الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-51-5
الصفحات: ٣١١

إسرائيلية ، وأقوال المغرضين والجهال من أهل الهوى وغيرهم.

قال الباقر عليه‌السلام لجابر الجعفي : «ما يقول فقهاء العراق في قوله تعالى : «لَوْلاَ أَنْ رَءَا بُرْهَانَ رَبِّهِ» (١)؟ قال : رأى يعقوب عاضاً على إبهامه. فقال : لا ، حدثني أبي عن جدي علي بن أبي طالب عليهما‌السلام أن البرهان الذي رآه أنها حين همت به وهم بها ، قامت إلى صنم لها مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض خشية أن يراها ، أو استحياء منه. فقال لها يوسف عليه‌السلام : ما هذا؟ فقالت : الهي أستحي منه أن يراني على هذه الصورة. فقال يوسف عليه‌السلام : تستحين من صنم لا ينفع ولا يضر ، ولا يسمع ولا يبصر ، أفلا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت؟ ثم قال : واللّه لا تنالين مني أبداً ، فهو البرهان» (٢).

وعن محمد بن عطية ، قال : «جاء رجل إلى أبي جعفر عليه‌السلام من أهل الشام من علمائهم ، فقال له : يا أبا جعفر ، قول اللّه تعالى : «أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا» (٣)؟ فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : فلعلك تزعم أنهما كانتا رتقاً ملتزقتين ملتصقتين ففتقت احداهما من الأخرى؟ فقال : نعم. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : استغفر ربك ، فإنّ قول اللّه عزوجل : «كَانَتَا رَتْقاً»يقول : كانت السماء رتقاً لا تنزل المطر ، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت الحبّ ، فلمّا خلق اللّه تبارك وتعالى الخلق وبثّ فيها من كلّ دابة ، فتق السماء بالمطر ، والأرض بنبات الحبّ. فقال الشامي : أشهد أنك من ولد الأنبياء ، وأنّ علمك

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٢٤.

(٢) البداية والنهاية ٩ : ٣٤٠.

(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٠.

٢٤١

علمهم» (١).

وسأله الأبرش الكلبي عن قول اللّه عزوجل : «وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ» (٢). فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «ما قيل لك؟ فقال : قالوا : الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : ليس كما قيل لك ، الشاهد يوم عرفة ، والمشهود يوم القيامة ، أما تقرأ القرآن؟ قال اللّه عزوجل : «ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» (٣).

٣ ـ دوره في علوم الحديث :

يشكل الحديث أولى الاهتمامات العلمية للإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام ، فربى جيلاً من حملة الحديث الثقات ، وحمّلهم حديث جده وآبائه المعصومين عليهم‌السلام ، كي يحفظونه من الضياع والتحريف ، منهم بريد بن معاوية العجلي ، وأبو بصير بن ليث البختري ، وجابر الجعفي ، ومحمد بن مسلم ، وزرارة بن أعين وغيرهم ، ذلك لكون الحديث ثاني ركائز التشريع ومنابع الفكر الديني بعد كتاب اللّه تعالى ، من هنا يمكن أن نتلمس دور الإمام عليه‌السلام في هذا الاتجاه بما يلي :

رواية الحديث ودرايته :

هناك جملة قواعد في رواية الحديث أكد عليها الإمام الباقر عليه‌السلام في حديثه ، وهي تحكي مدى عنايته بثاني أثافي التشريع الإسلامي ، وأضحت

__________________

(١) الكافي ٨ : ٩٥ / ٦٧.

(٢) سورة البروج : ٨٥ / ٣.

(٣) معاني الأخبار : ٢٩٩ / ٥ ، والآية من سورة هود : ١١ / ١٠٣.

٢٤٢

بعض تلك القواعد فيما بعد من جملة القواعد التي تبحث في أصول الفقه الذي وضع الإمام الباقر عليه‌السلام حجره الأساس.

ومن تلك القواعد الوقوف عند الشبهات ، حيث يلتبس وجه الحق بالباطل ، سيما في مجال العقيدة والمسؤلية الشرعية ، عن أبي سعيد الزهري ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وتركك حديثاً لم تروه خير من روايتك حديثاً لم تحصه» (١).

فإذا كان ثمة حالة يشتبه فيها الأمر عليك ، فلا تملك وضوحا في معرفة الخير والشر ، أو الصلاح والفساد ، أو الحق والباطل ، فإن عليك أن تقف لتبحث وتسأل وتتثبت ، حتى تعرف الحقيقة التي تضيء لك الموقف كله ، أما اذا ألقيت نفسك في الشبهة ، وأصدرت الأحكام بلا رويّة ، فقد تنتظرك الهلكة التي قد تقع فيها وأنت لا تعلم.

واذا أردت أن تنقل حديثا ، فان عليك أن تعرفه ، وأن تحفظ عناصره كلها ، متناً وسنداً من غير تبديل وتغيير مخل بالمعنى المقصود ، لتكون دقيقا في نقله ، وواعيا لمفاهيمه وعناصره ، لا أن تنقله كيفما اتفق ، بل إن ترك رواية حديث لم تنقله بعناصره المذكورة خير من روايتك إيّاه ، لأنك إن رويته هلكت وأهلكت الناس المتابعين لك فيما ليس لك به علم ، وإن تركت روايته سلمت وسلم الناس من الوقوع في الضلال.

وعلى نفس المنوال اهتم الإمام الباقر عليه‌السلام بضرورة إدراك الحديث والوقوف على مضامينه ، وجعل ذلك ميزاناً للتفاضل بين الرواة ، ودليلاً على سمو منزلتهم العلمية.

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٠ / ٩ ، المحاسن ١ : ٢١٥.

٢٤٣

روى الشيخ الصدوق عن بريد الرزاز ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام ، قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام : يا بني ، أعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم ، فإن المعرفة هي الدراية للرواية ، وبالدرايات للروايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الإيمان ، إني نظرت في كتاب لعلي عليه‌السلام فوجدت في الكتاب : أن قيمة كل امرء وقدره معرفته ، إن اللّه تبارك وتعالى يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من العقول في دار الدنيا» (١).

كما أكد على تحري الدقة في الرواية ، وأن تكون عن الثقات الصادقين ، قال الباقر عليه‌السلام : «يا جابر ، واللّه لحديث تصيبه من صادق في حلال وحرام ، خير لك مما طلعت عليه الشمس حتى تغرب» (٢).

وقد صنف أحد أصحاب الإمام الباقر عليه‌السلام كتاباً بعنوان (من الأصول في الرواية على مذاهب الشيعة) ذكره ابن النديم في الفهرست (٣) ، وهو يعكس مدى اهتمام الإمام عليه‌السلام وأصحابه بمبادئ الرواية والدراية.

عرض الحديث وتدوينه :

أكد الإمام الباقر عليه‌السلام ضرورة عرض وقراءة الكتب على مشيخة الحديث ، وعدّ ذلك بمثابة السماع منهم ، عن داود بن عطاء المديني ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه عليهما‌السلام ، قال : «عرض الكتاب والحديث سواء» (٤).

وعلى ضوء ذلك بادر بعض الأصحاب إلى عرض كتبهم على الإمام عليه‌السلام

__________________

(١) معاني الأخبار : ١.

(٢) الكافي ١ : ٧.

(٣) الفهرست : ٢٧٦.

(٤) سنن الدارمي ١ : ١٥٢ ، الكفاية في علم الرواية / الخطيب : ٣٠١.

٢٤٤

بهدف توثيقها وتصحيحها ، قال الشيخ الطوسي في ترجمة عبيد بن محمد بن قيس البجلي : «له كتاب ، يرويه عن أبيه ... وقال أبوه : عرضنا هذا الكتاب على أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما‌السلام ، فقال : هذا قول أمير المؤمنين عليه‌السلام ، انّه كان يقول إذا صلّى قال في أول الصلاة ... وذكر الكتاب» (١).

إلى جانب ذلك كان الإمام الباقر عليه‌السلام يدعو أصحابه إلى ضرورة تدوين الحديث ووجوب كتابته ، وحفظه كما يحفظ الذهب والفضة ، كي لا يتعرض بتمادي الأيام إلى الضياع والنسيان ، عن جابر الجعفي ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : «أقيد الحديث إذا سمعت؟ قال : إذا سمعت حديثاً من فقيه خير ممّا في الأرض من ذهب وفضة» (٢). وقد حدث ذلك في وقت كان يعدّ خرقاً للحظر الذي فرضه الخلفاء على تدوين الحديث وروايته.

ومارس الإمام الباقر عليه‌السلام الكتابة بنفسه ، فقد ورد في أول الصحيفة السجادية أن السجاد عليه‌السلام أملاها على ولده الإمام الباقر عليه‌السلام وزيد الشهيد ، وكتباه بخطهما (٣).

ومارس الإمام عليه‌السلام الكتابة للسنة ، قال عبد اللّه بن محمّد بن عقيل بن أبي طالب : كنت أختلف إلى جابر بن عبد اللّه ، أنا ، وأبو جعفر ، معنا ألواح نكتب فيها. وقال فنسأله عن سنن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن صلاته ، فنكتب عنه» (٤).

__________________

(١) الفهرست : ١٧٦.

(٢) أدب الاملاء والاستملاء / السمعاني : ٦٧.

(٣) الذريعة ١ : ٣٩٦.

(٤) تقييد العلم / للخطيب البغدادي : ١٠٤ ، المحدث الفاصل / الرامهرمزي : ٣٧٠ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٠٣ ، تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٧٧.

٢٤٥

ممارسة التصحيح :

وضع الإمام الباقر عليه‌السلام يده على الاختلاق الذي مارسه الحكام في ساحة الحديث الشريف ، منبهاً إلى أن كثيراً من أحاديث الفضائل التي رويت في السلف من الولاة موضوع ، وإن كانت قد رويت عن الثقات بتقادم الأيام ، وهم يعتقدون صحتها ، قال عليه‌السلام لبعض أصحابه وهو يذكر ما لقوا من ظلم قريش : «حتى صار الرجل الذي يُذكر بالخير ، ولعله يكون ورعا صدوقا ، يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض مَن قد سلف من الولاة ، ولم يخلق اللّه تعالى شيئا منها ، ولا كانت وقعت ، وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من رواها ممّن لم يُعرف بالكذب ولابقلة ورع» (١).

ومارس الإمام التصحيح لبعض السنن المنقولة على غير وجهها عن المعصومين ، ومنه ما رواه زرارة ، قال : «كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام وعنده رجل من الأنصار ، فمرت به جنازة ، فقام الأنصاري ولم يقم أبو جعفر عليه‌السلام ، فقعدت معه ، ولم يزل الأنصاري قائماً حتى مضوا بها ، ثم جلس ، فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : ما أقامك؟ قال : رأيت الحسين بن علي عليهما‌السلام يفعل ذلك. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : واللّه ما فعله الحسين عليه‌السلام ، ولا قام لها أحد منا أهل البيت قط. فقال الأنصاري : شككتني أصلحك اللّه ، قد كنت أظن أني رأيت» (٢).

عناية الإمام عليه‌السلام بالحديث :

خلّف الإمام الباقر عليه‌السلام تراثاً حديثياً هائلاً يستوعب مختلف مجالات الأحكام والشرائع والتفسير وآداب السلوك والأخلاق ، وشتى فروع المعرفة ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ١١ : ٤٣.

(٢) الكافي ٣ : ١٩١ / ١ ، تهذيب الأحكام ١ : ٤٥٦ / ١٤٨٦.

٢٤٦

وقد وصل الينا مدوّناً في موسوعات الفقه والحديث ، التي اعتمدت الأصول الأربعمائة المروية عن الإمام الباقر وولده الصادق عليهما‌السلام ، كما نسبت إليه عدّة كتب ورسائل ومسائل في أبواب الفقه المختلفة ذكرناها آنفاً.

من هنا كان الإمام الباقر عليه‌السلام معدوداً في كتب الرجال السنية من صفوة التابعين ، ومن رؤوس المحدثين المكثرين الصادقين فيما يروون (١).

وأخرج أصحاب المسانيد والسنن التسعة نحو تسعة وثلاثين حديثاً عن الإمام الباقر عليه‌السلام ، وهو بلا ريب ظلم بحق باقر العلم عليه‌السلام فرضته مواقف السياسة وقت تدوين تلك المسانيد والسنن.

ولعل ذلك دفع الذهبي إلى القول في ترجمة الإمام الباقر عليه‌السلام : وليس هو بالمكثر ، هو في الرواية كأبيه وابنه جعفر ، ثلاثتهم لا يبلغ حديث كل واحد منهم جزءاً ضخماً ، ولكن لهم مسائل وفتاو (٢).

والحق كان الإمام عليه‌السلام كثير الحديث كما وصفه ابن سعد (٣) ، ولو اطلع الذهبي على تراث الإمام الباقر عليه‌السلام في غير المسانيد لوجد الكثير ، سيما في مصادر التفسير والسيرة والتاريخ وشتى فروع المعرفة.

من جانب آخر أن أصحاب المسانيد تجافوا حديثه وحديث أبيه وولده الصادق عليهم‌السلام وكل من ينتمي إلى شجرة النبوة ، تزلفاً أو خوفاً من الحكام الذين شددوا من ممارساتهم التعسفية القائمة على الإرهاب الفكري والتعتيم وكم

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٥ : ٣٤٦ ، تاريخ الثقات / العجلي بترتيب الحافظ نور الدين الهيثمي : ٤١٠ ، تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٧٩ ، البداية والنهاية ٩ : ٣٣٨.

(٢) سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٠١.

(٣) الطبقات الكبرى ٥ : ٣٤٦.

٢٤٧

الأفواه ، وفرضوا حظراً على أهل هذا البيت حسداً لمكانتهم السامية.

وكمثال على ما نقول أنهم أعرضوا عن الحديث الذي رواه جابر الجعفي عن الإمام الباقر عليه‌السلام وتركوه ، لا لشيء إلاّ لأنّه يقول : حدثني وصي الأوصياء ، يريد بذلك الإمام الباقر عليه‌السلام ، مع أن الذهبي يصف جابراً بأنه أحد أوعية العلم (١).

جاء في مقدمة صحيح مسلم عن الجراح بن مليح ، قال : سمعت جابرا يقول : عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر الباقر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تركوها كلّها (٢). فاذا كان هذا الكم الهائل من الحديث ، هو لراوٍ واحد من أصحاب الإمام عليه‌السلام ، فكيف حال مجموع الرواة ، بل وكيف يمكن الإحاطة بعلم الإمام عليه‌السلام ، فضلاً عن التجرؤ عليه وهو باقر العلم ، ووضعه مع أبيه وولده عليهم‌السلام في خانة قليلي العلم؟ وأي ذنبٍ لباقر العلم عليه‌السلام حتى يسقط حديثه؟! إن الجواب نلتمسه منه عليه‌السلام حيث يقول : «بلية الناس علينا عظيمة ، إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا ، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا» (٣).

ولو استثنينا جابر الجعفي ، فإن الوارد عن بعض أصحابه الثقات أنهم سمعوا منه كماً هائلاً من الحديث ، فهذا محمد بن مسلم يقول : «ما شجر في رأيي شيء إلاّ سألت عنه أبا جعفر عليه‌السلام حتى سألته عن ثلاثين ألف حديث ، وسألت أبا عبد اللّه الصادق عن ستة عشر ألف حديث» (٤).

__________________

(١) تاريخ الإسلام / الذهبي وفيات سنة ١٢١ ـ ١٤٠ هـ : ٥٩.

(٢) صحيح مسلم ـ المقدمة : ٢٥ ، ميزان الاعتدال ١ : ٣٨٣.

(٣) الارشاد ٢ : ١٦٧ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٦ ، الاحتجاج : ٢ : ٦٨.

(٤) رجال الكشي ١ : ٣٨٦ / ٢٧٦ ، الاختصاص : ٢٠١.

٢٤٨

وعن أبي عبد اللّه عليه‌السلام : «إن أبان بن تغلب روى عني ثلاثين ألف حديث ، فاروها عنه» (١).

وفي رجال ابن داود في ذكر جماعة ضبطت روايتهم بالعدد ، قال يعقوب ابن شعيب : روى عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام خمسة آلاف حديث (٢).

ومما يدل على سعة علوم الإمام الباقر عليه‌السلام وعمقها ، أنه مع الكم الهائل المروي عنه من علوم أهل البيت ، كان يقول : «لو كان لألسنتكم أوكية لحدثت كلّ امرئ بما له وعليه» (٣).

ويقول عليه‌السلام : « لو وجدت لعلمي الذي آتاني اللّه عز وجل حملة لنشرت التوحيد والإسلام والإيمان والدين والشرائع من الصمد ، وكيف لي بذلك ولم يجد جدي أمير المؤمنين عليه‌السلام حملة لعلمه حتى كان يتنفس الصعداء ويقول على المنبر : سلوني قبل أن تفقدوني ، فإن بين الجوانح مني علماً جماً ... » (٤).

فأين الذهبي عن كل هذا؟! انه التعصب الذي يعمي ويصم؟!

قال الشاعر في الباقر عليه‌السلام :

وأشرقت به سماء المعرفه

مذ أصبحت وشمسها منكسفه

بل استنار عالم الأنوار

بنوره الخاطف للأبصار

علومه الغر مصابيح الهدى

بنور علمه اهتدى من اهتدى

علومه أثماره الزكيه

من دوحة العلم المحمديه

__________________

(١) رجال النجاشي : ١١.

(٢) رجال ابن داود : ٢١٢.

(٣) أصول الكافي ١ : ٢٦٤ / ١.

(٤) التوحيد : ٩٢.

٢٤٩

جوهر علمه من الكنز الخفي

فياله من شرف في شرف (١)

٤ ـ دوره في علم الفقه والتشريع :

كان للإمام الباقر عليه‌السلام دور كبير في نشر الفقه ، وأعاد له نضارته ، وحافظ على أصوله من الضياع ، في وقت درج فيه الناس على إهمال شؤون الدين ، والجهل بمسائل الحلال والحرام.

قال ابن أبي الحديد : كان محمد بن علي بن الحسين سيد فقهاء الحجاز ، ومنه ومن ابنه جعفر تعلم الناس الفقه (٢).

وقال الشيخ المفيد : آثر عنه الناس السنن ، واعتمدوا عليه في مناسك الحج التي رواها عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

وعدّ باقر العلم عليه‌السلام من قبل أعلام أهل السنة كالنسائي وغيره في فقهاء التابعين من أهل المدينة (٤) ، واتفق الحفاظ على الاحتجاج بأبي جعفر عليه‌السلام (٥).

أما انجازاته على هذا الصعيد ، فيمكن بلورتها من خلال النقاط التالية :

أولاً : ترك الإمام عليه‌السلام تراثاً ضخماً يغطي معظم أبواب الفقه والتشريع ، حفلت بها موسوعات فقه وحديث الإمامية ، وكانت ولا تزال رافداً ومعيناً للفقهاء.

ثانياً : كان في حلقة درسه في بيته وفي مسجد مكة والمدينة ، سيما في موسم

__________________

(١) الأنوار القدسية : ٧٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٥ : ٢٧٧.

(٣) الإرشاد ٢ : ١٦٣.

(٤) تذكرة الحفّاظ / الذهبي ١ : ١٢٤ ، طبقات الحفّاظ / السيوطي : ٥٦.

(٥) سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٠٣.

٢٥٠

الحج ، بمثابة مدرسة سيارة في افتاء الناس وحلّ المسائل المعضلة ، وكان ضمن الوافدين إليه الذين سألوه عن مسائل في الحلال والحرام ، فأجابهم : نافع بن الأزرق (١) ، والحكم بن عتيبة (٢) ، والحسن الزيات (٣) ، وقتادة بن دعامة السدوسي ، ووفد من أهل خراسان (٤) ، ووفد من أهل فلسطين (٥).

وكان يجلس حوله عالم من الناس ، فلم يبرح مكانه حتى يفتي في ألف مسألة ، وهو في الساعة الأخيرة من يومه. قالت حبابة الوالبية : رأيته بمكة أصيلاً (٦) في الملتزم ، أو بين الباب والحجر ، على صعدة من الأرض ، وقد حزم وسطه على المئرز بعمامة خز ، والغزالة (٧) تخال على قلل الجبال كالعمائم على قمم الرجال ، وقد صاعد كفه وطرفه نحو السماء ويدعو ، فلما انثال الناس عليه يستفتونه عن المعضلات ، ويستفتحون أبواب المشكلات ، فلم يرم (٨) حتى أفتاهم في ألف مسألة ، ثم نهض يريد رحله (٩).

ثالثاً : هناك جملة من الإرشادات في مجال الفقه والتشريع ، وردت في حديث الإمام عليه‌السلام ، منها أن على الفقيه أن يعتمد الكتاب والسنة فيما يصدر من

__________________

(١) الكافي ٨ : ١٢٠ / ٩٣ ، الإرشاد ٢ : ١٦٤ ، روضة الواعظين / الفتال : ٢٠٤.

(٢) الكافي ٦ : ٤٤٦ / ١.

(٣) الكافي ٦ : ٤٧٧ / ٥.

(٤) الكافي ٦ : ٢٥٦.

(٥) التوحيد / الصدوق : ٩٢ ، معاني الأخبار / الصدوق : ٧.

(٦) أي وقت الأصيل.

(٧) أي الشمس.

(٨) أي لم يبرح مكانه.

(٩) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣١٧ ، بحار الأنوار ٤٦ : ٢٥٩ / ٦٠.

٢٥١

أحكام ، ولا يعتمد رأيه واستحسانه. عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : «يرد علينا أشياء لا نجدها في الكتاب والسنة ، فنقول فيها برأينا؟ فقال : أما إنّك إن أصبت لم تؤجر ، وإن أخطأت كذبت على اللّه» (١).

ونهى الفقهاء عن الفتوى بغير علم ، لأنها سبب للضلال والانحراف ، من هنا يستحق فاعلها لعنة الملائكة ، قال عليه‌السلام : «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى ، لعنته ملائكة الرحمن وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه» (٢).

وتحدث عن الصفات الواجب توافرها في الفقيه ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ألا أخبركم بالفقيه حقاً؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين ، قال : من لم يقنط الناس من رحمة اللّه ، ولم يؤمنهم من عذاب اللّه ، ولم يرخص لهم في معاصي اللّه ، ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره» (٣).

وعن أبان بن تغلب ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، أنه سئل عن مسألة فأجاب فيها ، قال : فقال الرجل : «إنّ الفقهاء لا يقولون هذا ، فقال : يا ويحك ، وهل رأيت فقيهاً قط؟! إنّ الفقيه حقّ الفقيه ؛ الزاهد في الدنيا ، الراغب في الآخرة ، المتمسّك بسنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٤).

__________________

(١) المحاسن ١ : ٢١٥ / ٩٩.

(٢) المحاسن ١ : ٢٠٥ / ٦٠ ، الكافي ١ : ٤٢ / ٣.

(٣) معاني الأخبار : ٢٢٦ / ١.

(٤) الكافي ١ : ٧٠ / ٨.

٢٥٢

رابعاً : على أساس هذا الاتجاه من الوعي والمعرفة ، وعلى ضوء هذه الإرشادات ، ربّى جيلاً من الفقهاء الرواة ، وتخرج على يده جمهرة كبيرة من مراجع الفتيا ، ممن أجمعت الطائفة على تصديقهم ، وكونهم أفقه الأولين ، أمثال زرارة ومعروف بن خربوذ وبريد بن معاوية وأبي بصير الأسدي والفضيل بن يسار ومحمد بن مسلم الطائفي وأبان بن تغلب ، وغير هؤلاء كثير.

وكان الإمام عليه‌السلام يخلق فيهم حوافز الاهتمام بالفقه والاجتهاد به وإفادة الناس منه ، عن طريق ممارسة التوثيق للنابهين منهم ، على مستوى الشهادة له بالفقاهة وجواز الإفتاء ، ومن ذلك قوله عليه‌السلام لأبان بن تغلب : «اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس ، فإني أُحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك» (١).

وكان التنوع صفة بارزة في مدرسته الفقهية على ما قدمنا ، فكان يقصده العلماء من كل البلاد الإسلامية ، وفيهم من أئمة الفقه والحديث كثيرون ، فأخذ منه ومن ولده الصادق عليهما‌السلام ، أعلام الأُمّة آنذاك كأبي حنيفة ومالك وسفيان الثوري وأبي اسحاق السبيعي والأوزاعي وحجاج بن أرطاة وحفص بن غياث والحكم بن عتيبة وربيعة الرأي والزهري وعبد الملك بن جريج وعطاء بن أبي رباح ووكيع وغيرهم.

خامساً : حثّ شيعته سيما شبابهم على التفقه في الدين ، قال عليه‌السلام : «تفقهوا في الحلال والحرام ، وإلاّ فأنتم أعراب» (٢). وقال عليه‌السلام : «لو أتيت بشاب من

__________________

(١) رجال النجاشي : ١١ ، الفهرست / الشيخ الطوسي : ٥٧ ، خلاصة الأقوال : ٧٣ ، الذريعة ٢ : ١٣٥.

(٢) المحاسن ١ : ٢٢٧ / ١٥٨.

٢٥٣

شباب الشيعة لا يتفقه في الدين لأوجعته» (٢).

سادساً : رجع الفقهاء إلى رأيه في المسائل الغامضة من أحكام الشريعة ، منهم أبو أسحاق السبيعي ، في مسألة المسح على الخفين (٣) ، وعبد اللّه بن عمر حين سأله رجل عن مسألة ، فلم يدر بما يجيبه ، فأرسله إلى الباقر عليه‌السلام (٤).

وروي أنه جاءت امرأة إلى محمد بن مسلم الثقفي فقالت : «لي بنت عروس ضربها الطلق ، فما زالت تطلق حتى ماتت ، والولد يتحرك في بطنها ، ويذهب ويجيء ، فما أصنع؟ فقال : يا أَمَة اللّه ، سئل الباقر عليه‌السلام عن مثل ذلك فقال : يشق بطن الميت ويستخرج الولد ، أفعلي مثل ذلك يا أَمة اللّه ، أنا في ستر ، من وجّهك إليّ؟ قالت : سألت أبا حنيفة فقال : عليك بالثقفي ، فإذا افتاك فأعلمينيه» (٥).

وروي عن ابن أبي ليلى أنه قدّم إليه رجل خصماً له ، فقال : «إنّ هذا باعني هذه الجارية فلم أجد على ركبها حين كشفتها شعراً ، وزعمت أنه لم يكن لها قط.

قال : فقال له ابن أبي ليلى : إن الناس ليحتالون لهذا بالحيل حتى يذهبوا به ، فما الذي كرهت؟ قال : أيها القاضي ، إن كان عيباً فاقضِ لي به. قال : حتى أخرج إليك ، فإنّي أجد أذىً في بطني. ثم دخل وخرج من باب آخر ، فأتى محمد ابن مسلم الثقفي ، فقال له : أي شيء تروون عن أبي جعفر في المرأة لا يكون على

__________________

(٢) المحاسن ١ : ٢٢٨ / ١٦١.

(٣) روضة الواعظين : ٢٠٢ ، شرح الأخبار ٣ : ٢٨١.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٢٩ ، الايضاح / النيسابوري : ٤٥٨.

(٥) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣١.

٢٥٤

ركبها شعر ، أيكون ذلك عيباً؟ فقال له محمد بن مسلم : أما هذا نصاً فلا أعرفه ، ولكن حدثني أبو جعفر ، عن أبيه ، عن آبائه عليهم‌السلام ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : كل ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب. فقال له ابن أبي ليلى : حسبك ، ثم رجع إلى القوم ، فقضى لهم بالعيب» (١). وهنا استفاد محمد بن مسلم من هذا الحديث كقاعدة فقهية عينت موضوع الحكم.

قال الشاعر :

ناشر آثار النبي الهادي

بالعلم والحكمة والارشاد

به استبانت لأولي الأفهام

معالم الحلال والحرام

به صفت شريعة المختار

عن كدر الأهواء والأفكار

كأنها الكوثر في الصفاء

طاب ورودها لطيب الماء

به نمت وأورقت أشجارها

به زكت وأينعت أثمارها

به تدلّت لذوى المعالي

أغصانها في غاية الكمال (٢)

٥ ـ دوره في علم الأصول :

إنّ الحاجة إلى هذا العلم تكمن في ابتلاء المكلفين بمسائل قد لا تكون هناك أخبار خاصة تجيب عنها ، لبعد الشقة عن الإمام أو لغيبته ، من هنا تصبح قواعد وأصول الفقه المعين الذي يتكفل بتعيين الحكم الذي يحدد وظيفة المكلف العملية وتعين له حكم موضوعه ، وعليه لايمكن أن يحصل المجتهد على ملكة الاجتهاد واستنباط الأحكام حتى يطلع على بحوث هذا العلم ، وكان الإمام الباقر عليه‌السلام الرائد الأول في هذا العلم.

__________________

(١) الكافي ٥ : ٢١٥ / ١٢.

(٢) الأنوار القدسية : ٧٤.

٢٥٥

يقول السيد حسن الصدر عن علم الأصول : ان أول من فتح بابه وفتق مسائله ، هو باقر العلوم الإمام أبو جعفر الباقر ، وبعده ابنه أبو عبد اللّه الصادق عليهما‌السلام ، وقد أمليا فيه على جماعة من تلامذتهما قواعده ومسائله ، جمعوا من ذلك مسائل رتبها المتأخرون على ترتيب مباحثه ، ككتاب أصول آل الرسول ، وكتاب الفصول المهمة في أصول الأئمة ، وكتاب الأصول الأصلية ، كلها بروايات الثقات مسندة متصلة الاسناد إلى أهل البيت عليهم‌السلام. وأول من أفرد بعض مباحثه بالتصنيف هشام بن الحكم شيخ المتكلمين تلميذ أبي عبد اللّه الصادق عليه‌السلام ، صنف كتاب الألفاظ ... (١).

وحفلت كتب الحديث بالأخبار التي أضحت دليلاً على قواعد الأصول ، كقاعدة الاستصحاب ، والترجيح عند تعارض الأخبار ، والتعادل ، والتجاوز ، والفراغ ، والبراءة الشرعية وغيرها ، وانتقد الإمام الباقر عليه‌السلام بعض المباني الأصولية التي اعتمدها بعض أئمة الفقه كمسألة القياس والاستحسان كما قدمنا.

وإنّما أدلى الإمام عليه‌السلام بتلك القواعد إلى طلاّبه ، كي يخلق فيهم القدرة العلمية على الاستقراء والاستنتاج ، فيزود من يراه أهلاً بالمزيد ويأمره بالتفريع على القاعدة ، والتطبيق على مواردها.

ومن أمثلة تلك الأصول والقواعد العامة ، قاعدة الترجيح التي تعين على التمييز بين الصحيح وغيره في حال تعارض الأخبار ، وذلك بالردّ إلى كتاب اللّه وسنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يؤخذ إلاّ بما وافق كتاب اللّه أو سنّة رسول اللّه ، لقول أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما‌السلام : «لا تصدق علينا إلاّ ما وافق كتاب اللّه وسنّة

__________________

(١) الشيعة وفنون الإسلام : ٩٥.

٢٥٦

نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله » (١).

ومن قواعد الترجيح الأخرى الأخذ بالمشهور ، والنظر إلى حال الراوي من حيث الوثاقة والعدالة ، لرواية زرارة بن أعين قال : «سألت الباقر عليه‌السلام فقلت : جعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ فقال : يا زرارة ، خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذ النادر. فقلت : يا سيدي ، إنّهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم؟ فقال عليه‌السلام : خذ بقول أعدلهما عندك ، وأوثقهما في نفسك» (٢).

ومنها ما يصطلح عليه قاعدة الفراغ ، وهي الحكم بصحة الفعل فيما لو شك في صحته بعد الفراغ منه ، لحديث محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «كلّما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو» (٣). ولقوله عليه‌السلام : «كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمضِ عليه» (٤).

ومنها قاعدة الاستصحاب ، كما في صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك أبداً ، وإنّما تنقضه بيقين آخر» (٥).

٦ ـ دوره في علوم اللغة والأدب :

أصحابه الأدباء :

كان لأصحاب الإمام الباقر عليه‌السلام دور ملحوظ في علوم اللغة وقواعدها

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٩ / ٦.

(٢) غوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

(٣) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٤٤ / ١٤٢٦.

(٤) الاستبصار ١ : ٣٥٨ / ١٣٥٩.

(٥) التهذيب ١ : ٨ / ١١.

٢٥٧

والأدب ورواية الشعر ، منهم أبو جعفر محمد بن الحسن بن أبي سارة الرواسي ، أُستاذ الكسائي والفرّاء ، وإمام الكوفيين في النحو ، وأقدمهم بالتصنيف فيه ، فقد صنف كتاب الوقف والابتداء ، وكتاب الهمز ، وكتاب إعراب القران (١).

ومن أعلام الأدب واللغة والنحو أبان بن تغلب ، والأديب وراوية الشعر ابراهيم بن أبي البلاد ، والشاعر الأديب زرارة بن أعين ، وذكر ابن النديم أن زرارة كان نحوياً (٢) ، والنحوي المشهور معاذ بن مسلم بن أبي سارة النحوي.

ومن أعلام الأدب : الشاعر الحجازي سديف بن مهران بن ميمون المكي ، ومالك بن أعين الجهني ، والكميت بن زيد الأسدي ، والورد أخوه ، والشاعر عبد اللّه بن غالب الأسدي ، وكثير عزّة ، وأبو هريرة العجلي.

الشعر المنسوب إليه عليه‌السلام :

لم يكن الإمام الباقر عليه‌السلام يعنى بنظم الشعر ، رغم أن قول الشعر لم يكن بعزيز على من أوتي الحكمة وفصل الخطاب ، أما الأشعار المنسوبة إليه فان بعضها لا يرقى إلى بلاغة الإمام وفصاحته المعهودة في قصار كلماته ومواعظه وسائر حديثه. ومنها ما رواه ابن عساكر بالاسناد عن قيس بن النعمان أن الباقر عليه‌السلام أنشده :

إنّ الصبي صبي العقل ، لا صغر

أزرى بذي العقل فينا ، لا ولا كبر

وفي نفس الخبر أنّه عليه‌السلام زار قبر أبيه فقال :

ما غاض دمعي عند نازلة

إلاّ جعلتك للبكا سببا

إنّي أجلّ ثرىً حللت به

من أن أرى لسواك مكتئبا

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣٢٤.

(٢) الفهرست : ٢٧٦.

٢٥٨

فإذا ذكرتك سامحتك به

مني الدموع ففاض فانسكبا (١)

ومن كتاب جمعه الوزير مؤيد الدين أبو طالب محمد بن أحمد بن محمد العلقمي أنّه عليه‌السلام أنشد يقول :

نحن على الحوض رواده (٢)

نذود ويسعد (٣) ورّاده

فما فاز من فاز إلاّ بنا

وما خاب من حبنا زاده

فمن سرنا نال منا السرور (٤)

ومن ساءنا ساء ميلاده

ومن كان غاصبنا حقنا (٥)

فيوم القيامة ميعاده (٦)

وأنشد عليه‌السلام مخاطباً العصاة :

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه

هذا لعمرك في الفعال بديع

لو كان حبّك صادقاً لأطعته

إنّ المحبّ لمن أحبّ مطيع (٧)

وأنشأ عليه‌السلام يقول :

شفاء العمى طول السؤال وإنما

تمام العمى طول السكوت على الجهل (٨)

__________________

(١) تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٨١.

(٢) في نسخة : ذواده.

(٣) في نسخة : ونسقي.

(٤) في نسخة : فمن سرنا نال منا مناه.

(٥) في نسخة : ومن فاتنا غاصبا حقنا.

(٦) كشف الغمة ٢ : ٣٥٣ ، الفصول المهمة : ٢٠٢.

(٧) تحف العقول : ٢٩٤.

(٨) كفاية الأثر : ٢٥٢.

٢٥٩

وقال في ظلم الحكام لمحبي آل البيت عليهم‌السلام :

إنّ اليهود بحبّهم لنبيّهم

قد آمنوا من حادث الأزمان

وذوو الصليب بحبّ عيسى أصبحوا

يمشون زهواً في قرى نجران

والمؤمنون بحبّ آل محمد

يُرمَون في الآفاق بالنيران (١)

ما تمثّل به من الشعر :

روي أن هناك أشعاراً تمثل بها الإمام الباقر عليه‌السلام ، منها أنه تمثل بشعر لحاتم الطائي في حديثه عن فضل اليأس ممّا في أيدي الناس ، روى نجم بن حطيم (٢) الغنوي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «اليأس ممّا في أيدي الناس عزّ المؤمن في دينه ، أما سمعت قول حاتم :

إذا ما عزمت اليأس ألفيته الغنى

إذا عرفته النفس والطمع الفقر» (٣)

وعن أبي خالد البرقي في كتاب (الشعر والشعراء) أن الباقر عليه‌السلام تمثل بقول الشاعر :

وأطرق اطراق الشجاع ولو يرى

مساغاً لنايبه الشجاع لصمها (٤)

__________________

(١) ينابيع المودة / القندوزي ٣ : ٤٢ ، كفاية الأثر / الخزاز : ٢٤٧.

(٢) في الكافي : نجم بن خطيم.

(٣) الكافي ٢ : ١٤٩ / ٦.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٨.

٢٦٠