الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-51-5
الصفحات: ٣١١

فإن كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة سبيلها إلى النار ، ثم نزل صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقول : قليل في سُنّة خير من كثير في بدعة» (١).

وعن أبي جعفر عليه‌السلام أن رجلاً من الأنصار سأله عن صلاة الضحى ، فقال : «أول من ابتدعها قومك الأنصار ، سمعوا قول رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : صلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة ، فكانوا يأتون من ضياعهم ضحى فيدخلون المسجد فيصلون فيه ، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنهاهم عنه» (٢).

ادعاءات وأباطيل :

عمل الحاكم الأموي على تصدير أكذوبة مفادها أن الكعبة تسجد لبيت المقدس في كل غداة ، وأخرى أن اللّه تبارك وتعالى ، أو أن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث صعد إلى السماء ، وضع قدمه على صخرة بيت المقدس ، وتمّ وضع الأحاديث على هذا المنوال ، حين منع عبد الملك بن مروان أهل الشام من الحج أيام كانت مكة بيد ابن الزبير ، فجعل عبد الملك يجبرهم على تغيير وجهة الحج إلى بيت المقدس تحت غطاء أمثال هذه الأحاديث التي تفضل البيت على الكعبة.

قال اليعقوبي : منع عبد الملك أهل الشام من الحج ، وذلك أن ابن الزبير كان يأخذهم اذا حجوا بالبيعة ، فلما رأى عبد الملك ذلك منعهم من الخروج إلى مكة ، فضج الناس ، وقالوا : تمنعنا من حج بيت اللّه الحرام ، وهو فرض من اللّه علينا!

فقال لهم : هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول اللّه قال : لا تشدّ

__________________

(١) من لايحضره الفقيه ٢ : ١٣٧ / ١٩٦٤ ، الاستبصار ١ : ٤٦٧ / ١٨٠٧ ، تهذيب الأحكام ٣ : ٢٢٦.

(٢) دعائم الإسلام ١ : ٢١٤.

٢٢١

الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي ، ومسجد بيت المقدس. وهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام ، وهذه الصخرة التي يروى أن رسول اللّه وضع قدمه عليها ، لما صعد إلى السماء ، تقوم لكم مقام الكعبة ، فبنى على الصخرة قبة ، وعلق عليها ستور الديباج ، وأقام لها سدنة ، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة ، وأقام بذلك أيام بني أمية (١).

وكان موقف الإمام الباقر عليه‌السلام يسير باتجاه تكذيب أمثال هذه الأباطيل.

عن زرارة ، قال : كنت قاعداً إلى جنب أبي جعفر عليه‌السلام وهو محتب مستقبل الكعبة ، فقال : «أما أن النظر إليها عبادة ، فجاءه رجل من بجيلة يقال له : عاصم بن عمر ، فقال لأبي جعفر عليه‌السلام : إن كعب الأحبار كان يقول : إن الكعبة تسجد لبيت المقدس في كل غداة. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : فما تقول فيما قال كعب؟ فقال : صدق ، القول ما قال كعب. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : كذبت وكذب كعب الأحبار معك ، وغضب. قال زرارة : ما رأيته استقبل أحداً بقول كذبت غيره. ثم قال : ما خلق اللّه عزوجل بقعة في الأرض أحب إليه منها ـ ثم أومأ بيده نحو الكعبة ـ ولا أكرم على اللّه عزوجل منها ، لها حرّم اللّه الأشهر الحرم في كتابه يوم خلق السماوات والأرض ، ثلاثة متوالية للحج : شوال وذو القعدة وذو الحجة ، وشهر مفرد للعمرة وهو رجب» (٢).

وروى جابر بن يزيد الجعفي ، قال : قال محمد بن علي الباقر عليهما‌السلام : «يا جابر ، ما أعظم فرية أهل الشام على اللّه عزّوجلّ! يزعمون أن اللّه تبارك وتعالى حيث صعد إلى السماء ، وضع قدمه على صخرة بيت

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٦١.

(٢) الكافي ٤ : ٢٣٩ / ١.

٢٢٢

المقدس ، ولقد وضع عبد من عباد اللّه قدمه على حجره ، فأمرنا اللّه تبارك وتعالى أن نتخذه مصلّى. يا جابر ، إن اللّه تبارك وتعالى لا نظير له ولا شبيه ، تعالى عن صفة الواصفين ، وجل عن أوهام المتوهّمين ، واحتجب عن أعين الناظرين ، لا يزول مع الزائلين ، ولا يأفل مع الآفلين ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع العليم» (١).

ومن الأباطيل التي روّج لها الحاكم الأموي قولهم قبّحهم اللّه : إن أبا طالب في ضحضاح من نار ، للطعن بايمانه ، والحط من أهل بيته ، وقد رد الإمام الباقر عليه‌السلام هذه الفرية بشدة ، فقد سئل عليه‌السلام عما يقوله حثالة الناس : إن أبا طالب في ضحضاح من نار. فقال : «لو وضع إيمان أبي طالب في كفة ميزان ، وإيمان هذا الخلق في كفة أخرى لرجح إيمانه. ثم قال : ألم تعلموا أن أمير المؤمنين علياً عليه‌السلام كان يأمر أن يحج عن عبد اللّه وابنه وأبي طالب في حياته ، ثم أوصى في وصيته بالحج عنهم» (٢).

وقد قدمنا في الفصل الأول أن حكام بني أمية وعمالهم عملوا على النيل من مقام النبوة ، والاستخفاف بزوار قبر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة (٣).

وإزاء ذلك قدم الإمام الباقر دروساً عملية في مشروعية زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبور الأئمة المعصومين من أهل البيت عليهم‌السلام وشدَّ الرحال إليهم ، والتوسل والاستشفاع بهم ، منها حديث الإمام الباقر عليه‌السلام عن أبيه علي بن

__________________

(١) التوحيد : ١٧٩.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٤ : ٦٨.

(٣) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ١٥ : ٢٤٢.

٢٢٣

الحسين عليهما‌السلام ، أنّه كان يقف على قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويلتزق بالقبر (١).

وروى ابن عساكر بالاسناد عن قيس بن النعمان أنه خرج يوماً إلى بعض مقابر المدينة ، فوجد الإمام الباقر عليه‌السلام جالساً عند قبر أبيه يبكي بكاءً شديداً ، وأن وجهه ليلقي شعاعاً من نور ، فقال له في بعض حديثه : «هذا قبر أبي ، فأي أنس آنس من قربه ، وأي وحشة تكون معه». قال قيس : فانصرفت وما تركت زيارة القبور مذ ذاك (٢).

تصحيح مقولات خاطئة :

مارس الإمام الباقر عليه‌السلام عملية تصحيح لبعض المقولات الخاطئة الجارية على ألسن الناس ، فقال يوماً رجل عنده : اللهم أغننا عن جميع خلقك. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «لا تقل هكذا. ولكن قل : اللهم أغننا عن شرار خلقك ، فإن المؤمن لا يستغني عن أخيه» (٣).

وقال عليه‌السلام : «كم من رجل قد لقي رجلاً فقال له : كب اللّه عدوك ، وما له من عدو إلاّ اللّه» (٤).

مواجهة حركة الغلو :

إن حركة الغلو من الاتجاهات المدمرة في الفكر الإسلامي ، لذلك كان لأهل البيت عليهم‌السلام كلمتهم حيثما يظهر الغلو ، وهي كلمة واحدة أعلنوا فيها عن كفر الغلاة والحادهم ، ولعنوهم ودعوا أصحابهم إلى البراءة منهم ، لحرصهم على

__________________

(١) الكافي ٤ : ٥٥١ / ٢.

(٢) تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٨١.

(٣) تحف العقول : ٢٩٣.

(٤) تحف العقول : ٢٩٤.

٢٢٤

تنزيه تعاليم الإسلام من التشويه والتحريف والافتراء ، ولتصحيح المسار الإسلامي بكل ما حوى من علوم ومعارف واتجاهات ، ولم يدخروا في هذا السبيل وسعاً.

وتصدّى الإمام الباقر عليه‌السلام لحركة الغلو وحذر من مقالات الغلاة ، وفنّد ادعاءاتهم الباطلة.

وهكذا فعل مع المغيرة بن سعيد ، روى سليمان الكناني ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، أنه قال له : « هل تدري ما مثل المغيرة؟ قال : قلت : لا. قال : مثله مثل بلعم. قلت : ومن بلعم؟ قال : الذي قال اللّه عزّوجلّ : «الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ» (١) ».

وأعلن الإمام الصادق عليه‌السلام عن لعن المغيرة بن سعيد ، وحذر أصحابه مما كان يفتريه المغيرة على أبي جعفر عليه‌السلام ، وصرح أنه كان يكذب على أبي جعفر عليه‌السلام ، فأذاقه اللّه حر الحديد (٢) ، وعرى ما دسه من الكفر والزندقة في كتب أصحابه (٣). وكان من شيوع ذلك وذيوعه أن ذكره حتى الشعراء ، فقد جاء أبو هريرة العجلي الشاعر إلى الإمام الباقر عليه‌السلام فأنشده :

أبا جعفر أنت الولي أحبّه

وأرضى بما ترضى به وأتابعُ

أتتنا رجالٌ يحملون عليكمُ

أحاديث قد ضاقت بهنّ الأضالعُ

أحاديث أفشاها المغيرة فيهم

وشر الأمور المحدثات البدائعُ (٤)

__________________

(١) رجال الكشي ٢ : ٤٩٤ / ٤٠٦ ، والآية من سورة الأعراف : ٧ / ١٧٥.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٤٣٦ و ٤٨٩.

(٣) رجال الكشي ٢ : ٤٩١ / ٤٠٢.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٤١ ، عيون الأخبار / ابن قتيبة ٢ : ١٥١.

٢٢٥

ولكي لا يقع أصحابه في متاهة الغلو وأحابيل أهله ومقالاتهم الباطلة ، أكّد الإمام الباقر عليه‌السلام على المؤمنين أن لا يتجاوزوا الحدّ فيهم عليهم‌السلام ، ولا يغتروا بما يقوله الغلاة من نبوّتهم أو أُلوهيّتهم ، وأكد أنهم عبيد اللّه لا يشركون به شيئاً ، وما بينهم وبين اللّه من قرابة إلاّ بالطاعة ، وطلب من شيعته أن يكونوا النمرقة الوسطى ، يرجع إليهم الغالي ، ويلحق بهم التالي (١).

* * *

__________________

(١) اعلام الدين : ١٤٣ ، و : ٣٠١ ، كشف الغمّة ٢ : ٣٦٢.

٢٢٦

الفصل السابع

اسهامه في العلوم

أظهر باقر العلم عليه‌السلام طاقات هائلة من العلم تركت بصماتها إلى اليوم ، في جل العلوم والمعارف التي أسهم فيها ، كعلوم القرآن والتفسير والحديث والأصول والفقه والتشريع والكلام والطب واللغة والأدب والسيرة والتاريخ والملاحم والحكم العالية والمواعظ السامية.

قال الشيخ المفيد : روى أبو جعفر عليه‌السلام أخبار المبتدأ وأخبار الأنبياء ، وكتب عنه الناس المغازي ، وأثروا عنه السنن ، واعتمدوا عليه في مناسك الحج التي رواها عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكتبوا عنه تفسير القرآن ، وروت عنه الخاصة والعامة الأخبار ، وناظر من كان يرد عليه من أهل الآراء ، وحفظ عنه الناس كثيراً من علم الكلام (١).

وقال أبو زهرة : كان رضي‌الله‌عنه مفسراً للقرآن ، ومفسراً للفقه الإسلامي ، مدركاً حكمة الأوامر والنواهي ، فاهماً كل الفهم لمراميها ، وكان راوية للأحاديث ، يروي أحاديث آل البيت ، ويروي أحاديث الصحابة من غير تفرقة ، ولكمال نفسه ونور قلبه وقوة مداركه ، أنطقه اللّه تعالى بالحكم الرائعة ، ورويت عنه عبارات في الأخلاق الشخصية والاجتماعية ، ما لو نظم في سلك لتكون فيه

__________________

(١) الارشاد ٢ : ١٦٣.

٢٢٧

مذهب خلقي سام ، يعلو بمن يأخذ به إلى مدارج السمو الإنساني (١).

قال الشاعر :

والخير كل الخير في لسانه

والعلم كل العلم في بيانه

منطقه منطقة الكمال

ناطقة العدل والاعتدال

بل هو مفتاح مفاتيح الهدى

وعنده الغيب شهود أبدا

به تجلت صفوة المعارف

في قلب كل سالك وعارف (٢)

ويمكن الإشارة إلى انجازات الإمام الباقر عليه‌السلام العلمية ضمن النقاط التالية :

١ ـ الآثار العلمية المنسوبة إليه عليه‌السلام :

نسبت إلى الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام مؤلّفات عدة ، رواها عنه أصحابه ، يتضمن غالبها علمي التفسير والحديث ، وهي كما يلي :

١ ـ تفسير القرآن : رواه عنه عليه‌السلام زياد بن المنذر ، أبو الجارود العبدي (٣).

٢ ـ نسخة أحاديث : رواها عنه عليه‌السلام خالد بن أبي كريمة (٤).

٣ ـ نسخة أحاديث أخرى : رواها عنه عليه‌السلام خالد بن طهمان ، أبو العلاء الخفّاف. قال مسلم بن الحجاج : أبو العلاء الخفاف له نسخة أحاديث ، رواها عن أبي جعفر عليه‌السلام (٥).

٤ ـ كتاب : رواه عنه عبد المؤمن بن القاسم الأنصاري (٦).

__________________

(١) الإمام الصادق / محمد أبو زهرة : ٢٤.

(٢) الأنوار القدسية : ٧٥.

(٣) الفهرست للنديم : ٣٦ ، الذريعة ٤ : ٢٦٢.

(٤) رجال النجاشي : ١٥١ / ٣٩٦.

(٥) رجال النجاشي : ١٥١ / ٣٩٧.

(٦) تأسيس الشيعة : ٢٨٥.

٢٢٨

٥ ـ كتاب : رواه زرارة بن أعين الشيباني (١).

٦ ـ رسالته عليه‌السلام إلى سعد بن طريف الاسكاف الحنظلي ، وكان قاضياً (٢).

٧ ـ رسالته عليه‌السلام إلى سعد بن عبد الملك الأموي نسبا ، المعروف بسعد الخير ، وقد روى ثقة الإسلام الكليني هذه الرسالة بسندين (٣).

٨ ـ نسخة الباقر والصادق عليهما‌السلام لأبي عثمان عمر بن جميع الأزدي البصري ، القاضي بالري ، ذكرها النجاشي مع سندها (٤).

٩ ـ مناظرته عليه‌السلام مع الهروي في خلافة أبي بكر ، وهي موجودة في مجموعة مع مناظرة ابن أبي جمهور ، ومناظرة ركن الدولة في المكتبة الرضوية (٥).

١٠ ـ ووصلت إلينا عدّة مناظرات وحوارات ساخنة للإمام الباقر عليه‌السلام مع العلماء من مختلف أوساط الامة وغيرهم ، منها : مناظرته مع عمرو بن عبيد المعتزلي (٦) ، وسالم التمار من البترية (٧) ، ونافع بن الأزرق مولى عبد اللّه بن عمر (٨) ، وقتادة بن دعامة البصري (٩) ، وطاوس اليماني (١٠) ، وعبد اللّه

__________________

(١) تأسيس الشيعة : ٢٨٦.

(٢) رجال النجاشي : ١٧٨ ، نقد الرجال ٢ : ٣٠٩.

(٣) الكافي ٨ : ٥٣ / ١٦ و ١٧.

(٤) الذريعة ٢٤ : ١٤٨.

(٥) كشف الحجب والأستار : ٥٥٣ ، الذريعة ٢٢ : ٢٨٧.

(٦) روضة الواعظين : ٢٠٣.

(٧) الاحتجاج ٢ : ٦٣.

(٨) الكافي ٨ : ١٢٠ / ٩٣ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٠ ، الارشاد ٢ : ١٦٤ ، الاحتجاج ٢ : ٥٧ ، روضة الواعظين : ٢٠٤ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٠.

(٩) الكافي ٦ : ٢٥٦.

(١٠) الاحتجاج ٢ : ٦١ و ٦٤ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٢.

٢٢٩

ابن عباس رضي‌الله‌عنه (١) ، وهشام بن عبد الملك (٢) ، والأبرش بن الوليد الكلبي وزير هشام بن عبد الملك (٣) ، والخضر عليه‌السلام (٤) ، وعالم النصارى (٥).

١١ ـ ونقلت عنه عليه‌السلام مواعظ ووصايا ورسائل كثيرة ، سنعرض نماذج منها ومن المناظرات في آخر الفصل.

٢ ـ دوره في علوم القرآن :

بيان فضل القرآن :

تحدث الإمام الباقر عليه‌السلام عن فضل القرآن ، ولا يخفى ما في ذلك من دفع باتجاه الاهتمام بالكتاب الكريم ، روى سعد الخفاف ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث طويل عن فضل القرآن ، قال : «يا سعد ، تعلّموا القرآن ، فإن القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخلق ، والناس صفوف ، إلى أن قال : فيخر تحت العرش ، فيناديه تبارك وتعالى : يا حجّتي في الأرض وكلامي الصادق الناطق ، ارفع رأسك ، وسل تعط ، واشفع تشفع. فيرفع رأسه ، فيقول اللّه تبارك وتعالى : كيف رأيت عبادي؟ فيقول : يا رب ، منهم من صانني وحافظ عليّ ولم يضيّع شيئاً ، ومنهم من ضيّعني واستخفّ بحقّي

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٠.

(٢) دلائل الإمامة : ٢٣٥ ، نوادر المعجزات : ١٣١ ، الارشاد ٢ : ١٦٣ ، تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٧٩ ، الاحتجاج ٢ : ٥٧ ، شرح الأخبار ٣ : ٢٨٠ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٠٥ ، روضة الواعظين : ٢٠٣.

(٣) الكافي ٦ : ٢٨٦ / ١ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٢٩.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٣ ، شرح الأخبار٣ : ٢٧٨ ، ونقله ابن حجر في الاصابة ٢ : ٢٦٤ ، عن كتاب أخبار مكة للفاكهي ، وكتاب النسب للزبيري.

(٥) الكافي ٨ : ١٢٢ / ٩٤ ، دلائل الإمامة : ٢٢٩ / ١٥٧ ، الخرائج والجرائح ١ : ٢٩١.

٢٣٠

وكذب بي ، وأنا حجّتك على جميع خلقك. فيقول اللّه تبارك وتعالى : وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني ، لأثيبنّ عليك اليوم أحسن الثواب ، ولأعاقبنّ عليك اليوم أليم العقاب» (١).

قراءته عليه‌السلام :

كان الإمام الباقر عليه‌السلام كآبائه أحسن الناس قراءة وصوتاً ، روى معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه الصادق عليه‌السلام ، قال : «إن أبا جعفر عليه‌السلام كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن ، وكان إذا قام من الليل وقرأ ، رفع صوته ، فيمر به مار الطريق من الساقين وغيرهم فيقومون فيستمعون إلى قراءته» (٢). وقد أخذ عنه القراءة عرضاً بعض أصحابه منهم حمران بن أعين (٣).

شروط تلاوة القرآن :

للإمام الباقر عليه‌السلام وصايا في تحمّل القرآن وقراءته ، تتناغم مع قداسة هذا الكتاب العظيم ، وتحقيق أهدافه في تهذيب النفوس والأخذ بمجامع القلوب ، من هنا جدير بكل مسلم أن يجعل تلك الوصايا نصب عينه حينما يقرأ كتاب اللّه.

قال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : «قراء القرآن ثلاثة : رجل قرأ القرآن فاتخذه بضاعة ، واستدر به الملوك ، واستطال به على الناس ، ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيع حدوده ، وأقامه اقامة القدح ، فلا كثّر اللّه هؤلاء من حملة القرآن. ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه ، فأسهر به ليله ، وأظمأ به نهاره ، وقام به في مساجده ، وتجافى به عن فراشه ،

__________________

(١) الكافي ٢ : ٥٩٦ / ١.

(٢) مستطرفات السرائر / ابن ادريس : ٩٧ / ١٧.

(٣) غاية النهاية / ابن الجزري ١ : ٢٦١.

٢٣١

فبأولئك يدفع العزيز الجبار البلاء ، وباولئك يديل اللّه عز وجل من الأعداء ، وبأولئك ينزل اللّه عزوجل الغيث من السماء ، فواللّه لهؤلاء في قراء القرآن أعز من الكبريت الأحمر» (١).

ثم قال عليه‌السلام : «إذا قرأتم القرآن فبينوه تبياناً ، ولا تهذّوه (٢) هذاً كهذّ الشعر ، ولا تنثروه نثر الرمل ، ولكن افرغوا له القلوب القاسية. ولا يكن هم أحدكم آخر السورة ، واقرءوه بألحان العرب وأصواتها ، واياكم ولحون أهل الكبائر ، وأعربوا به فإنّه عربي ، ولا تقرأوه هذرمة (٣) ، وإذا مررتم بآية فيها ذكر الجنة فقفوا عندها واسألوا اللّه الجنة ، وإذا مررتم بآية فيها ذكر النار فقفوا عندها وتعوذوا باللّه من النار ، وحزّنوه بأصواتكم ، فإن اللّه تعالى أوحى إلى موسى بن عمران عليه‌السلام : إذا وقفت بين يدي فقف موقف الذليل الفقير ، وإذا قرأت التوراة فاسمعنيها بصوت حزين» (٤).

وعن جابر ، عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، قال : «قلت له : إنّ قوما إذا ذُكّروا بشيء من القرآن أو حدثوا به صعق أحدهم حتى يرى أنّه لو قطعت يداه ورجلاه لم يشعر بذلك. فقال : سبحان اللّه! ذاك من الشيطان ، ما بهذا أمروا ، إنّما هو اللين والرقة والدمعة والوجل» (٥).

وعن أبي بصير عنه عليه‌السلام : «ورجّع بالقرآن صوتك ، فإن اللّه يحبّ الصوت

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦٢٧ / ١ ، أعلام الدين : ١٠١.

(٢) الهذ : السرعة في القطع والقراءة.

(٣) الهذرمة : سرعة القراءة.

(٤) أعلام الدين : ١٠١.

(٥) أمالي الصدوق : ٣٢٨ / ٣٨٧.

٢٣٢

الحسن يرجع فيه ترجيعاً» (١).

التفسير :

تعدّ الأخبار الواردة في التفسير عن أهل البيت عليهم‌السلام بالأسانيد المعتمدة من أوثق مصادر التفسير ، وأثبتت الدلائل أنهم الأقدر على تفسير آي الكتاب وإدراك مضامينها وفهم دقائقها ، لأنهم أعدال الكتاب الذين قرن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بينهم وبينه ، وذكر أنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض.

وأكد الإمام الباقر عليه‌السلام هذه الحقيقة في أكثر من مناسبة ، فقال عليه‌السلام : «إن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل الراسخين في العلم ، فقد علم جميع ما أنزل اللّه عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان اللّه لينزل عليه شيئاً لم يعلمّه إياه ، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه» (٢).

وعن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : «ما يستطيع أحد أن يدّعي أن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء» (٣). أي أن العلم بجميع القرآن من حيث معانيه الظاهرة ومعانيه الباطنة منحصر بهم عليهم‌السلام.

من هنا فإن الحديث عن تفسير الإمام الباقر عليه‌السلام واسع بسعة التفسير المأثور عنه ، لكننا سوف نقتصر على بيان بعض الأمثلة من التفسير الوارد عن الإمام الباقر عليه‌السلام.

١ ـ عن محمد بن مسلم ، قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام ، فقلت : قوله

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦١٦ / ١٣.

(٢) تفسير القمي ١ : ٩٦ ، تفسير العياشي ١ : ١٦٤ / ٦.

(٣) الكافي ١ : ٢٢٨ / ٢.

٢٣٣

عزوجل : «يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» (١). فقال عليه‌السلام : اليد في كلام العرب القوّة والنعمة ، قال اللّه : «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الاْءَيْدِ» (٢) ، وقال : «وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ» (٣) ، أي : بقوّة ، وقال : «وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» (٤) ، أي قوّاهم ، ويقال : لفلان عندي أيادٍ كثيرة. أي فواضل واحسان ، وله عندي يد بيضاء ، أي نعمة» (٥).

٢ ـ وعن زرارة ومحمّد بن مسلم : أنّهما قالا : قلنا لأبي جعفر عليه‌السلام : «ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي ، وكم هي؟ فقال : إن اللّه عزوجل يقول : «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الاْءَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاة» (٦) ، فصار التقصير في السفر واجباً كوجوب التمام في الحضر.

قالا : قلنا : إنما قال اللّه عزوجل : «فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ» ، ولم يقل : افعلوا ، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال : أو ليس قد قال اللّه عزّوجلّ في الصفا والمروة : «فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا» (٧)؟ ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض؟ لأن اللّه عزّوجلّ ذكره في كتابه وصنعه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك التقصير في السفر شيء

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٧٥.

(٢) سورة ص : ٣٨ / ١٧.

(٣) سورة الذاريات : ٥١ / ٤٧.

(٤) سورة المجادلة : ٥٨ / ٢٢.

(٥) التوحيد : ١٥٣ / ١.

(٦) سورة النساء : ٤ / ١٠١.

(٧) سورة البقرة : ٢ / ١٥٨.

٢٣٤

صنعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكره اللّه تعالى في كتابه» (١).

٣ ـ وفي حديث نافع بن الأزرق أنه سأل الباقر عليه‌السلام عن مسائل ، منها قوله تعالى : «وَاسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ» (٢) من الذي يسأل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان بينه وبين عيسى خمس مائة سنة؟ قال : فقرأ أبو جعفر عليه‌السلام : «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً» (٣) ثم ذكر اجتماعه بالمرسلين والصلاة بهم في المسجد الأقصى وسؤاله منهم على من يشهدون ، وما كانوا يعبدون. قالوا : نشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وحده لا شريك له ، وأنك رسول اللّه ، أخذت على ذلك عهودنا ومواثيقنا (٤).

أولاً : القول بسلامة القرآن من النقصان ، وأنه الذي بأيدي المسلمين مابين الدفتين ، وقد حرص أهل البيت عليهم‌السلام في الحفاظ على سلامة القرآن من التحريف ، وعدم ضياع أي حرف منه.

وصرح الإمام الباقر عليه‌السلام في رسالته إلى سعد الخير أن التحريف المزعوم في الكتاب الكريم إنما يقع من الجهال في شرحه وتفسيره ، لا في حروفه ، قال عليه‌السلام : «كان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه ، وحرفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية» (٥).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٧٨ / ١٢٦٦.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ٤٥.

(٣) سورة الاسراء : ١٧ / ١.

(٤) الكافي ٨ : ١٠٣ ـ ١٠٤ / ٩٣ ، الاحتجاج ٢ : ٦٠ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٣.

(٥) الكافي ٨ : ٥٦ / ١٧.

٢٣٥

وفي هذا السياق ، نفى الإمام الباقر عليه‌السلام أن يكون القرآن نزل على سبعة أحرف ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إن القرآن واحد ، نزل من عند واحد ، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة» (١). فالأحرف المدعاة إنما هي أخبار آحاد واختلاف من قبل الرواة ، والقرآن لا اختلاف فيه من حيث صورة ألفاظه ، بل نزل بلغة واحدة ، وعلى قراءة واحدة ، هي لغة قريش ، لقوله تعالى : «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ» (٢) وكان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قرشياً.

رابعاً : تأويل المتشابه الذي يعارض العقائد الإسلامية التي أرادها اللّه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بمعانٍ مناسبة لجوّ الآيات والروايات ، مثل تنزيه الخالق عن التجسيم التشبيه والتعطيل ، وتنزيه الأنبياء عن المعاصي ، واستحالة روءية الخالق في الدنيا والآخرة ، والأمر بين الأمرين وغيرها من عقائد الإسلام الأصيل ، وذلك بالاستفادة من معاني الكلمات المجازية عند العرب ، أو من الآيات الأخرى التي تكمل بمجموعها معنى النص القرآني ، كما في تأويل الإمام الباقر عليه‌السلام لكلمة اليد في الحديث المتقدم.

ومثال تنزيه الخالق من صفة المخلوق ، ما سأل عمرو بن عبيد الإمام الباقر عليه‌السلام ، عن قول اللّه تبارك وتعالى : «وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى» (٣) ، ما ذلك الغضب؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «هو العقاب. يا عمرو ، إنه من زعم أن اللّه قد زال من شيء إلى شيء فقد وصفه صفة مخلوق ، وإنّ اللّه تعالى

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦٣٠ / ١٢.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ٤.

(٣) سورة طه : ٢٠ / ٨١.

٢٣٦

لا يستفزّه شيء فيغيره» (١).

وعن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : في قول اللّه عزوجل : «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ» (٢) ، قال : «فيهلك كل شيء ويبقى وجه اللّه عزوجل ، واللّه أعظم من أن يوصف؟! ولكن معناها كل شيء هالك إلاّ دينه ، ونحن الوجه الذي يؤتى اللّه منه» (٣).

ومثال على مبدأ الأمر بين الأمرين ، وهو مبدأ وسط بين الجبر والتفويض ، ما رواه جابر بن يزيد الجعفي ، عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، قال : «سألته عن معنى (لا حول ولا قوة إلاّ باللّه ). فقال : معناه : لا حول لنا عن معصية اللّه إلاّ بعون اللّه ، ولا قوة لنا على طاعة اللّه إلاّ بتوفيق اللّه عزوجل» (٤). فلا تفويض مطلق ، ولا جبر مطلق ، بل إن للإنسان حولاً وقوةً ، لكنهما خاضعان للإرادة الإلهية ، وعلى أساس هذا الاتجاه من الوعي فسروا آيات القرآن ، ونفوا عن كلام اللّه تعالى كل ما يفهم منه الجبر أو التفويض.

خامساً : النهي عن التفسير بالرأي ، ويراد به الأخذ بالاعتبارات الظنية في التفسير ، يقول شيخ الطائفة الطوسي في مقدمة تفسيره : ان تفسير القرآن لا يجوز إلاّ بالأثر الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن الأئمة عليهم‌السلام الذين قولهم حجة كقول النبي (٥).

__________________

(١) الكافي ١ : ١١٠ / ٥.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٨٨.

(٣) اكمال الدين : ٢٣١ / ٣٣ ، المحاسن١ : ٢١٨ / ١١٦ ، بصائرالدرجات : ٨٥ / ٣ و ٥.

(٤) التوحيد : ٢٤٢ / ٣ ، معاني الأخبار : ٢١ ، الاحتجاج : ٤١٢.

(٥) التبيان ١ : ٤.

٢٣٧

وقد نهى الإمام أبو جعفر عليه‌السلام عن الأحتكام إلى الحدس والظن والتخمين في التفسير ، أو أن يفسره الإنسان بذوقه ومن تلقاء نفسه ، في عدة أحاديث ، منها ما رواه ثقة الإسلام الكليني عن زيد الشحام ، قال : «دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر عليه‌السلام فقال : يا قتادة ، أنت فقيه أهل البصرة؟ قال : هكذا يزعمون. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : بلغني أنك تفسر القرآن؟ فقال له قتادة : نعم. فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : بعلم تفسره أم بجهل؟ قال : لا ، بعلم. فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : فإن كنت تفسره بعلم ، فأنت أنت ، وأنا أسألك؟ قال قتادة : سل. قال : أخبرني عن قول اللّه عزوجل في سبأ : «وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ» (١). فقال قتادة : ذلك من خرج من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال ، يريد هذا البيت ، كان آمنا حتى يرجع إلى أهله. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : نشدتك اللّه يا قتادة ، هل تعلم أنه قد يخرج الرجل من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال يريد هذا البيت ، فيقطع عليه الطريق ، فتذهب نفقته ويضرب مع ذلك ضربة فيها اجتياحه؟ قال قتادة : اللهم نعم.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : ويحك يا قتادة ، إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت. ويحك يا قتادة ، ذلك من خرج من بيته بزاد وراحلة وكراء حلال يروم هذا البيت عارفاً بحقنا ، يهوانا قلبه ، كما قال اللّه عزّوجلّ : «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» (٢) ولم يعن البيت فيقول : إليه ، فنحن واللّه دعوة إبراهيم عليه‌السلام التي من هوانا قلبه قبلت حجّته

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ١٨.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٧.

٢٣٨

وإلاّ فلا ، يا قتادة فإذا كان كذلك كان آمناً من عذاب جهنّم يوم القيامة. قال قتادة : لا جرم واللّه لا فسرتها إلاّ هكذا.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : ويحك يا قتادة ، إنما يعرف القرآن من خُوطب به» (١).

وهنا يحصر الإمام أبو جعفر عليه‌السلام ، معرفة الكتاب العزيز تفسيراً وتأويلاً وعلى درجة الكمال بالمعصومين من أهل البيت عليهم‌السلام دون سواهم ، باعتبارهم المخاطبين الذين نزل الكتاب في بيوتهم ، وعليه لا يجوز تفسير القرآن بغير علم ، وهو المستفاد من قوله عليه‌السلام : «فإن كنت تفسره بعلم ، فأنت أنت» ، وقوله عليه‌السلام : «ما علمتم فقولوا ، وما لم تعلموا فقولوا : اللّه أعلم ، ان الرجل لينزع بالآية من القرآن يخر فيها أبعد من السماء» (٢). لأن التفسير الخالي من الدليل العلمي الواضح والبرهان القطعي يعتمد على الظن الذي لا يغني عن الحقّ شيئاً.

حجم تراثه التفسيري :

أما من حيث حجم التفسير المأثور عن الإمام الباقر عليه‌السلام ، فقد ترك تراثاً هائلاً من الروايات والأخبار التي تدخل في باب التفسير ، ويشكل هذا التراث أهم عناصر التفاسير الأثرية ، مثل تفسير فرات الكوفي ، والعياشي ، وعلي بن ابراهيم القمي.

وأورد تفسيره للآيات علماء التفسير على اختلاف مشاربهم وأطيافهم الشيء الكثير ، كالطبري وسفيان الثوري والثعلبي والبغوي وابن كثير والشوكاني والسيوطي والنقاش والزمخشري وغيرهم.

__________________

(١) الكافي ٨ : ٣١١ / ٤٨٥.

(٢) المحاسن ١ : ٢٠٦ / ٦٢.

٢٣٩

أما تفسيره المبثوث في مصادر الحديث وغيرها ، فقد جمعها السيد هاشم البحراني في (البرهان) والعروسي في (نور الثقلين) وهما يتضمنان المزيد من التفسير الأثري الوارد عن الإمام الباقر عليه‌السلام.

وراجعنا معجم تفسير أهل البيت عليهم‌السلام الذي أسهمنا في اعداده خلال عملنا في قسم الدراسات الإسلامية التابع إلى مؤسسة البعثة ، من خلال تتبّع ١٧٧ مصدراً من مصادر المسلمين ، عدا مصادر التفسير ، فأحصينا فيه ٢٦٨٠ مورداً منقولاً عن الإمام الباقر عليه‌السلام في تفسر آي القرآن ، وهو يعكس عظمة جهود الإمام عليه‌السلام في تفسير الكتاب الكريم.

ومن جملة جهود الإمام الباقر عليه‌السلام في هذا السياق ، أنه ألف كتاباً في التفسير ، ذكره ابن النديم في الفهرست ، وقال : رواه عنه أبو الجارود زياد بن المنذر ، رئيس الجارودية الزيدية (١). وألف جابر بن يزيد الجعفي كتاباً في تفسير القرآن ، أخذه من الإمام الباقر عليه‌السلام ، وكان أبو النضر محمد بن السائب بن بشر الكلبي أول من صنف في علم أحكام القرآن ، وله تفسير كبير ، وأبو بصير يحيى بن أبي القاسم الأسدي ، له تفسير ، وأبو حمزة الثمالي ، له تفسير ، وصنف أبان بن تغلب في معاني القرآن (٢) ، وتفسير غريب القرآن. ولا ريب أن جهود أصحاب الإمام في هذا الاتجاه ، تعكس مقدار اهتمام الإمام عليه‌السلام بعلم التفسير ، لأنه صاحب مدرسة تمتد إلى مختلف ديار الإسلام.

تنقية التفسير :

أسهم الإمام الباقر عليه‌السلام في تنقية التفسير مما وفد إلى رحابه من آثار

__________________

(١) الفهرست : ٣٦.

(٢) ذكره ابن النديم في الفهرست : ٣٠٨.

٢٤٠