تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ١

الشيخ علي القوچاني

تعليقة القوچاني على كفاية الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي القوچاني


المحقق: محمّد رضا الدّانيالي
الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-30-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-29-4

الصفحات: ٥٧٠
الجزء ١ الجزء ٢

فاذا ظهر تحقق الطلب بهذا الوجود الحقيقي يظهر تحقق غيره من الامثلة به أيضا وتكون مثله من الكيفيات النفسانية ؛ وهي أيضا من هذه الجهة غير وجوده العلمي.

ثالثها : تحققها بالوجود الانشائي. وانشاء هذه المفاهيم عبارة عن : قصد حصولها في نفس الامر باللفظ. وهذه المفاهيم لعلها من هذه الجهة من مقولة ( أن يفعل ) باعتبار نفس الانشاء ، ومن مقولة ( الاضافة ) باعتبار نفس المنشأ ، وهو أثر اعتباري لا وجود له في الخارج ، فوجوده فيه عبارة عن وجوده بوجود منشأ انتزاعه الذي به يخرج عن مجرد الفرض ويكون من الامور النفس الامرية.

وليعلم انّ هذا الوجود الانشائي للطلب وغيره من نظائره غير الوجود الحقيقي لها وان كان قد يكون ذلك من دواعي الانشاء ، لعدم قابلية وجودها الحقيقي لتعلق الانشاء به لوضوح خروجه عن الاختيار. كما ظهر ان الوجود الانشائي عبارة عن حصول مفاهيمها في عالم اللفظ اذا صدر مع القصد ، في قبال فرض الفارض الذي لا وجود له أصلا ؛ وصيغها دائما مستعملة فيها بهذا اللحاظ ، سواء كان الداعي لانشائها وجودها الحقيقي أم لا ؛ فالاختلاف انما يكون في مجرد الداعي للاستعمال لا في نفس المستعمل فيه.

فمن هنا تتفطن انّ ما ذكره أهل [ الأدب ] (١) من المعاني المجازية للامر ـ من السخرية والتعجيز وغيرها وكذا الاستفهام من التقرير والانكار والاستبطاء ـ ليس في محله ، لوضوح كون صيغ المذكورات حقيقة في مفاهيمها بوجوداتها الانشائية دون الحقيقية ، ووجودها الانشائي موجود في جميع المقامات بوجود منشأ انتزاعه ، والمعاني المذكورة من قبيل الدواعي لاستعمالها فيها ، كما انّه قد

__________________

(١) في الاصل الحجري ( الأدبية ).

١٦١

يكون الداعي وجودها الحقيقي كما عرفت. إلاّ أن يدّعى انّ وضعها لمعانيها مقيدة بكون الداعي لانشائها وجودها الحقيقي ، فاذا كان بغير هذا الداعي يكون استعمالا بغير الموضوع له كما لا يخفى.

وليعلم أيضا : انّ المفاهيم لا بد من تشخصها بمشخصات الوجود الانشائي لا بخصوصيات وجود آخر فانّ تحققها انما هو به فلا بد من تشخصها بمشخصاته وهو يحصل بشخص المنشئ وشخص لفظه وشخص قصده ، ولذا لو أنشأه ذات الشخص ثانيا وثالثا لكان انشاء ووجودا غير الاول ، ولا يكون لغوا بل فائدته التأكيد في مورده ، مضافا الى انه لو كان لغوا وبحسب الفائدة لما خرج عن الانشاء أيضا ، ولا يدخل في الإخبار.

فالحاصل : انّ التشخص بالوجود الانشائي لا ينافي أن يكون المنشأ به كليا بوجود آخر ، مع عدم انثلام قاعدة انّ الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، لما عرفت من انّ تشخص كل وجود بحسبه ، فمن هنا يعلم امكان تعلق الانشاء بالطلب [ الذي هو ] القدر المشترك بين الوجوب والندب ، لتشخصه بالوجود الانشائي وان لم يتشخص بمشخصات وجود آخر ، وبناء على هذا فالهيئات الافعالية نظير الحروف على ما اختاره الاستاذ (١) من كون الوضع والموضوع له فيها عاما ، والخصوصية من مقومات الاستعمال لا المستعمل فيه. نعم لو كان المنشأ الوجود الحقيقي القائم بالنفس لكان جزئيا ، وليس كذلك لعدم قابليته للانشاء.

وظهر مما ذكرنا ـ من نحوي الوجود الحقيقي والانشائي والامتياز بينهما من صدق اسم الطلب وغيره على الاول بالحمل الشائع دون الثاني إلاّ الطلب الانشائي

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٥.

١٦٢

وانشاء الطلب ـ أمران : أحدهما : جواز تعلق الانشاء بالقدر المشترك ، والثاني : عدم كون المعاني المذكورة من التقرير والتهكّم والانكار وغيرها من معاني الامر والاستفهام ؛ كما انّه ظهر أيضا عدم كون الترجيات والتمنيات الواقعة في القرآن مجازا ، لما عرفت من مطاوي الكلمات.

ثم انّ من المفاهيم التي يتعلق بها الانشاء الملكية والزوجية وغيرهما من الاعتبارات ، وهي مشتركة مع المذكورات في انّ لها أيضا أنحاء من التحققات بحسب المفهوم في الذهن والوجود الحقيقي والانشائي ، إلاّ انّ بينهما فرقا من وجهين :

أحدهما : انّ القسم الاول بوجوده الحقيقي من المحمولات بالضميمة وبحذائها الصفات القائمة بالنفس ، دون الثاني فانّ الملكية بوجودها الحقيقي أيضا من الاعتبارات ( النفس الامرية ) بمعنى انّها بعد الانشاء ليست من قبيل أنياب الأغوال. نعم لها منشأ انتزاع صحيح وهو انشاءاتها الصادرة من اولي أمرها.

والثاني : كون الوجود الحقيقي في القسم الثاني متفرعا على الانشاء ، كما قد يحصل من الاسباب الأخر اختياريا كما في مورد الخيارات أو اضطراريا كما في الارث ، بخلاف القسم الاول لما عرفت من كونه فيه من جملة الدواعي.

ثم انّ بعض المفاهيم يكون وجودها الانشائي بعد تحققه مصداقا حقيقيا لوجوده الحقيقي كما لو حصل الاستهزاء بقوله : « استهزئ انشاء » وبعضها وجودها الانشائي مصداقا حقيقيا لبعض آخر كما في الطلب اذا كان بداعي الاستهزاء مثلا. فظهر انّ المفاهيم على أقسام : منها ما يكون وجوده الحقيقي داعيا لوجوده الانشائي كما في القسم الاول ، ومنها ما قد يكون مترتبا عليه كما [ في ] القسم الثاني ، ومنها ما يتحد الوجودان فيه ، ومنها ما يكون وجودها الانشائي وجودا حقيقيا لآخر.

١٦٣

اذا عرفت ما ذكرنا من المقدمة فنرجع الى المقصود فنقول :

انّه لا اشكال في انّ النزاع المعروف بينهم من اتحاد ( الطلب والارادة ) وعدمه ليس راجعا الى [ المسائل ] اللغوية : من انّهما من حيث اللغة لفظان مرادفان لمعنى واحد أم لمعنيين ، بل راجع الى المعنى أوّلا وبالذات والى اللفظ ثانيا وبالعرض ، فالنزاع حقيقة واقع في [ انّه هل ] (١) هنا وصفان واقعيان قد وضع لاحدهما الطلب ولآخرهما الارادة أم لا؟ بل مفهوم واحد ومعنى فارد يطلق عليه الطلب تارة والارادة اخرى.

فالحق : انّه لا اشكال ولا ريب في تحقق الارادة بكل من أنحاء الوجودات المذكورة للطلب واتحادها في كل مرتبة معه فيها لا مع نحو آخر ، لشهادة صدق من الوجدان :

بعدم الزائد من مفهوم واحد في الذهن كي يدّعى مغايرتهما وتعددهما.

وبعدم الزائد من صفة واحدة قائمة بالنفس ، بل كيفية واحدة ووجود واحد حقيقي عارض للنفس وهو عبارة : عن الشوق المؤكد الحاصل فيها عقيب الداعي ، وهو ما بحذائهما وحده.

وبعدم الزائد عن المفهوم الواحد في مرتبة الانشاء حتى بقصد أحدهما من قوله : « اريد انشاء » والآخر من قوله : « أطلب » بل الثاني ليس إلاّ بمنزلة التكرار في الانشاء ؛ والمنشأ به طبيعة. نعم يكون غيره في التشخص الانشائي فانّه يتعدد صدوره ولو لشخص واحد لمعنى واحد بلفظ واحد ، فضلا عما اذا كان الإنشاءان لمعنى واحد بلفظين كما في ما نحن فيه.

فالحاصل : انّ تعدد اللفظ والوجود الانشائي لا يوجب تعدد المنشأ به حتى

__________________

(١) في الاصل الحجري ( انّ ).

١٦٤

يكون أحدهما ارادة انشاء بالحمل الشائع والآخر طلبا كذلك بهذا الحمل.

اذا عرفت ذلك فنقول : انّ مراد القائلين بتعددهما :

لو كان مع حفظ المراتب ـ بأن يكون كل واحد في مرتبة مغايرا مع الآخر في تلك المرتبة ـ فلا ريب في بطلانه ، لأنه ليس في أي مرتبة معنيان يعبر عن أحدهما بواحد منهما وعن الآخر بالآخر.

وان كان بلحاظ انّه لما كان لفظ ( الطلب ) مستعملا غالبا في الانشائي منه ـ سواء كان هو مجرد قصد مفهومه من اللفظ بدون تحريك وبعث للمخاطب نحو المأمور به كما في التسخير والسخرية وغيرهما أو معه كما في الامتحاني منه ، مع عدم الحقيقي منه القائم بالنفس وهو الشوق المؤكد إلاّ بالعنوان الثانوي للفعل من كونه متعلقا للامتحان ، ولفظ الارادة مستعمل غالبا في الحقيقي منه وان لم يكن انشاء في البين ـ فحينئذ :

ان قيل : بانحصار كل فيما كان مستعملا فيه ، فلا ريب في بطلانه أيضا ، لوجود معنى كل واحد في مرتبة الآخر أيضا واتحاده معه في تلك المرتبة.

وان قيل : بمغايرتهما بهذا اللحاظ غفلة عن الانحصار وعدمه ، فلا ريب في انّ الحق تعددهما لو كانت المرتبتان لواحد منهما ، فضلا عما اذا لوحظ أحدهما لواحد منهما والآخر للآخر كما لا يخفى.

ومما ذكرنا ظهر ما في استدلال الاشاعرة (١) للمغايرة بالامر الامتحاني لوجود الطلب فيه مع عدم الارادة ، من انّه :

لو أراد وجود الطلب الحقيقي الذي من المحمولات بالضميمة فلا ريب في عدمه أيضا.

__________________

(١) المحصول ١ : ٢٥٢.

١٦٥

وان اريد الطلب الانشائي فلا ريب في الارادة الانشائية أيضا.

وان اريد بوضع كذلك لمعنى غير ما هو للآخر وهو في الارادة موجود في النفس وفي الطلب موجود في الخارج ولو بنحو الامور الاعتبارية الموجودة بوجود منشأ انتزاعها الذي يعبر عنه بالوجوب في بعض الموارد أيضا ـ كما في الامتحاني ـ فلا ريب في عدم الانحصار أيضا واطلاق كل فيما كان للآخر من المعنى ، هذا.

مضافا الى انّه راجع الى النزاع اللغوي وعرفت ما فيه وانّه لا ينافي ما نحن فيه بصدده من عدم وجود الصفتين في النفس والمنشأين في الخارج ؛ وعلى كل حال فمغالطتهم من باب اشتباه المفهوم بالمصداق.

وظهر أيضا انّ جواب المعتزلة عن الاستدلال المذكور : بعدم الطلب أيضا بدون تعيين مرتبة ، راجع الى هذه المغالطة ، وانّ الجواب ما ذكرناه من تعدد مرتبتهما وتحقق كل في كل مرتبة واتحاده مع الآخر فيها.

ومما ذكرنا ظهر : انّه يمكن أن يرتفع النزاع من البين بارجاعه الى اللفظي بأن يقال :

لما شاع استعمال الطلب في الانشاء بحيث يطلق بلا تقييد به ـ مع تحقق الوجوب بالحمل الشائع في بعض الصور أيضا كما في الامتحاني ـ وشاع استعمال الارادة في الصفة النفسية المنتفية في بعض الموارد فقد ذهبت الاشاعرة الى المغايرة بهذه الملاحظة ؛ فان سألوا عن الصفة الموجودة في النفس بأنّها واحدة أم أكثر وعن المعنى المنشأ [ لسلّموا ] (١) بالوحدة في كلتا المرتبتين.

وذهبت المعتزلة (٢) وفاقا للامامية لوحدتهما بلحاظ وحدة المرتبة فان

__________________

(١) في الاصل الحجري ( لتسلّموا ).

(٢) المعتمد ( بتحقيق محمد حمد الله ) ١ : ٥٤ ؛ وبتحقيق خليل الميس ١ : ٤٧ السطر الاخير.

١٦٦

[ سألتهم عن اتحاد ] (١) ما في كل مرتبة مع ما في الاخرى [ لسلّموا ] (٢) بالمغايرة ايضا. نعم لو تعسّف الاشعري بالقول بالمغايرة فيما هو مراد المعتزلة بالاتحاد فلا ريب في بطلانه وخروجه عن ضرورة الوجدان.

ثم انّ الوجود الانشائي [ هو ] المتحقق في أقسام الطلب الانشائي سواء كان الداعي اليه هو الطلب الحقيقي أو السخرية أو التهكّم أو غيرها من الدواعي. نعم فيما لو كان الداعي الطلب الحقيقي أو الامتحان يترتب عليه الوجوب الحقيقي أيضا ، ولا اشكال في كونه فردا حقيقيا مغايرا للشوق المؤكد القائم بالنفس ، لتغاير محلهما من النفس والخارج ، وان لم يكن في الخارج من المحمول بالضميمة بل من الامور الاعتبارية خلاف الصفة القائمة بالنفس ، وحينئذ فلا بد من كون الوجوب مصداقا لمفهوم غير ما كان القائم بالنفس مصداقا له ، ويكون ذلك المفهوم لازما لمفهوم الطلب في مرتبة الانشائي لا عين مفهومه ـ وان كان قد يعبر عنه بالطلب ـ ويكونان مدلولين لصيغة ( افعل ) انشاء أو لمادة الامر كذلك ، بل قد توهم من ذلك اتحاده مع الطلب مفهوما أيضا.

ولكنك بعد ما عرفت من اتحاد الطلب مع الارادة مفهوما مع عدم الاشكال في مغايرته معها مفهوما فيستكشف من ذلك كونه مغايرا للطلب مفهوما أيضا ، وإن كان انشاؤه يستتبع انشاءه بل يستتبع فرده الحقيقي أيضا ويكون حينئذ تفسيره به تفسيرا باللازم ، فلا وجه لاثبات مغايرة الطلب مع الارادة بواسطة الالتزام باتحاده مع الوجوب بما ذكر ، لعدم دلالته عليه كما عرفت ، هذا. مع كثرة استعمال الطلب في الحب والشوق كثيرا في العرف كما يقال : « طالب الدنيا والجاه والمال ».

__________________

(١) في الاصل الحجري ( سألت عنهم باتحاد ).

(٢) في الاصل الحجري ( لتسلّموا ).

١٦٧

وتوهم : المغايرة أيضا بالقول بكون الارادة بمعنى حب الشيء والطلب بمعنى حبه من الغير ، مدفوع : بأنّ ذلك من خصوصيات المحبوب لا المفهوم ؛ مع ان استعماله في حب الشيء كثير أيضا كما يقال : « طالب الدنيا والمال والجاه ».

١٢٣ ـ قوله : « كما في صورتي الاختبار والاعتذار من الخلل ». (١)

أي اظهار العذر لنفس المولى في عقاب عبده.

ولا يخفى انّ الامتحان :

يحصل تارة : بالفعل خارجا كما في ابتلاءات الانبياء وتكاليفهم على المشاق.

وقد يحصل : بمجرد كون العبد في مقام اظهار الطاعة أو العصيان.

وحينئذ فنقول : انّ الارادة في القسم الاول موجودة ، غاية الامر بالعنوان الثاني لا العنوان الاول. نعم في القسم الثاني لا تكون موجودة. وعلى كل حال لا يتخلف الطلب عن الارادة مع حفظ وحدة المرتبة.

١٢٤ ـ قوله : « وربّما يكون هذا منشأ لانتزاع اعتبار مترتب عليه ... الخ ». (٢)

كما انّ الوجوب الحقيقي يترتب على انشاء الطلب ، والملكية على انشاء البيع ، بل قد عرفت انّ هذا ربّما يكون منشأ للاختلاف بين الاشاعرة والمعتزلة فلا تغفل.

١٢٥ ـ قوله : « اشكال ودفع ... الخ ». (٣)

حاصل الاشكال : انّه قد استدل الاشاعرة (٤) للمغايرة بأنّه تعالى أمر

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٦ ؛ الحجرية ١ : ٥٠ للمتن و ١ : ٥٦ العمود ١ للتعليقة.

(٢) كفاية الاصول : ٨٨ ؛ الحجرية ١ : ٥١ للمتن و ١ : ٥٦ العمود ١ للتعليقة.

(٣) كفاية الاصول : ٨٨ ؛ الحجرية ١ : ٥١ للمتن و ١ : ٥٦ العمود ١ للتعليقة.

(٤) المحصول ١ : ٢٥٢.

١٦٨

الكفار بالايمان وطلبه ، ولم يرده منهم قطعا ، وإلاّ للزم التخلف وهو محال بمقتضى قوله تعالى : ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) ، وللزم ارادة المتضادين منه حيث انّه أراد منهم الكفر أيضا لاسناد كل الحوادث الى الارادة الأزلية بمقتضى عموم قدرته تعالى ، وللزم انقلاب علمه تعالى جهلا لعلمه تعالى بصدور الكفر والفسق ، فكيف يمكن التخلف؟

وحاصل الدفع : انّ ما ذكر من امتناع تخلف المراد [ عن ] (٢) الارادة انما هو فيما كان الايمان مرادا بالارادة التكوينية دون الارادة التشريعية.

توضيحه : بعد معلومية اتحاد صفاته تعالى مع ذاته المقدسة وكذلك كل واحدة مع الاخرى منها مصداقا وعينا لا مفهوما ، انّ ارادته التكوينية عبارة عن علمه تعالى بالمصلحة بحسب النظام الأحسن للعالم ، والمراد من النظام الأحسن له اعطاء فيض الوجود لكل مستعد له ولو مثل الكافر اذا استعدّ له ، ولا مانع عنه بعد كونه تام الافاضة وكون القابل تام الاستعداد لشخص وجوده ، ومساوقة امساك الفيض [ للزوم ] (٣) البخل تعالى عنه علوا كبيرا.

إلاّ أن يكون المراد منه المصلحة القائمة بالمجموع ، المتقومة بالاجزاء ، المستلزمة لتقوّم المصلحة ـ لكل شخص من تلك الجهة ـ بالاجزاء بالأسر ، كي يقال : بعدم وصول مثل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمرتبة الرسالة إلاّ بوجود الكفار في مقابله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ويرد : بلزوم الجزاف عليه كما هو واضح.

وهذه الارادة مما يمنع تخلف المراد عنها ، بل عينه بناء على كون نفس

__________________

(١) سورة يس : ٨٢.

(٢) في الاصل الحجري ( من ).

(٣) في الاصل الحجري ( في لزوم ).

١٦٩

الموجودات مرتبة من مراتب علمه تعالى كما في بعض الاخبار (١) في الفرق بين ارادته تعالى وارادة غيره : انّ ارادته تعالى قوله.

وامّا الارادة التشريعية فهي : العلم بالمصلحة في أفعال المكلفين الراجعة اليهم. وهذه يمكن تخلف المراد عنها ، ويكون الايمان مرادا من الكفار بهذه الارادة ، وتكون هي الطلب التشريعي ، كما انّ الاولى هي الطلب التكويني ؛ فاتحدت في كل مرتبة مع الطلب في تلك المرتبة ، ولم يلزم ارادة المتضادين في مرتبة واحدة من التكويني والتشريعي ، بل كان أحدهما تكوينيا والآخر تشريعيا ولا مضادة بينهما ، ولا انقلاب علمه الفعلي بصدور الكفر من الكافر جهلا ، لعدم التخلف ، بل ولا امكانه ، لانّ امكان [ المعلول ] (٢) لا يوجب امكان العلة كما قرر في محله.

فان قلت : هب ذلك ، إلاّ انّه يلزم أن يكون صدور الفسق والكفر من الفاسق والكفار بارادته التكوينية بمقتضى تعلق علمه بهما وبما صدر عنهما من الافعال الذي كان موجبا لايجادها ، فيمتنع صدور الايمان والاطاعة منهما فيكونان مجبورين بهما ، فكيف يصح طلبهما منهما بالارادة التشريعية مع لزوم تعلقها بالمقدورات؟

قلت : انّ ما ذكرت من صدور مثل صفة الكفر بالارادة التكوينية بمقتضى تعلق علمه به مسلّم ، ولكنه لا يستلزم الاجبار كي لا يصح الطلب الشرعي بالايمان ، لأنه يكون فيما اذا تعلق علمه بصدوره عنهم بلا توسيط اختيار منهم ، وليس كذلك ، حيث انّ علمه كان متعلقا بصدوره منهم بتوسيط اختيارهم إيّاه بمقدماته من الإخطار والرغبة والعزم والجزم والارادة التي تكون موجبة لتحريك

__________________

(١) الكافي ١ : ١٠٩ باب ( الارادة انها من صفات الفعل ... الخ ) الحديث ٣.

(٢) في الاصل الحجري ( المعلوم ).

١٧٠

العضلات ويكون الايجاب عنهم بالاختيار وهو مما لا ينافي الاختيار بل يؤكده ؛ فاذا كان كذلك فتصح الارادة التشريعية بالايمان.

فان قلت : لا بد من الانتهاء الى ما لا اختيار لهم فيه دفعا للتسلسل ، فيأتي الاجبار.

قلت : مضافا الى النقض باختيار الواجب تعالى ، انه يكفي في اختيارية الفعل صدوره بمقدماته الاختيارية وان لم تكن تلك المقدمات بالاختيار.

وان أبيت إلاّ عن كون العبد مجبورا في مثل هذه الافعال بواسطة كونه مجبورا في ذلك الاختيار ، فنقول :

مضافا الى الفرق الضروري بين حركة يد المختار والمرتعش ، والتردد في الفعل والترك في بعض الافعال ؛ انّه يصح التكليف بالفعل الذي يصدق في حقه « إن شاء فعله وان شاء تركه » ولا يعتبر أزيد من ذلك ، بعد عدم المحذور في مثله عند العقل.

وما ذكرنا هو الوجه في ملاك كون الفعل اختياريا ان يكون نفس الاختيار بالاختيار ايضا ، اما بنفسه او بنفس القدرة ، بمعنى تمكن الفاعل من الفعل والترك أعم من أن يكون تمكنه بالارادة أو لا ، في قبال الاضطرار المحض كحرارة النار مثلا كما توهمه بعض.

نعم يمكن أن يقال : انّ مقهورية وجود الممكن بالاختيار لا يقاس باختيار الواجب وارادته نقضا كما قررناه عن الاستاذ قدس‌سره في الدرس ، حيث انّ الاختيار في الممكن زائد على وجوده فيكون مقهورا فيه ، بخلاف الواجب فانّه عين الاختيار وكله الاختيار لا قهر فيه أصلا.

ان قلت : بناء على ما ذكرت من انتهاء الافعال الاختيارية الى ما لا بالاختيار فسيأتي الاشكال في ايجاب الكافر بعد علمه تعالى بصدور الكفر وفعل

١٧١

الشر منه والمفسدة في وجوده.

قلت : مضافا الى ما عرفت من مساوقة امساكه تعالى ـ من افاضة الوجود عن ذلك الممكن بعد تمامية استعداده لقبول الوجود ـ [ للبخل ] (١) عليه تعالى مع كونه تاما في الافاضة ؛ انّ وجود مثل ذلك الكافر له جهتان :

أحدهما : كونه وجودا ، والوجود بما هو خير محض ، اذ ليس إلاّ الفوز ، ويكون بما هو كذلك مفاضا عن الواجب ، إذ الخير المحض لا يسند اليه إلاّ الخير.

وثانيهما : كونه محدودا مرتبة ، وهي فاقديته لمرتبة اخرى من الوجود فيكون ناقصا من تلك الجهة ، ولا تكون جهته هذه صادرة عن الواجب إذ هي عدمية ، لكونها بمعنى فاقديته لمرتبة الكمال ؛ وحينئذ الافعال الصادرة من ذلك الوجود ان كانت خيرات فراجعة الى اختياره الناشئ من الجهة الاولى وان كانت شرورا فإلى اختياره الناشئ عن الجهة الثانية ، وهي لما لم تكن راجعة اليه تعالى فلا وجه للسؤال المذكور.

ويدل على ما ذكرنا من استناد الخيرات اليه تعالى والشرور الى العبد قوله تعالى : ( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) (٢) وقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه‌السلام : ( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي ) (٣) ؛ ويؤيده ما عن الصادق عليه‌السلام : « انّ الله تعالى أولى بحسنات العبد منه وانّ العبد أولى بسيئاته منه ». (٤)

__________________

(١) في الاصل الحجري ( البخل ).

(٢) سورة النساء : ٧٩.

(٣) سورة يوسف : ٥٣.

(٤) الكافي ١ : ١٥٢ باب المشيئة والارادة الحديث ٦ وكذلك ١ : ١٦٠ باب الجبر والقدر والامر بين الامرين ، الحديث ١٢. والتوحيد : ٣٣٨ الحديث ٦ وص ٣٤٠ الحديث ١٠ وص ٣٤٤ الحديث ١٣. لكن الفاظ الرواية في المصادر الآنفة تختلف مع ما ذكره القوچاني قدس‌سره ولعله قد نقله بالمضمون.

١٧٢

والحاصل : انّ الافعال مستندة الى اختيار الفاعل الناشئ من اختيار الخاصة الذاتية التي لا تتغير.

إلاّ انك عرفت انّ جهة استناد الخيرات اليه بما [ هي ] (١) وجود غير ما هي جهة استناد الشرور اليه من [ كونها ] (٢) في مرتبة خاصة فاقدة لمرتبة اخرى من الكمالات.

ثم انّ الاستعدادات الذاتية ليست بحيث تكون علة تامة لصدور الافعال الاختيارية في كل الفاعلين :

فمنهم : من كان كذلك في طرف الخيرات كالانبياء المقربين.

ومنهم : من كان في طرف الشرور كذلك كالحوادث الخبيثة في مقابلهم.

ومنهم : من كان استعداده في أحد الطرفين بنحو الاقتضاء لا العلّية ، بحيث يكون قابلا للمنع أو يحتاج الى الشرط من مثل قوله تعالى : ( اتَّقُوا اللهَ ) (٣) أو إغواء الشيطان في مقابله ، وان كان المانع أو الشرط راجعا الى الذات أيضا.

إلاّ انّ صدور الوعظ من الامام عليه‌السلام ـ كي يختار عنده الالفاظ ـ غير راجع الى ذات الفاعل ؛ ويؤيده الامر بالدعاء في الاخبار.

وما ورد في بعض الادعية « ان كنت من الاشقياء فاجعلني من السعداء » (٤) وبه يتم ارسال الرسل وتنزيل الكتب ، فانّه ليس ذلك إلاّ لكون مثل الدعاء والوعظ والوعد من الله تعالى ـ وغير ذلك ـ شرطا لاختيار الفعل الحسن بعد ما كان اقتضاؤه

__________________

(١) في الاصل الحجري ( هو ).

(٢) في الاصل الحجري ( كونه ).

(٣) سورة آل عمران : ١٠٢.

(٤) الموجود في المصادر هو : « وان كنت من الاشقياء فامحني من الاشقياء واكتبني من السعداء ». اقبال الاعمال : ٥٠١ دعاء ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان. نعم في الصفحة السابقة من المصدر الآنف : « ... واجعل اسمي في السعداء ».

١٧٣

[ تاما ] (١) وان كان ذلك موجبا لمزيد الخسران بالنسبة الى بعض الذوات الخبيثة من جهة اختيار الشرور الناشئ عن ذواتهم [ و ] انّ ذلك لطف بالنسبة الى غيرهم.

وامساك التكليف مساوق للبخل بالنسبة اليهم ، وليس ذلك إلاّ لاختلاف الناس من حيث الذوات علّية واقتضاء. وما ذكرنا هو مضمون قوله عليه‌السلام : « الناس معادن كمعادن الذهب والفضة » (٢) و « انّ الشقي شقي في بطن أمه والسعيد سعيد في بطن أمه » (٣) ؛ هذا كله في الافعال.

امّا الثواب والعقاب فحيث كانا من لوازم القرب والبعد اللازمين للاطاعة والمعصية الحاصلتين من الافعال الحسنة والسيئة الصادرة بالاختيار عقلا ، يندفع اشكال ترتبهما عليهما من حيث استنادهما بالأخرة الى الواجب ، لاستنادهما ايضا بتوسطها الى الاستعدادات الذاتية فينقطع عند ذلك السؤال.

ويشير الى ما ذكرنا ـ من كون الثواب والعقاب من لوازم الافعال عقلا ـ ما ورد في بعض الاخبار من تجسّم الاعمال (٤) أي كونها منشأ لمثل الحور والقصور.

ومما ذكرنا ـ من استناد أفعال العباد اليهم تارة من جهة صدورها عن اختيارهم والى الواجب اخرى من جهة كونهم مقهورين بالاختيار ـ ظهر معنى قوله عليه‌السلام : « لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الامرين » (٥) لا بمعنى انّه أمر ثالث ليس من سنخهما ، بل بمعنى كونه عين أحدهما حال كونه عين الآخر.

__________________

(١) في الاصل الحجري ( تماما ).

(٢) الكافي ( الروضة ) ٨ : ١٧٧ باب خطبة لامير المؤمنين عليه‌السلام الحديث ١٩٧.

(٣) الصحيح هو : « الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه » ، بحار الانوار ٥ : ٩ الباب ١ من ابواب العدل الحديث ١٣ ؛ والتوحيد : ٣٥٦ باب ٥٨ باب السعادة والشقاء الحديث ٣.

(٤) وهي روايات كثيرة في ابواب ثواب الاعمال وعقابها ، وبعضها مبينة لكيفية تجليها واصابتها للمؤمن والكافر ، في البرزخ ويوم القيامة.

(٥) الكافي ١ : ١٦٠ باب الجبر والقدر الحديث ١٣. لكن فيه : « ... بل امر بين امرين ».

١٧٤

ثم كونه باختيار العبد انما هو بلا واسطة ، وامّا كونه باختيار الواجب :

فتارة : يكون بلا واسطة أيضا ، كما في ادراك الجزئي المستند الى القوة العاقلة والى المدركة الجزئية.

واخرى : تكون مع الواسطة ، وهي : وجود العبد وقدرته المستندان الى الارادة الأزلية.

ثم انّ هنا دقيقة تدل على ذلك لا بد من التنبيه عليها وهي : انّ منشأ الافعال وهو الوجود له : بالنسبة الى الفاعل ، بالوجوب ؛ والى القابل ، بالامكان ؛ فيصح استناده اليهما ؛ فكذا ما كان مستندا اليه وهو الفعل كما لا يخفى.

١٧٥

صيغة الامر

١٢٦ ـ قوله : « الفصل الثاني : فيما يتعلق بصيغة الامر ». (١)

أقول : يقع البحث فيها :

تارة : في انّها للوجوب ، أو لمطلق الطلب ، أو كانت مشتركة بين الوجوب والندب.

واخرى : في انّه بعد الفراغ عن دلالتها على الوجوب ، هل هي :

لمجرد الوجوب الانشائي بأي داع ، سواء كان هو البعث والتحريك الخارجيان الناشئان عن الارادة الحقيقية للفعل؟ أو الامتحان أو التهديد والاستهزاء وغيرها مما ذكر من المعاني؟

أو لخصوص ما اذا كان بداعي البعث والتحريك فقط؟

وثالثة : في انّه لو قيل بكونهما حقيقة في الطلب المشترك ، هل يصح دعوى انصرافها الى خصوص الوجوب أم لا؟

امّا الاول : فالظاهر انّ محل النزاع هو مطلق الوجوب ولو لم يكن من العالي ، لا خصوص الواجب الاصطلاحي وهو ما يستحق تاركه اللوم والمذمة ، ولا يكون كذلك إلاّ اذا كان صادرا من العالي وان كان ربّما يوهمه استدلال بعضهم بالامر الصادر من العالي إلاّ انّه من جهة كونه من الافراد الجلية وترتب الثمرة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٠ ؛ الحجرية ١ : ٥٢ للمتن و ١ : ٥٧ العمود ٢ للتعليقة.

١٧٦

عليه ؛ كما انّ الظاهر دلالتها على الوجوب لغة ، للتبادر.

ودعوى : كونه من جهة الانصراف لا لكونه حقيقة فيه.

مدفوعة : بما تأتي الاشارة اليه في البحث الثالث ؛ وبمذمة العقلاء للعبد التارك لامر مولاه عند عدم قرينة أصلا ؛ وليس مجرد صدور الصيغة من العالي قرينة على ذلك كما لا يخفى ، بل به مستعليا.

ثم انّه لا فرق بين الايجاب والوجوب (١) إلاّ بمجرد الاعتبار ، فمجرد نسبة مفاد الهيئة الى الحدث يسمى وجوبا ، والى الطالب يسمى ايجابا ؛ فما عن بعض (٢) من تبديل الوجوب بالايجاب ـ وجعله هو التحقيق ـ لا وجه له.

أمّا المقام الثاني : ـ وهو كون الصيغة حقيقة في خصوص الوجوب الانشائي الناشئ بداعي البعث والتحريك أم لا بعد معلومية عدم كون الامور المذكورة من المعاني [ المستعمل ] (٣) فيها صيغة الامر كما حققناه سابقا في الطلب والارادة ـ فاعلم :

انّ تقييد الموضوع له به غير صحيح لانّ الداعي على الاستعمال غير داخل في المستعمل فيه كنفس الاستعمال وإلاّ فأخذه في المستعمل فيه يحتاج الى داع

__________________

(١) يظهر من معارج الاصول : ٦٤ الفرق بينهما ، وكذلك ينسب التفرقة بينهما الى الشيخ الطوسي في العدة ١ : ١٧٣. لكن يبدو ان النسبة غير صحيحة ، فان الشيخ لم يفرق بينهما ، فتارة يعبر بالوجوب واخرى بالايجاب كالسيد المرتضى ( الذريعة ١ : ٥١ ) فانه وان عنون المطلب بقوله : « فصل في هل الامر يقتضي الوجوب او الايجاب » لكنه لم يفرق بينهما ايضا.

(٢) ينسبه في هداية المسترشدين الى بعض المتأخرين ؛ هداية المسترشدين : ١٣٩ السطر ١٦ ـ ٢٣ ، والطبعة الحديثة ١ : ٦٠٣ ـ ٦٠٤ ( وفي اسفل صفحة ٦٠٤ في الحاشية يعزي القول بالفرق الى السيد العميدي ايضا ). لكن في : ١٤٨ السطر ٢٦ ـ ٢٧ ومن الطبعة الحديثة ١ : ٦٣٩ ـ ٦٤٠ يحكيه عن ابن صاحب المعالم عن والده وانه يظهر منه الفرق بين الوجوب والايجاب. وايضا يحكي هذا الفرق سلطان العلماء في حاشيته : ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

(٣) في الاصل الحجري ( مستعمل ).

١٧٧

آخر ، مع انّ الداعي ليس بقابل لتعلق الانشاء به فكيف يكون مأخوذا في الموضوع له القابل للانشاء؟ مع استلزام ذلك لكون الموضوع له خاصا وهو خلاف التحقيق ؛ فلو كان لا بد من ذلك القيد بدليل فيكون قيد الاستعمال باشتراطه في الوضع ، فلو لم يستعمل كذلك لم يكن مجازا وإن كان مخالفا للوضع.

ثم انّ أصالة الحمل على الارادة الجدّية للمستعمل فيه لا بدواع أخر ليست بأصل عقلائي في مباحث الالفاظ ؛ وكذا أصالة عدم القرينة ، حيث انّ الثابت فيها هو الحمل على الموضوع له بالارادة الجدية في مقام الاستعمال بحسب الارادة الواقعية أيضا.

ودعوى الانصراف من باب الغلبة ، فيه ما لا يخفى ، لانّ الاستعمال بدواع أخر ـ غير البعث والتحريك ـ في المقام مما لا ينضبط ؛ إلاّ أن يدّعى ظهور حال العقلاء في مقام التصدي للامر في كونهم بصدد تحققه واقعا بارادتهم الجدية ، إلاّ أن ينصبوا قرينة على الخلاف وهو لا يختص بالالفاظ ، بل يجري في الافعال وغيرها ، نظير ظهور حال المسلم في ارادة الفعل الصحيح في فعله وقوله ، فان ثبت فيها وإلاّ فدعوى الحمل على الارادة الجدية للفعل كي يترتب عليه البعث والتحريك فيه ما لا يخفى.

وأصالة عدم التقية على القول بها لا بد من اثباتها بأصل ثانوي عقلائي غير ما هم عليه من أصالة عدم القرينة ، ولا بعد فيه.

وامّا المقام الثالث : ـ وهو دعوى تبادر الوجوب من الصيغة وانصرافها اليه بناء على كونها للطلب المطلق ـ فأقول :

انّ انصراف اللفظ الى معنى لا بد أن يكون لمناسبة وربط بينهما ، بحيث يكون اللفظ قالبا له عرفا امّا بالوضع أو بغلبة استعماله في نفسه لا في ملزومه أو لازمه ، بحيث لا ينفكان في الاستفادة بل في الارادة ولكن لا بارادته من اللفظ بل

١٧٨

بالملازمة بينه وبين معناه ، حيث انّه لا يوجب خصوصية بينه وبين اللفظ بنفسهما. ولا يخفى انّ تبادر الوجوب من الصيغة ـ على القول بكونها للقدر المشترك ـ لو كان أكثر استعمالها فيه ، فنقول :

انّها وان كانت مجدية إلاّ انّها غير ثابتة ، لانّ استعمالها في غير الوجوب أكثر من استعمالها فيه ، ولو كان لأكملية الوجوب [ من ] (١) الندب حيث انّ الطلب في الوجوب آكد منه في الندب ، فنقول فيه : انّ الأكملية لا توجب الانصراف ما لم توجب مؤانسة الذهن بالمعنى من اللفظ ، وإلاّ توجب انصراف السواد المطلق الى السواد الشديد والانسان الى خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله .

نعم يمكن دعوى تبادر الوجوب بمقدمات الحكمة بأن يقال : الوجوب هو الطلب الأكيد فكان هو الطلب الخالص المرسل ، بخلاف الندب فانّه لتحديده بمرتبة لازمها عدم المنع في الترك ، فكأنّه منفصل بفصل عدمي. فبعد تمامية المقدمات : من كون المتكلم في مقام البيان ، وعدم نقض الغرض في ناحيته مع نصب قرينة في البين ، لا بد من حمله على الايجاب ، لما عرفت من عدم زيادته من جنسه في نظر العرف ؛ بخلاف الندب فانّه لتقييده بالمرتبة المحدودة ، فلو كان هو المراد فلا بد من قرينة عليه وإذ ليس فليس ؛ كما سيظهر في الوجوب النفسي والتعييني ومقابلهما.

تنبيه : قد عرفت مما ذكرنا آنفا ظهور صيغة الامر في الوجوب امّا وضعا أو اطلاقا بمقدمات الحكمة. ولكن قد استشكل فيما ذكرنا صاحب المعالم (٢) حيث قال انّه يستفاد من أحاديثنا المروية عن الائمة عليهم‌السلام انّ استعمال الامر في الندب كان شائعا في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من

__________________

(١) في الاصل الحجري ( في ).

(٢) معالم الدين : ٥٣ والطبعة الحجرية : ٤٨.

١٧٩

اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي ، فيشكل التعلق في اثبات وجوب الشيء بمجرد ورود الامر به منهم. وحكي عن غير واحد من الأجلاّء متابعته في هذه الدعوى كصاحب المدارك (١) والذخيرة (٢) والمشارق (٣) ، وفي هذا نظر.

امّا اولا : فلأنّ مجرد كثرة استعمال الصيغة في الندب ـ على تقدير التسليم ـ لا يصير سببا لكونه من المجازات المشهورة التي قيل بترجيحها على الحقيقة ، ما لم يصر استعمالها في الوجوب نادرا بحيث يضعف ظهورها فيه بل [ يفنى ] (٤) كي يوجد ظهورها في الندب ، وإلاّ فمجرد أكثرية الاستعمال فيه مع كثرة الاستعمال في الوجوب أيضا لا يوجب مؤانسة الذهن بأكثر من الوجوب منها ، بل ولا بمثله.

وامّا ثانيا : فعلى تقدير تسليم قلته ، انما يجدي كثرة الاستعمال في الندب ـ في كونه من المجازات الراجحة ـ لو كانت تلك الكثرة بلا قرينة متصلة ، تعويلا على القرينة المنفصلة ، إلاّ أن يستغنى عنها أيضا بقرينة الشهرة ، ودون اثباته خرط القتاد ، بل لم يلتزم قدس‌سره به.

مضافا الى عدم الجدوى فيه أيضا ما لم يصر المعنى الحقيقي مهجورا ، وعنده يصير نقلا الى المعنى المجازي بالوضع التعيني ، لأنه بدونه لا يخلو :

امّا أن يختلف حال الاستعمالات اللاحقة مع السابقة في نظر المستعملين ، بأن يكون حالهم فيها بتجريد النظر عن التبعية للمعنى الحقيقي ـ بخلاف السابقة ـ فيكفي مثل هذا الاستعمال في صيرورة اللفظ في المعنى المجازي ، بل يكفي فيها

__________________

(١) مدارك الاحكام ٢ : ٢٩٢ ؛ ٣ : ١١١ ، ٢٥٨ ، ٣٠٩ ؛ ٤ : ٣٠٢.

(٢) ذخيرة المعاد : ١٧٨ السطر ٤٢ ـ ٤٣ ؛ وص ٢٩١ السطر ٩ ـ ١٠ ؛ وص ٥٨ السطر ٣ ـ ٤.

(٣) مشارق الشموس : ٢٧٥ السطر ٣١ ـ ٣٢ ؛ وص ٣٠٠ السطور الثلاثة الاخيرة.

(٤) في الاصل الحجري ( ينفى ).

١٨٠