تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ١

الشيخ علي القوچاني

تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي القوچاني


المحقق: محمّد رضا الدّانيالي
الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-30-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-29-4

الصفحات: ٥٧٠
الجزء ١ الجزء ٢

ثم انّ ما ذكرنا لا اشكال فيه بالنسبة الى المخصص المنفصل غير الموجب للعنوان الواقعي الوجودي في العام ؛ وامّا الاستثناء فلا يبعد جريانه فيه أيضا ، حيث انّ استثناء الفاسق لا يوجب تقييد ظهور عنوان « العلماء » في العدول ، بل المسلّم ظهور لفظ العام فيما عدا المخصص أيّا ما كان من العناوين ومن جملتها « العالم » غير المتحقق معه نسبة الفسق بمفاد كان التامة.

هذا كله في عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فيما اذا كان المخصص لفظيا.

ومثله فيما اذا كان التخصيص بعنوان معلوم مفهوما كما لو قام اجماع على لفظ دال على مثل ذلك العنوان.

٣٧٦ ـ قوله : « وإن لم يكن كذلك بأن كان دائرا بين المتباينين مطلقا ». (١)

كما في دلالة العقل على خروج ( المؤمن ) من عموم « لعن الله بني اميّة قاطبة » (٢) وخروج ( العدول ) من عموم ( أكرم كل جيراني ) مثلا ، فالتحقيق : جواز التمسك بالعام في الفرد المشكوك خروجه لبيا.

امّا اولا : فلعدم توقف العرف عن العمل بالعام بمجرد الشك في الخروج على النحو المذكور وإلاّ ما من عام إلاّ ويشك في ثبوت مناف لحكمه واقعا ، ومع ذلك لا يعتنى بمثل هذا الشك ويتمسك به بل يعدّ العبد ـ المتوقف عن العمل بالعموم في مثل ( أكرم كل جيراني ) بمجرد الشك في كون بعض الجيران عدوا ـ خارجا عن طريقة الامتثال ومذموما عليه. وعمل العرف والعقلاء ـ على التمسك مع الشك في المنافي عقلا ـ من أقوى الادلة على جواز التمسك به في الشبهة المصداقية اللبية.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٥٨ ؛ الحجرية ١ : ١٧٥ للمتن و ١ : ١٨٢ العمود ٢ للتعليقة.

(٢) زيارة عاشوراء المعروفة.

٤٨١

وامّا ثانيا : فلكون ورود العام من قبل المولى بلا تعرض للتخصيص ـ مع كونه بصدد بيان حكم العام ـ دليلا على عدم وجود ما كان منافيا عقلا ومخصصا في ما بين افراده ، فكان ذلك ـ مضافا الى الكبرى ـ دليلا على عدم وجود المنافي فيكون دليلا على الصغرى أيضا ، وإلاّ لتعرض لاخراجه.

ولا فرق في ذلك بين كون الشك في فرد زائد ـ بعد القطع بخروج فرد آخر ـ وبين كونه في أصل وجود المخصص.

وسرّه : انّ ظهور العام وبناء العقلاء على أصالته في كل فرد لا يرفع اليد عنه إلاّ مع حجة أقوى على خلافه ، المتيقنة في المشكوك بالمخصص اللبّي.

وقياس حكم العقل بخروج كل ما كان منافيا لعنوان العام قطعا ، بما كان التخصيص بالمنفصل لفظيا في عدم جواز التمسك في الشبهة المصداقية ، بتوهم انّ بيان التخصيص صار مفوضا الى حكم العقل ، فيصير كالبيان النقلي.

مدفوع : بالفرق بينهما ، بكون الخروج فيما نحن فيه بمثل القطع الذي يكون عذرا في المخالفة فيما يحكم به العقل ؛ ومن المعلوم انّه لا يحكم بالعذر إلاّ في الافراد المعلومة.

وبعبارة اخرى : يكون حكم العقل في الوجودات الخارجية ـ مع كون الايمان ملاكا لحكمه ـ فيكون واسطة في الثبوت لا عنوانا له حتى يكون واسطة في العروض ، وحينئذ يكون عدد التخصيص بعدد الوجودات المنافية لحكم العام ، حيث انّه ليس له مقام اثبات وانشاء وراء مقام الثبوت والارادة اللبية الواقعية ، فحكمه يتعلق بما هو متعلق للارادات اللبية.

وامّا المخصص اللفظي فيكون حجة شرعية من قبل المولى في العنوان الكلي وقدما على العموم في الحكم بالعنوان الكلي فيضيق دائرة حجيته في العنوان الكلي في بقاء الانشاء والاثبات الكاشف عن مقام الثبوت ، فالفرد

٤٨٢

المشكوك يدور بين الحجتين ، فادخاله في احداهما دون اخرى ترجيح بلا مرجح.

وسرّ ذلك : انّ كل ما صار المولى بصدد تضييق العام وتحديد افراده بالقاء حجتين احداهما دليل العام وثانيتهما دليل الخاص ، يكشف عن اشتمال افراد العام على المخصص ووجوده فيما بينها وعن عدم تعرض المولى له وجودا ولا عدما ، فعلى العبد احراز احدهما وافرازه عن الآخر ؛ بخلاف ما لم يصدر عنه إلاّ حجة واحدة ـ وهو العام ـ مع كونه بصدد بيان تمام مقصوده ، فانّه يستكشف منه عرفا عدم اشتمال العام على مناف ومخصص أصلا ، فلا يجوز التوقف عن التمسك به إلاّ فيما قطع بالعذر عقلا وهو ما علم بالمخصص قطعا والزائد عليه شك في تخصيص زائد. والمرجع فيه ـ كالشك في أصل التخصيص ـ هو ظهور العام.

٣٧٧ ـ قوله : « ايقاظ : لا يخفى ... الخ ». (١)

قد عرفت في الحاشية السابقة تفصيل جريان الاصل.

٣٧٨ ـ قوله : « والتحقيق : أن يقال : انّه لا مجال لتوهم الاستدلال بالعموم ». (٢)

أقول : انّ العناوين الثابتة لها الاحكام على قسمين :

احدهما : ما كان من العناوين الاولية للافعال ، مثل الغسل والوضوء والبيع ونحوها من العبادات والمعاملات.

وثانيهما : ما كان من قبيل العناوين الثانوية التي تعرض على أفعال المكلفين مقيدة بالعناوين الاولية ، مثل النذر والشرط والضرر والعسر والحرج ونحوها مما كانت متعلقة بالعناوين الاولية ؛ وهذا مما لا خفاء فيه.

وانما الكلام في أنه اذا شك في صحة العناوين الاولية فيما كانت متعلقة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦١ ؛ الحجرية ١ : ١٧٧ للمتن و ١ : ١٧٧ للتعليقة.

(٢) كفاية الاصول : ٢٦٢ ؛ الحجرية ١ : ١٧٨ للمتن و ١ : ١٨٣ العمود ١ للتعليقة.

٤٨٣

بالعناوين الاولية من العبادات مثلا ، مع عدم اطلاق أو عموم في دليله يشمل المشكوك ، فهل يمكن التمسك في اثبات الصحة بعمومات العناوين الثانوية المتعلقة بها ، كما لو تعلق النذر بالوضوء بالماء المضاف ـ المشكوك صحته في نفسه ـ فيتمسك لصحته بعموم « اوفوا بالنذر » (١) بأن يقال : انّه متعلق للنذر وكلما كان كذلك فهو واجب الوفاء فهو كذلك ، واذا كان واجبا فيكون صحيحا لعدم وجوب ما ليس بصحيح ، أم لا؟ بل لا بد من احراز الصحة في نفسه كي يجب الوفاء به ، وبدونه لا يصح التمسك بدليل وجوب الوفاء ، فنقول :

انّ العناوين الثانوية على قسمين :

الاول : ما كان موضوعها العناوين الاولية مقيدة بما لها من الاحكام كما في النذر ، بناء على تقييد متعلقه بكونه راجحا في نفسه.

وهذا القسم مما لا اشكال في عدم صحة التمسك بعموم دليله اذا شك في صحة متعلقه في نفسه ، لعدم احراز موضوعه بتمامه مع الشك ، فكيف يتمسك بدليله في اثبات حكمه ، فهل ذلك إلاّ على وجه دائر؟

الثاني : ما كان موضوعها نفس العناوين الاولية مجردة عن ثبوت حكم لها.

وهذا القسم مما لا اشكال في صحة التمسك به لاثبات حكمه مع ما يستتبعه من الصحة لو كانت ملازمة له ، لانّ موضوعه نفس العنوان المحرز في البين بلا تقييد بالحكم المشكوك ، كما في مثل قاعدة الضرر والعسر والحرج ونحوها المتعلقة بنفس العناوين الاولية.

وحينئذ : فان كان دليل العنوان الاولي مهملا بالنسبة الى طروّ العنوان الثانوي عليه أو كان موافقا له في الحكم فلا اشكال. وامّا ان كان مخالفا له في الحكم

__________________

(١) لا يوجد بهذه العبارة ، بل الموجود في الروايات هو تعبير الآية الشريفة « يوفون بالنذر » ( سورة الانسان : ٧ ) وغيره مثل : « يحلف بالنذر » في باب النذور من تهذيب الاحكام ٨ : ٣٠٧ الحديث ١٩.

٤٨٤

الثابت فان علم بالمقتضي لكل منهما [ فـ ] يكونان من قبيل المتزاحمين في تبعية الفعلي الاقوى منهما مع العلم به ، وإلاّ فالتوقف والرجوع الى ما لتلك المسألة من الحكم.

نعم فرق بين ما نحن فيه وتلك المسألة وهو : انّه على تقدير القول بالجواز هناك ـ بتوهم كون متعلق الامر والنهي هي العناوين والطبائع بما هي هي فيختلف المتعلقان بلا اتحاد في البين أصلا ـ لا يقال به هنا.

امّا اولا : فلأنّ العنوان الثانوي يكون مقيدا بالعنوان الاولي ، فيكونان من قبيل المطلق والمقيد ، فيصيران من قبيل النهي في العبادات.

وامّا ثانيا : فلأنّ العناوين الثانية نظير عنوان المقدمية والضدية انما هي متعلقة بنفس الهويات ـ عند الكل ـ بعناوينها الاولية ؛ والعناوين الثانوية انما هي واسطة في الثبوت لا العروض ، كما في تلك المسألة ، فتدبر.

نعم التحقيق : انّ الجمع العرفي بينهما [ هو ] بحمل العنوان الثانوي على مقام الفعلية والأوّلي على مقام المقتضي. هذا اذا لم يعلم بعدم المقتضي لواحد منهما وإلاّ فيكونان نظير المتعارضين.

ثم انّ عنوان الشرط لا يبعد أن يكون نظير القسم الثاني في كون متعلقه هو العنوان الاولي بلا تقييد بالحكم ، ويكون مخالفته للكتاب والسنة وتحليله للحرام وبالعكس فيما اذا ثبت علّية العنوان الاولي للحكم المخالف ، كما في شرط شرب الخمر أو الزنا مثلا ؛ وامّا فيما لم يثبت من الخارج أو بالنصوصية وكان ذلك بمجرد اطلاق مع قطع النظر عن العناوين الثانوية الطارئة ، فلا بأس بالشرط توفيقا ، وإلاّ ما من مورد إلاّ ويلزم تحليل الحرام أو بالعكس كما لا يخفى.

اذا عرفت ذلك فلا يخفى الفرق بين القسمين ، ولا يشتبه عليك الامر في جواز التمسك بدليل العنوان الثانوي لاثبات حكمه للعنوان الاولي المشكوك في

٤٨٥

حكمه في أحدهما دون الآخر.

٣٧٩ ـ قوله : « وأمّا صحة الصوم في السفر بنذره فيه بناء على عدم صحته فيه بدونه ». (١)

مقصوده : انّه يرد على ما ذكرنا ـ من لزوم كون موضوع النذر مقيدا بالحكم الرجحاني ـ بنذر الصوم في السفر والاحرام قبل الميقات ، مع كونهما بدونه مرجوحا ، بل حراما تشريعيا.

ثم انّه كيف يكونان من العبادات بنحو لا بد أن يؤتى بهما ـ بعد تعلق النذر ـ بقصد القربة مع كون الامر بالوفاء به توصليا غير متوقف على قصد القربة ، ولا رجحان في نفسهما ، ولا أمر كي يؤتى بهما بداعي امتثاله؟

والجواب من وجوه :

الاول : أن يقال : بوجود المقتضي في نفسهما بلا تعلق النذر أيضا ، وانما كان عدم الامر استحبابا أو وجوبا من جهة المانع ولو كان هو العسر والمشقة ، وبعد تعلق النذر بهما يرتفع المانع ؛ ويستكشف ذلك بدليل صحة النذر.

إلاّ انّه مخالف لالتزام الائمة عليهم‌السلام بتركهما ، ولما ورد من كون الاحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت ، ولخصوص دليل النذر الظاهر في كون النذر موجبا لاصل الرجحان فيهما.

الثاني : أن يقال : انّ النذر لازم بعد تعلقه مع خصوصية في المتعلق موجبة لرجحانه والرجحان في المتعلق انما هو بواسطة هذه الخصوصية ، مع قطع النظر عن وفاء النذر المتعلق به وان كان حادثا بعد تعلقه ، ولا دليل على أزيد من ذلك في النذر.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦٣ ؛ الحجرية ١ : ١٧٨ للمتن و ١ : ١٨٣ العمود ٢ للتعليقة.

٤٨٦

الثالث : أن يلتزم بتخصيص الادلة الدالة على كون متعلق النذر راجحا في نفسه ، فيلتزم بصحته في الموردين بدليل صحة النذر فيهما دون غيرهما من الموارد ، لعدم دليل على التقييد.

وامّا الجواب عن اشكال قصد القربة :

ففي الاولين : بكون القربة بداعي الرجحان النفسي الذي لم يحصل في العبادات إلاّ اذا أتى بها بالقربة حيث انّ الصوم والاحرام منها.

وفي الاخير : من جهة لزوم الوفاء بالنذر المتعلق بما كان على تقدير الامر به من العبادات المتوقفة على القربة ، غير الحاصلة منها الغرض ـ ولو كان من قبل أمرها ـ إلاّ بها ، كما قرر في محله من انّ بعض الاشياء مما كان على تقدير الامر به من العبادات فلم يصح الاتيان إلاّ بقصد امتثال الامر بها ولو لم يكن في نفسها مصلحة إلاّ في أمرها.

٣٨٠ ـ قوله : « مثل ما اذا علم انّ زيدا يحرم اكرامه ». (١)

أقول : الظاهر المسلّم من بناء العقلاء هو العمل بأصالة العموم في اثبات الحكم في الفرد الذي علم بدخوله في عنوان العام وشك في خروجه عن حكمه ، فيتمسك به مثلا لاثبات وجوب ( اكرام زيد العالم ) في المثال ؛ وامّا تعيين ( زيد ) المشكوك بأنه من الجهال كي يترتب عليه جميع ما يثبت للجاهل من الاحكام فلا علم ببناء العقلاء على ذلك لو لم يدّع خلافه.

وما اشتهر بينهم من حجية الاصول اللفظية مطلقا حتى المثبت منها انما هو بالنسبة الى افراد العام ـ المحكومة بحكمه ـ من اللوازم ، لا تعيين عنوان الضد في الفرد المشكوك بالاصل ثم ترتيب ما له من الاحكام عليه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦٤ ؛ الحجرية ١ : ١٧٩ للمتن و ١ : ١٨٤ للتعليقة.

٤٨٧

وسرّه : أنّ أصالة العموم : امّا لتعيين المراد الاستعمالي ، أو لتعيين المراد الجدي ؛ والاول غير مشكوك فيه في المقام ، لكونه هو العموم مطلقا سواء كان الخاص داخلا في عنوان العام أو داخلا في عنوان الضد ؛ والثاني كذلك أيضا ، لانّ غير الخاص محكوم بحكم العام واقعا والخاص محكوم بضده ثبوتا ، وانما الشك في صفة التطابق بين الارادتين ولا دليل على تعيينها بعد العلم بأصل المراد كما لا يخفى.

٣٨١ ـ قوله : « والذي ينبغي أن يكون محل الكلام في المقام أنه هل يكون أصالة العموم متبعة مطلقا أو بعد الفحص ». (١)

وهذا الكلام انما هو [ في ] المخصص المنفصل ، والشك فيه ليس من قبيل المتصل في كونه في القرينة المانعة عن الظهور بل انما هو بالنسبة الى وجود المعارض الاقوى ، لعدم ارتفاع الظهور عن العام بمجرد العثور على المخصص المنفصل بل ظهوره المنعقد له على ما هو عليه ، وانما المخصص يرفع حجيته في مقداره على ما عرفت وجهه سابقا.

ولا بد في تعيين محل النزاع من بيان أمرين :

الاول : انّ عدم التمسك بالعام قبل الفحص هل هو من جهة عدم المقتضي له قبله كما في الاصول العملية ، أو من جهة المانع؟

والتحقيق ان يقال : انّه لا بد في العام من أمرين :

احدهما : الظهور ، وهو كون اللفظ قالبا لمعنى العموم عند العرف بحيث يكون القاؤه عندهم القاء لمعنى العموم ، وهو مما لا اشكال في تحققه قبل الفحص حيث انّه لا يتحقق به ظهور لو لم يكن قبله.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦٤ ؛ الحجرية ١ : ١٧٩ للمتن و ١ : ١٨٥ للتعليقة.

٤٨٨

ثانيهما : أصالة الظهور وهو بناء العقلاء على التمسك به في كشف مراد المتكلم.

وحينئذ : فان كان المراد من المقتضي هو الظهور فالحق مع القول بتحققه ، وان كان المراد منه هو بناء العقلاء فالحق مع القول بالعدم ، إذ يكون الخلاف في وجوده كما هو واضح.

الثاني : انّ محل الخلاف في حجية العام [ هو ] بمجرد الشك في ورود المخصص المنفصل بلا علم به أصلا ولو اجمالا ، وامّا معه فلا اشكال في عدم الحجية سواء كان بالنسبة الى العام الواحد أو كان مرددا بين عمومات متعددة ؛ فلو فرض الاطلاع في الاخبار بالمخصصات بينها بمقدار المعلوم بالاجمال ثم حصل الاطلاع بعد ذلك على عمومات اخرى بلا علم في البين ، لتأتّى الخلاف أيضا.

فان قلت : فما وجه التخصيص بعمومات الكتاب؟ وهل ذلك إلاّ للعلم الاجمالي بالتخصيص بينهما؟

قلت : وجه التخصيص ـ كما نشير اليه ـ امّا توهم اختصاص خطاباتها بالمشافهين وامّا لكثرة التخصيصات في تلك العمومات.

كما انّ الكلام في حجية ظهور الظنون الخاصة المفروغة عن سندها بالعلم والعلمي ـ فسيأتي الخلاف في التواتر أيضا ـ فلا وجه للتمسك للحجية بما يدل على اعتبار السند من أدلة أخبار الآحاد من آية النبأ ونحوها ، والكلام في الظن الخاص ومن المعلوم انّ حجيته كما قرر في محله ليس منوطا بالظن الشخصي ، لا في الظن المطلق المنوط بالفعلية ، فلا وجه لما استدل لعدم الحجية قبل الفحص بعدم الظن الشخصي بالمراد قبله الملازم لعدم الظن بالاطاعة المنزل اليه بعد العلم ، بتخيل كون الحجية في العمومات من باب الظن المطلق ، أو من باب توهم اعتبار الظن الشخصي بالمراد في الظنون الخاصة.

٤٨٩

ومما ذكرنا في المقام مع ما ذكرنا سابقا ـ من كون الكلام في المخصص المنفصل لا المتصل ـ فلا وجه لجعل المقام من مصاديق أصالة الحقيقة التي تكون حجيتها متفقا عليها بلا فحص عن المخصص ، فقد ظهر فساد غالب ما ذكر لكل من الطرفين من وجوه الاستدلال كما في التقريرات. (١)

والظاهر انّ وجه الخلاف هو في كونها في معرض التخصيص وعدمه ، فلو لم تكن المعرضية في البين كما في الخطابات الصادرة من الموالي الى عبيدهم فلا وجه للفحص.

اذا عرفت ذلك ظهر : انّ الحق عدم جواز التمسك بالعمومات التي كانت في معرض التخصيص قبل الفحص ، حيث انّه بعد نقل عدم الخلاف ـ بل الاجماع ـ على عدم الحجية قبل الفحص فلو لم يوجب ذلك القطع بعدمه فلا أقل من الشك ، فلم تحرز الحجية ، حيث انّ المناط هو سيرة العقلاء ولا بد من القطع به في احراز الحجية.

ثم انّ محل الكلام ليس بمنحصر في المخصص بل في مطلق المعارض ولو كان مباينا ؛ إلاّ أنك لما عرفت انّ وجه عدم الحجية هو وقوع العمومات في معرض التخصيص ، ولم [ يحقّق ] (٢) كثرة المعارضات الأخر كثرة المخصص فصار ذلك موجبا لتخصيص العمومات بالخلاف في الفحص عن مخصصاتها دون غيرها. نعم لو كان غيرها كذلك فيأتي الخلاف فيها مع كون الوجه فيها أيضا عدم الحجية.

٣٨٢ ـ قوله : « ثم انّ الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصص المتصل ،

__________________

(١) مطارح الانظار : ١٩٧ السطر الاخير وص ١٩٨ السطر ١ ـ ٢ والطبعة الحديثة ٢ : ١٥٨.

(٢) في الاصل الحجري ( يتحقق ).

٤٩٠

باحتمال أنه كان ولم يصل ». (١)

لعدم الخلاف ، بل الاجماع :

على أصالة عدم القرينة عند الشك في وجود القرينة المتصلة مع القطع بارادة الظاهر على تقدير عدمها.

وعلى أصالة الظهور فقط على تقدير القطع بعدم القرينة مع الشك في ارادة الظهور وعدمها ، لاحتمال حكمة داعية على اخفاء مراده.

وعلى كلا الاصلين على تقدير اجتماع الشكين ـ على اختلاف المقامات حسب اختلاف حالات المخاطبين ـ وإن كان التحقيق هو أصالة الظهور في جميع الموارد وان كان تعليقيا في مورد وتخييريا في مورد آخر.

والظاهر عدم الفرق فيما ذكرنا بين كون العام في معرض التخصيص وعدمه ، على خلاف المخصص المنفصل. نعم الظاهر هو التوقف عن العمل به في صورة الشك في قرينية الموجود ؛ كما انّ المقطوع هو عدم الحجية مع العلم الاجمالي بالمخصص ، سواء كان بالنسبة الى عامّ واحد أو الى متعدد كما عرفت.

٣٨٣ ـ قوله : « إلاّ أنّ الاجماع بقسميه على تقييده به ». (٢)

حاصله : أن المقتضي وموضوع الحجية في العمل بالعام موجود قبل الفحص وانما البحث هنا هو عن المزاحم ، بخلاف الاصول العملية حيث انّه لا مقتضي ولا موضوع للحجية فيها إلاّ بعد الفحص ؛ امّا في الاصول العقلية فواضح ، وامّا في النقلية فلتقيد موضوعها بالفحص ، للاجماع ، وان كان دليلها في نفسه مطلقا.

وفيه : انّ الامر في العقلية كما ذكره ؛ وامّا في النقلية :

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦٥ ؛ الحجرية ١ : ١٨٤ للمتن و ١ : ١٨٧ للتعليقة.

(٢) كفاية الاصول : ٢٦٦ ؛ الحجرية ١ : ١٨٤ للمتن و ١ : ١٨٧ للتعليقة.

٤٩١

فان كان المراد من وجود المقتضي هو الحجية الفعلية في أحدهما دون الآخر فهو غير متحقق في كلا المقامين ، لما عرفت من عدم بناء العقلاء على العمل بالعمومات فيما كانت معرضا للتخصيص قبل الفحص أيضا.

وان كان المراد هو الظهور الذي يكون موضوعا للحجية فهو موجود في الاصول العملية النقلية ايضا ، والاجماع انما يمنع عن حجيتها لا عن ظهور أدلتها ، غاية الامر عدم الحجية في الاصل اللفظي كان لعدم احراز بناء العقلاء ، وفي الاصل العملي للاجماع.

نعم الظفر بالمخصص في اللفظي لا يرفع الموضوع والظفر بالامارة في الاصل العملي يرفع الموضوع ـ وهو الشك ـ بناء على ورود الامارات على الاصول ؛ فحقيقة الفرق انما هو بعد الفحص والظفر بالدليل على خلافه بارتفاع الموضوع في أحدهما دون الآخر ، لا قبل الفحص كما لا يخفى ؛ والى ذلك أشار بقوله : « فافهم ».

٣٨٤ ـ قوله : « ولا بد قبل الخوض في تحقيق المقام من بيان ما يمكن أن يكون محلا للنقض والابرام بين الاعلام ». (١)

قد أشار قدس‌سره الى أمرين :

الاول : الامور التي ينبغي أن تجعل موردا للنقض والابرام ومحلا للتشاجر بين الأعلام.

منها : التكليف المتضمن له الخطاب ، فانّه يقع النزاع في انّه هل يمكن تعلقه ـ في مقام الثبوت ـ بالمعدومين في ذلك الزمان مع قطع النظر عن توجه خطاب بالنسبة اليهم أم لا؟

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦٦ ؛ الحجرية ١ : ١٨٤ للمتن و ١ : ١٨٨ العمود ١ للتعليقة.

٤٩٢

ومنها : أن يجعل النزاع في انّه هل يمكن المخاطبة معهم بل مع الغائبين عن مجلس التخاطب بالالفاظ الموضوعة للخطاب ـ أو بتوجيه الكلام بالنسبة اليهم ـ [ سواء ] كان متضمنا للتكليف أم لا؟ بل لا يمكن المخاطبة إلاّ مع المشافهين في مجلس التخاطب.

ومنها : أن يجعل النزاع في الالفاظ الواقعة تلو أداة الخطاب مثل « المؤمنين » ونحوها في انّها ـ بعد عمومها في نفيها للمعدومين في زمان الخطاب ـ هل كانت باقية على حالها بعد وقوعها تلو الادوات؟ أم كانت قرينة لتخصيصها بالنسبة الى المشافهين؟

الثاني : [ هل ] انّ النزاع في المسألة عقلية؟ أو لغوية؟

فعلى الوجه الاول والثاني عقلية ، وعلى الوجه الثالث فالمسألة لغوية واقعة في كون أداة الخطاب موضوعة لخطاب خصوص المشافهين أو الأعم منهم ومن غيرهم ؛ وعلى تقدير الاختصاص فهل تصلح قرينة لانصراف ما وقع في تلوها الى خصوصهم أم لا؟

اذا عرفت ذلك فلا بد من بسط المقال في أمرين ، ينقّح بواحد منهما امكان تعلق أصل التكليف ثبوتا بالنسبة الى المعدومين وجودا أو عدما ، وبثانيهما تعلق الخطاب بالنسبة اليهم حقيقة أو ايقاعا وتعيين معنى الادوات اثباتا ووضعا.

فنقول : انّ الحكم الشرعي :

اذا جعلناه عبارة عن الارادة [ التشريعية ] (١) التي هي في الواجب تعالى عين العلم بالصلاح والفساد في أفعال المكلفين نظير الارادة التكوينية التي هي عبارة عن العلم بالنظام الأحسن مع كون الخطابات الانشائية مجرد اظهار تلك

__________________

(١) في الاصل الحجري ( الشرعية ).

٤٩٣

الارادة فقط ، فلا اشكال في تعلقه بالمعدوم.

وان جعلناه عبارة عن الاعتبارات التي تتحقق بالانشاء وبها تصير الافعال واجبة أو محرمة ، وحينئذ فنقول : انّ لها كما قرر في محله مراتب : الانشائي ، والفعلي ، والتنجز ؛ وبعبارة اخرى : ذات تقرر ، وتعلق ، وتنجز.

امّا الفعلي منها الواصل الى مرتبة البعث والزجر فلا شبهة في عدم امكان تعلقه بالمعدوم ، حيث انّ الطلب الحقيقي ـ الذي يكون منشأ جعله الارادة في المبادئ النازلة ـ من الامور الاعتبارية الاضافية القائمة بالطالب والمطلوب منه ، ولا يمكن تحقق مصداقه الحقيقي بالحمل الشائع بمجرد الطالب مع كون المطلوب منه معدوما في الخارج ؛ ونظيره في الاعتبارات الوضعية ، الملكية ، فانّه لا يمكن ايجاد الملكية في الخارج مع كون المنتقل اليه معدوما فيه. هذا بالنسبة الى الفاقد لشرائط الفعلية.

وامّا التكليف الانشائي غير الواصل الى مرتبة الفعلية بنحو كان مشروطا في الوصول اليها بوجدان شرائط تلك المرتبة ، فيمكن تحققه مع كون المكلف معدوما في الخارج ، حيث انّ الانشاء خفيف المئونة يكفي في صدوره من الحكيم مجرد حكمة داعية اليه ومنها جعل قانون واحد لجميع من يمكن أن يبلغ حدّ التكليف من المكلفين بلا حاجة الى انشاء للحكم على حدة بالنسبة الى من يوجد ويجمع الشرائط بعد ان كان معدوما أو فاقدا للشرط ، بل المؤثر بالنسبة اليهم في الفعلية ذاك الانشاء السابق كما يؤثر بالنسبة الى الموجودين الواجدين في ذاك الحين.

ولا اشكال في تحقق هذه المرتبة :

في الشرعيات قبل المعرفة بها كما في موارد الاحكام الظاهرية ، فانّ

٤٩٤

فعليتها بدلالة أخبار البراءة من مثل « كل شيء لك حلال حتى تعرف انّه حرام » (١) وغيره مقيدة بها ، وكما في صدر الاسلام في الغالب ، لعدم استعداد الأنام للتكليف عليهم فعلا.

وفي العرفيات كما في انشاء الملكية في الوقف للبطون ، فانّه : بالنسبة الى الموجودين ايجاد ملكية حقيقية ، وبالنسبة الى المعدومين ليس إلاّ مجرد انشاء بلا استتباع حقيقة إلاّ حال وجودهم وبعده تصير الملكية لهم بنفس ذلك الانشاء بلا حاجة الى مئونة اخرى ، بناء على ما هو التحقيق من كون البطون اللاحقة متلقية للملك عن نفس الواقف.

فالحاصل : انّ الطلب من حيث كونه نسبة بين الطالب والمكلف ومتقوما بهما لا يمكن أن يصير فعليا حال عدم المكلف.

وامّا انشاؤه ، بمعنى : مجرد بناء قانون لمن يمكن أن يبلغ حدّ التكليف الفعلي ، فلا مانع منه ، وهو وان كان أيضا من الامور القائمة بالطرفين المحتاجة الى المصلحة ، إلاّ أنه يكفي فيه مجرد لحاظه حال صيرورة المطلوب منه في ما بعد الفعلية ، مع كون الصادر منه حينه ذا مصلحة مقتضية لانشاء حكم على طبقها كي يصير فعليا بعد اجتماع الشرائط.

هذا كله في انشاء الحكم المطلق بلا تقييده بشيء.

وامّا انشاؤه مشروطا بوجود المكلف مجتمعا للشرائط فأوضح من أن يخفى.

ولكن الظاهر من الاحكام المستفادة من الخطابات الشرعية ـ بناء على

__________________

(١) لا يوجد في المصادر بهذا التعبير ، والموجود في من لا يحضره الفقيه وغيره هو : « كل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال ابدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ». الفقيه ٣ : ٢١٦ باب الصيد والذبائح الحديث ٩٢.

٤٩٥

شمولها للمعدومين ـ هو الاول ؛ وامّا الثاني : وهو تعيين الخطاب معنى ولفظا ، أداة ومتعلقا ، فلا بد أن يعلم :

انّ محل الكلام في هذا المقام ليس ما اذا كان موضوع التكليف الواقع تلو الخطاب غير صالح بنفسه لشمول المعدومين مثل ( يا أيّها الحاضرون ) مثلا ( افعلوا كذا ) و « يا أيّها النبي افعل كذا » ولا ما اذا كان المخاطب بالكلام غير موضوع التكليف سواء لم يكن الكلام مقرونا بأداة الخطاب كقوله تعالى : ( لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (١) ، أو كان مقرونا بها كقوله : « يا أيّها النبي يجب على المؤمنين كذا » مثلا ، فانّه لا شبهة في عدم شمول التكليف في الاول للمعدومين وشموله في الثاني لهم بلا وجه لتوهم الخلاف.

بل الكلام فيما اذا كان الموضوع المكلف [ به ] صالحا بنفسه للعموم والشمول ، وكان مع ذلك واقعا في تلو الخطاب ومخاطبا به في الكلام كقوله : « يا أيّها المؤمنون افعلوا كذا » فحينئذ يقع الكلام في انّه باق على ما هو عليه من صلاحية العموم بالنسبة الى المعدومين والغائبين عن مجلس التخاطب أم لا؟ بل كانت أداة الخطاب قرينة لارادة الموجودين بل خصوص المشافهين في المجلس [ و ] موجبة للتقييد بهم.

ولا بد في تحقيق الحال في المرام من بيان معنى الخطاب وتعيين الموضوع له لأداته فنقول : انّ الخطاب :

امّا واقعي : (٢) وهو عبارة عن توجيه الشخص كلامه في الخارج نحو أحد للافهام به مع حصول التوجه له به حقيقة عقيبه ؛ وهذا المعنى قد يتحقق في الخارج بالحمل الشائع :

__________________

(١) سورة آل عمران : ٩٧.

(٢) يأتي شقه الآخر بقوله : « وأما ايقاعي ».

٤٩٦

تارة : بمجرد المكالمة مع أحد ولو بالجملة الخبرية بدون القصد الى مفهوم الخطاب مع عدم وجود أداته في البين ، ويكون الكلام الصادر المتوجه اليه مصداقا له بالحمل الشائع.

واخرى : بالقاء الكلام اليه بقصد حصول النداء حقيقة مع كون الخطاب بأداته تارة ، وبمجرد التوجه مع القصد الى تحققه اخرى.

ومن هنا يظهر : انّ الخطاب الحقيقي يحتاج الى أمرين :

أحدهما : وجود المتوجه اليه الكلام حينه ، لامتناع التوجه الى المعدوم.

وثانيهما : حضوره بنحو يبلغه شخص الكلام الصادر وبدونه لم يحصل التوجيه والابلاغ الى المخاطب ، بل المعتبر قابليته للشعور ، بل الالتفات الفعلي الى توجيه الكلام اليه ، فلا تكون المخاطبة مع غير ذوي العقول أو غير الملتفت منهم خطابا حقيقيا ، فضلا عن المعدوم.

وتوهم : انّ عدم امكان الخطاب الحقيقي بالنسبة الى غير المشافه انما هو في خطاب الممكن ، وأمّا في خطاب الواجب تعالى فهو في غاية الامكان ، لاحاطته بالغابر [ والآتي ] (١) وعموم قدرته في كل شيء.

مدفوع : بأنّ محل النزاع هو الخطاب [ للمكلفين ] (٢) بوجودهم الزماني المحدود الجسماني لا بوجودهم الدهري الروحاني ، وانّ ما به الخطاب هو القرآن بوجوده اللفظي المخلوق صوتا في الشجر بنزول الملك بالنسبة الى خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبلسان النبي بالنسبة الى خطاب سائر البشر ، لا القرآن بوجوده العلمي وبوجوده في مقام العلو من اللوح والقلم وقلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مقدما على نزول الملك بقاعدة الاشرف فالاشرف.

__________________

(١) في الاصل الحجري ( والماضي ).

(٢) في الاصل الحجري ( بالمكلفين ).

٤٩٧

وحينئذ : يعلم انّ القصور من ناحية المخاطب المعدوم في الخارج ، وكذا من جهة عدم قابلية اللفظ الذي يقع به التخاطب لكونه غير قار ومتصرم الوجود ، فلا يجدي فيه عموم القدرة.

مع انّ ما ذكر في التوهم انما يجدي فيما اذا كان المخاطب ( بالكسر ) هو الله تعالى كما بالنسبة الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على اشكال فيه ، واما بالنسبة الى سائر المكلفين فالمخاطب من قبله تعالى هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بوجوده الناسوتي ، فيحصل القصور من الطرفين.

هذا كله في الخطاب اللفظي.

وامّا الخطاب النفسي على قول الاشاعرة فهو ـ على تقدير معقوليته ـ خارج من حريم النزاع كما لا يخفى.

وامّا ايقاعي : (١) [ وهو ] (٢) مجرد قصد النداء باللفظ الى شيء انشاء ولو كان بداعي آخر غير حصول النداء الحقيقي من تحسر وتأسف وتحزّن ونحوها ، وهو مما لا اشكال في تحققه بالنسبة الى غير ذوي العقول كما وقع كثيرا في كلام البلغاء مثل قوله : « أيا جبلي نعمان بالله خلّيا » (٣) وكقوله : « أيا شجر الخابور ما لك مورقا » (٤) وكقولك : « يا جدار » ونحو ذلك.

كما انّه لا اشكال في تحققه بالنسبة الى المعدوم والغائب أيضا كما في قولك

__________________

(١) تقدم شقه الاول بقوله : « اما واقعي ».

(٢) في الاصل الحجري ( فهو ).

(٣) صدر بيت لقيس بن الملوح ( مجنون ليلى ). المغني ١ : ٢٩ ؛ جامع الشواهد ١ : ٢٨١. والبيت بتمامه :

أيا جبلي نعمان بالله خلّيا

نسيم الصبا يخلص اليّ نسيمها

(٤) صدر بيت للفارعة بنت طريف بن الصلت ، ترثي اخاها الوليد بن طريف ؛ الاعلام ٥ : ١٢٨. والبيت بتمامه :

أيا شجر الخابور ما لك مورقا

كأنك لم تجزع على ابن طريف

٤٩٨

عند ذكرك من تكرهه وتعاديه مع عدم حضوره بل مع موته : « أيّها اللئيم صنعت كذا وكذا » ولمن تحبه وتحترمه « يا ولدي فعلت لك كذا وكذا » تنادي وتخاطب كل واحد بما يليق به عندك.

اذا عرفت ما ذكرنا فاعلم : انّ النزاع في شمول الخطابات الشفاهية التي كانت متعلقاتها صالحة للعموم في نفسها للغائبين عن مجلس الخطاب ـ بل المعدومين في زمانه ـ وعدمه ، يبتني على وضع أدوات الخطاب :

تارة : بوضعها للدلالة على بيان حالة المخاطبية للملقى اليه الكلام.

واخرى : بوضعها للخطاب الانشائي مشروطا بداعي تحقق الخطاب الواقعي.

وثالثة : بانصرافها بأحد أسبابه الى خصوص ما كان بداعي الخطاب الحقيقي ، مع وضعها لمطلق الانشائي.

ورابعة : بالالتزام بوضعها لمطلق الخطاب الايقاعي ولو كان بداع آخر : من مثل بيان جعل قانون للكل في الخطابات الشرعية بلا انصراف في البين.

فعلى الوجوه الاولى لا اشكال في عدم الشمول إلاّ مع عناية في الكلام ؛ كما انه على الاخير لا مانع منه بلا عناية فيه.

والظاهر المتبادر من موارد استعمال أدوات الخطاب هو الاخير ، حيث انّا نرى استعماله في خطاب غير ذوي العقول والغائب المعدوم بلا ارتكاب عناية من تنزيل غير العالم وغير الحاضر منزلة العالم والحاضر ، بل تكون مستعملة بمجرد حصول دواع في النفس من تحسّر ونحوه بلا انتظار شيء آخر من علاقة وقرينة.

ويدل عليه : تشريك الغائبين بل الحاضرين الخارجين عن المشافهة

٤٩٩

المتعارفة غير السامعين للكلام كقوله : « يا أهل يثرب لا مقام لكم بها » (١) وكقولك : « أيّها الحاضرون » مع كون بعضهم ممن لا يسمع الكلام ؛ وخطابات النفس ؛ والخطابات الكتابية من المصنفين ، فانّ استعمال الادوات في أمثال المقامات مع قصد التشريك ـ بلا عناية وتجوّز ـ بتنزيل غير الحاضر منزلته ونحوه ظاهرا بل قطعا بالنسبة الى الحاضرين غير السامعين للكلام مع قصد الخطاب بالنسبة اليهم أيضا ، يدل على وضعها لمجرد الخطاب الايقاعي بأي داع كان.

وتوهم : كون هذا التنزيل ارتكازيا وغير ملتفت اليه ؛ يدفعه : انّ الارتكازي لا بد من العلم بوجوده بعد الالتفات اليه ، ولا علم بمثل هذا التنزيل في المقام ولو بعد الالتفات [ الى موارد ] (٢) الاستعمالات.

وحينئذ يكون عموم المتعلق في مثل ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) (٣) ونحوه بالنسبة الى الغائب والمعدوم باقيا على حاله بلا مزاحم. وعلى تقدير الشك في كون الاداة موضوعة للخطاب الحقيقي أو الايقاعي ـ بل مع تسليم التبادر الاطلاقي بالنسبة الى الاول في الجملة ـ يكون العموم الوضعي للمتعلق أظهر ، ويحمل التكليف المتضمن له على الحقيقي الفعلي بالنسبة الى الحاضر الواجد للشرائط ، وعلى الانشائي بالنسبة الى غيره.

وما ورد من قول النحويين واللغويين من أنّ مثل هذه الادوات موضوعة للخطاب والنداء فانّما هو مشترك بينهما كما لا يخفى.

__________________

(١) من جملة بيتين مشهورين لبشير بن حذلم ينعى بهما الحسين عليه‌السلام في المدينة ، وهما :

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

قتل الحسين فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرّج

والرأس منه على القناة يدار

مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرّم : ٣٧٤.

(٢) في الاصل الحجري ( بموارد ).

(٣) في آيات كثيرة ، مثلا سورة الاحزاب : ٩.

٥٠٠