هذه الجماهير لم ينته ، ولكن النضال منذ اليوم لن يأخذ شكل الثورة المسلحة ، فقد صرع في كربلاء جميع الثائرين ، إنه منذ اليوم نضال كلامي. ولقد واصلت ثورة الحسين في هذا الإتجاه أخته زينب عقيلة آل أبي طالب.

لقد تحطم منذ ذلك اليوم الإطار الديني الذي أحاط به الحكام الظالمون حكمهم الفاسد ، لم تعد لهذا الحكم حرمة دينية عند الجماهير المسلمة.

وحتى الفتاوى التي تحرم ثورة العادلين على الظالمين الفاسقين ، والتي تجعل مبرر السيطرة على الحكم القدرة على قهر الرعية وظلمها والجور فيها ، وهذه الفتاوى التخديرية التي ما أنزل اللّه بها من سلطان ، بقيت في بطون الكتب ، ولم تعد الجماهير المسلمة تستمع إليها إلاّ قليلاً ... لقد بدأت تتربص للثورة في كل حين.

ثورة التوابين

كان أول رد فعل مباشر لقتل الحسين عليه‌السلام هو حركة التوابين في الكوفة.

فلما قتل الحسين عليه‌السلام ، ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندم ، ورأت أنها قد أخطأت خطأ كبيرا بدعاء الحسين إلى النصرة وتركهم إجابته ، ومقتله إلى جانبهم ولم ينصروه. ورأوا أنه لايُغسل

١٥٥

عارهم ، والإثم عنهم في مقتله إلاّ بقتل من قتله أو القتل فيه. ففزعوا بالكوفة إلى خمسة نفر من رؤوس الشيعة : سليمان بن صرد الخزاعي ، والمسيب بن نجبة الفزاري ، وعبداللّه بن سعد بن نفيل الأزدي ، وعبداللّه بن وائل التميمي. ورفاعة بن شداد البجلي.

وكتب سليمان بن صرد إلى سعد بن حذيفة بن اليمان ومن معه من الشيعة بالمدائن بأمرهم فأجابوه إلى دعوته. وكتب إلى المثنى بن محربة العبدي في البصرة والشيعة هناك فأجابوه إلى ذلك.

وكان أول ما ابتدأوا به أمرهم بعد قتل الحسين عليه‌السلام سنة إحدى وستين ، فما زالوا بجمع آلة الحرب ودعاء الناس في السر إلى الطلب بدم الحسين ، فكان يجيبهم القوم بعد القوم والنفر بعد النفر من الشيعة وغيرها. فلم يزالوا كذلك حتى هلك يزيد لعنه اللّه ، فخرجت طائفة منهم دعاة ، يدعون الناس ، فاستجاب لهم ناس كثير بعد هلاك يزيد أضعاف من كان استجاب لهم قبل ذلك. وخرجوا يشترون السلاح ظاهرين ، ويجاهرون بجهازهم وما يصلحهم.

حتى إذا كانت ليلة الجمعة ، لخمس مضين من شهر ربيع الآخر ، سنة خمس وستين (٦٥ هـ) خرجوا ، وتوجهوا إلى قبر الحسين عليه‌السلام فلما وصلوا إليه صاحوا صيحة واحدة ، فما رأي يوم أكثر باكيا منه ، وقالوا :

«يا رب. إنا قد خذلنا ابن بنت نبينا ، فاغفر لنا ما مضى ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، وارحم حسينا وأصحابه الشهداء الصديقين. وأنا نشهدك يا رب إنا على مثل ما قتلوا عليه ، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من

١٥٦

الخاسرين».

وغادروا القبر مستقتلين ، فقاتلوا جيوش الأمويين حتى أبيدوا جميعا (١).

ولقد اعتبر التوابون أن المسؤول الأول والأهم عن قتل الحسين عليه‌السلام هو النظام وليس الأشخاص ، ولذا نراهم توجهوا إلى الشام ولم يلقوا بالاً إلى من في الكوفة من قتلة الحسين عليه‌السلام.

ونلاحظ هنا أن هذه الثورة قد انبعثت عن شعور بالإثم والندم ، وعن رغبة في التكفير. فمن يقرأ أقوالهم ، وكتبهم وخطبهم يلمس فيها الشعور العميق بالإثم والندم ، والرغبة الحارة في التكفير وكونها صادرة عن هذه البواعث جعلها ثورة إنتحارية ، فالثائرون هنا يريدون الإنتقام والتكفير. ولا يستهدفون شيئا آخر وراء ذلك ، فلا يريدون نصرا ، ولا ملكا ، ولا مغانم ، وإنما يريدون انتقاما فقط ، وقد خرجوا من ديارهم وهم على مثل اليقين بأنهم لايرجعون إليها ـ كانوا يريدون أن يموتوا ، ولقد بذل لهم الأمان فلم يقبلوا (١). وإذن ، فلم تكن لهذه الثورة أهداف اجتماعية واضحة ومحددة. لقد كان الهدف الواضح منها هو الإنتقام والتكفير.

وكون هذه الثورة انتقامية انتحارية لاهدف للقائمين بها إلاّ الانتقام والموت في سبيله يفسر لنا قلة عدد المستجيبين لها إلى النهاية. فقد أحصى ديوان سليمان بن صرد ستة عشر ألف رجل لم يخرج معه منهم سوى أربعة

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٤٢٦ ـ ٤٣٦ و ٤٤٩ ـ ٤٧٣.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٤٦٩.

١٥٧

آلاف (١). ولم يستجب للدعوة من المدائن إلاّ مائة وسبعون رجلاً ، ومن البصرة إلاّ ثلاثمائة رجل (٢). فالعمل الانتحاري لايستهوي إلاّ أفرادا على مستوى عال من التضحية والتشبع بالمبدأ ، وهؤلاء قلة في كل زمان.

هذا ، ولكن الإنصاف للواقع يقتضينا أن نسجل أن هذه الثورة وإن كانت ثورة انتحارية ، ولم تكن لها أهداف اجتماعية واضحة ، إلاّ أنها أثرت في مجتمع الكوفة تأثيرا عميقا. فقد عبأت خطب قادة هذه الثورة وشعاراتهم الجماهير في الكوفة للثورة على الحكم الأموي ، ولذلك فلم يكد يبلغهم خبر هلاك يزيد حتى ثاروا على العامل الأموي عمرو بن حريث فأخرجوه من قصر الإمارة واصطلحوا على عامر بن مسعود الذي بايع لابن الزبير (٤) ، فكان ذلك مطلع العهد الذي زال فيه سلطان الأمويين عن العراق إلى حين.

ثورة المختار الثقفي

ودخلت سنة ست وستين للهجرة (٦٦ هـ) فثار المختار بن أبي عبيدة الثقفي بالعراق طالبا ثار الحسين عليه‌السلام.

ولكي نعرف السر في استجابة جماهير العراق لابن الزبير أول الأمر ثم إنقلابها عليه ، واستجابتها لدعوة المختار لابد أن نلاحظ أن مجتمع العراق كان يطلب إصلاحا اجتماعيا ، وكان يطلب الثأر من الأمويين وأعوانهم ، وعلى

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٤٦٩.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٤٦٤.

(٣) تاريخ الطبري ٤ : ٤٠٤.

١٥٨

أمل الإصلاح الاجتماعي والإنتقام ، استجاب مجتمع العراق لابن الزبير ، فهو عدو الأمويين ، من جهة ، وهو يتظاهر بالإصلاح والزهد والرغبة عن الدنيا من جهة أخرى ، فلعل سلطانه أن يحقق كلا الأمرين.

ولكن سلطان ابن الزبير لم يكن خيرا من سلطان الأمويين ، لقد أخرج العراق عن سلطانهم ، ولكن قاتلي الحسين كانوا مقربين إلى السلطة كما كانوا في عهد الأمويين. أن شمر بن ذي الجوشن ، وشبث بن ربعي ، وعمر بن سعد ، وعمرو بن الحجاج ، وغيرهم ، كانوا سادة المجتمع في ظل سلطان ابن الزبير ، كما كانوا سادته في ظل سلطان يزيد.

كما أنه لم يحقق لهم العدل الاجتماعي الذي يطلبونه. لقد كانوا يحنون إلى سيرة علي بن أبي طالب عليه‌السلام فيهم ، هذه السيرة التي حققت لهم أقصى ما يمكن من رفاه وعدل ، هذا عبداللّه بن مطيع العدوي عامل ابن الزبير على الكوفة يقول للناس أنه أمر أن يسير بسيرة عمر وعثمان فيقول له المتكلم بلسان أهل الكوفة :

« .. أما حمل فيئنا برضانا ، فأنا نشهد أنا لانرضى أن يحمل عنا فضله ، وإلاّ يقسم إلاّ فينا ، وأن لا يسار فينا إلاّ بسيرة علي بن أبي طالب ، التي سار بها في بلادنا هذه ، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا ، ولا في سيرة عمر بن الخطاب فينا ، وإن كانت أهون السيرتين علينا» (١).

كان هذا أو ذاك سببا في انخذال الناس عن ابن الزبير ، وتأييدهم لثورة

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٢٢٠ ـ ٢٢١.

١٥٩

المختار عليه ، ولقد ربط المختار دعوته بمحمد بن الحنفية ، ابن علي بن أبي طالب ، وهذا ما جعلهم يطمئنون إلى عدل السيرة والإصلاح. ولقد جعل شعاره «يا لثارات الحسين» وهذا يحقق لهم الهدف الثاني.

ولقد حارب عبداللّه بن مطيع ، عامل ابن الزبير في الكوفة ، الثائرين مع المختار بالرجال الذين تولوا قتل الحسين لقد حاربهم بشمر بن ذي الجوشن ، وعمرو بن الحجاج ، وشبث بن ربعي ، وأمثالهم وكان هذا كافيا في حفز الثائرين على المضي في ثورتهم والتصميم على النصر.

وقد أنصف المختار عندما تولى الحكم طبقة في المجتمع الاسلامي كانت مضطهدة في عهد الأمويين ، واستمر اضطهادها في عهد ابن الزبير ، وهي طبقة الموالي «المسلمين غير العرب» فقد كانت عليهم واجبات المسلمين ولم تكن لهم حقوقهم ، فلما استتب الأمر للمختار انصفهم فجعل لهم من الحقوق مثل ما لغيرهم من عامة المسلمين.

وقد أثار هذا العمل الأشراف وسادة القبائل فتكتلوا ضد المختار ، وتآمروا عليه ، وأجمعوا على حربه. وكان على رأس هؤلاء المتمردين قتلة الحسين. ولكنهم فشلوا في حركتهم (١).

ثورة زيد بن علي بن الحسين

وفي سنة ١٢١ هـ ، تهيأ زيد بن علي بن الحسين للثورة في الكوفة وثار في سنة ١٢٢ هـ ، وخنقت الثورة في مهدها بسبب الجيش الأموي الذي كان

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٢٢٠ ـ ٢٢١.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٥١٧.

١٦٠