تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ١

الشيخ علي القوچاني

تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي القوچاني


المحقق: محمّد رضا الدّانيالي
الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-30-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-29-4

الصفحات: ٥٧٠
الجزء ١ الجزء ٢

صلاحية المانعية في الضد الآخر بالنسبة الى مقتضاه كما أفاده دام ظله في الحاشية (١) ؛ انّه انكار لاصل المانعية ، لانّ المتعلق على المحال محال ، فيلزم منه انكارها من الطرفين كما لا يخفى.

٢٥٥ ـ قوله : « ومما ذكرنا ظهر انّه لا فرق بين الضد الموجود والمعدوم ». (٢)

لما عرفت من كون الضدين [ هما ] (٣) المتبادلين في الرتبة الواحدة لا السابق من أحدهما مع اللاحق من الآخر وبالعكس ؛ فلازمه انّ الموجود سابقا ليس معاندا للاّحق كي يتوقف على رفعه ، ولذلك يجتمع السابق مع اللاحق في أصل التحقق.

نعم لو دار الامر عقلا بين وجود في زمان سابق وبين آخر في زمان لاحق فيكونان حينئذ هما المتبادلان في دار الوجود ويكون عدم أحدهما مع وجود آخر في عالم التحقق في رتبة واحدة بلا تقدم لاحدهما على الآخر.

فحصل مما ذكرنا عدم انحصار الضدين في المتحدين بحسب الزمان بعد أن كانا متحدين بحسب الرتبة.

٢٥٦ ـ قوله : « وامّا من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود في الحكم ». (٤)

اذا عرفت عدم حرمة الضدين من جهة المقدمية ؛ فقد أشار الى الدليل الثاني لهم وهو تلازم الوجود وعدم الضد الآخر ، فيسري حكم أحد المتلازمين الى الآخر ، خصوصا بناء على كونهما معلولي علة واحدة ، فيكون عدم الضد واجبا

__________________

(١) اي في تعليق الآخوند على كلام نفسه في الكفاية : ١٦٣.

(٢) كفاية الاصول : ١٦٤ ؛ الحجرية ١ : ١١٣ للمتن و ١ : ١١٥ للتعليقة.

(٣) في الاصل الحجري ( هو ).

(٤) كفاية الاصول : ١٦٤ ؛ الحجرية ١ : ١١٣ للمتن و ١ : ١١٦ للتعليقة.

٣٢١

وفعله حراما ، وإلاّ لزم اتصاف العدم بغير حكم الوجود بناء على عدم خلوّ الواقعة عن الحكم ومنه الحرمة ، فيلزم منه طلب المتضادين.

وفيه : انّ مجرد التلازم في الوجود الخارجي لا يقتضي المشاركة في الحكم ولو كانا معلولي علة ثالثة ، لعدم الاستحالة عقلا في عدم اتحادهما في الحكم لو لم يكن في أحدهما ما كان موجبا لثبوت الحكم في الآخر من المصلحة والمفسدة ؛ بل ولا مانع من اختلافهما في الحكم الواقعي لو كان في كل واحد ما يقتضي خلاف حكم الآخر من المصلحة والمفسدة.

نعم لا يمكن اختلافهما في الحكم الفعلي ، لاستلزامه المحال من طلب المتضادين ، أو اجتماع المتناقضين من جواز الترك وعدمه كما لا يخفى.

والحاصل : انّ التلازم في الوجود ولو اتفاقا لا يقتضي إلاّ عدم اختلافهما في الحكم الفعلي وان كانا كذلك في الحكم الواقعي.

وما اشتهر من « عدم خلوّ الواقعة » (١) على تقدير التسليم انما هو بالنسبة الى الحكم الواقعي ، لما ورد في الاخبار من جعل الشارع الحكم لجميع الوقائع وعدم خلوّها عن الحكم ، وامّا بالنسبة الى الحكم الفعلي فلا كما لا يخفى.

٢٥٧ ـ قوله : « الامر الثالث : انّه قيل بدلالة الامر بالشيء بالتضمن على النهي عن الضد العام بمعنى الترك ». (٢)

وليعلم : انّ حرمة الضد الخاص ـ على القول به ـ منحصر بالالتزام اللفظي أو العقلي ؛ وامّا الضد العام فيدور بين العينية مصداقا أو التضمن أو الالتزام لفظا أو عقلا ، حيث انّ الامر بالشيء يدل على الوجوب المركب من طلب الفعل

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٩ باب ( الرد الى الكتاب والسنة ... وجميع ما يحتاج الناس اليه ... ) عدة احاديث ؛ و ٣ : ٦٩ باب ( النوادر ) الآتي بعد باب ( الكسير والمجدور ... الخ ) الحديث ٣ ، وغيرها بهذا المعنى كثير.

(٢) كفاية الاصول : ١٦٤ ؛ الحجرية ١ : ١١٣ للمتن و ١ : ١١٦ للتعليقة.

٣٢٢

مع المنع من الترك ، فيكون النهي من الترك جزءا من مدلوله.

ولكن التحقيق : انّ الوجوب ليس مركبا من الطلب والمنع من الترك ، بل هو أمر بسيط عبارة عن الطلب الشديد الذي لازمه المنع من الترك بحكم العقل اذا لاحظه تفصيلا ؛ فيكون التعبير بالمنع عن الترك في بعض العبائر تعبيرا باللازم.

ثم انّه كما لم يكن الوجوب أمرا مركبا لم يكن في البين طلبان أحدهما متعلقا بالفعل والآخر بالترك فيعبّر عن الاول بالوجوب وعن الثاني بالحرمة ، بل هناك طلب الزامي ينسب الى الفعل بالأصالة ويعبر عنه بالوجوب وينسب الى الترك بالعرض ويعبر عنه بالمنع عن الترك ؛ وحيث انّه بمعنى طلب ترك الترك وهو عبارة اخرى عن طلب الفعل فلو قيل بالعينية معنى لا مفهوما لا بأس به.

وعلى كل حال ليس في البين طلبان حقيقة قصد افادة أحدهما بالاصالة والآخر بالتبع كما في وجوب المقدمة حقيقي ، فجعل النهي عن الضد طلبا آخر حقيقيا مع دعوى دلالة الامر عليه بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام لا وجه له.

نعم لا بأس بالالتزام بعدم الاذن في الفعل والمنع عن الترك عند الالتفات اليه عقلا ، لا مولويا شرعيا ، وعلى تقديره فيكون لازما للامر بالشيء لا عينه أو جزؤه. نعم نفس الامر بالشيء يكون نهيا عن الترك عرضا ؛ فما ذكر في المتن من جعله لازما لا وجه له ، إلاّ أن يكون المراد ما ذكرنا. ولعله أشار اليه بقوله : « فافهم ».

٢٥٨ ـ قوله : « الامر الرابع : تظهر الثمرة في أنّ نتيجة المسألة ... الخ ». (١)

وهي فساد الضد ـ اذا كان من العبادات ـ على القول بالاقتضاء وصحته على القول بالعدم.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٦٥ ؛ الحجرية ١ : ١١٤ للمتن و ١ : ١١٧ للتعليقة.

٣٢٣

ومن المتأخرين كالشيخ البهائي (١) وغيره قد أنكر الثمرة المذكورة قائلا بعدم الصحة مطلقا بنظر الى اقتضاء الامر بالشيء عدم الامر بضده لاستلزامه التكليف بالمحال بل التكليف المحال ، فيستحيل ولو عند الاشاعرة المجوزين للامر بالمحال ، وحينئذ فيبطل الضد اذا كان من العبادات لتوقف صحتها على تعلق الطلب بها.

ولكن التحقيق : صحتها ولو لم يكن أمر في البين أصلا :

امّا على مذهب العدلية من تبعية الاوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور بها والنهي عنها ، فواضح ، لعدم فقدان الضد ـ بسبب مزاحمته بالامر بالاهم ـ مصلحته الموجبة للامر به قبلها ، بل كان على ما هي عليه قبل المزاحمة من المصلحة والمحبوبية ، غاية الامر يسقط البعث والزجر بالنسبة اليه من قبل المولى لمانع عقلي وهو الامر بالاهم ، وحينئذ فيصح التقرب به لمصلحته النفسية.

وتوهم : انّ استكشاف المصلحة بالامر ، وإذ ليس في المقام فليس.

مدفوع : بأنّ عدم الاستكشاف بانقطاع انما هو فيما كان الانقطاع بالتخصيص اللفظي أو العقلي اذا كان بسبب قصور المقتضي كما في الصلاة في الدار الغصبي بناء على امتناع اجتماع الامر والنهي.

امّا اذا كان بسبب وجود المزاحم بالنسبة الى الامر الفعلي بلا قصور في نفس الفعل ـ كما فيما نحن فيه ـ فلا ينقطع الاستكشاف ، إذ كان العقل يدرك ارتفاع الامر ، كذلك يدرك عدم تنزل الضد عما هو عليه ـ قبل المزاحمة ـ من المصلحة وانّها ليست مقيدة بعدم المزاحمة ، هذا.

مع امكان استكشاف بقاء المصلحة باطلاق المادة في صورة رجوع القيد

__________________

(١) زبدة الاصول : ١١٨ ؛ والطبعة الحجرية منه : ٨٢.

٣٢٤

الى الهيئة ؛ وهذا نظير استكشاف الشرطية والجزئية المطلقتين من اطلاق مادتهما ولو ثبتا بلسان التكليف المرتفع عقلا كما في صورة التعذر ، أو بالتقييد اللفظي كما في صورة ارتفاع قيد الهيئة.

وامّا على مذهب الأشاعرة : فلأنّهم وان ليسوا من القائلين بتبعية الامر والنهي للمصالح والمفاسد ولكنهم لم ينكروا تبعيتهما لغرض من الاغراض ، وحينئذ لم يرتفع ذلك الغرض بارتفاع الامر عقلا بالمزاحمة فيصح التقرب لاجل حصوله ، فتصح العبادة ولو كانت الصحة بمعنى اسقاط الاعادة والقضاء ، لسقوطهما باتيان ذات المأمور به بداعي المصلحة ولم يقم دليل عقلا على كون الصحة منحصرة في تبعيتها للامر الفعلي.

هذا كله بناء على ثبوت المصلحة في تعلق الامر ؛ وكذلك بناء على ثبوتها في نفس الامر والتكليف ولو واقعا. نعم لو ثبت أو احتمل دورانها مدار الامر الفعلي ـ بحيث لا مصلحة في البين لو ارتفعت الفعلية ولو عقلا ـ توجه عدم الصحة ، لعدم امكان تحصيل الغرض حينئذ كما لا يخفى.

٢٥٩ ـ قوله : « ثم انّه تصدى جماعة من الافاضل لتصحيح الامر بالضد ». (١)

كصاحب كشف الغطاء (٢) وصاحب الحاشية (٣) وصاحب الفصول (٤) والسيد الشيرازي (٥) وبعض تلامذته. (٦)

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٦٦ ؛ الحجرية ١ : ١١٤ للمتن و ١ : ١١٨ العمود ١ للتعليقة.

(٢) كشف الغطاء : ٢٧ ، البحث الثامن عشر ، والطبعة الحديثة ١ : ١٦٩.

(٣) هداية المسترشدين : ٢٤٣ السطر ٢٩ ـ ٣٥ ، والطبعة الحديثة ٢ : ٢٧١.

(٤) الفصول الغروية : ٩٥ السطر ٢٧ ـ ٣٠.

(٥) تقريرات الشيرازي للروزدري ٢ : ٢٧٦ ـ ٢٧٧ في مبحث مقدمة الواجب ، وكذلك ٣ : ١٢١ في مبحث دلالة النهي على الفساد.

(٦) هم السيد محمد الاصفهاني الفشاركي في الرسائل الفشاركية : ١٨٤ ؛ والمحقق النائيني في فوائد الاصول

٣٢٥

وغرضهم اثبات تعلق الامر بالضد العبادي في ظرف تعلقه بالمأمور به الأهم على نحو الترتب ، بأن كان الامر بغير الأهم متوقفا على تحقق العصيان الواقعي بالنسبة الى الأهم في ظرفه الذي كان بعد ظرف الطلب ـ بناء على الشرط المتأخر ـ أو البناء والعزم على عصيانه مقارنا أو متقدما بناء على عدم معقولية الشرط المتأخر ، وحينئذ فلو فرض تحقق العصيان في متن الواقع بالنسبة الى الامر الأهم أو ارادته ذلك من الاول وعلم الآمر بذلك فيتوجه أمره الى غير الأهم مشروطا ، لتحقق ما يتوقف عليه عدم سقوطه من الأهم أيضا ، فيلزم اجتماع الامرين بالنسبة الى المتضادين من أول الامر على الشرط المتأخر مع علم الآمر بتحققه في ظرفه أو في ثاني آن الامر بالاهم قبل آن الاشتغال بالفعل بناء على الشرط ، حيث انّ الامر الثاني متوقف على سبق الامر بالاهم أولا ثم الارادة على معصيته ثانيا ، فيتأخر عنه برتبتين.

والحاصل : انّ مقصود القائلين اثبات الامر بالمتضادين معا في آن واحد قبل آن الفعل كي يقع الضد بداعي الامر ، فيصح عباديا على توقف صحة العبادات على الامر.

وامّا مع فرض سقوط الامر بالأهم بالعصيان الفعلي بمضي وقته ولو مع زمان الفعل أو مع اختلاف زمانه فلا اشكال في صحة الامر بغير الأهم كما هو واضح ، لمكان اختلاف زمان الامرين في الصورة الاولى واختلاف زمان الفعلين في الصورة

__________________

١ : ٣٣٦. وهذه المسألة قد ذكرها جمع من الاعلام بالتفصيل عن مجلس درس السيد الفشاركي ، وإلاّ فلم يؤثر عنه تصنيف غير عدة رسائل جمعت باسم ( الرسائل الفشاركية ) ، والمذكور فيها شاهدا على المقام ، مختصر. ثم ان المحقق النائيني وان كان قد تتلمذ على الميرزا الشيرازي ، إلاّ انه كان تلميذا خاصا بالسيد الاصفهاني الفشاركي ، وفي هذا الصدد يقول ما مضمونه : « كل ما عندي فهو من السيد الفشاركي » ، هذا. وكثير من الاعلام ـ اضافة الى النائيني ـ من مثل المحقق الاصفهاني والعراقي والشيخ عبد الكريم الحائري هم ممن تتلمذ على السيد الفشاركي.

٣٢٦

الثانية أيضا ولا اشكال في صحته ، وانما الكلام في صحته مع تحقق الوحدتين ، وغاية ما يمكن أن يقال في تقريبه : وجهان :

أحدهما : (١) انّ الامر بالمهم مشروط بترك الأهم في وقته ، والمشروط بشيء لا يشمل حال عدمه ، فلا يتحقق في ظرف ايجاد الأهم.

ثم انّ الامر بالاهم لا يكون شاملا لحال عدمه أيضا كما هو شأن كل أمر مطلق ، حيث انّه لا يمكن اطلاقه في رتبة عدمه وإلاّ لزم الامر بالنقيض في مرتبة نقيضه الآخر وهو محال ، وحينئذ فلا يجتمعان في مرتبة واحدة.

ثم انّ الامر المشروط لا يقتضي ايجاب شرط سواء كان شرطا متقدما أو مقارنا أو متأخرا ، بخلاف المطلق فانّه يقتضي ايجاب مقدمات الوجود.

اذا عرفت ذلك فيظهر عدم المطاردة بين الامرين ، لانّ الأهم في مرتبة اقتضائه الامتثال لا يزاحم الامر الآخر ، والمهم يكون اقتضاؤه للامتثال في مرتبة عدم الأهم ، وقد عرفت انّه في تلك المرتبة خال عن المزاحم رأسا.

وبعبارة اخرى : سبب استحالة الامرين انما هو رجوعها الى الامر باجتماع الضدين ، ومع عدم رجوعهما الى ذلك وعدم اقتضاء واحد منهما للامتثال في مرتبة اقتضاء الآخر له فلا موجب للاستحالة ، هذا.

مع انّ المستحيل انما هو اذا لم يقدر المكلف على اسقاط الامرين ، وما نحن فيه ليس كذلك ، حيث انّه يقدر عليه باتيان الأهم ، فلا تزاحم ولا تضاد بينهما في مقام الامتثال في آن من الآنات ، فأين الاستحالة؟

ولكن التحقيق : عدم صحة التقريب ، وبيانه يتم برسم امور :

الاول : انّ محل الكلام هو اجتماع الحكمين البعثيين بحيث ينقدح في نفس

__________________

(١) يأتي التقريب الثاني بقوله : « الثاني من التقريبين : انه يرجع ... الخ » بعد عدة صفحات.

٣٢٧

المولى البعث والزجر على المكلف بالنسبة الى الضدين ، وامّا اجتماع الانشائين ، أو الفعلي مع الانشائي فلا كلام ولا اشكال فيه.

الثاني : انّ اجتماع الضدين لما كان مستحيلا فلا ينقلب ـ بضم امور اختيارية اليه وتقييده بها ـ عما هو عليه من الاستحالة الى الامكان ، لاستلزام الانقلاب في الذاتيات ، وهو ما لا اشكال في استحالته. ولا فرق أيضا في استحالة الاجتماع بين الضدين بين كون المضادة بينهما ذاتية أو عرضية.

الثالث : انّه لا بد من كون الطلب مقدما على الفعل زمانا ولو آناً ما ، للزوم طلب الحاصل لولاه ، مع انّه لا بد منه كي يكون الطلب داعيا الى الفعل.

الرابع : انّ الاطاعة والعصيان لا يتحققان قبل مضي زمان الفعل فيما لم يسلب الاختيار بالنسبة اليه قبله وان كان المكلف عازما على المعصية مثلا ؛ كما انه لا يسقط الامر قبل تحقق الاطاعة والعصيان فعلا وان علم الآمر بتحققهما فيما بعد ، وإلاّ لزم سقوطه عن الفساق قبل مجيء زمان الفعل.

الخامس : انّ الامر والبعث الى العبد مثل الارادة المحركة للعضلات بالنسبة الى فعل المباشر بنفسه.

اذا عرفت ما ذكرنا فاعلم : انّ استحالة الاجتماع بين المتضادين بنفسهما كافية في امتناع الامر بهما معا من المولى الحكيم ، حيث انّ توجيه الامر الى العبد انما يصير فيما لو كان المولى فاعلا بنفسه إيّاه لأمكن تحريك عضلاته اليه ، ولا اشكال في عدم امكان تحريك العضلات ـ في آن واحد من العاقل ـ الى المتضادين معا كالحركة والسكون مثلا ، فاذا لم يمكن اقبال النفس وارادته الحتمية اليهما معا في افعال نفسه فكيف يكون اقبالها الى بعث الغير وحمله اليهما فعلا؟ ويدل عليه الوجدان لمن تعنّت عليه البرهان.

فان قلت : انما المسلّم قبحه اذا لم يكن المكلف بنفسه سببا له بعزم المعصية

٣٢٨

على الامر بالأهم ، وامّا معه فلا قبح فيه ، حيث انّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

قلت : امّا الاستحالة فلما عرفت من كفاية ثبوتها بنفس امتناع الجمع بين المتضادين سواء كانت المضادة ذاتية أو عرضية ؛ وامّا رفع الاستحالة بفعل المكلف ، ففيه : ما عرفت في الامر الثاني من عدم انقلابها الى الامكان ، مع انّه لو كان كذلك لما يحتاج في تصحيح الامر بالمتضادين الى الترتب ، بل يكفي الامر بهما معلقا على فعل المكلف ابتداء كقوله : « إن كنت في ساحل البحر فأنقذ الغريقين ».

والحاصل : انّ الاستحالة العقلية لا ترتفع بفعل المكلف.

فان قلت : انّ الامر بالأهم يسقط من الفعلية بالعزم على المعصية مع علم الآمر بحصول المعصية واقعا ، فيبقى الامر بالمهم بلا مزاحم.

قلت : انّ الامر لا يسقط بالعزم على معصيته ما لم يتحقق فعلا ، كما عرفت في الامر الرابع ؛ مضافا الى استلزامه عدم المعصية.

فان قلت : انّ الاجتماع المستحيل انما يلزم اذا كان الامران في مرتبة واحدة ، وفيما نحن فيه ليس كذلك ، لتأخر الامر بغير الأهم عن الامر به بمرتبتين ، لتحققه بعد حصوله وارادة معصيته ، لما عرفت فيه من الاشتراط وان لم يكن كذلك زمانا بناء على الشرط المتأخر.

قلت : انّه على فرض التسليم وان لم يكن الامر بالمهم في مرتبة الامر بالأهم ، إلاّ انّه في مرتبة لعدم التعليق فيه بمرتبة دون اخرى بمعنى ، انّه موجود في ظرف عدم الاطاعة واقعا بالاطلاق الذاتي لا مقيدا بالعدم حتى لا يمكن ذلك ، وحينئذ فيجتمعان في المرتبة ، فيعود المحذور ؛ وحيث انك عرفت في الامر الثالث تقدم الطلب على الفعل زمانا ما ، تعرف انّهما يجتمعان فيما قبل الفعل ولو بآن

٣٢٩

واحد ، فلا وجه لتوهم كون الامر الثاني في آن الفعل ، ولا اشكال في سقوط الاول حينئذ ، فلا يجتمعان.

ودعوى : عدم منع العقل عن الامر بالمتضادين اذا كان التكليف بأحدهما مبنيا على تقدير خلوّ الوقت عن الآخر لاعتبار انتفاء أحدهما في مطلوبية الآخر ، وانما الممنوع التكليف بالجمع بينهما.

مدفوعة : بأنّ خلوّ الزمان عن أحد الضدين مما لا بد ، وهو منشأ الاستحالة ، فلا يجدي في رفعها ؛ وامّا طلب الجميع فمما لا اشكال في لزومه على ذلك التقدير حيث ان الامر بغير الأهم متوجه الى المكلف بمقتضى حصول شرطه ، والفرض عدم التعليق في الامر بالأهم فهو متوجه على جميع التقادير ومنها تقدير حصول شرط الامر بالمهم ، ولازم كل منهما الامتثال على طبقه في مرتبة تحققه.

فان قلت : انّه يقدر على اسقاطهما بالاتيان.

قلت : انّه مستلزم للخلف ، بمعنى انّه قادر على الخروج عن موضوع اختلاف المتلازمين في الحكم الفعلي ، حيث انّ ترك الأهم حرام بمقتضى اقتضاء الامر بالشيء النهي عن ضده العام بمعنى الترك ، وفعل المهمّ الملازم معه واجب ، فيلزم ما ذكر في استحالته أو قبحه.

هذا كله ، مع انّه يرد على الترتب كما عن الشيخ المدقق الشيرازي (١) دام ظله بأنّ ترك المهم حرام ، فحينئذ لا يخلو :

امّا أن يكون المحرّم هو مطلق الترك أعم من الموصل الى الأهم وغيره

__________________

(١) هو الشيخ محمد تقي الشيرازي ، مفجّر ثورة العشرين في العراق ضد الاحتلال الانگليزي. له ( حاشية المكاسب ) و ( رسالة صلاة الجمعة ) و ( رسالة الخلل ) و ( المنظومة الرضاعية ) ، لكن لم نعثر على كتبه ، ويحتمل انه منقول من مجلس درسه. ثم ان المطلب المذكور قد ذكره ايضا غير القوچاني من الاعاظم ، مثل الاصفهاني في نهاية الدراية ٢ : ٢٤٤ والمشكيني في حاشيته ٢ : ٤٨.

٣٣٠

الجامع مع فعل الأهم. ولا اشكال في فساده بعد حرمة ترك الأهم مطلقا وعدم تمكن المكلف من امتثالهما ، فليست ثمرة البعثين إلاّ ثبوت العقابين وهو قبيح من الحكيم لو لم نقل باستحالته ، لانّ جعل التكليف لاجل ترتب العقوبة بلا داع الامتثال لا شبهة في فساده.

وامّا ان يكون الحرام الترك الخاص غير الموصل الى فعل الأهم ؛ فيرد عليه :

أولا : بأنّ لازمه عدم وجوب الفعل ، لما عرفت سابقا من انّ نقيض الترك الخاص هو ترك هذا الترك أعم من الفعل والترك الموصل ، فيكون الواجب هو ترك الترك الأعم ، لا الفعل الذي يكون أخص منه.

وثانيا : على تقدير تسليم وجوبه لا بد أن يكون عينيا بعد حصول شرطه ، وحينئذ فيلزم التخيير بين الواجب التعييني وغيره الذي هو الترك الموصل الى فعل الأهم. وبعبارة اخرى : يلزم الوجوب التخييري بين الازالة والصلاة ؛ ولا معنى للتخيير في الواجب التعييني كما هو واضح.

وثالثا : يرد عليه ما عرفت من عدم الثمرة لهذا التكليف ـ مع وجود التكليف بالأهم ـ إلاّ ترتب العقوبة على المخالفة القهرية بالنسبة الى أحدهما ، ولا شبهة في فساده من الحكيم.

ولكن التحقيق : عدم لزوم خروج الفعل المطلق عن كونه واجبا ، ولا انقلابه الى التخييري ، لوضوح كونه عينيا في مورد وجوبه وانما الاختيار في تبديل الموضوع الى موضوع آخر وهو ليس من قبيل المحذورين. نعم اشكال ثبوت العقابين باق على حاله.

ثم انّ منشأ الاستحالة ليس لزوم اجتماع الامر والنهي في المهم لاجل كون تركه مقدمة للأهم كي يدفع بعدم المقدمية أولا وبعدم وجوب المقدمية ثانيا ، بل هو

٣٣١

ما عرفت من استحالة اقبال النفس الى المتضادين فعلا بالنسبة الى فعل المباشر والبعث عليهما في فعل الغير مع عدم تمكنه إلاّ من امتثال أحدهما ، وهو لازم على ذاك التقدير ، ولا ريب في بطلانه.

وامّا ما يتراءى في الموالي الفعلية العرفية بالنسبة الى عبيدهم من توجيه الامرين على نحو الترتب فهو بعد ما عرفت البرهان على خلافه : امّا مبني على التجاوز عن الامر الاول ؛ وامّا يكون الثاني من باب الارشاد العقلي بحكمه بحسن فعل غير الأهم ليحترز به عن مقدار من عقاب مخالفة الأهم على القول بالاحتياط ، أو يحصل به القرب في الجملة وان حصلت المعصية أيضا بالنسبة الى الأهم.

الثاني من التقريبين : (١) انّه يرجع الامر بالمهم الى طلب سد أنحاء عدمه إلاّ سد عدمه الذي ينشأ من قبل فعل الأهم.

وبعبارة اخرى : انّ عدمه الملازم لفعل أضداده الخاصة مطلوب الترك إلاّ عدمه الملازم لفعل الأهم ، ومرجع هذا الى طلب الوجود من الجهات الملازمة لسائر الجهات دون الجهة الملازمة لترك الأهم.

فلو فرض اضافات وجودية لوجود الضد لكان ذلك متعلقا للطلب من تمام الاضافات إلاّ من جهة اضافة واحدة ؛ أو فرض اجزاء خارجية له وكان كل منهما ملازما لترك واحد من الأضداد لكان كل منهما مطلوبا إلاّ الجزء الملازم لترك الأهم ، لعدم امكان سراية الامر الى شرط وجوبه كما لا يخفى.

وحينئذ فمثل هذا الامر بالمهم لا يزاحم الامر بالأهم ، بل لا يكون الامر بالقيد ، لعدم سرايته اليه من جهة المضادة ، فلا استحالة في البين.

__________________

(١) قد مضى التقريب الاول منه بقوله : « ان يقال في تقريبه وجهان أحدهما ... الخ » قبل عدة صفحات.

٣٣٢

وفيه :

أولا : انّ اشتراط الامر بالضد بترك ضده لا يمكن في الضدين اللذين لا ثالث لهما ، لاستلزامه طلب الحاصل كما لا يخفى.

وثانيا : انّ فرض أعدام خاصة للشيء الواحد يخرجها عن النقيض الى الضد الخاص ، لعدم كون النقيض متعددا ، وعرفت حكم الضد.

وثالثا : انّ الوجود لاجل اضافته الى أعدام ضده لا يكون ذات اضافات أو ذات اجزاء حتى يتعلق ببعضها الامر دون بعض.

ورابعا : أنه خارج عن محل النزاع ، لأنه في اثبات تعلق الامر بنفس ما هو بضد للمأمور به بنحو الترتب ، فارجاعه الى غير جهة الضدية لا يحتاج الى الترتب كما لا يخفى. وهذا الطريق أوهن من الأول.

ثم انك بعد ما عرفت البرهان على امتناع الترتب تعلم انّه على تقدير عدم اتيان المكلف للضدين لا يعاقب إلاّ بالنسبة الى مخالفة الأهم ، دون غيره ، لعدم فعلية أمره ؛ وامّا استبعاد ذلك من ملاحظة بعض الامثلة فهو شبهة في مقابلة الوجدان واشتباه الأهم بغيره.

منها : مزاحمة الصلاة مع السير الى الحج فيما دار الامر بينهما ، وحينئذ فلو لم يأت المكلف بهما فاستبعاد ترتب العقاب على أحدهما دون الآخر ليس في محله ، ولكن لا يبعد أهمية الصلاة.

ومنها : مزاحمة الصوم مع السفر الواجب ولكن المزاحمة في هذا الفرض مشكل حيث انّ الواجب حينئذ هو الامساك قبل الترخص وهو لا يزاحم السفر ، وانما الضد هو الصوم في اليوم وهو لا يكون واجبا مع وجوب السفر المعلق على عدمه الصوم ولو مباحا ، فكيف يجب مع وجوبه؟

نعم اذا سقط وجوبه يتعلق به الوجوب لا مع غيره ، وحينئذ فلو لم يسافر

٣٣٣

وأفطر يلزم بعدم العقاب إلاّ بالنسبة الى مخالفة السفر لو كان هو الأهم إلاّ من جهة جواز افطاره شرعا كي يقال لعدم جواز التصريح به من الشارع مع حكم العقل اللازم بتدارك مقدار من عقاب مخالفة السفر مع ارشاد الشارع اليه ، بل من جهة عدم الامر الفعلي بالنسبة اليه كما عرفت فتأمل.

وهنا نقوض ينبغي الاشارة اليها :

منها : التكليف الكفائي فيما لا يمكن صدوره إلاّ من واحد فانّ كل واحد مكلف ومعاقب على الترك مع امتناع الصدور من كل واحد ؛ ولا فرق بين تعدد التكليف أو المكلف به ، فاذا لم يعقل توجه تكليفين الى شخص واحد فكذلك لا يصح توجه تكليف واحد الى شخصين أيضا.

ومنها : انّه لو نذر بشيء ثم نذر بأنّه لو لم يفعل تصدّق بدرهم ، ولا وجه للالتزام ببطلان الثاني على ما يشاهد به العرف والاعتبار ، فيكون التكليف بالثاني مرتبا على الاول.

ومنها : انّ كل مكلف لا يعقل اطلاقه ولا تقييده بالنسبة الى نقيض المطلوب فلا يصح أن يقال : « أيها التارك افعل » لأنه كلما فعل يخرج عن عنوان المكلف ، وكذا « أيها الفاعل اترك » ؛ واذا سلّم عدم تعقل التقييد فلا يصح الاطلاق أيضا فلا مانع من أن يتعلق بهذا العنوان تكليف آخر ، الى غير ذلك من الامثلة التي توهم صحة الترتب.

ولكن جواب الكل يظهر بالتدبر.

اذا عرفت ما ذكرنا من عدم صحة القول بالترتب ، فيظهر انّ صحة الضد منحصرة بما ذكرنا من كفاية الحسن الذاتي في كون الشيء عبادة وان لم يكن أمر في البين.

٢٦٠ ـ قوله : « نعم فيما اذا كانت موسعة وكانت مزاحمة بالأهم ببعض الوقت لا

٣٣٤

في تمامه ». (١)

فهل يوجب ذلك تضييق دائرته بحيث يكون غير الأهم منحصرا في افراده غير المضادة معه ، فلا يصح لو أتى به ، مع مخالفته على قول البهائي باحتياج العبادة الى الامر به على ما هو عليه لو لا الأهم من التوسعة؟

فنقول :

بناء على اقتضاء الامر بالشيء النهي عن ضده على المقدمية فلا اشكال في الفساد.

وامّا بناء على عدم الاقتضاء :

فان كان المضيق لا يجتمع مع الموسع ولو في آخر الوقت سواء كان من جهة احاطة فعله بوقت الموسع أو من جهة عدم التمكن بفعله بعده ، فلا اشكال في عدم الصحة أيضا بناء على الاحتياج الى الامر.

وامّا لو لم يكن كذلك بل يمكن الاتيان بالموسع بعد الاتيان بالمضيق أيضا :

فان قلنا حينئذ بتعلق الامر بالافراد بحيث كان كل من الايقاعات للموسع متعلقا له على نحو التخيير الشرعي ـ غاية الامر كانت الاشارة اليها بالعنوان الجامع ـ فلا اشكال في عدم الصحة أيضا ، وإلاّ للزم الامر بالمتضادين.

وان قلنا بتعلق الامر بالطبيعة فقد يقال : بعدم التضييق ، حيث انّ الطبيعة لما كانت مقدورة ـ ولو باتيان الفرد غير المضاد ـ فلا مضادة بينه وبين المأمور به الأهم وان أتى بها في ضمن الفرد المضاد ، لكونها ـ بعد الغاء خصوصيته الفردية المفروض عدم دخلها في متعلق الامر ـ عين الطبيعة في ضمن غيره ، لعدم التميز فيها بوجود آخر بعد ملاحظتها بما هي.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٦٨ ؛ الحجرية ١ : ١١٥ للمتن و ١ : ١٢٢ للتعليقة.

٣٣٥

وبعبارة اخرى : لما كان متعلق الامر هو الطبيعة ـ والمضادة انما هو بين الأهم والفرد لا بينه وبينها ـ ولا يسري حكم الافراد الى الطبيعة لعدم الضيق في دائرتها بعد القدرة عليها في ضمن فرد ما ، فلا محذور في كون الطبيعة مطلوبة ، فيصح الامتثال بها ولو في ضمن الفرد المضاد المفروض عدم تعلق الامر به.

ولكن التحقيق : التضييق في متعلق الامر ولو بناء على الطبيعة حيث انّ المطلوب حينئذ وجوده الطبيعي ، وحيث انّ وجود الطبيعة كان متحدا له مع وجود الفرد فلا يصح تعلقه به بنحو يسع الفرد المضاد ؛ ولكنه مع ذلك يصح اتيانه بداعي الامر لعدم منقصته عن المصلحة في باقي الافراد ، إذ لو لم يكن يأثم ـ كالفعل في أول الوقت ـ فيصح الاتيان به بداعي الامر المتعلق بها في الافراد ، ولتحصيل الغرض ، فلا دلالة للعقل على اعتبار أزيد من اتيان الشيء بداعي الامر بحيث لولاه لما أتى به في الامتثال ، بل يحكم بكفاية ذلك مع عدم خلافه من الشرع.

ثم انّه قد صرح في التقريرات (١) في آخر مسألة الضد في تصحيح الضد بناء على الاحتياج الى الامر : يكون الامر متعلقا بالطبيعة وانّه من قبيل اللوازم التابعة لها مقيدة بوجودها الذهني ، فلا يسري الى الخارج وان كان يحصل باتيان الخارج على نحو الانطباق. وجعل من هذا القبيل تعلق الامر بالفرد مفهوم فرد ما منه.

وفيه خلل من وجوه فراجع وتأمل.

٢٦١ ـ قوله : « [ وان كان جريانه عليه أخفى كما لا يخفى ، فتأمل ] ». (٢)

__________________

(١) مطارح الانظار : ١٢٥ السطر ١٥ ـ ١٧ والسطر ٢٩ ـ ٣٢ ، والطبعة الحديثة ١ : ٥٨٦ و ٥٨٧ ـ ٥٨٨.

(٢) لم يشر القوچاني في هذا المورد الى كلمة او عبارة للآخوند للتعليق عليها بل بدأ كلامه بنفس التعليق وقال : « لعله اشارة ... الخ » لكن بالقرائن الموجودة تكون حاشيته هذه تعليقا على قول الآخوند « فتأمل ». كفاية الاصول : ١٦٩ ؛ الحجرية ١ : ١١٦ للمتن و ١ : ١٢٣ العمود ١ للتعليقة.

٣٣٦

لعله اشارة الى انّه كذلك لو كان المراد بالفرد هو فرد ما على نحو الكلي ، ومعه يكون مثل التعلق بالطبيعي وضوحا وخفاء.

وامّا لو كان المراد منه الاشخاص بخصوصيتها نظير التخيير الشرعي ، فلا يكون مثل الطبيعي أصلا ولو خفاء كما عرفت ، وان كان ذلك في نفسه محل الاشكال بعد وضوح وحدة الغرض كما نشير اليه [ فيما يأتي ]. (١)

٢٦٢ ـ قوله : « فصل : لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ». (٢)

وليعلم : انّ الظاهر انّ المراد بالشرط شرط الامر ، بارجاع الضمير اليه ، فامّا أن يكون من شروطه ابتداء وامّا أن يكون من شروط المأمور به فيرجع بالأخرة اليه ، حيث انّه مشروط بالقدرة على المأمور به وهو بدون الشرط غير مقدور.

فاذا عرفت ذلك فاعلم : انّه ـ بعد ما تقرر في محله من كون الامر ذا مراتب من الانشاء والفعلية وغيرهما ـ ان كان الامر بالشيء [ يشمل ] النزاع في مرتبة مع العلم بانتفاء شرطه في تلك المرتبة فلا خفاء في عدم امكانه وقوعا لاستحالة وجود الشيء مع انتفاء علته ، إلاّ أن يراد الجواز في حال عدم شرطه لا مقيدا به الامكان الذاتي ، وهو بمراحل عن محل البحث.

وان كان في اتيان الامر في مرتبة سابقة مع العلم بانتفاء شرطه في المرتبة اللاحقة : فان كان بغير داعي وقوعه في صراط اللاّحق بل بداعي آخر فلا اشكال في جوازه ؛ وان كان بداعي وقوعه في صراطه كما لو كان الامر الاقتضائي الواقعي بداعي وقوعه في صراط الفعلي الجدي بأن يصل اليه ليترتب عليه آثار تلك المرتبة ، فلا اشكال في عدم جوازه بل استحالته من العاقل بما هو كذلك.

__________________

(١) في الاصل الحجري ( آنفا ).

(٢) كفاية الاصول : ١٦٩ ؛ الحجرية ١ : ١١٦ للمتن و ١ : ١٢٣ العمود ١ للتعليقة.

٣٣٧

فان قلت : فكيف الامر بالنسبة الى العصاة مع العلم بانتفاء الشرط ـ وهو الارادة ـ منهم؟ وما الفرق بين الامر المتعلق بهم وغيرهم؟

قلت : الفرق بقاء القدرة بالنسبة اليهم دون غيرهم.

فالتحقيق : انّ الامر المتعلق بهم مثل المتعلق بغيرهم في ترتب ما كان غاية له وهو البعث وايجاد الداعي بالنسبة الى العبد الى الفعل وانّه لم يصدر منه فعلا ، وهو مع ملاحظة المصلحة في الفعل أو الامر كان علة الامر ولا ينفك عنه ، لا وقوع الفعل من المأمور فعلا كي لا يصلح مع العلم بعدمه ، حيث انّ غاية فعل الشخص لا بد أن تستند اليه ، وفعل المأمور على فرض الصدور لا يستند اليه فلا يكون غاية له.

وتوهم : كون الفائدة هو اتمام الحجة ، لا البعث الحقيقي.

مدفوع : بأنّ الحجة لا تتم على العاصي إلاّ بالبعث الحقيقي ؛ مع انّ التكليف النوعي بمراتب العبد لا يكون إلاّ على نحو واحد كما لا يخفى.

٢٦٣ ـ قوله : « لعدم شرطه لكان جائزا ». (١)

قد عرفت انه ايضا غير جائز معه وقوعه في صراط الفعلية.

٢٦٤ ـ قوله : « فصل : الحق انّ الاوامر والنواهي تكون متعلقة بالطبائع دون الافراد ». (٢)

وليعلم أولا : انّ ظاهر عناوين القوم في تعبيراتهم بـ « متعلقات الاوامر » وإن اقتضى تخصيص النزاع بما اذا ثبت الطلب بالصيغة ، إلاّ أنّ التحقيق عمومه لما اذا ثبت بغير اللفظ أيضا من الاجماع والعقل.

نعم لما كان من المسلّم انّ متعلق الطلب هو الايجاد المتحد مع الوجود وانّ

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٧٠ ؛ الحجرية ١ : ١١٦ للمتن و ١ : ١١٦ للتعليقة.

(٢) كفاية الاصول : ١٧١ ؛ الحجرية ١ : ١١٧ للمتن و ١ : ١٢٣ العمود ٢ للتعليقة.

٣٣٨

النزاع في انّ متعلق الايجاد هو الطبيعة أو الافراد ، فيقع الكلام فيما اذا ثبت الطلب باللفظ في كون الايجاد مأخوذا في مفاد الجزء المادي المفيد للطبيعة أو الفرد على الخلاف ، أو في مفاد الجزء الصوري وتكون المادة مفيدة لمتعلق الايجاد كما انّه هو التحقيق ، لشهادة الوجدان بورود الامر والنهي على مادة واحدة بمعنى فارد ، فيكشف عن كون متعلق الطلبين من الوجود والترك مأخوذا في الهيئة.

ثم انّه لا اشكال في انّ المطلوب هو الوجود الخارجي للطبيعة أو الفرد ، لا الذهني ، لانّ المراد بالطبيعة ـ على القول به ـ هو الطبيعة المبهمة اللابشرط المقسمي القابل للوجود الخارجي لا المقيد بالذهن غير القابل لذلك ، كما هو الظاهر من التقريرات (١) في تصحيح الضد. وامّا الفرد على القول به هو الطبيعة المأخوذة مع احدى خصوصياته الفردية لا مفهوم فرد ما ، على ما هو الظاهر منه أيضا في تلك المسألة.

اذا عرفت ما ذكرنا فاعلم : انّهم قد اختلفوا في انّ متعلق الاوامر :

هل هو الطبيعة؟ كي يكون المطلوب هو الوجود السعي بحيث لم يلحظ معه خصوصية أصلا وان كان لا يتحقق في الخارج إلاّ مع إحداها ، وتكون الخصوصيات حينئذ لوازم المطلوب.

أو انّ المتعلق هو الوجود الخاص للطبيعة المأخوذة مع احدى الخصوصيات؟ فتكون الخصوصيات حينئذ داخلة في المطلوب ، ويكون طلب الافراد نظير التخيير الشرعي ولكن مع الاشارة اليها بعنوان واحد اجمالي ، نظير كون الوضع عاما والموضوع له خاصا.

والتحقيق : انّ المطلوب هو الوجود السعي ، والخصوصيات من لوازمه ،

__________________

(١) مطارح الانظار : ١٢٥ السطر ١٥ ـ ١٧ والسطر ٢٩ ـ ٣٢ والطبعة الحديثة ١ : ٥٨٦ ـ ٥٨٨.

٣٣٩

بشهادة الوجدان على ذلك بعد ملاحظة الانسان حاله في مطلوباته من أفعال نفسه ، فانّه على انّ الملحوظ قبل الصدور ليس إلاّ وجودها السعي بلا التفات الى الخصوصيات اجمالا أو تفصيلا فليقس على ذلك حال المطلوبات من العبد اذا كانت بالقضايا الطبيعية ، بل هو كذلك في القضايا المحصورة حقيقة وان كان الحكم متعلقا بالافراد بحسب التعبير ، هذا. مع انّ وحدة الغرض في المطلوب بضميمة عدم امكان استناد الواحد الى الكثير شاهد على ذلك أيضا.

ولا فرق في هذا النزاع بين القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهية.

امّا على الاول : فعلى مذهب الاشراقيين من كون الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب كثيرة من الشدة والضعف فالفرق بين القول بالطبيعة والفرد واضح ، حيث انّ الافراد حينئذ وان كانت هي المراتب المميزة بما به الاشتراك بينهما من شدة الوجود وضعفه إلاّ انّ الحدود العدمية الملحوظة في تلك المراتب لازمة من دون لزوم الحقيقة الوجودية الملحوظة مع قطع النظر عن المراتب المحدودة بحد أوسع من الحدود الشخصية الموجب لانتزاع ماهية كلية ، فيفرّق الطبيعة عن الافراد كما لا يخفى.

نعم على مذهب المشّائين من كون الوجود حقائق متباينة الذات بتمامها ، فيشكل الفرق بين القول بعدم الفرق بين حقيقة الوجود وفرده حينئذ.

والتزام المعنى الواحد المشترك بين الافراد لأن يصير منشأ لانتزاع المعنى الفارد وهو مفهوم الوجود البديهي الصدق في جميعها وإلاّ لم ينتزع الواحد من المتباينات بما هي كذلك ؛ ابطال لذاك القول ورجوع الى القول الاول.

إلاّ أن يقال : بكفاية كون منشأ الانتزاع معنى عرضيا ، ويكون هو المأمور به ، والافراد محصلة له. ولكنه مخالف لما هو التحقيق من كون متعلق الاوامر ما هو الذاتي للافراد الخارجية.

٣٤٠