الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-51-5
الصفحات: ٣١١

المكان لجرّ المنفعة ، فما ترى في ذلك؟ قال : يا عبد اللّه ، إني لست آمرك بترك الدنيا ، بل آمرك بترك الذنوب ، فترك الدنيا فضيلة ، وترك الذنوب فريضة ، وأنت إلى إقامة الفريضة أحوج منك إلى اكتساب الفضيلة» (١).

٤ ـ إسداء النصيحة :

حرص الإمام الباقر عليه‌السلام على إسداء النصيحة لجميع المسلمين بما في ذلك بعض سلاطين بني مروان.

دخل عمر بن عبد العزيز المدينة وصاح مناديه : من كانت له مظلمة وظلامة فليحضر ، فأتاه أبو جعفر الباقر عليه‌السلام ، فلما رآه استقبله وأقعده مقعده ، فقال عليه‌السلام : «إنّما الدنيا سوق من الأسواق يبتاع فيها الناس ما ينفعهم وما يضرّهم ، وكم قوم ابتاعوا ما ضرّهم فلم يصبحوا حتى أتاهم الموت ، فخرجوا من الدنيا ملومين ، لمّا لم يأخذوا ما ينفعهم في الآخرة ، فقسم ما جمعوا لمن لم يحمدهم ، وصاروا إلى من لا يعذرهم ، فنحن واللّه حقيقون أن ننظر إلى تلك الأعمال التي كنّا نغبطهم بها فنوافقهم فيها ، وننظر إلى تلك الأعمال التي نتخوّف عليهم منها ، فنكفّ عنها.

فاتّقِ اللّه ، واجعل في نفسك اثنتين : اُنظر إلى ما تحبّ أن يكون معك إذا قدمت على ربّك فقدّمه بين يديك ، واُنظر إلى ما تكره أن يكون معك إذا قدمت على ربّك فارمِه وراءك ، ولا ترغبنّ في سلعة بارت على من كان قبلك ، فترجو أن تجوز عنك ، وافتح الأبواب ، وسهل الحجاب ، وانصف المظلوم ، ورد الظالم.

ثلاثة من كُنّ فيه استكمل الإيمان باللّه : من إذا رضي لم يدخله رضاه في

__________________

(١) كفاية الأثر : ٢٥٠.

٤١

باطل ، ومن إذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق ، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له.

فدعا عمر بداوة وبياض وكتب : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، هذا ما ردّ عمر ابن عبد العزيز ظلامة محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم بفدك» (١).

وحينما وفد الإمام الباقر عليه‌السلام إلى الشام في جملة الفقهاء ، بأمر عمر بن عبد العزيز ، دخل أبو جعفر عليه‌السلام على عمر فقال : «يا أبا جعفر أوصني. قال عليه‌السلام : أوصيك أن تتّخذ صغير المسلمين ولداً ، وأوسطهم أخاً ، وكبيرهم أباً ، فارحم ولدك ، وصِل أخاك ، وبِر أباك ، وإذا صنعت معروفاً فربّه» (٢).

ورواه ابن عساكر عن أبي حمزة ، وزاد فيه : قال عمر : رحمك اللّه جمعت لنا رأسها ، ان أخذنا به ، وأعاننا اللّه عليه ، استقامت لنا الخيرات إن شاء اللّه (٣).

ومن المسائل التي أعضلت على الحكام ، ولم يهتدوا إلى وجه الصواب فيها ، فاستوجبت تدخّل الإمام عليه‌السلام ، ما نقل في التاريخ أن ملك الروم هدّد عبد الملك ابن مروان حين أراد عبد الملك تبديل العملة الرومية المتداولة آنذاك ، فأنكره واستشاط غيظاً ، فكتب إلى عبد الملك يتهدّده بأن ينقش على الدراهم والدنانير شتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتحيّر عبد الملك كيف يمكن أن يتراجع عن موقفه الذي يضعف موقف الدولة ، وإذا لم يتراجع فسوف يصدر ملك الروم عملة ينقش فيها سبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأشار إليه روح بن زنباع أن يرسل إلى الباقر عليه‌السلام

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٧.

(٢) أمالي القالي ٢ : ٣٠٨.

(٣) تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٧٠.

٤٢

ليستقدمه إلى الشام ، فقدم عليه وأعطاه الرأي في الإصرار على إصدار عملة إسلامية ، وبيّن له أوزانها وما يكتب فيها ، وطلب إليه أن يلزم المسلمين آنذاك باستعمال هذه العملة ، وأن لا يستعملوا العملة الرومية تحت طائلة العقوبة والتهديد ، فعمل عبد الملك ما طلب الإمام عليه‌السلام ، وعندما علم ملك الروم بإجراءات عبد الملك لم ينفذ تهديده ، فقيل له : افعل ما كنت تهدّد به ملك العرب. فقال : إنما أردت أن أغيظه بما كتبت إليه ، لأنّي كنت قادراً عليه والمال وغيره برسوم للروم ، فأما الآن فلا أفعل لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام (١) ، وبهذا أنقذ الباقر عليه‌السلام الواقع الإسلامي من مأزق حقيقي ، وأحبط الخطة الرومية في زعزعة النظام المالي للمسلمين.

٥ ـ الدعاء :

الدعاء سلاح الأنبياء والأوصياء والمؤمنين الصالحين الذي يشهرونه في وجه الظالمين ، وعدّتهم في مواجهة الأعداء ، ومن أقوى الأسباب التي يستدفع بها البلاء ، قال الصادق عليه‌السلام : «كان أبي عليه‌السلام إذا حزنه أمر (٢) جمع النساء والصبيان ثم دعا وأمّنوا» (٣).

ويلجأ الإمام الباقر عليه‌السلام إلى الدعاء حيث يشتدّ الخناق ، ويحتدّ الوثاق ، وتنقطع حبائل الصبر من جور طغاة بني أُميّة وبني مروان الذين سعوا في الأرض فساداً ، فاتّخذوا مال اللّه دولاً ، وعباد اللّه خولاً ، ويتضرّع الإمام عليه‌السلام

__________________

(١) المحاسن والأضداد / البيهقي ١ : ٣١ ، حياة الحيوان / الدميري ١ : ٦٣. وروي أيضاً أن المشير على عبد الملك قد أرشده إلى الإمام زين العابدين عليه‌السلام.

(٢) الظاهر حزبه أمر ، أي دهاه وأعياه علاجه.

(٣) الكافي ٢ : ٤٨٧ / ٣.

٤٣

إلى اللّه لينقذ المسلمين من محنتهم ، وينزل عقابه الصارم بالمردة الظالمين لعنة اللّه عليهم أجمعين.

قال عليه‌السلام في قنوته : «اللّهمّ إنّ عدوي قد استسن في غلوائه ، واستمرّ في عدوانه ، وأمن بما شمله من الحلم عاقبة جرأته عليك ، وتمرّد في مباينتك ، ولك اللّهمّ لحظات سخط بياتاً وهم نائمون ، ونهاراً وهم غافلون ، وجهرة وهم يلعبون ، وبغتة وهم ساهون ، وإن الخناق قد اشتدّ ، والوثاق قد احتدّ ، والقلوب قد شجيت ، والعقول قد تنكرت ، والصبر قد أودى ، وكادت تنقطع حبائله ، فإنّك لبالمرصاد من الظالم ، ومشاهدة من الكاظم ، لا يعجلك فوت درك ، ولا يعجزك احتجاز محتجز ، وإنّما مهّلته استثباتاً ، وحجّتك على الأحوال البالغة الدامغة ، ولعبدك ضعف البشرية وعجز الإنسانية ، ولك سلطان الإلهية ، وملكة الربوبية ، وبطشة الأناة ، وعقوبة التأبيد.

اللّهمّ فإن كان في المصابرة لحرارة المعان من الظالمين ، وكيد من نشاهد من المبدلين ، رضىً لك ومثوبةً منك ، فهب لنا مزيداً من التأييد ، وعوناً من التسديد ، إلى حين نفوذ مشيّتك فيمن أسعدته وأشقيته من بريّتك ، وامنُن علينا بالتسليم لمحتومات أقضيتك ، والتجرّع لواردات أقدارك ، وهب لنا محبّة لما أحببت في متقدّم ومتأخّر ومتعجّل ومتأجّل ، والإيثار لما اخترت في مستقرب ومستبعد ، ولا تخلنا اللّهمّ مع ذلك من عواطف رأفتك ورحمتك وكفايتك وحسن كلاءتك بمنّك وكرمك» (١).

وله عليه‌السلام في ذات السياق دعاء يقول في بعض أجزائه : «اللّهمّ فإنّ القلوب قد بلغت الحناجر ، والنفوس قد علت التراقي ، والأعمار قذ نفدت بالانتظار ، لا

__________________

(١) بحار الأنوار ٨٢ : ٢١٦.

٤٤

عن نقص استبصار ، ولا عن اتهام مقدار ، ولكن لما تعاني من ركوب معاصيك ، والخلاف عليك في أوامرك ونواهيك ، والتلعب بأوليائك ومظاهرة أعدائك ، اللّهمّ فقرّب ما قد قرب ، وأورد ما قد دنا ، وحقّق ظنون الموقنين ، وبلّغ المؤمنين تأميلهم من إقامة حقّك ونصر دينك ، وإظهار حجّتك والانتقام من أعدائك» (١).

٦ ـ المواجهة :

لم تخل حياة الإمام الباقر عليه‌السلام من خط المواجهة الساخن مع بعض رجالات السلطة ، في ظروف فرضت عليه تلك المجابهة التي قد تصل إلى حد التعريض الواضح برأس السلطة ، فحين أشخص هشام بن عبد الملك الإمام الباقر وولده الصادق عليهما‌السلام إلى الشام وطلب منهما المناضلة والرمي ، قال هشام : أين رمي جعفر من رميك؟ فقال عليه‌السلام : «إنّا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما اللّه على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلاَمَ دِيناً» (٢) والأرض لا تخلو ممن يكمل هذه الأمور التي يقصر عنها غيرنا».

فلما سمع هشام ذلك من الباقر عليه‌السلام انقلبت عينه اليمنى واحمر وجهه ، وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب.

ثم أطرق هشام فقال : ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد؟ فقال الباقر عليه‌السلام : «نحن كذلك ، ولكنّ اللّه جلّ ثناؤه اختصّنا من مكنون سرّه وخالص علمه ، بما لم يختصّ أحداً به غيرنا».

__________________

(١) بحار الأنوار ٨٢ : ٢١٧.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٣.

٤٥

فقال : أليس اللّه بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله من شجرة عبد مناف إلى الناس كافّة ، فمن أين ورثتم ما ليس لغيركم ، ورسول اللّه مبعوث إلى الناس كافّة؟ فمن أين ورثتم هذا العلم ، وليس بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله نبي ، ولا أنتم أنبياء؟ فقال عليه‌السلام : «من قوله تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ» (١) فالذي أبداه فهو للناس كافّة ، والذي لم يحرّك به لسانه ، أمر اللّه تعالى أن يخصّنا به من دون غيرنا ، فلذلك كان يناجي أخاه علياً من دون أصحابه ، وأنزل اللّه بذلك قرآناً في قوله تعالى : «وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ» (٢) ، فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه : سألت اللّه تعالى أن يجعلها أذنك يا علي ، فلذلك قال علي عليه‌السلام بالكوفة : علّمني رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ألف باب من العلم ، يفتح من كلّ باب ألف باب. خصّه به رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكنون علمه ما خصّه اللّه به ، فصار إلينا وتوارثناه من دون قومنا» إلى آخر المناظرة ، وهي طويلة (٣).

قال الشاعر :

تعساً وبؤساً لهشام الشوم

من هتكه لباقر العلوم

أيطلب الرمي من الإمام

مع الرماة من علوج الشام

وهو ابن من خاطبه اللّه بما

رميت إذ رميت واللّه رمى

وهو ابن سهم اللّه إذ رماه

فبان لا إله إلاّ اللّه

حتّى بدت من رمية الكرامه

وللعدو الخزي والندامه

أيوقف القائم بالأمر لدى

أذل مخلوق تردى في الردى

__________________

(١) سورة القيامة : ٧٥ / ١٦.

(٢) سورة الحاقة : ٦٩ / ١٢.

(٣) دلائل الإمامة : ٢٣٥ ، نوادر المعجزات : ١٣١.

٤٦

طال وقوف حجّة الرحمن

بين يدي طاغية الزمان

لكن حبّ الملك داء مهلكُ

وكم بهذا الداء قدماً هلكوا (١)

وله مواجهة مع هشام عند المسجد الحرام ، أسكته فيها فلم يحر جواباً ، رواها جمع من المؤرخين عن عبد الرحمن الزهري ، قال : «حجّ هشام بن عبد الملك ، فدخل المسجد الحرام متّكئاً على يد سالم مولاه ، ومحمد بن علي بن الحسين عليهم‌السلام جالس في المسجد ، فقال له سالم مولاه : هذا محمد بن علي ، قال هشام : المفتون به أهل العراق؟ قال : نعم. قال : اذهب إليه فقل له : يقول لك هشام : ما الذي يأكل الناس ويشربون إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة؟ قال له أبو جعفر عليه‌السلام : يحشر الناس على مثل قرص النقي (٢) ، فيها أنهار متفجّرة ، يأكلون ويشربون حتّى يفرغ من الحساب. قال : فرأى هشام أنه قد ظفر به ، فقال : اللّه أكبر ، اذهب إليه فقل له : ما أشغلهم عن الأكل والشرب يومئذٍ؟! فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : هم في النار أشغل ولم يشغلوا عن أن قالوا : «أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» (٣). فظهر عليه الباقر عليه‌السلام ، وسكت هشام لا يرجع كلاماً» (٤).

وهناك موقف آخر له عليه‌السلام في الشام استوجب المواجهة ، ولكن هذه المرّة كان مع جمع من الناس ، وفي عقر دار الملك ، حينما سمع الإمام عليه‌السلام

__________________

(١) الأنوار القدسية / محمد حسين الأصفهاني : ٧٧.

(٢) النقي : الخبز الحواري.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٥٠.

(٤) الإرشاد ٢ : ١٦٣ ، تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٧٩ ، الاحتجاج ٢ : ٥٧ ، شرح الأخبار ٣ : ٢٨٠ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٠٥ ، روضة الواعظين : ٢٠٣.

٤٧

أهل الشام يعرّضون بجدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام بذكر كنيته التي كنّاه بها رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما ينطق عن الهوى ، ورغم ذلك بقي طغاة أُميّة يسبّون علياً أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى سنين متمادية ، ويتّخذون من هذه الكنية وسيلة للسبّ والشتم ، من هنا اعتبرهم الإمام الباقر عليه‌السلام ذرية النفاق وحشو النار وحصب جهنّم.

روي بالإسناد عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «لما أشخص أبي محمد بن علي عليهما‌السلام إلى دمشق ، سمع الناس يقولون : هذا ابن أبي تراب؟ قال : فأسند ظهره إلى جدار القبلة ، ثم حمد اللّه وأثنى عليه ، وصلّى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم قال : اجتنبوا أهل الشقاق ، وذرية النفاق ، وحشو النار ، وحصب جهنم ، عن البدر الزاهر ، والبحر الزاخر ، والشهاب الثاقب ، وشهاب المؤمنين ، والصراط المستقيم ، من قبل أن نطمس وجوهاً فنردّها على أدبارها ، أو يلعنوا كما لعن أصحاب السبت ، وكان أمر اللّه مفعولاً.

ثم قال بعد كلام : أبصنو رسول اللّه تستهزؤون ، أم بيعسوب الدين تلمزون ، وأي سبل بعده تسلكون ، وأي حزن بعده تدفعون؟! هيهات هيهات برز واللّه بالسبق ، وفاز بالخصل ، واستوى على الغاية ، واحرز على الخطاب ، فانحسرت عنه الأبصار ، وخضعت دونه الرقاب ، وقرع الذروة العليا ، فكذب من رام من نفسه السعي ، وأعياه الطلب ، فأنّى لهم التناوش من مكان بعيد؟!

وقال :

أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم

من اللوم أو سدّوا المكان الذي سدّوا

٤٨

أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا

وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا

فأنّى تسدّ ثلمة أخي رسول اللّه إذ شفعوا ، وشقيقه إذ نسبوا ، ونديده إذ قتلوا ، وذي قربى كنزها إذ فتحوا ، ومصلّي القبلتين إذ تحرفوا ، والمشهود له بالإيمان إذ كفروا ، والمدّعي لنبذ عهد المشركين إذ نكلوا ، والخليفة على المهاد ليلة الحصار إذ جزعوا ، والمستودع الأسرار ساعة الوداع»؟! (١) إلى آخر كلامه.

٧ ـ التقية :

التقية : هي الحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق ، وهي من الوسائل التي أباحها الشرع من أجل التحرّز من التلف أو الموت والفناء ، في ظروف استثنائية يمرّ بها الفرد المكره أو المضطر ، ولها أدلتها المفصّلة كتاباً وسنّة (٢).

والتقية بمثابة الدرع الحصينة التي تقي المؤمن في ساحات المواجهة مع الظالمين ، يقول أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : «إنّ التقية جُنّة المؤمن» (٣).

ولا يخفى أن الأوضاع الخطيرة التي مرّ بها الإمام الباقر عليه‌السلام في زمان طغاة بني أُميّة ، وأساليب القهر والإرهاب ، دفعته إلى استثمار مفهوم التقية في بعض

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٤.

(٢) راجع : تعريفات التقية في كتاب التقية في الفكر الإسلامي / الدكتور السيد ثامر العميدي : ١١ ـ ١٢ الطبعة الثانية ، إصدار مركز الرسالة.

(٣) الكافي ٢ : ٢٢٠ / ١٤.

٤٩

الموارد ، هذا مع بيان الإمام الباقر عليه‌السلام واقع الحكم لبعض أصحابه أولاً (١) ، وحيث إن أخبار التقية عادة ما تكون معارضة لما صدر عن إرادة جدية ، لذا وضع الإمام عليه‌السلام قواعد كلية جعل فيها خطاً فاصلاً بين الأحكام التي تصدر بسبب التقية ، وبين ما صدر على نحو الإرادة الجديّة ، منها : قوله عليه‌السلام : «خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذ النادر». وقوله : «انظر ما وافق منهما العامّة فاتركه ، وخذ بما خالفه فإن الحقّ فيما خالفهم» (٢). أي خذ ما يخالف الخط الموالي للسلطة من وعاظ السلاطين والدائرين في فلكهم.

وفي حديثه عليه‌السلام لجابر الجعفي : «انظروا أمرنا وما جاءكم عنا ، فإن وجدتموه موافقاً القرآن فهو من قولنا ، وما لم يكن موافقاً للقرآن ، فقفوا عنده وردّوه إلينا ، حتّى نشرحه لكم كما شرح لنا» (٣). وبهذا الاُسلوب استطاع الحفاظ على واقعية الأحكام الشرعية وتمييزها عن أخبار التقية.

وبسبب ضغط الظروف وحرصاً على حياة أصحابه من شرّ الظالمين ، بيّن الإمام الباقر عليه‌السلام لهم موارد وجوب التقية ، فقال : «إنّ التقية في كلّ ضرورة ، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به» (٤). فالأمر منوط بتقدير المرء لحالة التهديد والبلاء الذي يتعرّض له لو لم ينفذ ما يطلب منه ، بشرط أن لا تصل التقية إلى هدر الدم ، قال عليه‌السلام : «إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم ، فإذا بلغ الدم فليس

__________________

(١) راجع : الكافي : ٦ : ٤٠٧ / ٤ ، تهذيب الأحكام ٩ : ٣١ / ١٢١.

(٢) غوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

(٣) أعلام الدين في صفات المؤمنين : ٣١٤.

(٤) الكافي ٢ : ٢١٩ / ١٣.

٥٠

تقية» (١).

وفي هذا السياق كان يدفع الضرر عن طلابه تستّراً عليهم من عيون السلطة بموارد من التقية المباحة ، قال جابر الجعفي : «دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام ، فقال لي : من أين أنت؟ فقلت : من أهل الكوفة. قال : ممن؟ قلت : من جعف. قال : ما أقدمك إلى ها هنا؟ قلت : طلب العلم. قال : ممن؟ قلت : منك. قال : إذا سألك أحد من أين أنت ، فقل : من أهل المدينة. قلت : أيحل لي أن أكذب؟ قال : ليس هذا كذباً ، من كان في مدينة فهو من أهلها حتى يخرج» (٢). وكان ذلك حين بدأ عثمان بن حيان ، عامل الوليد بن عبد الملك ، يلقي القبض على من تمكّن من الشيعة الهاربين إلى المدينة طلباً للأمان ، فيعاقبهم ثم يبعثهم إلى الحجّاج في العراق لينكل بهم.

٨ ـ الدعوة إلى اللّه :

كان للإمام عليه‌السلام أثر فاعل في هداية كثير من الناس ، وإخراجهم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم وسواء السبيل ، من خلال التأثّر بسيرته الصالحة ، أو من خلال دعوته إلى اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وسجّلت لنا كتب الحديث والتاريخ بعض آثاره عليه‌السلام في دعوته إلى الإصلاح والإرشاد في أوساط الأُمّة المختلفة.

وكان من ثمار تلك الدعوة ، أن أحد بني أُميّة تأثّر بهديه ، وصار من خلص أصحابه ، وهو سعد بن عبد الملك ، وكان أبو جعفر عليه‌السلام يسمّيه سعد الخير ، وهو من ولد عبد العزيز بن مروان ، وكان يدخل على الإمام عليه‌السلام فينشج كما تنشج

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٧٤ / ١٦.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣١.

٥١

النساء ، فيقول له أبو جعفر عليه‌السلام : «ما يبكيك يا سعد؟ قال : وكيف لا أبكي وأنا من الشجرة الملعونة في القرآن! فيقول له الإمام عليه‌السلام : لست منهم ، أنت أموي ، منّا أهل البيت ، أما سمعت قول اللّه عزّوجلّ يحكي عن إبراهيم عليه‌السلام : «فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي» (١)».

وصار محمد بن قيس البجلي من أصحابه الثقات ، وهو وجه من وجوه العرب بالكوفة ، وكان خصيصاً بعمر بن عبد العزيز ، ثم يزيد بن عبد الملك ، وكان أحدهما أنفذه إلى بلاد الروم في فداء المسلمين (٢).

ووردت الأخبار أن أحد النصارى ، وكان من البربر ، أسلم على يده عليه‌السلام بعد رؤية كراماته ، فقال الرجل : آمنت باللّه الذي لا إله إلاّ هو ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأنّك الإمام المفترض الطاعة (٣).

ويروى أنّ رجلاً من أهل الشام ، كان يسكن المدينة المنورة ، وكان يتردّد كثيراً على مجلس الإمام عليه‌السلام ، إعجاباً بفصاحته وحسن أدبه ، غير أنّه ناصبي مبغض لأهل البيت عليهم‌السلام ، مطيع لرجال الخلافة ، وكان أبو جعفر عليه‌السلام يقول له خيراً ، وحين مرض هذا الناصب واشتدّ وجعه حتّى سجّوه ، لم يلبث إلاّ قليلاً حتى عوفي بكرامة من الإمام عليه‌السلام ، فأتى أبا جعفر عليه‌السلام فقال : أشهد أنّك حجّة اللّه على خلقه ، وبابه الذي يُؤتى منه ، فمن أتى من غيرك خاب وخسر وضلّ ضلالاً بعيداً. فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : «أما علمت أن اللّه يحبّ العبد ويبغض عمله ،

__________________

(١) الاختصاص / المفيد : ٨٥ ، والآية من سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٦.

(٢) رجال النجاشي : ٣٢٢ ، الفهرست : ٢٠٦ ، خلاصة الأقوال : ٢٥٢.

(٣) الخرائج والجرائح ١ : ٢٧٧.

٥٢

ويبغض العبد ويحبّ عمله؟» فصار بعد ذلك من أصحاب أبي جعفر عليه‌السلام (١).

٩ ـ تنبيه الأُمّة :

وكان الإمام الباقر عليه‌السلام ينبّه الأُمّة على مواضع الخطر ، حرصاً منه على دماء الناس من عبث العابثين ، قال أبو بصير : «أطرق أبو جعفر عليه‌السلام إلى الأرض ينكت فيها ملياً ، ثمّ انّه رفع رأسه فقال : كيف أنتم يا قوم إذا جاءكم رجل فدخل عليكم مدينتكم هذه ، في أربعة آلاف رجل ، حتى يستعرضكم بسيفه ثلاثة أيام ، فيقتل مقاتليكم ، وتلقون منه بلاءً لا تقدرون أن تدفعوه بأيديكم ، وذلك يكون في قابل ، فخذوا حذركم ، واعلموا أنّه ما قلت لكم كائن لابدّ منه ، فلم يأخذ أحد حذره من أهل المدينة إلاّ بنو هاشم خاصة ، فلما كان من قابل حمل أبو جعفر عليه‌السلام عياله أجمعين وبنو هاشم فخرجوا من المدينة ، فكان كما قال عليه‌السلام ، فأُصيب أهل المدينة ، وقالوا : واللّه لا نرد على أبي جعفر شيئاً نسمعه أبداً».

وقال بعضهم : إنّما القوم أهل بيت النبوة ينطقون بالحق (٢).

١٠ ـ قضاء حقوق المسلمين :

لم يدع الإمام الباقر عليه‌السلام مناسبة دون أن يسعى إلى تلبية حاجات المسلمين ، ويعد ذلك من الحقوق عليه ، عن زرارة ، قال : «حضر أبو جعفر عليه‌السلام جنازة رجل من قريش وأنا معه ، وكان فيها عطاء بن أبي رباح ، فصرخت صارخة ، فقال عطاء : لتسكتن أو لنرجعن. قال : فلم تسكت ، فرجع عطاء ، قال : فقلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إن عطاء قد رجع. قال : ولِم؟ قلت : صرخت هذه

__________________

(١) الأمالي / الطوسي : ٤١٠ / ٩٢٣.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٢٥ ، دلائل الإمامة : ٢٢١ ، الصراط المستقيم ٢ : ١٨٢.

٥٣

الصارخة. فقال لها : لتسكتن أو لنرجعن ، فلم تسكت فرجع ، فقال : امضِ بنا ، فلو أنا إذا رأينا شيئاً من الباطل مع الحقّ تركنا له الحق ، لم نقضِ حق مسلم. قال : فلما صلّى على الجنازة قال وليها لأبي جعفر عليه‌السلام : ارجع مأجوراً رحمك اللّه ، فإنّك لا تقوى على المشي ، فأبى أن يرجع ، قال : فقلت له : قد أذن لك في الرجوع ولي حاجة أريد أن أسألك عنها ، فقال : امضِ فليس بإذنه جئنا ولا بإذنه نرجع ، إنّما هو فضل وأجر طلبناه ، فبقدر ما يتبع الجنازة الرجل يؤجر على ذلك» (١).

* * *

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٧١ / ٣.

٥٤

الفصل الثاني

الهوية الشخصية للإمام الباقر عليه السلام

نسبه :

هو الإمام المبجّل محمد باقر العلم بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد ابن علي المرتضى بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.

فأمّا نسبه أباً وأماً ، فأبوه سيد الساجدين وزين العابدين وراعي الفقراء والمساكين علي بن الحسين السجّاد عليه‌السلام ، الذي يقول فيه أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : كان يقال لعلي بن الحسين ابن الخيرتين ؛ فخيرة اللّه من العرب هاشم ، ومن العجم فارس.

وقال فيه أبو الأسود الدؤلي (١) :

وإنّ غُلاما بين كسرى وهاشمٍ

لأكرم من نيطت عليه التمائم (٢)

وأما أُمّه فهي السيدة الجليلة فاطمة بنت الحسن بن علي بن أبي طالب ، وتكنّى أُمّ الحسن ، وقيل : أُمّ عبد اللّه ، وقيل : أُمّ عبدة (٣).

__________________

(١) من التابعين ، توفّي سنة ٦٩ هـ.

(٢) الكافي ١ : ٤٦٧ / ١ ، مناقب آل أبي طالب ٤ : ١٦٧.

(٣) تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام / رواية كبار المحدثين والمؤرخين : ١٢٢ ، الطبقات الكبرى

٥٥

وهو ممن أمسك رداء المجد من أطرافه ، فهو أول علوي تولّد من علويين ، وأول فاطمي تولّد من فاطميين ، وأول من اجتمعت له ولادة الحسن والحسين عليهما‌السلام ، وتلك هي صهوة المجد ، وغاية السؤدد.

قال له جابر بن عبد اللّه الأنصاري : أنت ابن خير البرية ، وجدّك سيد شباب أهل الجنة ، وجدّتك سيدة نساء العالمين (١).

ولابدّ من التنويه هنا أنّ ابن كثير يعدّ الإمام الباقر بن علي الأكبر الشهيد في كربلاء وهماً منه ، قال ابن كثير : أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، كان أبوه علي زين العابدين ، وجدّه الحسين قتلا شهيدين بالعراق (٢). ومن المسلم أنّ عمه علي الأكبر هو الشهيد ، وليس أبوه الذي كان مريضاً ، وهو ينمّ عن جهل ابن كثير وأضرابه بتاريخهم.

أحوال أمّه وفضلها :

كانت فاطمة بنت الحسن عليه‌السلام صدّيقة طاهرة ذات جلالة ونجابة ، قال أبو الصباح : ذكر أبو عبد اللّه عليه‌السلام جدّته أُمّ أبيه يوماً فقال : كانت صدّيقة ، لم

__________________

٥ : ٢٤٦ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٠ ، الكافي ١ : ٤٦٩ ، إكمال الدين ١ : ٣٠٧ ، الإرشاد ٢ : ١٥٨ ، الهداية الكبرى : ٢٤٠ ، روضة الواعظين : ٢٠٧ ، دلائل الإمامة : ٢١٧ ، كشف الغمة ٢ : ٣٤٩ ، عمدة الطالب / ابن عنبة : ١٩٥ ، تاريخ مواليد الأئمة عليهم‌السلام / ابن الخشاب : ٢٨ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٩ ، تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٧٠ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٠١ ، تاج المواليد : ٣٩ ، إعلام الورى بأعلام الهدى ١ : ٤٩٧.

(١) كشف الغمة ٢ : ٣٣٢ عن الحافظ عبد العزيز الجنابذي ، تاج المواليد : ٤٠.

(٢) البداية والنهاية ٩ : ٣٣٩.

٥٦

يدرك في آل الحسن امرأة مثلها (١). ومن كراماتها ما روي عن ولدها أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، قال : «كانت أُمّي قاعدة عند جدار ، فتصدّع الجدار ، وسمعنا هدّة شديدة ، فقالت بيدها : لا وحقّ المصطفى ما أذن اللّه لك في السقوط ، فبقي معلقاً في الجو حتى جازته ، فتصدّق أبي عنها بمئة دينار» (٢).

ولادته عليه‌السلام :

قال أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليه‌السلام : «ولد الباقر عليه‌السلام بالمدينة ، يوم الجمعة ، غرّة رجب ، سنة سبع وخمسين من الهجرة ، قبل قتل الحسين عليه‌السلام بثلاث أو أربع سنين» ، وهذا التاريخ هو الذي يعوّل عليه أغلب العلماء والمؤرّخين وأصحاب التراجم والسير.

واختلفوا في تعيين اليوم والشهر والسنة على أقوال عدّة ، فقد تردّدت الأقوال بين الأول من رجب ، والثالث من صفر ، والثالث من ذي الحجّة ، واختلفوا في اليوم بين الاثنين والثلاثاء والجمعة ، واختلفوا في السنة على عدّة أقوال ، هي على التوالي سنة ٤١ و ٤٤ و ٥٧ و ٥٦ و ٥٨ و ٥٩ و ٦٠ من الهجرة (٣).

__________________

(١) الكافي ١ : ٤٦٩ ، الهداية الكبرى : ٢٤٠ ، دلائل الإمامة : ٢١٧ ، التتمة : ٩٤.

(٢) الكافي ١ : ٤٦٩ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٢٣ ، دلائل الإمامة : ٢١٨.

(٣) راجع : تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام : ٧٩ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٠ ، الكافي ١ : ٤٦٩ ، الإرشاد ٢ : ١٥٨ ، الهداية الكبرى : ٢٣٧ و ٢٤١ ، روضة الواعظين : ٢٠٧ ، كشف الغمّة ٢ : ٣٢٨ و ٣٤٧ و ٣٤٩ ، عمدة الطالب : ١٩٤ ، تاريخ مواليد الأئمة عليهم‌السلام : ٢٦ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٩ ، تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٧٠ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٠١ ، مصباح الكفعمي : ٥٢٢ ، تاريخ الخميس ٢ : ٣٥٦ ، الأئمة الاثنا عشر / ابن طولون : ٨١ ، تاريخ أبي الفداء ١ : ٢١٤ ، وفيات الأعيان ٢ : ٢٣ ، تذكرة

٥٧

على أنّه لم يصرّح أحد من المصادر التي رأيتها بأنّ ولادته كانت سنة ٤١ هـ ولا سنة ٤٤ هـ ، لكن ذكر ابن خلدون أنه توفّي سنة ١١٤ هـ وعمره ٧٣ سنة (١) ، وذلك يعني أنّ ولادته كانت سنة ٤١ هـ.

ونقل ابن سعد عن محمد بن عمر ، أنّه قال : أما في روايتنا فإنّه مات سنة ١١٧ هـ وهو ابن ٧٣ سنة ، وذلك يقتضي أن ولادته كانت سنة ٤٤ هـ (٢).

ويبدو أنّ أبا القاسم الكوفي قد بنى على هذا القول ، فذكر أنّ الإمام محمد الباقر عليه‌السلام كان يوم عاشوراء من أبناء خمس عشرة سنة (٣) ، وهو أمر مستبعد ، لأنّه يعني كونه ممن يقدر على حمل السلاح في ذلك اليوم العظيم في تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام ، ولو كان كذلك لما خفي مكانه ولا توانى في نصرة جدّه الحسين عليه‌السلام في تلك المعركة الفاصلة في تاريخ الإسلام.

وهكذا حال القول الذي يحّدد ولادته عليه‌السلام بسنة ٥٩ أو ٦٠ هـ ، فهو مستبعد لأنّه يقتضي أن يكون عمره يوم الطفّ نحو سنة أو أكثر بقليل ، وهو يعارض الروايات والأخبار التي حدّدت عمره آنذاك بنحو ثلاث أو أربع سنين (٤).

__________________

الحفاظ / الذهبي ١ : ١٢٤ ، شذرات الذهب ١ : ١٤٩ ، الوافي بالوفيات / الصفدي ٤ : ١٠٢ ، تهذيب التهذيب / ابن حجر ٩ : ٣٥١ ، تاريخ الأئمة عليهم‌السلام / ابن أبي الثلج ١ : ١٢ ، الفصول المهمة : ١٩٣ ، نور الأبصار : ١٩٣ ، إعلام الورى ١ : ٤٩٧ ، بحار الأنوار ٤٦ : ٢١٢ و ٢١٧ ، التتمّة : ٩٣ ، تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٤.

(١) تاريخ ابن خلدون ٤ : ٢١٧.

(٢) الطبقات الكبرى ٥ : ٢٤٨ ، كشف الغمة ٢ : ٣٣٣ عن الجنابذي.

(٣) الاستغاثة / أبو القاسم الكوفي : ٧١.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٠ ، وفيات الأعيان ٢ : ٢٣ ، مطالب السؤول / ابن طلحة :

٥٨

وفاته :

انتقل الإمام الباقر عليه‌السلام إلى رضوان بارئه بالحميمة من الشراة ، ثم نقل إلى بقيع المدينة يوم الاثنين ، السابع من ذي الحجّة ، في ملك هشام بن عبد الملك ، سنة ١١٤ هـ ، وعمره يومئذٍ سبع وخمسون سنة ، وهو المشهور عند غالبية المؤرّخين والمحدّثين (١) ، والموافق لما قرّر في المشهور من تاريخ ولادته وما قدّر من عمره. ودفن في بقيع الغرقد بالمدينة ، في القبر الذي فيه أبوه علي بن الحسين عليهما‌السلام ، وعمّ أبيه الحسن عليه‌السلام ، في القبّة التي فيها قبر العباس رضي‌الله‌عنه.

كنيته :

كنيته أبو جعفر ولا كنية له غيرها ، وهي مشتركة بينه وبين الإمام محمد الجواد عليه‌السلام ، ويقال في التخصيص بالباقر أبو جعفر الأول ، وللجواد أبو جعفر الثاني.

قال التفرشي : إذا ورد في الرواية عن أبي جعفر ، فالظاهر منه الباقر عليه‌السلام ، وعن أبي جعفر الثاني فهو الجواد عليه‌السلام ، وقد يطلق ويراد منه : الجواد ، فالتمييز يظهر من الرجال (٢).

__________________

٨٠ ، الفصول المهمة : ١٩٣ ، نور الأبصار : ١٩٣ ، إعلام الورى ١ : ٤٩٧ ، تاج المواليد : ٤٠ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٩.

(١) الكافي ١ : ٤٦٩ و ٤٧٢ ، الإرشاد ٢ : ١٥٨ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٩ ، روضة الواعظين : ٢٠٧ ، كشف الغمّة ٢ : ٣٤٧ ، مصباح الكفعمي : ٥٢٢ ، إعلام الورى ١ : ٤٩٧ ، التتمّة : ٩٦ ، إثبات الوصية : ١٥٣ ، بحار الأنوار ٤٦ : ٢١٧.

(٢) نقد الرجال / التفرشي ٥ : ٣١٦.

٥٩

ألقابه :

للإمام الباقر عليه‌السلام ألقاب عدّة تدلّ على عظمة شخصيته ، هي : الباقر ، أو باقر العلم ، والهادي ، والشاكر ، أو الشاكر للّه ، والأمين ، ويدعى الشبيه ، لأنّه كان يشبه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

معنى الباقر :

أشهر الألقاب التي عرف بها هي الباقر ، وهو مشتقّ من التبقّر ، والتبقّر لغة : يعني التوسّع والتفتّح ، ومنه يقال : بقر الأرض : شقّها ووسّعها ، وأجمع المترجمون له من لغويين ومؤرّخين ومحدّثين أنّه عليه‌السلام عرف بالباقر لأنّه بقر العلم ، أي شقّه وعرف أصله واستنبط فرعه ، وعلم خفيّه وتمكّن فيه.

وقال بعضهم : عرف بالباقر لتبقّره في العلم ، أي توسّعه فيه ، وتبحّره في دقائقه ، أو لأنّه بقر علوم النبيين (٢).

قال ابن حجر الهيتمي : أبو جعفر محمد الباقر ، سمّي بذلك من بقر الأرض ، أي شقّها وأثار مخبآتها ومكامنها ، فلذلك هو أظهر من مخبآت كنوز

__________________

(١) تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام : ١٣١ ، دلائل الإمامة : ٢١٦ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٩ ، الهداية الكبرى : ٢٣٧ ، كشف الغمّة ٢ : ١١٧ ، الفصول المهمة : ٢١١ ، نور الأبصار : ١٩٢ ، مطالب السؤول : ٨٠ ، تاريخ مواليد الأئمّة عليهم‌السلام / ابن الخشاب : ٢٨ ، التتمّة في تاريخ الأئمّة عليهم‌السلام : ٩٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٠ ، معاني الأخبار : ٢٨٠ ، شرح صحيح مسلم / النووي ١ : ١٠٢ ، دلائل الإمامة : ٢١٦ ، مرآة الجنان / اليافعي ١ : ٢٤٧ ، وفيات الأعيان ٢ : ٢٣ ، لسان العرب ٤ : ٧٤ ، مفردات القرآن / الراغب : ٥٦ ، البداية والنهاية ٩ : ٣٣٩ ، كشف الغمّة ٢ : ٣٩٢ و ٣٩٤ ، تذكرة الحفّاظ ١ : ١٢٤ ، نور الأبصار : ١٩٢ ، إسعاف الراغبين : ٢٥٣.

٦٠