شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار - ج ٢

القاضي النعمان بن محمّد التميميّ المغربي

شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار - ج ٢

المؤلف:

القاضي النعمان بن محمّد التميميّ المغربي


المحقق: السيد محمّد الحسيني الجلالي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١١

الدعاة (١).

قال (٢) : فما بعد ذلك يا أمير المؤمنين؟

قال : يفرّج الله البلاء برجل منا أهل البيت كتفريج الأديم (٣) يأتي (٤) ابن خير الامة يسومهم الخسف ويسقيهم كأسا مرة ، ودّت قريش بالدنيا وما فيها أن يقبل منهم بعض ما أعرض اليوم عليهم ويأبى إلا قتالا.

يعني الذي يفرج الله به البلاء المهدي صلوات الله عليه ، ومن يقوم بعده من ولده حتى يكون آخرهم الذي يجمع الله عزّ وجلّ له الامة كلها ويكون الدين كله لله كما أخبر عزّ وجلّ في كتابه ، ولا تكون فتنة ، وكما وعد سبحانه (٥) ، ونسب ذلك الى المهدي عليه‌السلام لأنه أول قائم به ، وباذل نفسه فيه كما أن ذلك وغيره ممّا يكون في الإسلام من كل أحد يقوم من الأئمة فيه ، ويجري الله عزّ وجلّ به بركة على يديه فمنسوب الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنه أول قائم بدعوة الإسلام.

ومن ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد ذكر المهدي عليه‌السلام. فقيل له : ممن هو يا رسول الله؟ فقال : منا أهل البيت ، بنا يختم الله الدين كما فتحه بنا ،

__________________

(١) وفي نسخة ـ ج ـ : وإنّا فيها دعاة.

(٢) وفي الغارات : فقام رجل فقال : يا أمير المؤمنين ما نصنع في ذلك الزمان؟ فقال (ع) : انظروا أهل بيت نبيكم فان لبدوا فالبدوا وان استصرخوكم فانصروهم تؤجروا ، ولا تسبقوهم فتصرعكم البلية. فقام رجل آخر فقال :

(٣) أي : تفريج الانسان المحصور في الجلد لتعذيبه ، وفي تفريجه راحة.

(٤) في الغارات : بأبي.

(٥) اشارة الى الآية الكريمة ( ... حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ) البقرة : ١٩٣.

٤١

وبنا يستنقذكم الله من الفتنة كما استنقذكم بنا من الشرك.

فنسب ذلك صلى‌الله‌عليه‌وآله الى نفسه لأنه أول قائم به وكذلك ينسب الى المهدي عليه‌السلام ما قام به وما يقوم به من بعده من وطد له الأمر من ولده.

وممّا يبيّن ذلك إيضاحا ما جاء نصا فيه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنه ذكر المهدي عليه‌السلام ، وما يجريه الله عزّ وجلّ من الخيرات والفتح على يديه.

فقيل له : يا رسول الله كل هذا يجمعه الله له؟

قال : نعم. وما لم يكن منه في حياته وأيامه هو كائن في أيام الائمة من بعده من ذريته.

وسنذكر القول في هذا بتمامه في الفصل الذي نذكر فيه أخبار المهدي عليه‌السلام ـ من هذا الكتاب ـ إن شاء الله ، وإنما ذكرت هاهنا ما ذكرت منه لما مرّ بي ما يوجب ذكره.

[٤١١] المبارك بن فضالة ، عن أبي بصير العبدي ، عن أبي سعيد الخدري (١) ، أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : تقتتل فئتان عظيمتان من امتي ، فتمرق (٢) من بينهما مارقة تقتلها أولى الفئتين بالحق.

قال علي بن زيد : فأخبر بذلك عدي بن بسر (٣) بن أرطاة.

فأرسل الى أبي بصير يسأله عن هذا الحديث ، فقال : سمعت أبا سعد

__________________

(١) وفي نسخة ـ ج ـ عن المبارك بن قضاعة عن أبي سعيد الخدري.

(٢) تمرق : تجوز وتخرق وتتعدى.

(٣) وفي نسخة الاصل : بشر ، وهو غلط ، واظنه عدي بن أرطاة.

٤٢

الخدري يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول ذلك.

ثمّ ضرب أبو بصير بيده على صدره ، وقال : لم تسأل عن هذا؟ قتلهم والله من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي عليه‌السلام ، وكان أولاهم بالحق.

فغضب عدي بن بسر بن أرطاة لذلك ، لأنه كان من أصحاب معاوية ، ومن غضب من الحق فلا أرضاه الله عزّ وجلّ.

[٤١٢] ابن لهيعة ، باسناده ، عن أبي سعيد الخدري ، أنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : سيخرج من بعدي أقوام يقولون الحق بألسنتهم ، وتأباه قلوبهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يرمق السهم من الرمية ، ينظر الى نصله ولا يرى شيئا ، ثم ينظر الى قدحه فلا يرى شيئا ، ثم ينظر الى ريشه فلا يرى شيئا ، ثم ينظر الى رصافه فلا يرى شيئا ، فلا يعلق بهم من الدين إلا كما يعلق ذلك السهم (١).

[ ضبط الغريب ]

قوله : يمرقون. المروق : الخروج من الشيء من غير مدخله ، وكذلك الخوارج دخلوا الاسلام بالإقرار بالشهادتين وخرجوا منه بالنفاق على إمامهم الذي أمر الله عزّ وجلّ بطاعته ، وقرنها بطاعته وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخرجوا من الدين من غير الموضع الذي دخلوا منه ، ويقال : مرق السهم من الرمية مروقا.

السهم : النبل الذي يرمى به. والرمية : ما يرمي الرامي من الصيد وغيره

__________________

(١) وفي نسخة ـ ج ـ : يعلق من السهم.

٤٣

فعيل في موضع مفعول بها وهي مرمية ، كما يقال : قتيل في موضع مقتول ـ ومروق السهم من الرمية : هو خروجه من غير الموضع الذي دخل فيها منه ، وذلك أن يرمي الرامي الطريدة (١) من الوحش ، يريد صيدها من قوسه فيصيبها بسهمه ، فيخرقها ، ويخرج من الجانب الثاني منها كله ، فتسقط الى الأرض لشدة الضربة.

والنصل : حديدة السهم ، يقال نصل السهم ، ونصل السيف لحديدته ، وانصلت السهم : إذا أخرجت نصله ، ونصلته : إذا جعلت له نصلا ، ونصل الشفرة : حديدتها ، ونصل البهمي : وهو نبات له رءوس حديدة ، يعلق بجلود الغنم ويدخل فيها ، كذلك أيضا يقال له : نصلها تشبيها بحديدة السهم.

والقدح : عود السهم وجمعه قداح.

والرصاف : عقب يلوى على موضع النوق (٢) من السهم. وفي رواية اخرى من هذا الحديث ، ثم ينظر الى فرقه فلا يرى شيئا. والفرق : شق رأس السهم ، حيث يجعل الوتر من أراد أن يرمي عن القوس. والرصاف : جمع رصفة ، والرصفة : ـ كما ذكرنا ـ عقبة يلوى ويشد بالغراء (٣) يعقب بها أسفل الفرق ليشتد لئلا ينشق السهم إذا نزع به الرامي ليرمي به عن القوس ، وكذلك قد يلوون مثل هذا العقب على ما يدخل من النصل في السهم إذا لم تكن فيه جبة (٤) ، وكان إنما جعل في طرف النصل شوكة تدخل في السهم ، فيشدون عليه عقبة بالغراء لترم السهم. وتسمى أيضا : رصفة ، وجمعها رصاف ، وتسمى السهم التي يفعل بها ذلك ويشد بالعقب : موصوفة.

__________________

(١) الطريدة : الصيد الذي أقبل عليه القوم والكلاب تطرده لتأخذه.

(٢) النوق : موضع الوتر من السهم.

(٣) الغراء : الذي يلصق به الريش.

(٤) الجبة السنان : مدخل ثعلب الرمح منه.

٤٤

ومن السهام ما لا يرصف إذا كان لنصله جبة يدخل طرف السهم فيها ويترك الفوق أيضا بلا رصاف إذا أمنوا عليه أن ينكسر ، قال بعض شعراء العرب :

( رمتني فأصابتني بنبل غير مرصوفة )

وذلك لما يتخوف من النبل إذا كانت نصالها غير مرصوفة وكان بحباب أن يبقى النصل في بدن الذي يصيبه إذا انتزع السهم منه.

والريش ، هو الريش يلصق في السهم تحت الفرق ، فشبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خروج الخوارج من الدين لا يعلق بهم شيء منه بالسهم ترمي به الرمية فينفذها ويخرج منها لشدة الرمي ، ولا يعلق به شيء من دمها ، وذلك قوله : ينظر في نصله ، يعني الرامي ، إذا مضت الطريدة تجود بنفسها ، فأصاب سهمه في الأرض فيظن أنه أصابها أو لم يصبها ، فينظر في نصله فلا يري شيئا ، يعني من الدم على الحديدة ، ثم ينظر الى قدحه فلا يرى شيئا ـ يعني لا يرى شيئا على العود أيضا من الدم ـ ثم ينظر الى ريشه فلا يرى عليه شيئا ، ثم ينظر الى رصافه ـ يعني العقب الذي تحت الفرق ـ فلا يرى شيئا به أيضا من الدم.

وفي حديث آخر : ثم ينظر الى فرقه ـ وهو الشق كما ذكرنا الذي يكون في آخر السهم ـ فلا يرى الدم علق بشيء منه ، كذلك لا يعلق شيء من الدين بالخوارج كما شبههم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ووصفهم بصفته.

٤٥

[ ابن عباس والخوارج ]

[٤١٣] وبآخر ، عن عبد الله بن عباس ، أنه قال : أرسلني علي أمير المؤمنين عليه‌السلام الى الخوارج الحرورية لاكلمهم ، فكلمتهم.

فقالوا : لا حكم إلا لله.

فقلت : أجل ، ولكن أما تقرءون القرآن (١) وقول الله عزّ وجلّ ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (٢) ، وقوله : ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) (٣) ، وقوله : ( فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ) (٤). وقد شهد من شهد منكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ حكم سعدا في بني قريظة ، فلما حكم فيهم بالحق أجاز حكمه ، وقال : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرفعة (٥) ، فهل تقولون إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخطأ في تحكيم سعد (٦) في بني قريظة؟ وأيهم عندكم أوجب أن يحكم فيه أمر ما بين رجل وبين امرأته ، أو جزاء صيد يصيبه محرم ، أو الحكم في امة قد اختلفت وقتل بعضها بعضا ليرجع منها الى حكم الكتاب من خالفه ، فتحقن دماء الامة ويلم شعثها؟

__________________

(١) وفي نسخة ـ ج ـ : أما تعرفون القرآن وتقرءون القرآن.

(٢) المائدة : ٩٥.

(٣) المائدة : ٤٩.

(٤) النساء : ٣٥.

(٥) الرفيع : السماء ، جمعه : أرفعة.

(٦) وهو سعد بن معاذ.

٤٦

فقال لهم ابن الكواء : دعوا ما يقول هذا وأصحابه ، وأقبلوا على ما أنتم عليه فان الله عزّ وجلّ قد أخبر أن هؤلاء قوم خصمون (١).

[٤١٤] أحمد بن شعيب النسائي (٢) ، باسناده ، عن عبد الله بن عباس ، أنه قال : لما خرجت الحرورية اعتزلوا في دار (٣) وكانوا ستة آلاف. فقلت لعلي عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين أبرد بالظهرا (٤) لعلّي اكلم هؤلاء القوم فاني أخافهم عليك ، فصلّى وصلّيت معه ، ثم دخلت عليهم الدار نصف النهار ـ وهم يأكلون ـ. فقالوا : مرحبا بابن عباس ، فما جاء بك؟ فقلت : أتيتكم من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المهاجرين والأنصار ، ومن عند ابن عم النبي وصهره وعليهم نزل القرآن ، وهم أعلم بتأويله منكم ، وليس فيكم منهم أحد لأبلغكم ما يقولون وأبلغهم ما تقولون.

فانتحى الى نفر منهم ، فقلت : هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى ابن عمه.

قالوا : ثلاثا.

قلت : ما هن؟

قالوا : أما واحدة ، فإنه حكم الرجال في أمر الله [ فكفر ] وقد قال

__________________

(١) اشارة الى الآية الكريمة : ( ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ). الزخرف : ٥٨.

(٢) روى السيد محمّد بن عقيل العلوي في كتابه النصائح الكافية لمن يتولى معاوية ص ١٠٩ : فقد علمت ما جرى للإمام النسائي رحمه‌الله حيث جمع خصائص الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، فإنه طولب في جامع دمشق أن يكتب مثلها في معاوية.

فقال : لا أعرف فيه إلا قول النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلم : لا أشبع الله بطنه.

فضرب بالنعال وعصرت خصيتاه ، ثم مات شهيدا رحمه‌الله.

(٣) الدار : المنزل سواء كانت مبنية أم غير مبنية بل كل موضع حلّ به قوم فهو دارهم.

(٤) هكذا في الخصائص ، وفي الاصل : اترد بالصلاة.

٤٧

الله عزّ وجلّ ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ ) (١).

قلت : هذه واحدة ، فما الثانية؟

قالوا : فانه أحلّ الغنائم (٢) ، وحرم السبي ، فإن كان الذين قاتلهم وقتلهم كفارا لقد حلّ سبيهم ، وإن كانوا مؤمنين فما حلّ قتلهم ولا قتالهم ولا غنائمهم.

قلت : هذه اثنتان.

قالوا : نعم ، وأما الثالثة ، فانه محا من امرة المؤمنين ، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين ، وإن كان أمير المؤمنين فلم محا اسمه من امرة المؤمنين؟

قلت : هذه ثلاثة.

قالوا : نعم.

فقلت : هل عندكم غير هذا؟

قالوا : لا ، وحسبنا هذا.

قلت لهم : أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله عزّ وجلّ ، وأخبرتكم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما لا تدفعونه ، بأن الذي أنكرتموه قد جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أترجعون؟

قالوا : نعم.

قال : قلت : أما قولكم : إنه حكم الرجال في أمر الله ، فأنا أقرأ عليكم من كتاب الله عزّ وجلّ أنه قد صيّر حكمه الى الرجال في ربع

__________________

(١) الأنعام : ٥٧.

(٢) وفي الخصائص ص ١٤٧ : فانه قاتل ولم يسب ولم يغنم.

٤٨

درهم ، وأمر الرجال أن يحكموا فيه ، وذلك أرنب قتله محرم. قال الله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (١) فكان من حكم الله عزّ وجلّ بانه صيّره الى الرجال يحكمون فيه ، اناشدكم الله ، أحكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم (٢) أفضل ، أم حكمهم في أرنب؟

قالوا : بل ذلك أفضل.

قال : وقلت : وقال الله عزّ وجلّ في المرأة وزوجها : ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً ) (٣) ، فاناشدكم الله أحكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل ، أم حكمهم في بضع امرأة (٤)؟

قالوا : بل ذلك أفضل.

قال : قلت : أو لستم تعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حكم سعدا في بني قريظة؟

قالوا : نعم.

قال : قلت : فهل خرجت من هذه؟

قالوا : بلى. قال : قلت : أما قولكم : إنه قاتل وقتل وأحلّ الغنائم ولم يسب الذراري ، فهو إنما فعل ذلك بتوقيف (٥) من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن ذلك هو الحكم في أهل القبلة ، ولم يفعله برأي نفسه ، وقد أنكر ذلك من أنكره في الوقت يوم الجمل ، فأخبرهم

__________________

(١) المائدة : ٩٥.

(٢) وفي نسخة ـ ج ـ : دمائكم.

(٣) النساء : ٣٥.

(٤) نكاح امرأة.

(٥) وفي نسخة الاصل و ـ ج ـ وأ ـ بتوقيق.

٤٩

بذلك ، وقال : فأيكم يضرب على عائشة ، فيأخذها في سهمه ، ـ إن أسهم ـ؟ قالوا : لا أحد ، واعترفوا له بالصواب فيما فعله ، فان قلتم أنتم إنكم تسبون امكم عائشة ، وتستحلون منها ما تستحلون من غيرها وهي امكم فقد كفرتم (١) ، وإن قلتم إنها ليست بامكم فقد كذبتم.

فأنتم في ذلك بين ضلالتين ، فالتمسوا المخرج.

فلم يحيروا جوابا إلا أن قالوا : صدقت.

قال : قلت : أفخرجت من هذه؟

قالوا : نعم.

قال : قلت : وأما محوه تسميته في المحاكمة ـ ، أمير المؤمنين ـ ، إذ قال معاوية وأصحابه : إنا اذا أقررنا أنه أمير المؤمنين لم يجب لنا أن نتحكم عليه ، أفلستم تعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما قاضى المشركين بالحديبية (٢) أمر عليا عليه‌السلام أن يكتب : هذا ما قاضى عليه محمّد رسول الله. فقال المشركون : إنا لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك (٣) ، ولكن اكتب محمّد بن عبد الله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام : امحه ، فأبى من ذلك تعظيما له. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرني إياه. فأراه مكان رسول الله ، فمحاه ، وأبقى : هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبد الله ، وقال : الله يعلم أني لرسوله. ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من علي وقد محا ذكر رسالته. فهل محاه ذلك من الرسالة؟

__________________

(١) وفي الخصائص : لأن الله تعالى يقول : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ). الاحزاب : ٦.

(٢) واد قريب من مكة ( الحجاز ).

(٣) صد : منع وقابله.

٥٠

قالوا : لا.

قال : قلت : وكيف يمحو مثله عليا من امرة المؤمنين.

فرجع منهم الفان ، وخرج سائرهم ، فخرج إليهم علي عليه‌السلام ، فقتلهم على ضلالتهم ، وقاتلهم (١) معه المهاجرون والأنصار وأهل البصائر من المسلمين.

__________________

(١) وفي نسخة ـ د ـ : وقاتل معه.

٥١

[ منشا الفتنة ]

[٤١٥] يحيى بن آدم ، باسناده ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : أتيت أبا وائل (١) وهو في مسجد حي كذا (٢) ، فاعتزلناه في المسجد.

فقلت : أخبرني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي عليه‌السلام. فيم قاتلوه؟ وفيم استجابوا له حين دعاهم؟ وفيم فارقوه ، فاستحلّ قتال من قاتل منهم؟

قال : كنا بصفين ، واستمر القتل في أهل الشام ، فقال عمرو لمعاوية : أرسل الى علي بالمصحف فإنه لا يأبى عليك.

فجاء رجل على فرس بالمصحف ، فقال : ندعوكم الى كتاب الله بيننا وبينكم. فقال علي عليه‌السلام : نحن أولى بكتاب الله منكم. ومال أكثر الناس الى الموادعة (٣).

وجاءت الخوارج ـ ونحن نسميهم يومئذ القراء ـ وأسيافهم على عواتقهم ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، أتمنعنا أن نسير بأسيافنا الى هؤلاء ، فنقتلهم بحكم الله بيننا وبينهم.

__________________

(١) واسمه شقيق بن سلمة الكوفي.

(٢) هكذا في النسخة ـ د ـ ، أما في الأصل ونسخة ـ ج ـ : مسجد حية.

(٣) الموادعة بمعنى الاصلاح.

٥٢

فقام سهل بن حنيف (١) فقال : يا هؤلاء القوم اتهموا أنفسكم فإنا قد كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الحديبية ، ولو نرى قتالا لقاتلنا. فجاء عمر ، فقال : يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال : بلى. قال : أوليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار. قال : بلى. قال : فعلام نعطي الدنيئة في ديننا ، ونرجع لما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله.

فانطلق عمر وهو مغضب ، فأتى أبا بكر ، فقال له مثل ذلك. فقال له أبو بكر : إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا. فانزلت سورة الفتح.

فأرسل الى عمر ، فقرأها عليه ، من أولها الى آخرها. فقال عمر : أفتح هو يا رسول الله.

قال : نعم.

ثم قال سهل للخوارج : إنّ هذا فتح.

فوضعت الحرب أوزارها بحكم الحكمين. ورجع علي عليه‌السلام الى الكوفة ، وفارقته الخوارج. ونزلوا حروراء وهم تسعة عشر الفا ، فأرسل علي عليه‌السلام إليهم فناشدهم الله ما الذي نقمتم عليّ ، أفي فيء قسمته؟ أم في حكم؟

وأتاهم صعصعة بن صوحان العبدي (٢) فناشدهم الله أن

__________________

(١) أبو عبد الله أو أبو سعد سهل بن حنيف بن واهب بن العكيم بن ثعلبه الصحابي البدري ، وكان في بدر ينضح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبل ويقول : نبلوا سهلا فانه سهل ، استخلفه أمير المؤمنين على البصرة شهد معه صفين توفي ٣٨ ه‍.

(٢) صعصعة بن صوحان بن حجر بن الحارث العبدي من سادات عبد القيس من أهل الكوفة

٥٣

يرجعوا ، فأبوا.

فقال لهم : ما الذي نقمتم؟

فقالوا : نحاف أن ندخل في فتنة.

فقال : لا تعجلوا ضلالة العام مخافة فتنة قابل.

قالوا : نكون على ناحيتنا ، فان قبل القضية قاتلناه على ما قاتلنا عليه أهل الشام يوم صفين ، فان نقضها قاتلنا معه.

فساروا حتى قطعوا النهروان.

وافترقت منهم فرقة يقتلون الناس.

فقال أصحابهم : ما على هذا فارقنا عليا عليه‌السلام ، فلما بلغ عليا عليه‌السلام صنيعهم قام ، فقال : تسيرون الى عدوكم ، أو ترجعون الى هؤلاء الذين خلفكم في دياركم؟ قالوا : بل نرجع إليهم.

فقال علي عليه‌السلام : إني محدّثكم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ طائفة تخرج من قبل المشرق عند اختلاف الناس ، لا يرون جهادكم مع جهادهم شيئا ولا صلاتكم مع صلاتهم شيئا ولا صيامكم مع صيامهم شيئا ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، علامتهم أن فيهم رجلا عضده كثدي المرأة يقتلهم أولى الطائفتين بالحق.

فسار علي إليهم ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، وجعلت خيل علي عليه‌السلام لا يقوم لهم.

فقال علي عليه‌السلام : أيها الناس إن كنتم انما تقاتلون لي فو الله

__________________

كان خطيبا بليغا ، له مع معاوية مواقف يذكره المؤلف فيما بعد. شهد صفين مع علي. نفاه المغيرة من الكوفة الى جزيرة أوال في البحرين بأمر معاوية فمات فيها ٦٠ هـ وقيل بالكوفة.

٥٤

ما عندي ما اجازيكم به ، وإن كنتم تقاتلون لله فلا يكن هذا قتالكم ، فحملوا عليهم ، فقتلوهم كلهم.

فقال : اتبعوا المخدج ، فطلب فلم يوجد ، فركب علي عليه‌السلام دابته ، وانتهى الى وهدة (١) من الارض فإذا فيها قتلى بعضهم على بعض ، فاستخرج من تحتهم يجر برجليه ، فرآه الناس.

فقال علي عليه‌السلام : لا أغزو العلم.

فرجع الى الكوفة ، فقتل.

واستخلف على الناس الحسن بن علي عليه‌السلام ، فبعث قيس بن سعد في مقدمته في اثني عشر الف ، كما كان يفعل علي عليه‌السلام.

ثم بعث الحسن عليه‌السلام بالبيعة الى معاوية ، وكتب بذلك الى قيس بن سعد. فقام قيس في أصحابه ، فقال :

أيها الناس أتاكم أمران لا بدّ لكم من الدخول في أحدهما : دخول في فتنة ، أو قتال مع غير إمام.

قالوا : وما ذلك؟

قال : إن الحسن بن علي عليه‌السلام قد أعطى معاوية البيعة.

فرجع الناس فبايعوا لمعاوية.

ولم يكن لمعاوية همّ إلا الذين تألفهم يتساقطون عليه ، فيبايعونه حتى بقي منهم ثلاثمائة ونيف ـ وهم أصحاب النخيلة ـ.

[٤١٦] يحيى بن آدم (٢) باسناده ، عن الأعمش ، قال : لما رأى أصحاب علي عليه‌السلام الخوارج قالوا : روحوا بنا روحة الى الجنة.

__________________

(١) وهدة من الأرض : حفرة.

(٢) أبو زكريا يحيى بن آدم بن سليمان الاموي مولى آل أبي معيط توفي ٢٠٣ ه‍.

٥٥

فقال عبد الله بن وهب الراسبي (١) : لعلها روحة الى النار.

قالوا : شككت؟

قال : أتألون (٢) على الله؟

فاعتزل منهم فروة بن نوفل الأشجعي بألف رجل ، فقال لهم أصحابهم : أشككتم؟ أما لو أن تبقى منا عصابة من بعدنا يدعون الى أمرنا لبدأناكم.

فسار فروة بن نوفل (٣) الى الديلم ، فأوقعوا بها وقعة لم ير مثلها.

ثم رجعوا الى النخيلة ، فلما جاء معاوية قاتلوه ، فأرسل الى الكوفة إني خلفت أهل الشام.

قال يحيى : فخرجوا إليهم يعني أصابوهم ـ.

[٤١٧] أبو هاشم ، باسناده ، عن حميد بن هلال ، قال : دخل المسجد رجل ، فنقر كما ينقر الديك.

فقال رجل من أصحاب السواري : ما أحسن هذه الصلاة؟

فقال حذيفة : إن حدثتكم ، أن أصحاب السواري شراركم أكنتم تصدقون؟

فقام رجل ، فقال : لا تحفظن أصحاب السواري فتحفظهم فوجدهم خمسة وعشرين رجلا يصلون الى الأساطين لا يفترون ليلا ولا نهارا.

__________________

(١) من الأزد من ائمة الاباضية ( الخوارج ) قاتل أمير المؤمنين فقتل بالنهروان ـ بين بغداد وواسط ـ ٣٨ ه‍.

(٢) أي : ألم تخلفوني.

(٣) فروة بن نوفل بن شريك الاشجعي رئيس الشراة. أقام بعد الاعتزال شهرزور وبعد صلح الحسن (ع) زحف الى الكوفة وقتل في شهرزور ٤١ ه‍.

٥٦

ـ وقال ذلك الرجل ـ : فلما كان يوم النهروان عددت أربعة وعشرين رجلا منهم ممن قتل ، وظننت أن الخامس والعشرين معهم ، ولكن خفي عليّ.

قال : يعني ممن قتله علي صلوات الله عليه.

[ مع ابن عباس أيضا ]

[٤١٨] عاصم بن كليب ، عن أبيه ، قال : إني لخارج من المسجد حتى جاء ابن عباس من عند معاوية ، وقد حكموا الحكمين ، فدخل دار سليمان بن ربيعة ، فجلس ، وأجلب الناس إليه (١) ، فما زال يؤتى إليه برجل بعد رجل وكثروا حتى خفت على نفسي ، فقال ابن عباس : إنكم قد أكثرتم ، فاختاروا رجلا منكم يتكلم عنكم ، فاختاروا رجلا أعور من بني تغلب يقال له : عتاب.

فقال : الله اكبر.

قال : الله كذا.

وقال : الله كذا ، ينزع بحجته من القرآن في سورة واحدة.

فقال ابن عباس : إني أراك عالما بما قد فصلت ووصلت.

انشدكم الله أيّ رجل كان فيكم أبو بكر؟

فأثنوا عليه خيرا.

قال : فانشدكم الله أيّ رجل كان فيكم عمر؟

فأثنوا عليه خيرا.

قال : فانشدكم الله لو أن رجلا أصاب ظبيا أو بعض الصيد وهو

__________________

(١) وفي الاصل : عليه.

٥٧

محرم فحكم فيه أحدهما ، أيجوز ( حكمه ) (١)؟

قالوا : لا ، لأن الله عزّ وجلّ يقول : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (٢).

قال : فدماؤكم أعظم.

ثم قال : انشدكم الله أنتم تعلمون أن أهل الشام سألوا القضية وكرهناها وأبيناها ، فلما أصابتكم الجراح وعضتكم الحرب ، ومنعتم ماء الفرات ، أنشأتم تطلبوها ، والله حدّثني معاوية انه أتى بفرس بعيد البطن من الأرض ليهرب عليه حتى أتاه آت منكم ، فقال : إني رأيت أهل العراق مثل الناس ليلة النفر ، فأقام.

__________________

(١) ما بين القوسين من نسخة ـ ج ـ.

(٢) المائدة : ٩٥.

٥٨

[ نعود الى ذكر الأحاديث ]

[٤١٩] عبد الرحمن بن صالح ، باسناده ، عن ابن سيرين (١) قال : سمعت عبيدة يقول : ذكر علي عليه‌السلام أهل النهروان. فقال : فيهم رجل مخدوج اليد ، لو لا أن تبطروا لأنبأتكم بما وعد الله على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين يقاتلونهم.

قال ابن سيرين : فقلت لعبيدة : أنت سمعته (٢)؟

قال : إي وربّ الكعبة إي وربّ الكعبة إي وربّ الكعبة. [ يعني ثلاثا ].

[٤٢٠] سفيان الثوري ، باسناده ، عن علي عليه‌السلام ، انه لما قتل أهل النهروان ، قال : اطلبوا ذا الثدية. وطلبوه فلم يجدوه.

قال : فجعل يعرق جبينه ويقول : والله ما كذبت ولا كذبت ، هو رجل مخدوج اليد ، فاطلبوه. فلما استخرجوه ، فرآه ، سجد.

[٤٢١] محمّد بن داود ، باسناده ، عن مسروق ، قال : سألتني عائشة : من قتل الخوارج؟

__________________

(١) أي محمّد بن سيرين.

(٢) وفي مسند أحمد بن حنبل ١ / ٧٨ : قال ، قلت : أنت سمعته من محمّد؟ قال : إي ...

٥٩

قلت : علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : هم شرّ الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة ، وأقربهم الى الله وسيلة.

وقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول : علي مع الحق والحق مع علي (١).

قال : ثم ذكرت لها أن عليا عليه‌السلام استخرج ذا الثدية من قتلى أهل النهروان الذين قتلهم.

فقالت : إذا أتيت الكوفة فاكتب إليّ بأسماء من شهد ذلك ـ من يعرف من أهل البلد ـ. قال : فلما قدمت الكوفة ، وجدت الناس أتباعا ، فكتبت من كل سبع عشرة ممن شهد ذلك ـ ممن نعرفه ـ ، فأتيتها بشهادتهم.

فقالت : لعن الله عمرو بن العاص ، فإنه زعم هو قتله على نيل مصر.

[٤٢٢] عبد الله بن الحارث ، باسناده ، عن عاصم بن كليب (٢) ، عن أبيه ، قال : بينا علي يحدّث الناس بالكوفة وحوله جماعة ، إذ وقف عليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين أتأذن لي في الكلام؟

فقال : تكلم.

قال : فإني خرجت للعمرة ، فلقيت عائشة ، فقالت لي : ما هؤلاء الذين خرجوا بأرضكم يسمون الحرورية؟ قلت : قوم خرجوا بأرض

__________________

(١) ولا يخفى أن هذه الجملة منفصلة عن الرواية الاولى وهي رواية في حدّ ذاتها جمعهما المؤلف في رواية واحدة ( لا حظ استخراج الحديث ) وبقية الرواية تابع للرواية الاولى.

(٢) وهو عاصم بن كليب بن شهاب بن المجنون الجرمي الكوفي توفي ١٣٧ ه‍. ( تهذيب التهذيب ٥ / ٥٥ ).

٦٠