تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ١

الشيخ علي القوچاني

تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي القوچاني


المحقق: محمّد رضا الدّانيالي
الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-30-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-29-4

الصفحات: ٥٧٠
الجزء ١ الجزء ٢

٢١
٢٢

المقدمة

٢٣
٢٤

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع العلم

١ ـ قوله : « أمّا المقدمة ففي بيان امور : ». (١) (٢)

اعلم : أنه قبل تعيين موضوع علم الاصول لا بد من بيان موضوع العلوم على النحو الكلي وذكر المعيار في تحديده فنقول :

تارة يقال ـ كما عبّر به المصنف ـ : إنّ موضوع كل علم هو الكلي الجامع لشتات موضوعات مسائله ، المتحد معها عينا ، المغاير معها مفهوما ، الصادق عليها بالشائع صدق الطبيعي على افراده. ولا بد من كون تلك الموضوعات مشتركة في جامع وحداني ، لكونها بمحمولاتها المختلفة ـ على ما سنشير اليه ـ مشتركة في أمر وحداني وهو الغرض ، مع عدم استناد الامر الوحداني الى المتكثّرات بما هي مختلفة ، فلا بد من استناده اليها بما هي مشتركة في أمر واحد ، ولا بد من كونه ذاتيا لها ، لانتهاء التأثير بالأخرة الى ما بالذات وان كان المأخوذ بالفعل موضوعا عنوانا عرضيا.

__________________

(١) بالنسبة الى متن الكفاية يكون منهجنا هو بيان مصدرين من طبعتين مختلفتين من الكفاية ، الاول : كفاية الاصول طبعة جماعة المدرسين في قم ، ونرمز لها بـ ( كفاية الاصول ) ؛ والثاني : كفاية الاصول الحجرية الموشحة بتعليقة المحقق القوچاني قدس‌سره ، ونرمز لها بـ ( الحجرية ). لكن الحجرية هذه تختلف صفحة المتن فيها مع صفحة التعليقة المرتبطة به في الغالب ، فاحتيج الى التنبيه عليه في كل مورد مورد.

(٢) كفاية الاصول : ١٩ ؛ الحجرية ١ : ٣ للمتن ، و ١ : ٢ للتعليقة.

٢٥

ثم ان كان ذلك الجامع معلوما فيجعل موضوع العلم ذلك ؛ وإلاّ فيشار اليه بالعنوان العرضي الانتزاعي من نفس موضوعات المسائل ، أو من حيثية الغرض فيجعل ذلك عنوانا للموضوع ، وإلاّ فيشار اليه بنفس الغرض حيث انّه لا بد منه في المسائل ، و [ قد ] عرفت انّ الغرض الواحد يكشف عن الجامع الواحد الموضوعي فيصح أن يشار اليه به.

واخرى يقال ـ كما عبّر به المشهور ـ : من انّه ما يبحث (١) في العلم عن عوارضه الذاتية.

ولا اختلاف بين التعبيرين حيث انّ محمول كل مسألة [ هو ] من العارض الذاتي لموضوعها ، والمفروض انّ ذاك الجامع اللابشرط متحد مع تلك الموضوعات وعينها خارجا ، فتكون العوارض الذاتية لها عوارض ذاتية له أيضا.

والمراد من العرض الذاتي ما يعرض الشيء حقيقة أولا وبالذات ، لا مجازا ثانيا وبالعرض.

وبعبارة اخرى : ما يحمل على ذات المعروض بلا واسطة في العروض التي تكون متصفة بالعارض حقيقة وواسطة لاتصاف ذيها به ، ولحمله عليه مجازا ، فتكون بمعنى الواسطة في الحمل فيخرج عنها المباين بالذات كالنار الواسطة لحرارة الماء ، وان كان له واسطة في الثبوت التي تكون هي العلة الموجبة لتحققه في موضوعه كما هو شأن الممكن ، في مقابل العارض الغريب وهو الذي يحمل على معروضه مع الواسطة في العروض.

فظهر : انّ المعيار في العارض الذاتي هو كون معروضه نفس ذات الشيء ولو حين أخذه لا بشرط ، بلا تفاوت بين كون العارض أعم من المعروض كالجنس

__________________

(١) يظهر من ذلك : انّ العلوم أسام لنفس المسائل وهي المحمولات المنتسبة لأنها العارضة للموضوع ، لا ادراكاتها ، فتدبر. [ من المصنف قدس‌سره ]

٢٦

بالنسبة الى الفصل ، أو أخص كالعكس ، أو مساويا كالتعجب بالنسبة الى الانسان.

وامّا ان كان العارض محتاجا في عروضه الى الواسطة في العروض لما كان من العوارض الذاتية وان كانت الواسطة خارجا مساويا ، أو جزءا منه مساويا أو أعمّ ، فضلا عما اذا كان بواسطة الخارج الأعم أو الأخص ؛ إلاّ اذا جعلت الواسطة لا بشرط بالنسبة الى ذيها ، أو كانت متحدة معها عينا ويكون كل منهما صادقا على الآخر ، فحينئذ تكون الواسطة ملغاة ويكون العارض لها عارضا لنفس المعروض بلا تفاوت بين كون الواسطة خارجة عن المعروض أو جزءا مطلقا ، حيث انّه مع اعتبارها لا بشرط لا واسطة في العروض.

ومعنى كونه بواسطة أمر خارج : كون الواسطة ملحوظة بلحاظ آخر ، لا انّها ملحوظة بالاعتبار اللابشرط ؛ وحينئذ فما ذكروه معيارا للعوارض الذاتية من كونها : امّا عارضة لنفس الذات ، أو بواسطة الخارج ، أو الجزء المساوي ، فان كان المراد هو الواسطة في الثبوت ، ففيه : انّه لا وجه للتفصيل بين ما ذكر وبين غيره كما لا يخفى.

وان كان المراد هو الواسطة في العروض كما هو الظاهر ، ففيه : انّه يخرجه عن العوارض الذاتية إلاّ بالاعتبار الذي ذكرناه ، ومعه لا يتفاوت الحال ـ فيما كانت الواسطة متحدة الوجود مع ذيها ـ بين كونه خارجا مساويا ، أو أخصّ ، أو أعمّ ، أو جزءا أعمّ ، ولذلك تكون العوارض التي تعرض موضوعات العلوم بواسطة الخارج الاخص ـ كالاحوال الطارئة على الكلمة والكلام في النحو بواسطة الفاعلية والمفعولية ونحوهما ـ من العوارض الذاتية ، حيث انّها من العوارض الذاتية لموضوعاتها الخاصة ، وموضوع العلم اذا أخذ لا بشرط يكون عينها ، فتكون من عوارضه الذاتية أيضا.

ولو لا ما ذكرنا لخرج غالب مهمات كل علم من مسائله لعدم صدق المعيار

٢٧

الذي ذكروه في العوارض فيها ، ولا بد من كون المبحوث عنه في العلم من العوارض الذاتية لموضوعه. فما في كتب المعقول : من تخصيص العوارض الذاتية بما كانت عارضة للموضوع بلا واسطة أو كانت عارضة بواسطة الامر المساوي ، فهو تخصيص بلا مخصص ، فتدبر.

ثم انّه يرد على ما ذكره ـ من تحديد الموضوع بالكلي الجامع بين موضوعات المسائل المتحدة معها خارجا ـ امور :

احدها : انّ موضوع بعض المسائل في بعض العلوم يكون جزءا لموضوع العلم ، كما في علم الطب مثلا الذي يكون موضوعه بدن الانسان ، مع انه يبحث في أعضائه وأجزائه ؛ ومن المعلوم انّ الكل لا يصدق على جزئه.

لكنه يمكن دفعه : بكون تحديد موضوع علم الطب بما ذكر لا يصح ولو على المشهور ، حيث انّ محمول الجزء لا يحمل على الكل ، فلا بد من كون الموضوع ـ واقعا ـ جامعا بين الافراد وان لم يلزم تشخيصه ؛ فثبت ما ذكر من انّ التمييز بالغرض ، لا بالموضوع.

ثانيها : انّ الظاهر من العبارة انّه لا بد من اتحاد موضوع العلم مع موضوع المسألة في الخارج ، فيشكل ذلك في المنطق ، حيث انّ موضوعاته من المعقول الثاني باصطلاح المنطقي ولا وجود لها إلاّ في الذهن ، فينثلم الاتحاد الخارجي.

ويمكن دفعه : بأنّ المراد : الاتحاد بينهما في نفس الامر ، ومن المعلوم انّها أعم من الخارج والذهن ، فيكون التعبير حينئذ من باب المثال.

ثالثها : انّه يشكل على كلا التحديدين في موضوع علم النحو ، حيث انّ الموضوع لو كان كلا من الكلمة والكلام على نحو الانفراد لزم كونه علمين ، وان

٢٨

كان واحدا [ منهما ] (١) [ ما ] (٢) كان جامعا لجميع موضوعات المسائل ، وان كانا على نحو الاجتماع لزم عدم صدقه على واحد من موضوعات المسائل. كل ذلك يظهر بالتدبر ، فتدبر.

ثم انك اذا عرفت انّ موضوع العلم هو الكلي الجامع لموضوعات مسائله ، فاعلم : انّه لا بد من انتزاعه بنحو يجمع جميع شتاتها ـ ولو كانت لاحقة بعد تدوينها المدوّن الاول ـ ويمنع عن غيرها ولو كان ذاك الغير نفس تلك المسائل اذا كانت مندرجة في مسائل علم آخر لغرض آخر ؛ وسعته وضيقه كذلك لا يكاد يكون إلاّ بتحديد مسائل العلم حتى ينتزع الكلي الجامع المذكور من موضوعاتها.

ثم انّها مع كثرتها موضوعا ومحمولا وتباينها في جهات شتّى لا بد مما به الوحدة والارتباط بينها حتى تعدّ بسببه علما واحدا ، ولا يصلح كذلك إلاّ الغرض الذي لاحظه المدوّن الاول وشخّصه ثم دوّن العلم بسببه فيكون معيار المسائل وتقديرها به ؛ واذا قدّر المسائل ينتزع من موضوعاتها كليا يصدق عليها ذاتيا ، وإلاّ فعرضيا ، وإلاّ فيشار اليه بالغرض بلا حاجة الى تشخيص الموضوع أصلا لعدم تعلق غرض خاص بتعيينه ، إلاّ ما توهمه القوم من انّ تمايز العلوم بتمايز موضوعاتها ، فلا بد أن يعيّن الموضوع في كل علم حتى تتميز مسائله عن مسائل علم آخر.

ولكن التحقيق : انّ تمايز العلوم ليس بتمايز الموضوع ، لمكان اختلاف موضوع مسألتين من علم واحد ذاتا كمباحث الالفاظ والادلة العقلية من علم الاصول على ما لا يخفى ، لامكان اتحاد موضوع مسألة علم مع موضوع علم آخر

__________________

(١) في الاصل الحجري ( منها ).

(٢) في الاصل الحجري ( لما ).

٢٩

كما في مسألة الاختلاف (١) بين الاشاعرة والمعتزلة في ادراك العقل حسن الاشياء وقبحها المبحوث عنها في علم الكلام والاصول ، فلو كان التميز به لصار العلم الواحد علمين والعلمان علما واحدا.

وكذا ليس التميز بالحيثية المأخوذة في الموضوع ، حيث انّ تلك الحيثية :

امّا حيثية المحمول الذي يسمّى بـ حيثية البحث كما في الفصول (٢).

ففيه : انّه ملتزم لكون البحث عن المحمول راجعا الى البحث عن المبادئ ، ولاخذت الموضوعات في القضايا المتعارفة في العلوم بشرط المحمولات لو أدرجت الحيثية الفعلية في الموضوع عنوانا كما عن الطهراني (٣) ، أو قيدا كما هو المشهور ؛ وكذا لو أدرج فيه التحيّث بمعنى قابلية عروض المحمولات على ما عليه المحقق السبزواري في المنظومة ، لانّ الموضوع في القضايا المذكورة هو الذات لا بشرط شيء ، وإلاّ فلم يقل أحد بأنّ التميز بالمحمول ، مع كثرة اختلافه في علم واحد واتحاده في بعض المسائل في علمين كما لا يخفى.

وأمّا حيثية الغرض فهو الانصاف والتحقيق.

__________________

(١) المستصفى ١ : ٥٩ ـ ٦٠ القطب الاول / الفن الاول / المسألة الاولى ؛ المنخول : ٨ ـ ٩ ؛ المحصول ١ : ٣٥ و ١ : ٤٨ الفصل السابع ؛ الاحكام في اصول الاحكام ١ : ٧٢ القسم الثالث في المبادئ الفقهية والاحكام الشرعية / الاصل الاول / المسألة الاولى ؛ شرح المواقف ٨ : ١٨١ المرصد السادس في افعاله تعالى / المقصد الخامس في الحسن والقبح ؛ شرح المقاصد ٤ : ٢٨٢ المبحث الثالث.

(٢) الفصول الغروية : ١١ السطر ٢٠.

(٣) محجة العلماء ١ : ١٨ السطر ٢١. الطهراني هو الشيخ هادي بن محمد امين الواعظ الطهراني. استاذ محقق ومؤسس في الاصول ، معاصر للآخوند الخراساني. ولد في شهر رمضان ١٢٥٣ ؛ درس في اصفهان ثم هاجر الى العراق ، وكان من تلاميذ الشيخ الانصاري ثم الميرزا الشيرازي ؛ كان جريئا في نقد آراء غيره من العلماء ، ولذا تعرض له الكثير من اهل زمانه بالنقد الشديد ، فكانت النتيجة ان لم يحضر درسه الا نزر قليل ؛ توفي في النجف ١٣١٢. له كتب ، منها : محجة العلماء ؛ ودائع النبوة ؛ الاتقان ( اصول الفقه ) مخطوط ؛ الفرق بين الماهية والوجود ( مخطوط ).

٣٠

بيانه : انّ المخترع لكل علم لا بد أن يلاحظ غرضا مهما أولا ، ثم الامور التي لها مدخلية في تحصيله فيجمعها ويدوّنها للوصول اليه ، مع كون تلك الامور متساوية الأقدام في حصول ذلك الغرض منها ؛ فتلك الامور مسائل ذلك العلم ومسمى له ، وذلك الغرض غايته. ولا بد لتلك المسائل من بعض امور يحصل بها تصور موضوعاتها ومحمولاتها ، واخرى يحصل بها التصديق بثبوت محمولاتها لموضوعاتها ، وتسمّى تلك الامور الاولى بالمبادئ التصورية والثانية بالمبادئ التصديقية.

ثم انّه لا بد أن تكون المسائل بحيث يحصل منها الغرض بلا واسطة ، وإلاّ فتكون داخلة في المبادئ ، فلا يرد النقض في علم الفقه ببعض مسائل الهيئة والحساب والاصول ـ بل اللغة والصرف وغيرها ـ بأنّ لها دخلا في غرض الفقه ، وفي علم الاصول ببعض مسائل علوم اخرى كذلك ، لانّ الدخل ان كان بعيدا فغير وارد وان كان قريبا فلا بد من الدخول فيه لذلك الغرض ، حيث انّ المهم تدوين العلم وذكر مسائله لاجل التوصل اليه ، وحينئذ فيكون هو معيار الدخول والتميز ، لا الموضوع ، لعدم تعلق غرض به بنفسه ، وحينئذ فيصح ذكر مسألة واحدة أو أزيد بموضوعها ومحمولها في علمين مع عدم ايراد التداخل ، لاختلاف الغرض ، وإلاّ فلو كان التميز بالموضوع لزم التداخل ولزم اشتمال علم واحد على علوم متعددة حقيقة.

نعم بعد تحديد المسائل بالغرض فلا بأس بذكر الجامع بين موضوعاتها موضوعا للعلم ، ثم بعد ذلك لو عدّ ذلك من أسباب التميز أيضا ـ زيادة للبصيرة ـ لا بأس به.

ثم [ انّ ] ما ذكرنا من صحة تداخل بعض العلوم مع بعض آخر ـ بعد اختلاف الغرض ـ انما يصح اذا كان التداخل في مسألة أو أزيد ، لا في تمام المسائل.

٣١

وبعبارة اخرى : لا بد أن يكون بين الغرضين ـ في غير مورد التباين ـ العموم من وجه أو المطلق ، لا التساوي والتلازم ، وإلاّ فلا يصح تدوين علمين ـ بل علم واحد ـ لاجل كلا الغرضين. والحاكم بصحة تدوين علمين في الصورة الاولى دون الثانية هو الوجدان.

اذا عرفت انّ التميز انما هو بالغرض فاعلم انّه : تارة : لا يحصل إلاّ بمجموع المسائل كما في الفقه بناء على امتناع التجزّي في الاجتهاد ، واخرى : يكون مشككا قابلا للشدة والضعف ، بحيث يحصل مرتبة منه في كل مسألة وان كان كماله يتوقف على المجموع ، فاذا كان كذلك فلا بد أن يجعل مرتبة منه معيارا لمسمى العلم بمعنى أن يكون بشرط شيء بالنسبة الى تلك المرتبة ولا بشرط بالنسبة الى ما فوقها كما لا يخفى.

ثم انك عرفت انّ في كل علم امورا عديدة :

[ الاول : ] مسائل العلم ، وهي القضايا التي تبحث عنها في العلم ، وتكون مجموعها مسمى للعلم.

و [ الثاني : ] الغرض ، وهو الفائدة التي دوّن لاجلها العلم.

و [ الثالث : ] الموضوع.

و [ الرابع : ] المبادئ.

ويكون غير المسائل خارجا عن العلم ، ويكون ذكرها ـ امّا في المقدمة أو في أثناء العلم ـ استطرادا. هذا كله في موضوع كل العلوم.

وامّا موضوع علم الاصول فهو : الجامع بين موضوعات مسائله وعرفت انّ تحديدها اجمالا بواسطة الغرض ، فلا بد من تشخيصه ، وهو على ما يظهر من تعريف كثير للاصول بأنّه : « العلم بالقواعد الممهدة ... الخ » ، وتصريح الآخرين

٣٢

بأنّه : « التمكن من استنباط الاحكام » (١) فتخرج مثل مسائل الاصول العملية الشرعية ، لكون البحث فيها عن ثبوت الحكم الظاهري بعد اليأس عن الاستنباط بلا دخل لها في الاستنباط أصلا ؛ والعقلية وهو واضح ؛ والبحث عن حجية الظن على الانسداد على نحو الحكومة ؛ بل البحث عن حجية الامارات مطلقا ـ بناء على انشاء الحجية فيها دون الحكم التكليفي على طبقها ـ لعدم استنباط الحكم التكليفي على طبقها ، إلاّ أن يتكلف بجعل الاستنباط أعم من القطع بالحكم الشرعي أو الظن به فتدخل حجية الامارات في المسائل.

ولكن الظاهر ـ من ذكر المهرة لمثل هذه المسائل في مهمات الاصول وعدم خلوّ كتاب من الكتب المدوّنة فيه عنها بل هي عمدة المباحث فيها ـ : انّ الغرض في علم الاصول أعم من الاستنباط أو تعيين الوظيفة بعد اليأس عن الاستنباط ، سواء كانت الوظيفة حكما شرعيا كمفاد الاصول الشرعية ، أو عقليا كالاصول العقلية والظن الانسدادي على الحكومة ، وهو الذي يساعده الاعتبار ، لعدم خصوصيته في الوقوع في طريق الاستنباط بعد كون مطلق تعيين الوظيفة من شغل المجتهد ، فيكون ما له دخل في تعيين ما يستريح اليه في هذا المقام من المهمات الاصولية ، ولا وجه للاستطراد في مثل هذه المهمات.

فان قلت : انّ مفاد الاصول العملية هو ثبوت الحكم الفرعي للموضوعات الكلية ، كما في أصالة الحلّية فانّ مفادها ثبوت الحلّية للموضوع المشكوك الحلّية والحرمة ، و [ كما ] في الاستصحاب فانّ مفاده اثبات الحكم المماثل لما كان متيقن الثبوت في السابق ومشكوك البقاء في اللاحق ؛ وحينئذ فما الفرق بينهما وبين سائر القواعد الفقهية ومنها نفس هذه الاصول الجارية للشبهات الموضوعية ، وقاعدة نفي

__________________

(١) التقرير والتحبير ١ : ٢٧ السطر ٦ من الطبعة القديمة ، و ١ : ٣٦ من الحديثة ؛ الموافقات ٤ : ١٠٦.

٣٣

الضرر والحرج ، بل سائر المسائل الفقهية مثل البحث عن وجوب الصلاة ونحوها ، التي كان مفادها ثبوت الحكم للعناوين الكلّية؟

قلت : الفرق : انّ المسائل الاصولية ما كانت بعد تمهيدها نافعة للمجتهد وحده.

وبعبارة اخرى : كان تطبيقها على الصغريات من شغله ، كتمهيدها ، والمسائل الفقهية ما كانت بعد تمهيدها مشتركة من حيث التطبيق بين المجتهد والمقلد ؛ ومن المعلوم انّ ملاك الاولى ثابت في الاصول العملية حيث انّ تعيين مواردها والفتوى على طبقها في الشبهات ـ بعد اليأس عن الدليل ـ [ هو ] من شغل المجتهد ، بخلاف القواعد الاخرى فانّ إجراءها في مواردها الشخصية ـ بعد تعيين مفاد أدلتها وتحديد مقدار دلالتها من حيث الموضوع والحكم ـ مشترك بين المجتهد والمقلد ، حتى مثل قاعدة نفي الضرر فانّه بعد تحديد الضرر واثبات انّ نفيه يشمل الوضع والتكليف يكون احراز صغرياتها ـ من العقد الغبني ونحوه ـ من وظيفة المجتهد والمقلد كما لا يخفى.

وعلى كل حال فاذا عرفت انّ غرض الاصولي ينبغي أن يكون أعم ، فتكون مسائل الاصول ما كان لها دخل قريب في ذلك ، ويكون موضوعه هو الجامع بين مصاديق الموضوعات ؛ فلا مهمّ في تعيينه بعد الاشارة اليه بما ذكرنا.

وامّا ما قيل من انّه الادلة الاربعة ، فيرد عليه :

أولا : بخروج أغلب المسائل المبحوث فيها [ من ] (١) : تعيين المعنى اللغوي والعرفي لبعض الالفاظ ـ بلا تقييد وروده في الكتاب والسنّة ـ مثل لفظ الامر والنهي وألفاظ العموم والمطلق ونحوها ، حيث انّ البحث عن معناها ليس من

__________________

(١) في الاصل الحجري ( عن ).

٣٤

عوارض الاربعة. والالتزام بتقييد ورودها في الكتاب والسنّة ، بعيد عن تحرير الاصوليين لها.

نعم يمكن أن يجاب عن هذا الاشكال ـ مع حفظ خصوص الادلة الاربعة في الموضوع ـ بما ذكرنا : من انّ العوارض الذاتية للأعم ـ المأخوذ لا بشرط ـ عوارض ذاتية للاخص أيضا ، فتأمل فيه.

وثانيا : بخروج مثل حجية خبر الواحد ان كان المراد من السنّة ـ كما هو الظاهر ـ هو نفس قول الامام وفعله وتقريره ، حيث انّ البحث انما هو عن حجية خبر الواحد لا عن حجية السنة. ولا فرق في هذا الاشكال : بين جعل الموضوع الدليل بوصفه العنواني كما عن القمي (١) ، وبين جعله ذات الدليل كما في الفصول (٢) ، لانّ ذات الدليل هو خبر الواحد ولو لم يطابق السنّة ، فلا يكون البحث عن عوارضه بحثا عن عوارضها.

وامّا ارجاع البحث في المسألة الى البحث عن ثبوت السنّة بخبر الواحد ليكون البحث فيه عن عوارضها كما عن الشيخ (٣) ، ففيه :

انّه ان كان المراد هو الثبوت الواقعي ـ فمع انّه لا يثبت كذلك ـ يستلزم رجوع البحث الى البحث عن وجود الموضوع الذي هو مفاد كان التامة وهو من المبادئ لا من المسائل ، للزوم كون البحث فيها عن عوارضه وعما هو مفاد كان الناقصة.

وان كان المراد الثبوت التعبدي ، بمعنى البحث عن وجوب ترتيب أثر السنة

__________________

(١) القوانين المحكمة ١ : ٩ السطر ٢٢ ـ ٢٣.

(٢) الفصول الغروية : ١١ السطر ٢٤ ـ ٢٥.

(٣) فرائد الاصول ١ : ٢٣٨.

٣٥

على خبر الواحد ، ففيه : انّه من عوارضه لا من عوارضها ؛ إلاّ أن يلتزم (١) بكون السنّة أعم مما ذكروا من الاخبار الحاكية له فيدخل البحث في المسائل ، ولكنه خلاف الاصطلاح.

وثالثا : بخروج غالب مباحث الادلة العقلية ـ كالبحث عن حكم العقل بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، أو عن حكمه بالحسن والقبح ، [ أو ] (٢) عن حكمه بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ونحوها ـ عن علم الاصول ، حيث انّ الدليل العقلي الذي جعل موضوعا للاصول هو حكم العقل للتوصل به الى الحكم الشرعي ، ومن المعلوم انّ البحث في المقام عن أصل تحققه لا عن عوارضه بعد ثبوته ، فيدخل في المبادئ لا في المسائل.

نعم يكون البحث عن حجية حكم العقل بالملازمة بين الحسن والقبح و [ بين ] (٣) حكم الشرع وعدمه ـ كما عن الاخباريين ـ من المسائل ، لا البحث عن أصل ثبوت الحكم المذكور وسائر الاحكام ؛ ولا يجدي في ذلك جعل الموضوع أعم من الدليل ـ بوصفه العنواني ـ ومن ذاته كما عرفت.

وامّا على ما ذكرنا من كون الموضوع هو الجامع بين موضوعات المسائل لا خصوص الادلة الاربعة فلا يرد عليه النقض ، إذ بناء عليه يجعل الموضوع في المسألة هو نفس العقل بأن يقال : انّه هل للعقل الاحكام المذكورة أم لا؟ ولا غرو في جعل المسألة كذلك ، لوجود الملاك فيها وهو النفع للمجتهد في مقام

__________________

(١) قوله : « إلاّ أن يلتزم ... الخ ». وقد استشكل بعض المعاصرين ( نهاية الدراية ١ : ٣٧ ) : بأنّ الحجة بمعنى تنزيل المؤدّى منزلة الواقع فيكون من عوارضه. وفيه : مضافا الى انّ الحجة ليست راجعة الى التنزيل ، انّ الدليل لاجل نحو اتحاد بينه وبين المدلول يتصف بعوارضه كما لا يخفى. [ من المصنف قدس‌سره ]

(٢) في الاصل الحجري ( و).

(٣) في الاصل الحجري ( هي ).

٣٦

الاستنباط.

ورابعا : بخروج مسائل الاجماع عن المسائل ، لانّ البحث في الاجماع المحصل عن تحققه وفي الاجماع المنقول عن حجيته ، وهو من عوارض الخبر الحاكي له لا [ من ] (١) عوارض الاجماع الواقعي.

وخامسا : بخروج مباحث التعادل والترجيح والاجتهاد والتقليد ، لعدم البحث فيها عن عوارض السنّة.

وارجاع البحث (٢) في الاجتهاد الى البحث عن مدلول الدليل ـ مع انّه تكلف ـ لا يجدي في ادراجه في المسائل ، لكون البحث حينئذ عن وجود الدليل لا عن عوارضه كما لا يخفى.

وسادسا : بخروج البحث عن عدم حجية القياس وهو واضح.

وامّا على ما ذكرنا من توسعة الموضوع فنقول :

انّ كل مسألة يكون البحث فيها عن وجود موضوعها فتخرج عن المسائل ، مثل البحث عن أصل تحقق الاجتهاد مثلا ، أو التجري ؛ وكل مسألة يكون البحث فيها عن عوارض موضوعها ـ أيّا ما كان ذلك الموضوع ـ تكون تلك من المسائل ، مثل البحث عن حجية ظن المجتهد مطلقا كان أو متجزيا ، والبحث عن أحكام التعادل والترجيح ، إذ المعيار وهو النفع للمجتهد حاصل فيها. نعم لو لم ينفع له يكون البحث عنها استطراديا ولا ضير فيه ، إذ لا نلتزم بكون جميع المباحث من

__________________

(١) في الاصل الحجري ( عن ).

(٢) قوله : « وارجاع البحث ... الخ ». وعن بعض أعاظم العصر ( فرائد الاصول ١ : ٢٣٨ ـ ٢٣٩ ؛ وبحر الفوائد : ١٧٩ السطر ١٢ ـ ١٧ ) : ارجاع البحث عن الحجية الى تنجز السنّة الواقعية بالخبر الحاكي. وفيه : مضافا الى كونه لازما لما هو المبحوث عنه لا عينه ، انّ التنجز من عوارض الحكم الواقعي لا السنة الدالة عليه. [ من المصنف ١ ]

٣٧

المسائل لا بنحو الاستطراد فيها أصلا كما لا يخفى.

ان قلت : ما ذكر من خروج كل مسألة ـ يبحث فيها عن أصل تحقق الموضوع ـ عن العلم ودخولها في المبادئ ، ينتقض بغالب مباحث علم الحكمة ، مثل البحث عن وجود العقول العشرة وعن وجود المثل الافلاطونية ونحوها.

قلت : بعد ما قرر في محله من أصالة الوجود وكونه حقيقة واحدة مشككة وانّ الموضوع فيه هو الوجود المطلق ، يظهر انّ البحث في تلك المسائل من العوارض ، حيث انّ البحث حقيقة عن تخصيص الوجود المطلق بالخصوصيات العقلية والنفسية والمثلية ونحوها كما لا يخفى.

ثم انّ مسائل علم الاصول لا يلزم ان تكون موصلة الى الغرض منه فعلا ، بل يكفي ايصالها اليه شأنا ؛ كما انّها ليست بمنحصرة فيما ألّفها المدوّن الاول ، بل يعدّ منها الامور اللاحقة الحادثة اذا كانت متساوية الاقدام مع ما دوّنت أولا في حصول الغرض ؛ وعلى هذا فمسائل الاصول هي القضايا التي يبحث عنها فيه وتكون ذا مدخلية في حصول غرض المجتهد هنا. هذا كله في الموضوع والمسائل والغرض.

وامّا التعريف :

فان كان العلم موضوعا لنفس القضايا التي يتعلق بها العلم والادراك تارة ، ولا يتعلق بها اخرى ، فالأولى أن يحدّ ـ بناء على الغرض الأعم ـ بأنّه : « مجموع القواعد التي يمكن أن تقع في طريق الاستنباط ، أو يستريح اليها المجتهد في مقام تعيين وظيفة العمل بعد اليأس عن الاستنباط ».

وان كان اسما للادراكات أو التصديقات المتعلقة ، فالأولى أن يقال : « أنه علم بالقواعد ... الخ ».

وان كان اسما للصناعة التي تكون نظير الحرفة التي كانت ملكة في النفس

٣٨

يستخرج بها القواعد ، أو عنوانا جامعا للقواعد الذي يسمّى بالظن ، فالأولى تعريفه بأنّه : « صناعة يعرف بها القواعد ... الخ ».

وامّا تعريف المشهور بأنّه : « العلم بالقواعد الممهدة ... الخ » ، ففيه :

أولا : مضافا الى ما أورد عليه في الكتب المطولة ، انّه لا يشمل المسائل على العرض الأعم.

وثانيا : انّه لا مدخلية للتمهيد بعد ما عرفت من كون المسائل أعم منها ومن الامور الحادثة اذا كان لها (١) دخل في الغرض.

وثالثا : انّ الظاهر منه الاستنباط الفعلي ، ولا لزوم فيه.

ورابعا : انّ الظاهر منه انّ الاصول اسم للعلم بالقواعد.

والتحقيق : انّه اسم لنفسها كما لا يخفى.

٢ ـ قوله : « هو نفس موضوعات مسائله عينا وما يتحد معها خارجا ». (٢)

الظاهر انّ مراده من العبارتين معنى واحد ، وانّ العطف تفسيري.

ولكن الأحسن أن تجعل الاولى عبارة عن الطبيعي الذاتي ، والثانية عبارة عن الأعم منه ومن الكلي العرضي الانتزاعي ؛ وبناء عليه يكون قوله : « تغاير الكلي ومصاديقه ... الخ » من قبيل النشر المشوّش كما لا يخفى.

٣ ـ قوله : « والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتتة ». (٣)

قد عرفت ان المسائل هي القضايا التي تطلب في العلم لاجل التوصل الى الغرض الذي دوّنت بسببه.

__________________

(١) ( فيها ) نسخة ، كذا في الاصل.

(٢) كفاية الاصول : ٢١ ؛ الحجرية ١ : ٣ للمتن و ١ : ٦ العمود ٢ للتعليقة.

(٣) كفاية الاصول : ٢١ ؛ الحجرية ١ : ٣ للمتن و ١ : ٣ للتعليقة.

٣٩

٤ ـ قوله : « وإلاّ كان كل باب بل كل مسألة من كل علم علما على حدة » (١).

لا يقال : انّهم قائلون بأنّ تمايز العلوم لا يصير إلاّ بواسطة الموضوعات ، لا انّ كل اختلاف الموضوع يوجب اختلاف العلم.

فانه يقال : الكلام انما هو في الملاك الواقعي والمرجح للتميز والتعدد ، فاذا كان هو الغرض ، وإلاّ فلو كان هو الموضوع فليسأل عن سبب صيرورة بعض اختلاف الموضوعات موجبا للتعدد وعدم كون بعض آخر موجبا لذلك.

فان قيل : انّ المرجح في ذلك البعض اختلاف الغرض ، بخلافه في البعض الآخر.

فنقول : انّ التميز يرجع اليه ، وإلاّ فيكون عدّ بعض موجبا للتميز دون بعض آخر ترجيحا من غير مرجح.

٥ ـ قوله : « ضرورة انّ البحث في غير واحد من مسائله المهمة ليس من عوارضها ». (٢)

كمباحث الادلة العقلية من مسألة البحث عن ادراك العقل حسن الاشياء وقبحها في حكمه بالملازمة ، وعن الملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوبها ، وسائر أحكامه من المستقلات وغيرها ، فانّ البحث في غالبها ـ غير البحث عن حجية الملازمة ـ بحث عن مفاد كان التامة ؛ وبعبارة اخرى : عن ثبوت الموضوع وهو حكم العقل ، لا عن ثبوت شيء له بعد تحققه.

وقد عرفت انّ القسم الاول : داخل في المبادئ لا في المسائل ، بخلافه بناء على جعل الموضوع أعم من الادلة الاربعة فانّه يجعل المسألة ثبوت حكم للعقل بأن يكون موضوع المسألة هو العقل ـ لا حكمه ـ بلا ضير فيه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢ ؛ الحجرية ١ : ٨ للمتن و ١ : ٨ للتعليقة.

(٢) كفاية الاصول : ٢٢ ؛ الحجرية ١ : ٨ للمتن و ١ : ٨ للتعليقة.

٤٠