الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-51-5
الصفحات: ٣١١

وأنطق بها لسانه» (١).

ومن خصائصه عليه‌السلام أنه كان ذا قلب محزون ، مشغول عما في الدنيا ، لم يحفل بمظاهر الحياة الفانية ونعيمها الزائل ، بل امتلأت آفاق قلبه بخالص دين اللّه ، واتجه بكلّ عواطفه إلى اللّه سبحانه ، ليس له همّة إلاّ لقاءه ، رغبة فيما أعدّه له في دار الخلود من الرضوان والنعيم والكرامة ، ويترجم الإمام عليه‌السلام ذلك خلال وصيته إلى تلميذه جابر الجعفي ، في ذم الدنيا وحث السالكين سبيل الهدى كي يسيروا في طريق المتّقين الصادقين في إدراك الآخرة والعمل لها ما وسعهم ذلك.

قال جابر : «خرج عليه‌السلام يوماً وهو يقول : أصبحت واللّه يا جابر محزوناً مشغول القلب. فقلت : جعلت فداك ، ما حزنك وشغل قلبك ، كل هذا على الدنيا؟ فقال عليه‌السلام : لا يا جابر ، ولكن حزن همّ الآخرة. يا جابر ، من دخل قلبه خالص حقيقة الإيمان شغل عما في الدنيا من زينتها ، إن زينة زهرة الدنيا ، إنّما هو لعب ولهو ، وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان. يا جابر ، إن المؤمن لا ينبغي له أن يركن ويطمئن إلى زهرة الحياة الدنيا.

واعلم أن أبناء الدنيا هم أهل غفلة وغرور وجهالة ، وأن أبناء الآخرة هم المؤمنون العاملون الزاهدون ، أهل العلم والفقه ، وأهل فكرة واعتبار واختيار ، لا يملون من ذكر اللّه.

واعلم يا جابر أن أهل التقوى هم الأغنياء ، أغناهم القليل من الدنيا ، فمؤونتهم يسيرة ، إن نسيت الخير ذكروك ، وإن عملت به أعانوك ، أخروا شهواتهم ولذاتهم خلفهم ، وقدموا طاعة ربهم أمامهم ، ونظروا إلى سبيل الخير ، وإلى ولاية أحباء اللّه ، فأحبوهم وتولوهم واتبعوهم. فانزل نفسك

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٦ / ٦.

١٢١

من الدنيا كمثل منزل نزلته ساعة ثم ارتحلت عنه ، أو كمثل مال استفدته في منامك ففرحت به وسررت ، ثم انتبهت من رقدتك وليس في يدك شيء.

وإني إنما ضربت لك مثلاً لتعقل وتعمل به إن وفقك اللّه له. فاحفظ يا جابر ما أستودعك من دين اللّه وحكمته ، وانصح لنفسك ، وانظر ما اللّه عندك في حياتك ، فكذلك يكون لك العهد عنده في مرجعك.

وانظر فإن تكن الدنيا عندك على غير ما وصفت لك فتحول عنها إلى دار المستعتب اليوم ، فلرب حريص على أمر من أمور الدنيا قد ناله ، فلما ناله كان عليه وبالاً وشقي به ، ولرب كاره لأمر من أمور الآخرة قد ناله فسعد به» (١).

ومما جاء عن معالي أخلاقه عليه‌السلام وشدة ورعه أنه كان اذا ضحك قال : «اللهمّ لا تمقتني» (٢).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه إذا كان الإمام عليه‌السلام زاهداً ، فإنّما يستن بسنة جده المصطفى ، ويتبع منهاج آبائه الكرام عليهم‌السلام ، ولم يكن زهده بالمعنى الصوفي أو الرهباني ، الذي يعزله عن التمتع بزينة الحياة ، ويقطعه عن لقاء الناس ، بل هو إمام منفتح على الواقع بكل تفاصيله ، وله مرجعية واسعة ومهام

__________________

(١) تحف العقول : ٢٨٧ ، وروي نحوه فى كتاب ذم الدنيا / ابن أبي الدنيا : ١٢٩ ، تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٨٠ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٠٥ ، حلية الأولياء ٣ : ١٨٢ ، مطالب السؤول : ٨٠ ، الفصول المهمة : ١٩٤ ، تذكرة الخواص : ٣٤٨ ، روض الرياحين / اليافعي : ٥٧ ، كشف الغمة ٢ : ٣٣٣.

(٢) حلية الأولياء ٣ : ١٨٥.

١٢٢

جسيمة ، على رأسها رفع منار العلم والنهوض بالواقع المعرفي للأمة ، فلا يمكن أن يحجر نفسه في خانة المتصوفة ، كما يدعي بعض المتصوفة (١) ، أو يتخذ من الزهد نظاماً يحكم حياته.

وهناك المزيد من الأخبار تدل على ما ذكرناه ، منها رواية الحكم بن عتيبة ، قال : «دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام وهو في بيت منجد ، وعليه قميص رطب وملحفة مصبوغة ، قد أثر الصبغ على عاتقه ، فجعلت أنظر إلى البيت وأنظر إلى هيئته ، فقال : يا حكم ، ما تقول في هذا؟ فقلت : وما عسيت أن أقول وأنا أراه عليك؟

وأما عندنا فانما يفعله الشاب المُرِهْقُ ، فقال لي : يا حكم «مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ» (٢) وهذا مما أخرج اللّه لعباده ، فأما هذا البيت الذي ترى فهو بيت المرأة ، وأنا قريب العهد بالعرس ، وبيتي البيت الذي تعرف» (٣).

وعن الحسن الزيات ، قال : «دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام في بيت منجد ، ثم عدت إليه من الغد وهو في بيت ليس فيه إلاّ حصير ، وعليه قميص غليظ ، فقال : البيت الذي رأيته ليس بيتي ، انما هو بيت المرأة ، وكان أمس يومها» (٤).

وروي أنه عليه‌السلام كان يتأنق بملبسه ، قال زرارة : «رأيت على أبي جعفر عليه‌السلام

__________________

(١) راجع : الإمامة وأهل البيت / محمد بيومي مهران ٣ : ٦٧.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٣٢.

(٣) الكافي ٦ : ٤٤٦ / ١.

(٤) الكافي ٦ : ٤٧٧ / ٥ و ٤٤٨ / ١٣.

١٢٣

ثوباً معصفراً ، فقال : إني تزوجت امرأة من قريش» (١).

وعن جراح المدائني ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «إنا نلبس المعصفرات والمضرجات» (٢).

وعن أبي الجارود ، قال : كان أبو جعفر عليه‌السلام «يلبس المعصفر والمنيّر» (٣).

٤ ـ الكرم :

البذل والعطاء والجود خصال بارزة في سيرة أئمتنا المعصومين عليهم‌السلام ، وكان الإمام أبو جعفر عليه‌السلام من أندى الناس كفاً ، وأسمحهم يداً ، لايردّ سائلاً ، ولا يخيب مؤملاً. قال الشيخ المفيد : وكان ـ مع ما وصفناه به من الفضل في العلم والسؤدد والرئاسة والإمامة ـ ظاهر الجود في الخاصة والعامة ، مشهور الكرم في الكافة ، معروفاً بالفضل والاحسان مع كثرة عياله وتوسط حاله (٤).

ولم يكن عليه‌السلام يمارس الإحسان والجود وحسب ، بل كان يدعو كثيراً إلى العطاء ويمتدح أهل المعروف ، ويبين فضلهم في الدنيا والآخرة ، وكأنه يريد أن يجعله منهجا وسلوكاً للسائرين في طريقه ، فمن كلامه عليه‌السلام في هذا الاتجاه : «إن من أحب عباد اللّه إلى اللّه ، لمن حبب إليه المعروف ، وحبب إليه فعاله» (٥).

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٤٧ / ٣.

(٢) الكافي ٦ : ٤٤٧ / ٦.

(٣) الكافي ٦ : ٤٤٧ / ٨.

(٤) الارشاد ٢ : ١٦٦.

(٥) الكافي ٤ : ٢٥ / ٣.

١٢٤

وقيل له عليه‌السلام : أتعرف شيئاً خيراً من الذهب؟ قال : «نعم ، معطيه» (١).

وقال عليه‌السلام : «إن اللّه جعل للمعروف أهلا من خلقه ، حبب إليهم المعروف وحبب إليهم فعاله ، ووجه لطلاب المعروف الطلب إليهم ، ويسر لهم قضاءه ، كما يسر الغيث للأرض المجدبة ليحييها ويحيي أهلها ، وان اللّه جعل للمعروف أعداء من خلقه بغّض إليهم المعروف ، وبغض إليهم فعاله ، وحظر على طلاب المعروف التوجه إليهم ، وحظر عليهم قضاءه ، كما يحظر الغيث عن الأرض المجدبة ليهلكها ويهلك أهلها ، وما يعفو اللّه عنه أكثر» (٢).

وعن جابر الجعفي ، قال : «دخل رجل على أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، فقال له : عافاك اللّه ، اقبض مني هذه الخمس مئة درهم ، فإنها زكاة مالي. فقال له أبوجعفر عليه‌السلام : خذها أنت فضعها في جيرانك من أهل الإسلام والمساكين من إخوانك المسلمين» (٣).

ويرتفع الإمام الباقر عليه‌السلام بالتكافل إلى مقام العبادة ، بل ويضاهي بعض العبادات ويفوقها ثوابا ، وهو مثل رائع في تنمية روح التضامن والتكافل في مجتمع يسوده التفاوت الطبقي بسبب ظروف المقاطعة ، واحتكار بيت المال في دائرة البلاط الضيقة ، التي تمارس قطع الأرزاق كعقوبة لمخالفيها في الرأي.

قال عليه‌السلام : «واللّه لأن أحج حجة أحب إليَّ من أن أعتق رقبة ورقبة ورقبة ومثلها ومثلها حتى بلغ عشراً ، ومثلها ومثلها حتى بلغ السبعين ، ولأن أعول أهل بيت من المسلمين أسدّ جوعتهم ، وأكسو عورتهم ، وأكف وجوههم

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٠.

(٢) تحف العقول : ٢٩٥.

(٣) الغيبة / النعماني : ٢٤٢.

١٢٥

عن الناس ، أحب إليَّ من أن أحج حجة وحجة وحجة ومثلها ومثلها حتى بلغ عشراً ، ومثلها ومثلها حتى بلغ السبعين» (١).

وفي هذا الصدد ، كان عليه‌السلام يسعى إلى تربية شيعته وأتباعه من المؤمنين على أرقى نماذج التعامل الإسلامي فيما بينهم ، فيضرب لهم مثلاً أعلى في التكافل والتضامن ، لأجل التخفيف عن كاهل الأمة التي يرهقها الظلم والجور الذي تصبّه السياسة الأموية على قطاعات واسعة من جماهير الأمة ، سيما أتباع أهل البيت عليهم‌السلام.

عن الوصافي ، قال : «كنا عند أبي جعفر محمد بن علي يوماً ، فقال لنا : أيدخل أحدكم يده في كم أخيه ـ أو قال في كيسه ـ فيأخذ حاجته؟ قال : قلنا : لا. قال : فلستم أذن باخوان كما تزعمون. وفي رواية : أنتم أخدان ، ولستم باخوان» (٢).

وفي رواية الكافي ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «فلا شيء اذا ، قلت : فالهلاك اذا؟ وقال : إنّ القوم لم يعطوا أحلامهم بعد» (٣). وعن الحجاج بن أرطاة حين سأله عليه‌السلام : أيدخل أحدكم يده في كم أخيه ...قلت : أما هذا فلا. فقال : «أما لو فعلتم ما احتجتم» (٤).

ولا ريب أن الإمام عليه‌السلام يريد بهذا البيان أن يربي أصحابه على المواساة في

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٩٥ / ١١ ، و ٤ : ٢ / ٣ ، ثواب الأعمال : ١٤١.

(٢) تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٩٣ ، الصداقة والصديق / أبو حيان التوحيدي : ٢٧ كشف الغمة ٢ : ٣٣٠ و ٣٦١ ، البداية والنهاية ٩ : ٣٤٠ ، حلية الأولياء : ٣ : ١٨٧.

(٣) الكافي ٢ : ١٨١ / ١٣.

(٤) كشف الغمة ٢ : ٣٣٣.

١٢٦

المال ، وهي أرفع المكارم وأعلى المقامات ، وفي الوقت نفسه أشدّ الأعمال على الإنسان الذي جبل على حبّ المال وانشدّ إلى عالمه المادي ، إلاّ أولئك الذين بلغوا درجات من الكمال والإيمان تؤهلهم للزهد بالمال وعدم الاكتراث به.

روي عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : «أشد الأعمال ثلاثة : ذكر اللّه على كل حال ، وإنصافك الناس من نفسك ، ومواساة الإخوان في المال» (١).

وعلى الصعيد العملي كان من سجايا الإمام الباقر عليه‌السلام صلة الإخوان وإدخال السرور عليهم ، والإحسان والبذل والتصدق على ذوي الفاقة ، قال الشيخ المفيد : «كان لا يملّ من صلة إخوانه وقاصديه ومؤمليه وراجيه» (٢).

ولعل القيمة الموضوعية لبِرِّ الإمام عليه‌السلام وصدقاته الجارية تكون أكثر وقعاً إذا عرفنا أنه عليه‌السلام كان متوسط الحال كثير العيال ، ولم يكن من ذوي الثروة والمال.

عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام ، قال : «كان أبي عليه‌السلام أقلّ أهل بيته مالاً ، وأعظمهم مؤنة ، قال : وكان يتصدق كل جمعة بدينار ، وكان يقول : الصدقة يوم الجمعة تضاعف لفضل الجمعة على غيره من الأيام» (٣).

وعن الصادق : أن أباه عليهما‌السلام تصدق على فقراء أهل المدينة بثمانية آلاف دينار (٤).

وحكت سلمى مولاة أبي جعفر عليه‌السلام أنه كان يدخل عليه بعض إخوانه ،

__________________

(١) كشف الغمة ٢ : ٣٤٤ ، حلية الأولياء ٣ : ١٨٣.

(٢) الارشاد ٢ : ١٦٧.

(٣) ثواب الأعمال : ١٨٥.

(٤) فلاح السائل / ابن طاوس : ١٧٦.

١٢٧

فلا يخرجون من عنده حتى يطعمهم الطيب ، ويكسوهم الثياب الحسنة في بعض الأحيان ، ويهب لهم الدراهم ، فكنت أكلمه في ذلك ، لكثرة عياله وتوسط حاله ، فيقول : «يا سلمى ، ما حسنة الدنيا إلاّ صلة الإخوان والمعارف. وكان يصل بالخمس مئة درهم ، وبالست مئة ، وبالألف درهم» (١).

وعن سليمان بن قرم ، قال : كان أبو جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام يجيزنا بالخمس مئة درهم ، إلى الست مئة ، إلى الألف درهم (٢).

وعن عمرو بن دينار وعبد اللّه بن عبيد ، أنهما قالا : «ما لقينا أبا جعفر محمد ابن علي عليهما‌السلام إلاّ وحمل إلينا النفقة والصلة والكسوة ، ويقول : هذه معدّة لكم قبل أن تلقوني» (٣).

وقال الحسن بن كثير : «شكوت إلى أبي جعفر عليه‌السلام جور الزمان وجفاء الإخوان ، فقال : بئس الأخ أخ يرعاك غنياً ويجفوك فقيراً. ثم أمر غلامه فأخرج كيساً فيه سبع مئة درهم ، فقال : استعن بهذه على الوقت ، فإذا فرغت فأعلمني» (٤).

وثمة موقف تربوي في العطاء والبذل يسجله الإمام الباقر عليه‌السلام ، في حفظ كرامة السائل وحرمته في داره ، وعدم الحط من شأن الفقراء ، قال الجاحظ :

__________________

(١) الفصول المهمة : ١٩٧ ، نور الأبصار : ١٩٤ ، تذكرة الخواص : ٣٥٠ ، كشف الغمة ٢ : ٣٣٠ و ٣٣٢.

(٢) الارشاد ٢ : ١٦٧ ، روضة الواعظين : ٢٠٤ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٧.

(٣) الارشاد ٢ : ١٦٦ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٧.

(٤) الفصول المهمة : ١٩٧ ، المختار في مناقب الأخيار : ٣٠ ، روضة الواعظين : ٢٠٤ ، الارشاد ٢ : ١٦٦ ، كشف الغمة ٢ : ٣٣٠ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٧.

١٢٨

وكان محمد بن علي الباقر اذا رأى مبتلى أخفى الاستعاذة ، وكان لا يسمع من داره للسائل : بورك فيك ، ولا ياسائل خذ هذا ، وكان يقول : سمّوهم بأحسن أسمائهم» (١).

وفي هذا الاتجاه يقول عليه‌السلام : «اعلم أن طالب الحاجة لم يكرم وجهه عن مسألتك ، فأكرم وجهك عن رده» (٢).

ويتسع العطاء لديه عليه‌السلام ليشمل الرفق بسائر المخلوقات ، يقول عليه‌السلام : «من سقى كبدا حرى من بهيمة أو غيرها أظلّه اللّه يوم لا ظل إلاّ ظلّه» (٣).

عتق المماليك :

كان الرقّ ظاهرة متفشية في الوسط الاجتماعي آنداك ، وكان يُنظر إلى العبيد نظرة ازدراء واحتقار ، وبحكم النظام الاجتماعي القائم ، أصبح العبيد محكومين من قبل ساداتهم لايستطيعون التمرّد عليهم ، وجاء الإسلام لتحرير الإنسان من براثن العبودية والرق ، واستئصال تلك الظاهرة ولو بالتدريج ، فشجع على البذل والعطاء في سبيل عتق الرقاب ، ومارس الرسول وأهل البيت عليهم‌السلام ذلك ممارسة عملية ، فتبوأ المماليك بفضل ذلك مراكز اجتماعية مهمة في أوساط المجتمع الإسلامي ، وكان آخر وصايا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصلاة وبهذه الشريحة الاجتماعية المهمة ، حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللّه اللّه في صلاتكم ، وما ملكت أيمانكم».

وقال : «ألبسوهم مما تلبسون ، وأطعموهم مما تأكلون».

__________________

(١) البيان والتبيين ٣ : ١٥٧.

(٢) تحف العقول : ٢٩٩.

(٣) الكافي ٤ : ٥٨ / ٦.

١٢٩

وقد جسّد الإمام الباقر عليه‌السلام إيمانه بكرامة الإنسان وسعيه إلى تحريره ، من خلال عتق العبيد والمماليك ، وبذله المزيد من العطاء في هذا السبيل ، امتداداً لعمل آبائه الكرام عليهم‌السلام ، واقتداءً بأحد خصال أبيه السجاد عليه‌السلام الذي تعامل مع تلك الظاهرة من موقع المسؤولية ، فاتّبع فلسفة خاصة في تحرير العبيد ، وتعامل معهم كبشر لا يميّزهم شيء عن سواهم في تطلعاتهم وآمالهم ، وسعى إلى تربيتهم وزرع القيم الرسالية في نفوسهم.

نعم ، كان الإمام الباقر عليه‌السلام قد تعامل مع تلك الظاهرة على خطى آبائه المعصومين عليهم‌السلام ، فحث وعمل على شراء المماليك وعتقهم لوجه اللّه ، وتعامل معهم بلطف الأخ الكبير وشفافية الأب الحنون والصديق الحميم ، وكان يجالسهم ويؤدب شرارهم ، ويعمل معهم يداً بيد ، ليزرع فيهم الثقة والاعتزاز بالنفس وبالدين.

روى أبو حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي عليهما‌السلام ، أنه قال في حديث : «أربع من كن فيه من المؤمنين ، أسكنه اللّه في أعلى عليين ، في غرف فوق غرف ، في محل الشرف. إلى أن قال : ومن لم يخرق بمملوكه ، وأعانه على ما يكلفه ، ولم يستسعه فيما لا يطيق» (١).

ولم يكن ذلك شعاراً يطلقه الإمام عليه‌السلام وحسب ، بل كان يمارس العمل مع مماليكه فيما لا يطيقون ، عن داود بن فرقد ، قال : «سمعت أبا عبد اللّه عليه‌السلام يقول : في كتاب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا استعملتم ما ملكت أيمانكم في شيء يشقّ عليهم ، فاعملوا معهم فيه. قال عليه‌السلام : كان أبي يأمرهم ، فيقول : كما أنتم ، فيأتي فينظر فإن كان ثقيلاً قال : بسم اللّه ، ثم عمل معهم ، وإن كان خفيفاً

__________________

(١) أمالي المفيد : ١٦٦.

١٣٠

تنحّى عنهم» (١).

وكان الإمام الباقر عليه‌السلام يكتب لبعضهم عهداً بالحرية بخط يده ويختمه بخاتمه ، منها العهد الذي كتبه لعبد اللّه بن المبارك قبل موته بسنة واحدة ، وكان عبد اللّه من سبي الحروب ، فأتى أبا جعفر عليه‌السلام فقال : «إني رويت عن آبائك عليهم‌السلام أن كل فتح بضلال فهو للإمام. فقال : نعم. قلت : جعلت فداك ، فإنهم أتوا بي من بعض فتوح الضلال ، وقد تخلصت ممن ملكوني بسبب ، وقد أتيتك مسترقاً مستعبداً. قال عليه‌السلام : قد قبلت. فلما كان وقت خروجه إلى مكة ، قال : مذ حججت فتزوجت ومكسبي مما يعطف علي إخواني ، لا شيء لي غيره ، فمرني بأمرك.

فقال عليه‌السلام : انصرف إلى بلادك ، وأنت من حجك وتزويجك وكسبك في حلّ.

ثم أتاه بعد ست سنين ، وذكر له العبودية التي ألزمها نفسه. فقال : أنت حرّ لوجه اللّه تعالى. فقال : اكتب لي به عهداً ، فخرج كتابه عليه‌السلام :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

هذا كتاب محمد بن علي الهاشمي العلوي لعبد اللّه بن المبارك فتاه ، إنّي أعتقك لوجه اللّه والدار الآخرة ، لا رب لك إلاّ اللّه ، وليس عليك سيد ، وأنت مولاي ومولى عقبي من بعدي ، وكتب في المحرم سنة ثلاث عشرة ومائة ، ووقع فيه محمد بن علي بخط يده وختمه بخاتمه» (٢).

وعن محمد بن مروان ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام : أن أبا جعفر عليه‌السلام مات وترك

__________________

(١) كتاب الزهد / الحسين بن سعيد : ٤٤ / ١١٧.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٨.

١٣١

ستين مملوكاً ، فأعتق ثلثهم عند موته ، فأقرعت بينهم وأخرجت الثلث (١).

وعن أبي عبد اللّه عليه‌السلام ، قال : «دخلت على أبي يوماً وقد تصدق على فقراء أهل المدينة بثمانية آلاف دينار ، وأعتق أهل بيت بلغوا أحد عشر» (٢).

٥ ـ التواضع :

التواضع من الخصال الحميدة التي حظيت بقراءة واقعية من قبل الإمام الباقر عليه‌السلام ، فأكّد أنه على المرء أن يرتقي على العجب ويتغلب على صفة الكبر في نفسه بالسلام والرضا بأدنى المجلس ، وعدم المراء حتى في الحق ، وعدم مجالسة الأغنياء.

قال عليه‌السلام : «التواضع الرضا بالمجلس دون شرفه ، وأن تسلم على من لقيت ، وأن تترك المراء وإن كنت محقاً» (٣).

وقال عليه‌السلام لرجل : «يا فلان ، لا تجالس الأغنياء ، فإنّ العبد يجالسهم وهو يرى أن للّه عليه نعمة ، فما يقوم حتى يرى أن ليس للّه عليه نعمة» (٤).

وكان عليه‌السلام يرى أن الكبر يتناسب عكسياً مع المعرفة ، فكلما علم الإنسان عاقبته وما يؤول إليه مصيره ، زهد في الدنيا وتواضع لأبناء جنسه ، وحيثما يكون فارغاً من تلك المعرفة اغترّ بدنياه وزها بنفسه ، وكما يقال : إن السنابل الملآى تميل تواضعاً ، والفارغة تشمخ برأسها ، فالعجب علامة الجهل ، والتواضع دليل المعرفة ، جاء في وصيته عليه‌السلام لجابر الجعفي : «سدّ سبيل العجب

__________________

(١) المحاسن ٢ : ٦٢٤ / ٨١ ، الكافي ٧ : ١٨ / ١١.

(٢) فلاح السائل : ١٧٦.

(٣) تحف العقول : ٢٩٦.

(٤) أمالي الصدوق : ٣٢٦ / ٣١٨.

١٣٢

بمعرفة النفس» (١). وقال عليه‌السلام : «ما دخل قلب أحد شيء من الكبر ، إلاّ نقص من عقله مثل ما دخله من ذلك ، قلّ ذلك أو كثر» (٢).

وبيّن أن التكبر صفة مذمومة للعبد ، لأنها تعني تقمص صفة الرب تعالى ، قال عليه‌السلام : «المتكبر ينازع اللّه رداءه» (٣).

وعلى صعيد السيرة العملية للإمام الباقر عليه‌السلام ، فإن التواضع صفة بارزة في حياته ، فهو يجتهد نفسه بالعمل لكسب عيشه ، لا يصده عنه كبر السن ، ولا شدّة الحرّ ، ويعدّ ذلك طاعة من طاعات اللّه يكف بها نفسه عن سائر الناس.

عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمد عليهما‌السلام ، قال : «إن محمد بن المنكدر كان يقول : ما كنت أرى أن مثل علي بن الحسين يدع خلفاً ـ لفضل علي بن الحسين عليهما‌السلام ـ حتى رأيت ابنه محمد بن علي ، فأردت أن أعظه فوعظني. فقال له أصحابه : بأي شيء وعظك؟ قال : خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة ، فلقيت محمد بن علي ، وكان رجلاً بديناً ، وهو متكئ على غلامين له أسودين ، فقلت في نفسي : شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا! أشهد لأعظنه؟ فدنوت منه فسلمت عليه ،

__________________

(١) تحف العقول : ٢٨٤.

(٢) كشف الغمة ٢ : ٣٤٤ و ٣٦٠ ، حلية الأولياء ٣ : ١٨٠ ، مطالب السؤول : ٨٠ ، الفصول المهمة : ١٩٥ ، نور الأبصار : ١٩٥ ، تذكرة الخواص : ٣٤٨ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٠٨.

(٣) تحف العقول : ٢٩٢.

١٣٣

فسلم علي ببُهر (١) وقد تصبب عرقاً.

فقلت : أصلحك اللّه ، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحال في طلب الدنيا! لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال؟! قال : فخلى عن الغلامين من يده ، ثم تساند ، وقال : لو جاءني واللّه الموت وأنا في هذه الحال ، جاءني وأنا في طاعة من طاعات اللّه ، أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس ، وانما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي اللّه. فقلت : يرحمك اللّه ، أردت أن أعظك فوعظتني» (٢).

وكان عليه‌السلام في مركبه مثالاً للتواضع ، فلا يمتطي الخيل الفارهة ، بل يفضل الحمار على البغل ، ويحمد اللّه الذي سخّره حين يستوي عليه ، عن عبد اللّه بن عطاء ، قال : «قال لي أبو جعفر عليه‌السلام : قم فأسرج دابتين حماراً وبغلاً ، فأسرجت حماراً وبغلاً ، فقدمت إليه البغل ، ورأيت أنه أحبهما إليه ، فقال : من أمرك أن تقدم إلي هذا البغل؟ قلت : اخترته لك. قال : وأمرتك أنت تختار لي؟! ثم قال : إنّ أحبّ المطايا إلي الحمر. قال : فقدمت إليه الحمار ، وأمسكت له بالركاب فركب ، فقال : الحمد للّه الذي هدانا بالإسلام ، وعلمنا القرآن ، ومنّ علينا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والحمد للّه الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ، والحمد للّه رب العالمين» (٣).

وكان يؤثر أصحابه بالركوب ، ويفضل أن يمشي على قدميه ، قال السيد

__________________

(١) البُهر : تتابع النفس.

(٢) الارشاد ٢ : ١٦١ ، الفصول المهمة : ١٩٥ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٢ ، شرح الأخبار ٣ : ٢٨٢ ، اعلام الورى ١ : ٥٠٧.

(٣) المحاسن ٢ : ٣٢٥ / ٤١ ، الكافي ٨ : ٢٧٦ / ٤١٧.

١٣٤

المرتضى : «روى أن رجلاً نظر إلى كثير الشاعر وهو راكب ، وأبو جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام يمشى ، فقيل له : أتركب وأبو جعفر يمشي؟! فقال : هو أمرني بذلك ، وأنا بطاعته في الركوب ، أفضل مني في عصياني إياه بالمشي» (١).

وفي مأكله كان في غاية التواضع والبساطة ، فيكتفي بالخل والزيت أوالجبن وحده ، عن بزيع ، قال : «دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام وهو يأكل خلاً وزيتاً في قصعة سوداء ، مكتوب في وسطها بصفرة : قل هو اللّه أحد. فقال لي : اُدن يا بزيع ، فدنوت فأكلت معه ، ثم حسا من الماء ثلاث حسيات حين لم يبق من الخبز شيء ، ثم ناولني فحسوت البقية» (٢).

وعن عبد اللّه بن سليمان ، قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ، فقال : لقد سألتني عن طعام يعجبني ، ثم أعطى الغلام درهماً ، فقال : يا غلام ابتع لنا جبناً. ودعا بالغداء فتغدينا معه ، وأتى بالجبن فأكل وأكلنا» (٣).

٦ ـ الصبر والحلم :

دعا الإمام الباقر عليه‌السلام إلى إعداد النفس للارتقاء إلى أفضل الكمال المتمثل بجملة تعاليم منها الصبر على النائبة ، قال عليه‌السلام : «الكمال كل الكمال التفقه في الدين ، والصبر على النائبة ، وتقدير المعيشة» (٤).

والصبر إضافة إلى كونه من الكمالات ، ومن مصاديق الحلم ، فهو من الفضائل التي قد تؤدي بصاحبها إلى الجنة ، إذا صبر على مصائب الدنيا وعما

__________________

(١) أمالي المرتضى ١ : ٢٠٤.

(٢) المحاسن ٢ : ٤٤٠ / ٣٠٠ ، الكافي ٦ : ٢٩٨ / ١٤.

(٣) الكافي ٦ : ٣٣٩ / ١.

(٤) تحف العقول : ٢٩٢.

١٣٥

حرم اللّه من الشهوات واللذات ، قال عليه‌السلام : «الجنة محفوفة بالمكاره والصبر ، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة ، وجهنم محفوفة باللذات والشهوات ، فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النار» (١).

وبيّن الإمام الباقر عليه‌السلام مصداق الصبر الجميل ، وهو اجتناب الشكوى إلى الناس ، عن جابر الجعفي ، قال : «قلت لأبي جعفر : يرحمك اللّه ، ما الصبر الجميل؟ قال : ذلك الصبر الذي ليس فيه شكوى إلى الناس» (٢).

ويدخل في هذا الإطار الصبر في حال الفاقة والحاجة ، بل وحتى في الغنى الذي قد يؤدي بالإنسان إلى العتوّ والطغيان ، وقد عبر عنه الإمام عليه‌السلام بمروءة الصبر ، لأنه دليل الثقة باللّه ، ولذلك فهو أعلى مرتبة من مروءة الاعطاء.

قال عليه‌السلام : «سخاء المرء عما في أيدي الناس أكثر من سخاء النفس والبذل ، ومروءة الصبر في حال الفاقة والحاجة والتعفف والغنى أكثر من مروءة الاعطاء ، وخير المال الثقة باللّه ، واليأس مما في أيدي الناس» (٣).

والصبر صفة بارزة في سيرة الإمام الباقر عليه‌السلام العملية ، مثلما في سيرته القولية ، لأن قوله فعل وممارسة وتجسيد على أرض الواقع بمصاديق عملية واضحة ، فكان عليه‌السلام نموذج الصابر المتوكل على اللّه ، الذي ارتفع إلى حقيقة اليقين المتمثل بالصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء ، والرضا بالقضاء.

روي أنه كان قوم أتوا أبا جعفر عليه‌السلام ، فوافقوا صبياً له مريضاً ، فرأوا منه اهتماماً وغماً ، وجعل لا يقر ، فقالوا : واللّه لئن أصابه شيء ، إنا لنتخوف أن نرى

__________________

(١) الكافي ٢ : ٨٩ / ٧.

(٢) الكافي ٢ : ٩٣ / ٢٣.

(٣) التهذيب ٦ : ١٨٧ / ١١٥٣.

١٣٦

منه ما نكره. قال : فما لبثوا أن سمعوا الصياح عليه ، فإذا هو قد خرج عليهم منبسط الوجه في غير الحال التي كان عليها ، فقالوا له : جعلنا اللّه فداك ، لقد كنا نخاف مما نرى منك ، أن لو وقع أن نرى منك ما يغمنا. فقال لهم : «إنا لنحب أن نعافى فيمن نحب ، فإذا جاء أمر اللّه سلمنا فيما يحب» (١).

وفي رواية سفيان بن عيينة أنه قال : «ندعو اللّه تبارك وتعالى فيما نحب ، فإذا وقع ما نكره لم نخالف اللّه فيما أحب» (٢).

وعن زرارة ، قال : «فلما قضى الغلام ، أمر به فغمض عيناه وشد لحياه ، ثم قال لنا : إن نجزع ما لم ينزل أمر اللّه ، فإذا نزل أمر اللّه ، فليس لنا إلاّ التسليم ، ثم دعا بدهن فادّهن واكتحل ، ودعا بطعام فأكل هو ومن معه ، ثم قال : هذا هو الصبر الجميل ، ثم أمر به فغسل ، ثم لبس جبة خز ومطرف خز وعمامة خز ، وخرج فصلى عليه» (٣).

وحثّ الإمام عليه‌السلام على الحلم وسعة الصدر ، وأكد على ضرورة اقتران الحلم بالعلم ، إذ الحلم لباس العالم ، فيصبر حيثما يقتضي الامر حلماً ، أما الجاهل فلباسه التهور والجزع ، مما يوقعه في أخطاء وخيمة.

جاء في رسالة الإمام الباقر عليه‌السلام إلى سعد الخير : «وليس الحليم الذي لا يتقي أحداً في مكان التقوى ، والحلم لباس العالم ، فلا تعرين منه» (٤).

__________________

(١) الكافى ٣ : ٢٢٦ / ١٤.

(٢) تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٩٤ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٠٧ ، كشف الغمة ٢ : ٣٦٣ ، حلية الأولياء ٣ : ١٨٧.

(٣) التهذيب ٦ : ١٨٧ / ١١٥٣.

(٤) الكافي ٨ : ٥٣ / ١٦.

١٣٧

وقال عليه‌السلام : «ما شيب شيء بشيء ، أحسن من حلم بعلم» (١).

وجاء في سيرته العملية المزيد من المواقف التي صبر فيها على كيد الأعداء ، وسكت عن الجهال ، وصفح عن المسيئين ، وغضّ الطرف عن الهفوات ، ووسعها بعفوه وصبره وسعة صدره.

ومن ذلك موقفه من الناصبي الذي واجهه بكلمات قبيحة ، رواه محمد بن سليمان ، عن أبيه ، قال : «كان رجل من أهل الشام يختلف إلى مجلس أبي جعفر عليه‌السلام ، ويقول له : يا محمد ، ألا ترى إني إنما أغشى مجلسك حياءً مني لك ، ولا أقول : إن في الأرض أحداً أبغض إلي منكم أهل البيت ، وأعلم أن طاعة اللّه وطاعة رسوله وطاعة أمير المؤمنين في بغضكم ، ولكن أراك رجلاً فصيحاً ، لك أدب وحسن لفظ ، وإنما الاختلاف إليك لحسن أدبك ، وكان أبو جعفر عليه‌السلام يقول له خيراً ، ويقول : لن تخفى على اللّه خافية ... وصار بعد ذلك من أصحاب أبي جعفر عليه‌السلام» (٢).

ومنه موقفه من النصراني الذي أراد استفزازه بكثرة الأسئلة ، وأجاب عنها الإمام بردّ جميل وموعظة حسنة ، قال له النصراني : «أنت ابن السوادء الزنجية البذية ، فقال له الإمام عليه‌السلام : إن كنت صدقت غفر اللّه لها ، وإن كنت كذبت غفر اللّه لك. ولم يزد عليها ، فأسلم النصراني» (٣).

٧ ـ الهيبة والوقار :

تجلّت في شخصية الإمام الباقر عليه‌السلام سمات أولياء اللّه وأحبائه الذين أضفى

__________________

(١) شرح الأخبار٣ : ٢٨٣ ، الارشاد ٢ : ١٦٨ ، تحف العقول : ٢٩٢.

(٢) الأمالي / الطوسي : ٤١٠ / ٩٢٣ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٢٠.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٧.

١٣٨

عليهم العزة والوقار والهيبة في الدنيا ، والظفر في الآخرة ، قال عليه‌السلام : «إن اللّه عزّوجلّ أعطى المؤمن ثلاث خصال : العزة في الدنيا ، والفلح في الآخرة ، والمهابة في صدور الظالمين ، ثم قرأ : «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُوءْمِنِينَ» (١) (٢).

وقد ابتعد الإمام عليه‌السلام عن كل ما ينافي الوقار وسمو الشخصية ومعالي الأخلاق ، فروي أنه كان إذا ضحك قال : «اللهم لا تمقتني» (٣).

من هنا كان كل من التقى الإمام عليه‌السلام ، قد بدت له مظاهر العظمة والإجلال وملامح الهيبة والوقار ، عظمة المكارم التي يحملها ، وهيبة الملكات القدسية التي اجتمعت في شخصه عليه‌السلام ، ومنهم الصحابي الجليل جابر بن عبد اللّه الأنصاري.

قال جابر بن يزيد الجعفي : « دخل جابر بن عبد اللّه الأنصاري على علي بن الحسين عليهما‌السلام ، فبينا يحدّثه إذ خرج محمد بن علي الباقر عليه‌السلام من عند نسائه ، وعلى رأسه ذؤابة ، وهو غلام ، فلما بصر به جابر ارتعدت فرائصه ، وقامت كل شعرة على جسده ، ونظر إليه ملياً ، ثم قال له : يا غلام أقبل. فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر ... » (٤).

وقال أبو حمزة الثمالي : «لما كانت السنة التي حج فيها أبو جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام ، ولقيه هشام بن عبد الملك ، أقبل الناس ينثالون عليه ، فقال عكرمة :

__________________

(١) سورة المنافقون : ٦٣ / ٨.

(٢) كشف الغمة ٢ : ٣٦٣.

(٣ حلية الأولياء ٣ : ١٨٥.

(٤) كفاية الأثر : ٥٥.

١٣٩

من هذا الذي عليه سيماء زهرة العلم لأجربنه؟ فلما مثل بين يديه ارتعدت فرائصه ، واسقط في يده ، وقال : يا بن رسول اللّه ، لقد جلست مجالس كثيرة بين يدي ابن عباس وغيره فما أدركني ما أدركني آنفاً؟ فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : ويلك ، إنك بين يدي بيوت أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه» (١).

وقابله فقيه أهل البصرة قتادة بن دعامة البصري ، فاضطرب قلبه من هيبته ، فقال : «أصلحك اللّه ، لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدام ابن عباس ، فما اضطرب قلبي قدام واحدٍ منهم ما اضطرب قدّامك!» (٢).

وقال عبد اللّه بن عطاء المكي : «ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر» (٣).

٨ ـ حسن العشرة :

أكد الإمام الباقر عليه‌السلام في أحاديث مستفيضة على تكريس مبدأ الأخاء في اللّه طلباً لمرضاة اللّه ، وبين فضل ذلك في الدارين ، فقال عليه‌السلام : «من استفاد أخاً في اللّه على إيمان باللّه ووفاء بأخائه طلباً لمرضاة اللّه ، فقد استفاد شعاعاً من نور اللّه ، وأماناً من عذاب اللّه ، وحجة يفلج بها يوم القيامة ، وعزاً باقياً وذكراً نامياً ، لأن المؤمن من اللّه عزوجل لا موصول ولا مفصول» (٤).

وأكد على تعهد الإخوان بالزيارة والتواصل والمصافحة ، وإيثارهم على

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣١٧.

(٢) الكافي ٦ : ٢٥٦.

(٣) الارشاد ٢ : ١٦٠ ، روضة الواعظين : ٢٠٢ ، حلية الأولياء ٣ : ١٨٥.

(٤) تحف العقول : ٢٩٥.

١٤٠