الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-51-5
الصفحات: ٣١١

النفس ، فقال عليه‌السلام : «إن للّه عزّوجلّ جنّة لا يدخلها إلاّ ثلاثة : رجل حكم على نفسه بالحق ، ورجل زار أخاه المؤمن في اللّه ، ورجل آثر أخاه المؤمن في اللّه على نفسه» (١).

وقال عليه‌السلام : «أيما مؤمن خرج إلى أخيه يزوره عارفاً بحقه ، كتب اللّه له بكل خطوة حسنة ، ومحيت عنه سيئة ، ورفعت له درجة ، وإذ طرق الباب فتحت له أبواب السماء ، فإذا التقيا وتصافحا وتعانقا أقبل اللّه عليهما بوجهه ، ثم باهى بهما الملائكة ، فيقول : انظروا إلى عبدي تزاورا وتحابا في ، حق علي ألاّ أعذّبهما بالنار بعد هذا الموقف ، فإذا انصرف شيعه الملائكة عدد نفسه وخطاه وكلامه ، يحفظونه من بلاء الدنيا وبوائق الآخرة إلى مثل تلك الليلة من قابل ، فإن مات فيما بينهما أعفي من الحساب ، وإن كان يعرف من حق الزائر ما عرفه الزائر من حق المزور كان له مثل أجره» (٢).

وقال عليه‌السلام : «إن المؤمنَين إذا التقيا فتصافحا أقبل اللّه عزّوجلّ عليهما بوجهه ، وتساقطت عنهما الذنوب كما يتساقط الورق من الشجر» (٣).

وجعل الصحبة الطويلة بمثابة القرابة ، فقال عليه‌السلام : «صحبة عشرين سنة

__________________

(١) أعلام الدين : ١٢٦.

(٢) الكافي ٢ : ١٨٣ / ١.

(٣) الكافي ٢ : ١٨٠ / ٤.

١٤١

قرابة» (١).

وأكد على تعهد الإخوان ومواصلتهم والإحسان إليهم والسعي في حاجاتهم ، فمن كلامه في هذا الاتجاه : «ليس في الدنيا شيء أعون من الإحسان إلى الإخوان» (٢).

وقال عليه‌السلام : «ما من عبد يمتنع من معونة أخيه المسلم والسعي له في حاجته قضيت أو لم تقض ، إلاّ ابتُلي بالسعي في حاجة من يأثم عليه ولا يؤجر ، وما من عبد يبخل بنفقة ينفقها فيما يرضى اللّه ، إلاّ ابتُلى بأن ينفق أضعافها فيما أسخط اللّه» (٣).

وقال عليه‌السلام : «إنّ اللّه تعالى أوحى إلى داود : يا داود ، أن العبد من عبيدي ليأتيني بالحسنة فأحكمه بها في الجنّة ، فقال داود : يا رب ، وما تلك الحسنة؟ قال : عبد مؤمن سعى في حاجة أخيه المؤمن أحب قضاءها ، قضيت له أم لم تقض» (٤).

وإلى جانب ذلك أوصى عليه‌السلام بحسن السيرة والتعايش مع الآخر ولو كان منافقاً أو يهودياً ، فقال عليه‌السلام : «صانع المنافق بلسانك ، وأخلص ودك للمؤمنين ، وإن جالسك يهودي فأحسن

__________________

(١) تحف العقول : ٢٩٣.

(٢) اسعاف الراغبين : ٢٥٣.

(٣) تحف العقول : ٢٩٣.

(٤) أعلام الدين : ٢٦٥.

١٤٢

مجالسته» (١).

وأوصى عليه‌السلام بالبشر وطلاقة الوجه ، كأحد مقومات حسن العشرة ، فقال عليه‌السلام : «البشر الحسن وطلاقة الوجه مكسبة للمحبة وقربة من اللّه ، وعبوس الوجه وسوء البشر مكسبة للمقت وبعد من اللّه» (٢).

وعلى الصعيد العملي ، عرف الإمام الباقر عليه‌السلام بحسن العشرة وتعهد الإخوان والإحسان إليهم ، قال أبو عبيدة الحذاء : «كنت زميل أبي جعفر عليه‌السلام ، وكنت أبدأ بالركوب ، ثم يركب هو ، فإذا استوينا سلّم وساءل مسألة رجل لا عهد له بصاحبه وصافح ، قال : وكان إذا نزل نزل قبلي ، فإذا استويت أنا وهو على الأرض سلم وساءل مسألة من لا عهد له بصاحبه ، فقلت : يا ابن رسول اللّه ، إنك لتفعل شيئاً ما يفعله أحد من قبلنا ، وإن فعل مرة فكثير. فقال : أما علمت ما في المصافحة ، ان المؤمنين يلتقيان ، فيصافح أحدهما صاحبه ، فلا تزال الذنوب تتحات عنهما كما يتحات الورق عن الشجر ، واللّه ينظر إليهما حتى يفترقا» (٣).

وعن أبي حمزة ، قال : «زاملت أبا جعفر عليه‌السلام فحططنا الرحل ثم مشى قليلاً ، ثم جاء فأخذ بيدي فغمزها غمزة شديدة فقلت : جعلت فداك ، أو ما كنت معك في المحمل؟! فقال : أما علمت أن المؤمن إذا جال جولة ثم أخذ بيد أخيه ،

__________________

(١) الأمالي / الشيخ المفيد ١٣ : ١٨٥ / ١٠ ، تحف العقول : ٢٩٢ ، أعلام الدين : ٣٠١.

(٢) تحف العقول : ٢٩٧.

(٣) الكافي ٢ : ١٧٩ / ١.

١٤٣

نظر اللّه إليهما بوجهه ، فلم يزل مقبلاً عليهما بوجهه ، ويقول للذنوب تتحات عنهما ، فتتحات ـ يا أبا حمزة ـ كما يتحات الورق عن الشجر ، فيفترقان وما عليهما من ذنب» (١).

* * *

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٨٠ / ٧.

١٤٤

الفصل الخامس

على أعتاب مدرسة أهل البيت عليهم السلام

أنبأ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الدور العلمي الذي سيضطلع به حفيده الباقر عليه‌السلام ، حينما بشّر الصحابي الجليل جابر بن عبد اللّه الأنصاري بادراك زمانه ورؤيته ، وأنه يبقر العلم بقراً ، فيخرجه من منابعه الأصيلة وكنوزه الدفينة ، وقد تحقق ذلك بجهود الإمام الباقر عليه‌السلام على طريق انشاء جامعة أهل البيت العلمية ، وتغذيتها بحقول المعرفة المختلفة.

تأسيس مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام :

إذا كان لكل واحد من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام دور ينسجم مع الحاجات البشرية ويتوافق مع طبيعة ظروف الحياة الاجتماعية والسياسية ، فيمكن القول : إن جهود أئمة أهل البيت عليهم‌السلام كانت تدور كلّها حول محور واحد ، وهو محور الحفاظ على الإسلام من خطر الانحراف الذي بدأ يدبّ في جسم هذه الأُمّة منذ اليوم الأول للسقيفة المشؤومة التي كانت السبب المباشر لكل ما تلاها من عوامل وأسباب الانحراف الذي كلّف أهل البيت عليهم‌السلام تضحيات جسيمة ، حيث تعاملوا مع مسبّبات الانحراف كل بحسب طبيعة المرحلة التي تكتنفه زماناً ومكاناً.

١٤٥

وفي حدود ما اتّصل بحياة الإمام الباقر عليه‌السلام ونشاطه العلمي المبدع على جميع الاتجاهات نجد أبيه الإمام السجّاد عليه‌السلام قد مهّد لولده الإمام الباقر عليه‌السلام الدور الذي سيضطلع به ، حيث استطاع إمامنا زين العابدين عليه‌السلام رغم سوء الظروف التي اكتنفت عصره أن يضع إصبعه على مواطن الانحراف ، وأن يجمع صفوف المؤمنين من أصحابه ، ويركّز على تربيتهم روحياً وعلمياً ، ليعيد الثقة إلى نفوسهم ، وكان أولئك الرجال من أهم أدوات مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام.

وبعد وفاة الإمام السجاد عليه‌السلام بزغ نجم الباقر عليه‌السلام في سماء المدينة ، فحاول أن ينأى بنفسه عن دوائر الصراع السياسي خلال فترة إمامته ، كي يمهّد السبيل لأداء مهمته الرسالية المتمثلة بالتأسيس العلمي لفقه أهل البيت عليهم‌السلام ، وإقامة ركائز مدرستهم عليهم‌السلام ، فأتيح له أن يبلور اتجاه أهل البيت عليهم‌السلام إلى العلم والتعليم.

ورغم الإرهاب الفكري والسياسي الذي أشاعه الحكم الأموي المنحرف حينذاك ، كرس الإمام الباقر عليه‌السلام خلال إمامته كل جهوده لاستقطاب المسلمين حول تعاليم الدين الإسلامي الصحيحة ، وإرساء ركائز البناء العلمي والتربوي على قواعد الإسلام المتينة ومصادره وأصوله الرصينة ، في وقت بدأ الحكام بترويج فقه وعاظ السلاطين المداهنين للسلطة الظالمة ، واستطاع الإمام الباقر عليه‌السلام إغناء الواقع الإسلامي بما فتح عليه من آفاق العلم والمعرفة ، وما حققه من انجازات علمية رائعة ، وبالتالي أسهم في حفظ الشريعة المقدسة من خطر الزوال والتحريف.

ولم يقتصر التدريس في مدرسة أهل البيت على أصول الاعتقاد والفقه

١٤٦

وأصوله ، بل تعداه إلى تدريس الفلسفه والكلام والطب وغيرها من العلوم المتاحة آنذاك ، وامتدّ أثر تلك المدرسة بما تحمل من علوم على مساحة واسعة من الأرض ، بعد أن كانت محصورة في مساجد المدينة المنورة والكوفة والبصرة ، فكانت مدرسة مفتوحة على الواقع الإسلامي كلّه ، واستوعبت فطاحل العلماء في عصره من مختلف الميول والاتجاهات.

وحين لفظت الدولة الأموية أنفاسها الأخيرة ، لاح في الأفق شيء من الانفراج للنشاط الفكري ، الأمر الذي جعل مدرسة أهل البيت تكتمل على يد صادق أهل البيت جعفر بن محمد عليهما‌السلام لتبلغ أوجها ، من حيث عدد طلابها وسعة العلوم التي تصدت لنشرها ، تلك العلوم المأخوذة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بواسطة وصيه وسبطيه ومن تلاهما من العترة الطاهرة عليهم‌السلام ، فعميد المدرسة الصادق عليه‌السلام هو القائل : حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدي ، وحديث جدي حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين ، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحديث رسول اللّه قول اللّه عزوجل (١).

قال الشاعر :

أحيا دوارس الربوع الخاليه

فأصبحت ذات قباب عاليه

أنار وجه الحق والحقيقه

بأحسن البيان والطريقه

أحيا بما فيه من اللطائف

لطيفة العارف والمكاشف

أحيا بعلمه معالم الهدى

فأصبحت آمنة من الردى (٢)

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٣ / ١٤.

(٢) الأنوار القدسية : ٧٣.

١٤٧

اجراءاته عليه‌السلام في هذا السبيل :

كان على رأس سلّم أولويّات الإمام الباقر عليه‌السلام ، في اطار وضع اللبنات لمدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، هو العمل على إبراز هوية الإسلام بعد اختلاط الأوراق في زمانه ، وإظهاره على أنه التمثيل الواقعي لما أراده اللّه تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله عقيدة وفكراً وتشريعاً ، ومن ثم العمل على تهيئة مقدمات نشر علوم أهل البيت عليهم‌السلام ، ضمن عدة اجراءات اتخذها لتحقيق هذا الغرض ، منها اعداد الجماعة الصالحة سلوكاً وعملاً ، والحث على طلب العلم ، والدعوة إلى تدوينه ، والانفتاح على الواقع الإسلامي بكل ما فيه من مذاهب وفرق وتوجهات ، والدعوة إلى اعتماد الكتاب والسنة ، ومجابهة أصحاب الرأي والقياس ، وإعداد نخبة من المؤلفين والثقات من أصحابه الذين حملوا على أكتافهم رسالة الإسلام ومنار العلم ، وفيما يلي شرح موجز لتلك الإجراءات :

١ ـ إعداد الجماعة الصالحة :

لم تكن رسالة الإمام الباقر عليه‌السلام قائمة على العلوم النظرية البحتة ، بل كانت ذات سمة قرآنية دنيوية طفحت على جنباتها الأخلاق الفاضلة والتربية الإسلامية الصحيحة التي تؤكد تربية الذات على النقاء والطهارة ، وتعميق الصفات الأخلاقية في المجتمع الإسلامي ، وقد عمل الإمام الباقر عليه‌السلام بوحي من عمق إدراكه للواقع على إعداد النماذج الإسلامية المتحركة ، التي تسير على أكتافها عجلة مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، وتعمّ باشعاعها ونورها مختلف قطاعات الأمة ، بوصفها الكتلة المؤمنة والمحافظة على خط الإسلام الأصيل.

حرص الإمام عليه‌السلام على بلوغ هذه الأهداف من خلال عدة توصيات ، كان لها الأثر الفاعل في تربية الكوادر الرسالية الواعية والنخبة الصالحة على

١٤٨

المستوى السلوكي والفكري ، وركز في توصياته على بيان مفهوم التشيع الأصيل ، وتأطير خواص ومميزات المنتمين إليه ، فليس جميع الشيعة بمستوى واحد من الخلال التي تؤهلهم لما يريده الإمام عليه‌السلام ، بل فيهم الانتهازي الذي يتحين الفرص ، وفيهم من يتهشم كالزجاج في وقت الفتنة والابتلاء ، وفيهم من هو كالذهب الخالص كلما فتنته إزداد جودة ، قال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : «شيعتنا ثلاثة أصناف : صنف يأكلون الناس بنا ، وصنف كالزجاج تهشم ، وصنف كالذهب الأحمر كلما أدخل النار ازداد جودة» (١).

وأولئك الذين وصفهم الإمام عليه‌السلام بالذهب الأحمر ، هم الذين توافرت فيهم عِدّة خصال حددها الإمام عليه‌السلام في جملة أحاديث :

أولاً : إخلاص الولاء والمحبة لأهل البيت عليهم‌السلام وإحياء أمرهم ، باعتبارهم الصفوة والقيادة الرسالية ، قال عليه‌السلام : «إنما شيعة علي عليه‌السلام المتباذلون في ولايتنا ، المتحابون في مودتنا ، المتزاورون لاحياء أمرنا ، الذين إذا غضبوا لم يظلموا ، وإذا رضوا لم يسرفوا ، بركة على من جاوروا ، سلم لمن خالطوا» (٢).

ثانياً : لا يكفي الشيعي أن ينتحل محبة أهل البيت عليهم‌السلام ويدين بولايتهم وحسب ، بل لا بد أن يتمسك بتقوى اللّه ويعمل بطاعته ، فمن كان للّه مطيعا فهو لهم عليهم‌السلام ولي ، ومن كان للّه عاصيا فهو لهم عدو ، ولا بد أن يعمل بعملهم ويستن بسنتهم ، فلا تنال ولايتهم إلاّ بالورع والعمل والاجتهاد ، ولابد للشيعي أن يتحلّى بمكارم الأخلاق ويجعلها سلوكاً وعملاً يسير على الأرض ، وعلى رأس تلك الفضائل التواضع والتخشع وصدق الحديث والأمانة وكثرة الذكر وتلاوة

__________________

(١) تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٩١ ، كشف الغمة ٢ : ٣٤٤ ، حلية الأولياء ٣ : ١٨٣.

(٢) تحف العقول : ٣٠٠.

١٤٩

القرآن والصوم والصلاة وتعهد الجيران والأيتام.

قال الباقر عليه‌السلام لمحمد بن مسلم : «يا محمد ، لا تذهبنّ بكم المذاهب ، فواللّه ما شيعتنا منكم إلاّ من أطاع اللّه» (١).

وقال عليه‌السلام لبعض شيعته : «إنا لا نغني عنكم شيئاً إلاّ بالورع ، وإن ولايتنا لا تنال إلاّ بالورع والاجتهاد ، ولا تدرك إلاّ بالعمل ، وإنّ أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة من وصف عدلاً وأتى جوراً» (٢).

وقال عليه‌السلام لجابر بن يزيد الجعفي : «يا جابر ، أيكتفي من انتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت؟ فو اللّه ما شيعتنا إلاّ من اتقى اللّه وأطاعه ، وما كانوا يعرفون ـ يا جابر ـ إلاّ بالتواضع ، والتخشع ، وكثرة ذكر اللّه ، والصوم ، والصلاة ، والتعهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام ، وصدق الحديث ، وتلاوة القرآن ، وكفّ الألسن عن الناس إلاّ من خير ، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء.

فقال جابر : يا بن رسول اللّه ، لست أعرف أحدا بهذه الصفة. فقال : يا جابر ، لا تذهبنّ بك المذاهب ، أحسب الرجل أن يقول أحبّ عليا وأتولاه! فلو قال : اني أحبّ رسول اللّه ؛ ورسول اللّه خيرٌ من عليّ ، ثم لا يعمل بعمله ولا يتبع سنته ، ما نفعه حبّه إيّاه شيئا ، فاتقّوا اللّه واعملوا لما عند اللّه ، ليس بين اللّه وبين أحد قرابة ، أحبّ العباد إلى اللّه وأكرمهم عليه ، أتقاهم له وأعملهم بطاعته ، واللّه ما يتقرّب إلى اللّه جلّ ثناؤه إلاّ بالطاعة ، ما معنا براءة من النار ، ولا على اللّه لأحد من حجّة ، من كان للّه مطيعا فهو لنا وليّ ، ومن كان للّه عاصيا

__________________

(١) حلية الأولياء ٣ : ١٨٤ ، كشف الغمة ٢ : ٣٤٤ ، أعلام الدين : ١٤٤.

(٢) أعلام الدين في صفات المؤمنين : ١٢٧ و ٣٠١.

١٥٠

فهو لنا عدو ، ولا تنال ولايتنا إلاّ بالورع والعمل» (١).

ثالثاً : أمرهم أن يجاهدوا أنفسهم كي يعرجوا في سلّم الكمال ، قال عليه‌السلام : «إنما شيعة علي عليه‌السلام الشاحبون الناحلون الذابلون ، ذابلة شفاههم ، خميصة بطونهم ، متغيرة ألوانهم ، مصفرة وجوههم ، إذا جنهم الليل اتخذوا الأرض فراشاً ، واستقبلوا الأرض بجباههم ، كثير سجودهم ، كثيرة دموعهم ، كثير دعاءهم ، كثير بكاءهم ، يفرح الناس وهم محزونون» (٢).

رابعاً : وأمرهم أن يعرضوا أنفسهم على المكارم الواردة في القرآن ، وأن يسلكوا سبيله ، فمن وصيته إلى جابر بن يزيد الجعفي : « واعلم بأنك لا تكون لنا ولياً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا : إنك رجل سوء لم يحزنك ذلك ، ولو قالوا : إنك رجل صالح لم يسرك ذلك ، ولكن اعرض نفسك على كتاب اللّه ، فان كنت سالكاً سبيله ، زاهداً في تزهيده ، راغباً في ترغيبه ، خائفاً من تخويفه فاثبت وأبشر ، فإنه لا يضرك ما قيل فيك. وإن كنت مبايناً للقرآن ، فماذا الذي يغرك من نفسك؟ ان المؤمن معنّي بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها ، فمرّة يقيم أودها ويخالف هواها في محبة اللّه ، ومرة تصرعه نفسه فيتبع هواها ، فينعشه اللّه فينتعش ، ويقيل اللّه عثرته ، فيتذكر ويفزع إلى التوبة والمخافة ، فيزداد بصيرة ومعرفة لما زيد فيه من الخوف ، وذلك بأن اللّه يقول : «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ» » (٣).

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٧٣٥ / ١٥٣٥ ، الكافي ٢ : ٦٠ / ٣ ، تحف العقول : ٢٩٤.

(٢) الخصال : ٤٤٤ / ٤٠.

(١) تحف العقول : ٢٨٤ ، والآية من سورة الأعراف : ٧ / ٢٠١.

١٥١

خامساً : حرص عليه‌السلام على تأصيل الخصال الإسلامية في سلوكهم ، ونبذ خصال السوء ، ففي قول اللّه عزّوجلّ : «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» (٢).قال عليه‌السلام : «قولوا لهم أحسن ما تحبون أن يقال لكم ، ثم قال : إن اللّه عزوجل يبغض اللعان السباب ، الطعان الفحاش المتفحش ، السائل الملحف ، ويحب الحيي الحليم ، العفيف المتعفف» (٣).

سادساً : كان عليه‌السلام يطلب من شيعته أن لاينعزلوا عن محيطهم الاجتماعي ، وأن يتجردوا عن حبّ الذات ، لأن التشيع لا ينفك عن الألفة والأخوة ، وتحقيق أعلى مستويات التعاون والإيثار ، فأوصاهم بتعهد الجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام.

وفي هذا الشأن ، يقول جابر بن يزيد الجعفي : «دخلت على أبي جعفر الباقر عليه‌السلام فقلت : أوصني يا ابن رسول اللّه. فقال : ليعن قويكم ضعيفكم ، وليعطف غنيكم على فقيركم ، وليساعد ذو الجاه منكم بجاهه من لا جاه له ، ولينصح الرجل أخاه كنصحه لنفسه ، واكتموا أسراركم ، ولا تحملوا الناس على رقابنا» (٤).

وقال عليه‌السلام لأحد أصحابه : «يا اسماعيل ، أرأيت فيما قبلكم إذا كان الرجل ليس له رداء ، وعند بعض إخوانه فضل رداء ، يطرحه عليه حتى يصيب رداء؟ فقلت : لا. قال : فإذا كان له إزار يرسل إلى بعض إخوانه بإزاره حتى يصيب

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٨٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢١.

(٣) أعلام الدين : ٣١٤ ، بشارة المصطفى : ١١٣.

١٥٢

إزارا؟ فقلت : لا. فضرب بيده على فخذه ، ثم قال : ما هؤلاء باخوة» (١).

٢ ـ الحثّ على طلب العلم وتعليمه :

وفي المجال النظري حثّ الإمام الباقر عليه‌السلام أتباعه على طلب العلم ، باعتباره الدعامة الأولى والمقدمة الضرورية التي يرتكز عليها صرح المدرسة العلمية ، وذلك من خلال الارشادات التالية :

أولاً : تحدث عليه‌السلام عن تمجيد العلم ، وبين ثمراته وفوائده ، وأثنى على طلابه.

عن جابر الجعفي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « سارعوا في طلب العلم ، فوالذي نفسي بيده لحديث واحد في حلالٍ وحرام ، تأخذه عن صادق ، خير من الدنيا وما حملت من ذهب وفضّة ، وذلك أنّ اللّه يقول : «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» » (٢).

وقال عليه‌السلام : «ما من عبد يغدو في طلب العلم ويروح إلاّ خاض الرحمة ، وهتفت به الملائكة : مرحباً بزائر اللّه ، وسلك من الجنة مثل ذلك المسلك» (٣).

ومن كلامه عليه‌السلام في هذا السياق ، قوله لبعض أصحابه : «تعلموا العلم ، فإن تعلّمه حسنة ، وطلبه عبادة ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه صدقة ، وبذله لأهله قربة ، والعلم ثمار (٤) الجنة ، وأنس في الوحشة ، وصاحب في الغربة ، ورفيق في الخلوة ، ودليل على السراء ، وعون على

__________________

(١) مصادقة الاخوان / الصدوق : ٣٦ ، مجموعة ورام ٢ : ٨٥ ، كتاب المؤمن / الحسين ابن سعيد : ٤٥.

(٢) المحاسن ١ : ٢٢٧ / ١٥٦ ، الآية من سورة الحشر : ٥٩ / ٧.

(٣) ثواب الأعمال : ١٣١.

(٤) في التذكرة : منار.

١٥٣

الضراء ، وزين عند الأخلاء ، وسلاح على الأعداء ، يرفع اللّه به قوماً فيجعلهم في الخير سادة ، وللناس أئمة ، يقتدى بفعالهم ، وتقتصّ آثارهم ، ويصلى عليهم كل رطب ويابس ، وحيتان البحر وهوامه ، وسباع البرّ وأنعامه» (١).

ثانياً : شدد الإمام عليه‌السلام على ضرورة سؤال أهل العلم ومذاكرتهم ، لأن السؤال هو المفتاح الذي يلج منه الطالب إلى خزائن العلم ، قال عليه‌السلام : «العلم خزائن ، والمفاتيح السؤال ، فاسألوا يرحمكم اللّه ، فانه يؤجر في العلم أربعة : السائل ، والمتكلم ، والمستمع ، والمحبّ لهم» (٢).

وقال : «ألا إن مفاتيح العلم السؤال ، وأنشأ يقول :

شفاء العمى طول السؤال وانما

تمام العمى طول السكوت على الجهل»(٣)

أما المذاكرة في العلوم ، فإنها تفتح آفاق الدراسة والمعرفة الواسعة ، وذلك من وسائل إحياء للعلم ، قال الباقر عليه‌السلام : «رحم اللّه عبداً أحيا العلم. فقيل : وما إحياؤه؟ قال : إن يذاكر به أهل الدين والورع» (٤).

وقال عليه‌السلام : «تذاكر العلم ساعة خير من قيام ليل» (٥). وقال عليه‌السلام : «تذاكر العلم دراسة ، والدراسة صلاة حسنة» (٦).

__________________

(١) أعلام الدين في صفات المؤمنين : ٣٠٢ ، التذكرة الحمدونية : ٣٨٧.

(٢) الخصال : ٢٤٥ / ١٠١.

(٣) كفاية الأثر : ٢٥٢.

(٤) الكافي ١ : ٤١ / ٧ ، منية المريد / الشهيد الثاني : ١٦٩.

(٥) الاختصاص : ٢٤٥.

(٦) المحاسن ١ : ٢٠٦ / ٦٢ ، الكافي ١ : ٤١ / ٩.

١٥٤

وهنا يرتفع الإمام عليه‌السلام بدراسة العلم إلى مستوى الصلاة والعبادة ، فأنت حينما تتدارس العلم مع الآخرين ، فكأنك تصلي وتتعبد ، يصلي عقلك ويتعبّد إلى اللّه سبحانه حتى يفيض عليه الحقيقة مما لم يطلع عليه في دراسته وحده.

فالعلم لا يقتصر على أن نقرأ ونسمع ، لأن التلقي والتلقين وحدهما من المسائل السلبية التي لا يتعمق بهما العلم ، ولا تُفتح آفاقه ، وهذا من التعاليم الراقية لمن يريد أن ينهض بتأسيس مدرسة علمية تلتقي فيها مختلف الطوائف ، لأن التذاكر يجعل الفكر يصطدم بفكر الآخر أو ينفتح عليه ، كما قد يكون التذاكر تفاعلاً ذاتيا مع العلم ، مما يجعل العلم يتعمق في الذات.

ثالثاً : وضع الإمام الباقر عليه‌السلام الأسس القويمة لآداب المتعلمين ، قال عليه‌السلام : «إذا جلست إلى عالم فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول ، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن القول ، ولا تقطع على أحد حديثه» (١).

وتحدّث الإمام عليه‌السلام عن الروحية التي ينبغي للمتعلم أن يعيشها في طلب العلم ، فقال عليه‌السلام : «من طلب العلم ليباهي به العلماء ، أو يماري به السفهاء ، أو يصرف به وجوه الناس إليه ، فليتبوأ مقعده من النار ، إن الرياسة لا تصلح إلاّ لأهلها» (٢).

ذلك لأن هناك من يطلب العلم للشيطان ولا يطلبه للّه ، فقد يريد من العلم أن يخدم شخصه في الجاه أو الكسب المادي ، كي يصرف وجوه الناس إليه ،

__________________

(١) الاختصاص : ٢٤٥.

(٢) الكافي ١ : ٤٧/٦.

١٥٥

وهناك من يتشدق به في مواجهة العلماء ، أو يجادل به السفهاء ، لتأكيد ذاته مباهاة وافتخاراً ، وفي المقابل فإن هناك من يطلب العلم من أجل أن ينير ذاته في معرفة الحقيقة ، وأن ينير بالعلم مجتمعه.

رابعاً : تحدّث الإمام أبو جعفر عليه‌السلام في كثير من أحاديثه عن صفات العلماء ، ودعاهم إلى الابتعاد عن الآفات النفسية سيما الحسد ، وإلى عدم استصغار من هو دونهم من صغار طلابهم ، قال عليه‌السلام : «لا يكون العبد عالماً حتى لا يكون حاسداً لمن فوقه ، ولا محقراً لمن دونه» (٢).

ونهى المتصدين منهم للإفتاء عن الفتوى بغير علم ، لأنها مصدر لضلالة الأمة ، قال عليه‌السلام : «ما علمتم فقولوا ، وما لم تعلموا فقولوا : اللّه أعلم» (٣).

واعتبر ذلك من حقوق اللّه سبحانه على العباد ، فقد سأله زرارة : «ما حق اللّه على العباد؟ فقال عليه‌السلام : أن يقولوا ما يعلمون ، ويكفوا عما لا يعلمون ، فإذا فعلوا ذلك فقد أدوا إلى اللّه حقه» (٤).

وطلب الإمام عليه‌السلام من أهل العلم العمل بمقتضى العلم ، وتطبيق ما علموه على واقع حياتهم ، لأن ذلك يفتح عليهم آفاقاً علمية رحبة ، قال عليه‌السلام : «من عمل بما يعلم ، علمه اللّه ما لا يعلم» (٤). وقال عليه‌السلام : «إذا سمعتم العلم فاستعملوه» (٥).

__________________

(١) تحف العقول : ٢٩٤.

(٢) المحاسن ١ : ٢٠٦ / ٦٢ ، الكافي ١ : ٤٢ / ٤.

(٣) المحاسن ١ : ٢٠٤ / ٥٣ ، الكافي ١ : ٥٠ / ١٢.

(٤) أعلام الدين في صفات المؤمنين : ٣٠٠.

(٥) الكافي ١ : ٤٥ / ٧.

١٥٦

ودعاهم إلى تعاطي العلم وإشاعته بين الناس ، جاعلاً ذلك بمثابة الزكاة للعلم ، يقول عليه‌السلام : «زكاة العلم أن تعلمه عباد اللّه» (١).

خامساً : بيّن الإمام عليه‌السلام نوع العلم الذي ينبغي على المعلّم تعليمه إلى طلابه ، فيقول عليه‌السلام : «من علّم باب هدى ، فله مثل أجر من عمل به ، ولا ينقص أولئك من أجورهم شيئاً ، ومن علم باب ضلال ، كان عليه مثل أوزار من عمل به ، ولا ينقص أولئك من أوزارهم شيئاً» (٢).

سادساً : أشاد عليه‌السلام بفضل العلماء ، وبين سمو منزلتهم ، فقال عليه‌السلام : «العالم كمن معه شمعة تضيء للناس ، فكل من أبصر شمعته دعا له بخير» (٣).

وقال عليه‌السلام : «إن الذي يعلّم العلم منكم ، له مثل أجر المتعلّم ، وله الفضل عليه ، فتعلموا العلم من حملة العلم ، وعلموه إخوانكم كما علمكم العلماء» (٤).

وقال عليه‌السلام : «عالم ينتفع بعلمه ، أفضل من سبعين ألف عابد» (٥).

٣ ـ الانفتاح على الأمة بكل طوائفها :

رغم أن الإمام الباقر عليه‌السلام يمثل عنواناً مذهبياً في ما يعتقده كثير من المسلمين بأنه إمام في موقع الوصاية من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلاّ أنه كان منفتحاً على مختلف أطياف الواقع الإسلامي ، وكان مرجعاً لها جميعاً ، وحرص على أن تمتاز مدرسته بالسعة والشمولية والتنوع ، بحيث يصدق عليها مدرسة الإسلام الكبرى ،

__________________

(١) الكافي ١ : ٤١ / ٣.

(٢) تحف العقول : ٢٩٧.

(٣) الاحتجاج ١ : ٢٨ / ١٥٦ ، اليقين / ابن طاوس : ٧.

(٤) الكافي ١ : ٣٥ / ٢.

(٥) حلية الأولياء ٣ : ١٨٣ ، الفصول المهمة : ١٩٥ ، كشف الغمة ٢ : ٣٤٤ ، أعلام الدين في صفات المؤمنين : ٨٣ ، تحف العقول : ٢٩٤ ، مطالب السؤول : ٨٠.

١٥٧

ويتضح ذلك مما يلي :

أولاً : التواضع العلمي ، وهو المقدمة الأساسية لتحقيق الانفتاح على الأمة ، وأبدى الإمام الباقر عليه‌السلام تواضعه العلمي في روايته حديث اللوح عن جابر مع علمه الأكيد بهذا الحديث الشريف ، فقد ثبت في الصحيح أنه عليه‌السلام عارض ما يحفظ من حديث اللوح الذي يتضمن النص على أئمة أهل البيت عليهم‌السلام واحداً واحداً ، بالأصل الذي كان عند الصحابي الجليل جابر بن عبد اللّه الأنصاري رضي‌الله‌عنه ، وتجشم زحمة الذهاب إلى بيت جابر لهذا الغرض ، وجاء في الرواية أنه عليه‌السلام قال لجابر : هل لك يا جابر أن تعرضه علي؟ فقال : نعم ، فمشى معه عليه‌السلام حتى انتهى إلى منزل جابر ، فأخرج إليه صحيفة من رقّ ، فقال : يا جابر ، انظر أنت في كتابك لأقرأه أنا عليك ، فنظر جابر في نسخته ، فقرأه عليه وما خالف حرف حرفاً (١). ولا يخلو هذا العمل من محاولة الإمام عليه‌السلام إثارة الوازع في نفوس أصحابه لطلب العلم ، ودفعهم باتجاه التفاني في سبيل الحفاظ على السنة المحمدية وتدوينها.

ويدل على تواضعه من خلال تواصله العلمي ومراسلاته الفقهية وحواراته الفكرية والكلامية مع علماء الإسلام من مختلف أوساط الأمة بمن فيهم حكام الجور الأمويين وفقهائهم ، كالحسن البصري ، ونافع مولى عبد اللّه ابن عمر ، والأبرش بن الوليد الكلبي وزير هشام بن عبد الملك ، وقتادة بن دعامة البصري ، وسالم التمار من الزيدية ، وطاوس اليماني ، وعبد اللّه بن معمر الليثي ، وعبد اللّه بن المبارك ، وعمر بن عبد العزيز ، وعمرو بن عبيد من المعتزلة وآخرين ، باعتبار أن الحوار هو الذي يقلّص مساحة الخلاف.

__________________

(١) اكمال الدين : ٣٠٨.

١٥٨

ثانياً : استقطاب رواد المعرفة بغض النظر عن توجهاتهم الفكرية والفقهية والعقدية ، فتجد في مجلسه وحلقة درسه مختلف رجالات الفكر من شتى ديار الإسلام ، منهم العامي والزيدي والمعتزلي والمتصوف والخارجي وغيرهم ، فلا يضيق مجلسه بفكر يختلف مع فكره ، ولا بعالم يلتزم اجتهاداً أو يتبنى مذهباً معيناً في الفقه أو الكلام.

قال الشيخ الطبرسي في ذكره لتاريخ الإمام الباقر عليه‌السلام : يختلف إليه الخاص والعام ، ويأخذون عنه معالم دينهم ، حتى صار في الناس علماً تضرب به الأمثال (١).

ويقول أبو زهرة : ورث الباقر إمامة العلم ونبل الهداية عن أبيه زين العابدين ، ولذا كان مقصد العلماء من كل البلاد الإسلامية ، وما زار أحد المدينة ، إلاّ عرج على بيت محمد الباقر يأخذ عنه ، وكان ممن يزوره علماء من الذين يتشيعون لآل البيت ، وعلماء من أهل السنة ، وكان يقصده بعض المنحرفين الغلاة في تشيعهم الذين أفرطوا ، فكان يبين لهم الحق ، فإن اهتدوا أخذ بيدهم إلى الحق الكامل ، وان استمروا على غيهم صدهم ، وأخرجهم من مجلسه ، وكان يقصده من أئمة الفقه والحديث كثيرون ، منهم سفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة محدث مكة ، ومنهم الإمام أبو حنيفة (٢) فقيه العراق ، وكان

__________________

(١) تاج المواليد : ٤٠.

(٢) عدّ الحافظ أبو المؤيد محمد بن محمود الخوارزمي الإمام الباقر عليه‌السلام من التابعين الذين روى عنهم أبو حنيفة ، في كتابه جامع مسانيد أبي حنيفة ٢ : ٣٤٩ ، وجاء في تذكرة الخواص : ٣٤٧ قال ابن سعد : محمد الباقر من الطبقة الثالثة من التابعين من أهل المدينة ، كان عالماً عابداً ثقة ، روى عنه الأئمة أبو حنيفة وغيره.

١٥٩

يرشد كل من يجيء إليه ، ويبين له الحق الذي لا عوج فيه (١).

وعدا من ذكر أبو زهرة ، عدّ المترجمون للإمام عليه‌السلام من رجال العامة أعلاماً آخرين تلقوا العلم عنه عليه‌السلام ، مما يدل على سعة مدرسته وتنوعها ، منهم : أبو إسحاق السبيعي ، وأبيض بن أبان ، والأعمش ، والأوزاعي إمام الشام ، وحجاج بن أرطاة ، وحرب بن سريج ، وحفص بن غياث ، والحكم بن عتيبة ، وخالد بن طهمان أبو العلاء الخفاف السلولي ، وربيعة الرأي ، والزهري ، وأخوه زيد ، وعبادة بن صهيب ، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، وعبد اللّه بن أبي بكر ابن حزم شيخ مالك ، وعبد الملك بن جريج إمام مكة ، وعطاء بن أبي رباح ، وعمر بن خالد الواسطي ، وعمرو بن دينار ، والقاسم بن الفضل الحذاء ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر ، وقرة بن خالد البصري ، وكيسان صاحب الصوفية ، وليث بن أبي سليم ، ومالك ، ومحمد بن المنكدر ، ومحمد بن يوسف ، ومخول بن راشد ، ومعمر بن يحيى ، ومكحول بن راشد ، ووكيع ، ويحيى بن أبي كثير ، وغيرهم (٢).

وعدّ المترجمون له عليه‌السلام من الشيعة رجالاً من الزيدية أو البترية رووا عنه عليه‌السلام معالم الدين ، منهم : أبو المقدام ثابت الحداد ، والحسن بن صالح بن حي ، وإليه تنسب الزيدية الصالحية ، وأبو الجارود زياد بن المنذر ، وإليه تنسب

__________________

(١) الإمام الصادق / محمد أبو زهرة : ٢٢.

(٢) تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٦٨ ، و ٢٧٢ ، البداية والنهاية ٩ : ٣٣٨ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٠١ ، تذكرة الحفاظ / الذهبي ١ : ١٢٤ ، طبقات الحفاظ / السيوطي : ٥٦ ، كشف الغمة ٢ : ٣٤٤ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٢٧ ، الجمع بين رجال الصحيحين ٢ : ٤٤٦.

١٦٠