الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-51-5
الصفحات: ٣١١

مثلك (١). ومهما كان غرضه من هذا الكلام ، وسواء انطوى على المواربة السياسية أم التشدّق والرياء ، فانّه يعبّر عن حقيقة الإمام عليه‌السلام من ألدّ أعدائه ، ويسوق لنا الدليل على أنّه حظي بإكبار وتقدير طبقات المجتمع كلّها بمن فيهم الأعداء.

وخير الفضل ما شهدت به الأعداءُ

ويشاطر هشام في التعبير عن مناقب الإمام الباقر عليه‌السلام الفريدة ، عامل المدينة في زمان عبد الملك بن مروان حين كتب إليه عبد الملك : أن ابعث إليّ محمد بن علي مقيّداً.

فكتب إليه العامل وهو يعدّد أبرز خصاله عليه‌السلام : ليس كتابي هذا خلافاً عليك يا أمير المؤمنين ، ولا ردّاً لأمرك ، ولكن رأيت أن أراجعك في الكتاب نصيحة لك ، وشفقة عليك ، إنّ الرجل الذي أردته ليس اليوم على وجه الأرض أعفّ منه ولا أزهد ولا أورع منه ، وانّه من أعلم الناس ، وأرقّ الناس ، وأشدّ الناس اجتهاداً وعبادة ، وكرهت لأمير المؤمنين التعرّض له ، فإنّ اللّه لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم. فسرّ عبد الملك بما أنهى إليه الوالي ، وعلم أنّه قد نصحه (٢).

وإذا خرجنا عن دائرة المعاصرين له عليه‌السلام ، نصل إلى حقيقة إجماع كلّ من ترجم للباقر عليه‌السلام على تعظيمه وتقديره وإكباره.

قال أبو نعيم الأصفهاني المتوفّى سنة ٤٣٠ هـ في ترجمته عليه‌السلام : «هو الحاضر الذاكر ، الخاشع الصابر ، أبو جعفر محمد بن علي الباقر ، كان من سلالة النبوة ،

__________________

(١) دلائل الإمامة : ٢٣٤ ، نوادر المعجزات : ١٣٠.

(٢) الثاقب في المناقب : ٣٨٩ ، الصراط المستقيم ٢ : ١٨٤ ، بحار الأنوار ٤٦ : ٣٢٩.

١٠١

وممّن جمع حسب الدين والأبوة ، تكلّم في العوارض والخطرات ، وسفح الدموع والعبرات ، ونهى عن المراء والخصومات» (١).

وقال شمس الدين الذهبي ، المتوفّى سنة ٧٤٨ هـ : «أبو جعفر الباقر ، محمد بن علي بن الحسين ، الإمام الثبت الهاشمي العلوي المدني ، أحد الأعلام ، وكان سيد بني هاشم في زمانه» (٢).

وقال ابن كثير ، المتوفّى سنة ٧٧٤ هـ : هو أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب ، سمّي الباقر لبقره العلوم واستنباطه الحكم ، كان ذاكراً خاشعاً صابراً (٣).

من هنا نأتي إلى نبذة من الملكات القدسية والمناقب الفذّة التي تحلّى بها الإمام الباقر عليه‌السلام وورثها عن آبائه المعصومين عليهم‌السلام :

١ ـ العلم :

اقترن اسم الإمام أبي جعفر عليه‌السلام بوصف (باقر العلم) ، للحديث الذي قدّمناه في الفصل الثاني ، والمروي عن جدّه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد وصفه الصادق الأمين بالباقر لأنّه سيبقر العلم ، أي يتبحّر ويتوسّع فيه.

نبوغه العلمي :

منذ فجر حياة أبي جعفر الباقر عليه‌السلام كان مصداقاً لذلك النعت ، حيث بدت عليه مظاهر العلم والمعرفة والنبوغ من أيام طفولته ، وقد عرفه الناس بسعة الاطلاع والفضل وغزارة العلم ، فكانوا يرجعون إليه في كل

__________________

(١) حلية الأولياء ٣ : ١٨٠.

(٢) تذكرة الحفاظ ١ : ١٢٤.

(٣) البداية والنهاية ٩ : ٣٣٩.

١٠٢

ما يستعصي من المسائل ، ووجّهت إليه أدقّ الأسئلة فأجاب عنها ولما يزل غلاماً يافعاً.

وأذكر في هذا المجال خبراً مفاده أنّ الباقر عليه‌السلام يوم كان صبياً يلازم أباه في مسجد جدّه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، سأل رجل عبد اللّه بن عمر المتوفّى ٧٣ هـ عن مسألة فلم يدرِ بما يجيبه ، فقال : اذهب إلى ذلك الغلام فسله وأعلمني بما يجيبك ، وأشار به إلى محمد بن علي الباقر عليه‌السلام ، فأتاه الرجل فسأله فأجابه ، فرجع إلى ابن عمر فأخبره ، فقال ابن عمر : إنّهم أهل بيت مُفَهَّمُونَ (١).

وأجاب عليه‌السلام عن أسئلة دقيقة توجّه بها إليه طاوس اليماني (٢) في الحرم ، وهو شاب حدث ، رواها أبان بن تغلب ، قال : «دخل طاوس اليماني إلى الطواف ومعه صاحب له ، فإذا هو بأبي جعفر عليه‌السلام يطوف أمامه وهو شاب حدث ، فقال طاوس لصاحبه : إنّ هذا الفتى لعالم. فلما فرغ من طوافه صلّى ركعتين ، ثم جلس وأتاه الناس ، فقال طاوس لصاحبه : نذهب إلى أبي جعفر ونسأله عن مسألة لا أدري عنده فيها شيء أم لا ، فأتياه فسلّما عليه ، ثم قال له طاوس : يا أبا جعفر ، هل تدري أيّ يوم مات ثلث الناس؟ فقال : يا أبا عبد الرحمن ، لم يمت ثلث الناس قط ، إنّما أردت أن تقول : متى هلك ربع الناس؟ قال : وكيف ذلك؟ قال : وذلك يوم قتل قابيل هابيل ، كانوا أربعة : آدم وحواء وهابيل وقابيل ، فقتل قابيل هابيل ، فذلك ربع الناس. قال :

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٢٩ ، الإيضاح / النيسابوري : ٤٥٨ ، بحار الأنوار ٤٦ : ٢٨٩ ، الإمام جعفر الصادق / عبد الحليم الجندي : ١٤١.

(٢) طاوس بن كيسان اليماني ، من سادات التابعين ، وعبّاد أهل اليمن ، توفّي سنة ١٠٦ هـ.

١٠٣

صدقت» (١).

وهناك أسئلة اُخرى مهمّة وجّهها إليه طاوس ، وأجاب عنها الإمام عليه‌السلام ، وردت في رواية أبي بصير ، نختار بعضاً منها ، قال : قال طاوس : «فلم سُمّي آدم آدم؟ قال الإمام عليه‌السلام : لأنّه رفعت طينته من أديم الأرض السفلى. قال : ولِمَ سُمّيت حواء حواء؟ قال : لأنّها خُلقت من ضلع حي ، يعني ضلع آدم. قال : فلِم سُمّي إبليس إبليس؟ قال : لأنّه أبلس من رحمة اللّه عزّوجلّ فلا يرجوها. قال : فلِم سُمّي الجنّ جِنّاً؟ قال : لأنّهم استجنوا فلم يروا.

قال : فأخبرني عن قوم شهدوا شهادة الحقّ وكانوا كاذبين؟ قال : المنافقون حين قالوا لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : نشهد أنّك لرسول اللّه. فأنزل اللّه عزّوجلّ : «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ» (٢).

قال : فأخبرني عن رسول بعثه اللّه تعالى ليس من الجن ، ولا من الإنس ، ولا من الملائكة ، ذكره اللّه تعالى في كتابه؟ قال : الغراب ، حين بعثه اللّه عزّوجلّ ليُري قابيل كيف يواري سوأة أخيه هابيل حين قتله ، قال اللّه عزّوجلّ : «فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الاْءَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ» (٣).

قال : فأخبرني عمّن أنذر قومه ليس من الجن ، ولا من الإنس ، ولا من الملائكة ، ذكره اللّه عزّوجلّ في كتابه؟ قال : النملة حين قالت : «يَا أَيُّهَا النَّمْلُ

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٦١ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٢.

(٢) سورة المنافقون : ٦٣ / ١.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ٣١.

١٠٤

ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيَْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ» (١).

قال : فأخبرني عن شيء قليله حلال وكثيره حرام ، ذكره اللّه عزّوجلّ في كتابه؟ قال : نهر طالوت ، قال اللّه عزّوجلّ : «إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ» (٢).

قال : فأخبرني عن صلاة فريضة تُصلّى بغير وضوء ، وعن صوم لا يحجز عن أكل ولا شرب ، قال : أما الصلاة بغير وضوء فالصلاة على النبي وآله عليه وعليهم‌السلام ، وأما الصوم فقول اللّه عزّوجلّ : «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً» (٣).

قال : فأخبرني عن شيء يزيد وينقص ، وعن شيء يزيد ولا ينقص ، وعن شيء ينقص ولا يزيد؟ فقال الباقر عليه‌السلام : أما الشيء الذي يزيد وينقص فهو القمر ، والشيء الذي يزيد ولا ينقص هو البحر ، والشيء الذي ينقص ولا يزيد هو العمر» (٤).

وفي مزاياه عليه‌السلام العلمية يقول الشاعر :

أضاء وجه العلم والرسوم

بنور وجه باقر العلوم

إذ هو شمس مشرق الحقائق

وبدره المشرق بالدقائق

وكعبة العلم ومستجارها

بل في فناء بابه قرارها

هو المدار في محيط المعرفه

به استدار كل اسم وصفه

وهو لسان اللّه في بيانه

وسرّه المودع في لسانه

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ١٨.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٩.

(٣) سورة مريم : ١٩ / ٢٦.

(٤) الاحتجاج ٢ : ٦٤.

١٠٥

قام بحمل راية الرساله

بمحكم البيان والدلاله

فطبق الأرض بلابتيها

بالعلم إشفاقاً بمَن عليها (١)

أعلم أهل زمانه :

لا ريب كان الباقر عليه‌السلام أعلم أهل زمانه ، مثلما كان آباؤه عليهم‌السلام كذلك ، وهو وريثهم عليهم‌السلام في التصدّر للعلم ونشر الهداية ، ولم يظهر عن أحد في عصره ما ظهر عنه من علم الدين والقرآن والآثار والسنّة والسيرة وغيرها ، من هنا تسابق بقايا الصحابة وأئمّة التابعين وأكابر علماء الدين لينهلوا من نمير علمه وصافي فضله ، وهم يتصاغرون هيبة لعلمه وجلالته.

قال عبد اللّه بن عطاء المكي : ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر ، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة ـ مع جلالته في القوم ـ بين يديه كأنّه صبي بين يدي معلّمه (٢). وهو اعتراف صريح بتفوّقه العلمي.

وعن أبي حمزة الثمالي : أن قتادة (٣) حين التقى الإمام الباقر عليه‌السلام في مسجد جدّه رسول اللّه ، قال له الإمام عليه‌السلام : «من أنت؟ قال : أنا قتادة بن دعامة البصري.

__________________

(١) الأنوار القدسية : ٧١.

(٢) الإرشاد ٢ : ١٦٠ ، روضة الواعظين : ٢٠٢ ، حلية الأولياء ٣ : ١٨٥ ، تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٧٨ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٤ ، البداية والنهاية ٩ : ٣٤٠ ، تذكرة الخواص : ٣٤٧ ، وفيه : كأنّه عصفور مغلوب ، روضة الرياحين / اليافعي : ٥٧ ، مرآة الجنان / اليافعي ١ : ٢٤٨ ، كشف الغمّة ٢ : ٣٢٩ ، إعلام الورى ١ : ٥٠٦.

(٣) قتادة بن دعامة السدوسي ، أبو الخطاب البصري ، من أعلام التابعين ، كان ذا علم بالقرآن والحديث والفقه ، توفي سنة ١١٧ هـ وقيل : ١١٨ هـ.

١٠٦

قال : أنت فقيه أهل البصرة؟ قال : نعم. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إنّ اللّه جلّ وعزّ خلق خلقاً من خلقه ، فجعلهم حججاً على خلقه ، فهم أوتاد في أرضه ، قوام بأمره ، نجباء في علمه ، اصطفاهم قبل خلقه أظلّة عن يمين عرشه. فسكت قتادة طويلاً ، ثم قال : أصلحك اللّه ، واللّه لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدام ابن عباس ، فما اضطرب قلبي قدام واحد منهم ما اضطرب قدامك. فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : ويحك أتدري أين أنت؟! أنت بين يدي «بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ» (١) فأنت ثمَّ ، ونحن أولئك ، فقال له قتادة : صدقت واللّه ، جعلني اللّه فداك ، واللّه ما هي بيوت حجارة ولا طين» (٢).

وأقرّ رجال العلم والفكر الذين أدركوه ومن تبعهم بأنّه بقر العلوم بقراً ، وأصاب قلب الحكمة وعرف حقيقتها ، واتّفقت كلمتهم على أنّه أسمى شخصية علمية عرفها العالم الإسلامي في عصره.

روي عن معاوية بن عمار الدهني ، عن محمد بن علي الباقر عليه‌السلام في قول اللّه عزّوجلّ : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» (٣) ، قال : «نحن أهل الذكر».

قال أبو زرعة : صدق محمد بن علي ، ولعمري ان أبا جعفر لمن أكبر

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٣٦ و ٣٧.

(٢) الكافي ٦ : ٢٥٦.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ٤٣.

١٠٧

العلماء (١).

وقال الأبرش بن الوليد الكلبي (٢) بعد أن ناظر الإمام الباقر عليه‌السلام : «إنّ هذا أعلم أهل الأرض بما في السماء والأرض ، فهذا ولد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٣).

وقال نافع مولى عبد اللّه بن عمر بعد أن ناظره عليه‌السلام : «أنت واللّه أعلم الناس حقّاً» (٤).

وقال عالم النصارى بعد أن ناظره الإمام الباقر عليه‌السلام في بلاد الشام : «يا معشر النصارى ، ما رأيت أحداً قط أعلم من هذا الرجل» (٥).

وقال كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي ، المتوفّى سنة ٦٥٢ هـ : «هو باقر العلم وجامعه ، وشاهر علمه ورافعه ، ومتفوّق درّه وراضعه ، ومنمّق دره وواضعه ، صفا قلبه ، وزكا عمله ، وطهرت نفسه ، وشرفت أخلاقه ، وعمرت بطاعة اللّه أوقاته ، ورسخت في مقام التقوى قدمه ، وظهرت عليه سمات الازدلاف ، وطهارة الاجتباء ، فالمناقب تسبق إليه والصفات تشرف به» (٦).

وقال ابن خلّكان ، المتوفّى سنة ٦٨١ هـ : «كان الباقر عالماً ، سيّداً كبيراً ، وإنّما قيل له الباقر ، لأنّه تبقّر في العلم ، أي توسّع» (٧).

وقال ابن حجر الهيتمي المكّي ، المتوفّى سنة ٩٧٤ هـ : «أبو جعفر محمد

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١٦٢ ، روضة الواعظين : ٢٠٢.

(٢) وزير هشام بن عبد الملك ، والغالب عليه.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٢٩.

(٤) الكافي ٨ : ١٢٠ / ٩٣ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٠.

(٥) الكافي ٨ : ١٢٢ / ٩٤.

(٦) كشف الغمّة ٢ : ٣٢٨.

(٧) وفيات الأعيان ١ : ١٧٤.

١٠٨

الباقر ، سُمّي بذلك من بقر الأرض ، أي شقّها وأثار مُخَبّآتها ومكامنها ، فلذلك هو أظهر من مُخَبّآت كنوز المعارف ، وحقائق الأحكام والحكم واللطائف ، ما لا يخفى إلاّ على منطمس البصيرة ، أو فاسد الطوية والسريرة» (١).

وتسالم العلماء والفقهاء على الرجوع إلى رأيه في المسائل المعضلة والغامضة من أحكام الشريعة الإسلامية ومسائل العقائد المختلفة.

قال قيس بن ربيع : «سألت أبا إسحاق السبيعي عن المسح ـ يعني على الخفّين ـ فقال : أدركت الناس يمسحون ، حتّى لقيت رجلاً من بني هاشم لم أرَ مثله قط ، يقال له محمد بن علي بن الحسين ، فسألته عن المسح فنهاني عنه ، وقال : لم يكن أمير المؤمنين عليه‌السلام يمسح ، وكان يقول : سبق الكتاب المسح على الخفّين» (٢).

وسمع أبو جعفر المنصور عن الباقر عليه‌السلام حديث النداء من السماء باسم رجل من ولد فاطمة عليها‌السلام ، فقال لسيف بن عميرة : «لولا أنني سمعته من أبي جعفر محمد ابن علي يحدّثني به ، وحدّثني به أهل الأرض كلهم ما قبلته منهم ، ولكنّه محمد ابن علي» (٣).

أجوبة واحتجاج :

روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام المزيد من الأخبار المتعلّقة بالاحتجاج والأجوبة على تساؤلات في شتّى فروع العلم ، تميّزت بقوّة الحجّة والبرهان وسرعة البديهة ووضوح البيان ، وعكست مقدار ما يمتلك الإمام عليه‌السلام من أفق

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ٣٠٤.

(٢) روضة الواعظين : ٢٠٢ ، شرح الأخبار ٣ : ٢٨١.

(٣) الإرشاد ٢ : ٣٧٠.

١٠٩

معرفي واسع ، بما يقدّمه من قراءات صحيحة لقضايا معضلة.

عن أبي حمزة الثمالي : أنّ قتادة بن دعامة البصري أقبل إلى مسجد رسول اللّه وكان قد هيّأ أربعين مسألة يسأل عنها أبا جعفر عليه‌السلام ، منها ، قال قتادة : «فأخبرني عن الجبن ، قال : فتبسّم أبو جعفر عليه‌السلام ثم قال : رجعت مسائلك إلى هذا؟ قال : ضلّت علي ، فقال : لا بأس به. فقال : إنّه ربّما جعلت فيه أنفحة الميت.

قال : ليس بها بأس ، إنّ الأنفحة ليس لها عروق ، ولا فيها دم ، ولا لها عظم ، إنّما تخرج من بين فرث ودم ، ثم قال : وإنّما الأنفحة بمنزلة دجاجة ميتة أخرجت منها بيضة ، فهل تؤكل تلك البيضة؟ فقال قتادة : لا ، ولا آمر بأكلها. فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : ولِمَ؟ فقال : لأنّها من الميتة. قال له : فإن حضنت تلك البيضة فخرجت منها دجاجة ، أتأكلها؟ قال : نعم. قال : فما حرم عليك البيضة ، وحلّل لك الدجاجة؟ ثم قال عليه‌السلام : فكذلك الأنفحة مثل البيضة ، فاشتر الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلّين ، ولا تسأل عنه إلاّ أن يأتيك من يخبرك عنه» (١).

وروي عن جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام قال : «جاء رجل من الشام (٢) ، وسأل أبا جعفر عليه‌السلام عن بدو خلق البيت؟ فقال عليه‌السلام : إنّ اللّه تعالى لما قال للملائكة : «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاْءَرْضِ خَلِيفَةً» فردّوا عليه بقولهم : «أَتَجْعَلُ فِيهَا» (٣) إلى قوله : «وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» فعلموا أنّهم وقعوا في الخطيئة ،

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٥٦.

(٢) وفي رواية : من المغرب.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٩.

١١٠

فعاذوا بالعرش ، فطافوا حوله سبعة أشواط ، يسترضون ربّهم عزّوجلّ ، فرضي عنهم ، وقال لهم : اهبطوا إلى الأرض ، فابنوا لي بيتاً يعوذ به من أذنب من عبادي ، ويطوف حوله كما طفتم حول عرشي ، فأرضى عنهم كما رضيت عنكم. فبنوا هذا البيت.

فقال له الرجل : صدقت يا أبا جعفر ، فما بدو هذا الحجر؟ قال : إنّ اللّه تعالى لما أخذ ميثاق بني آدم ، أجرى نهراً أحلى من العسل وألين من الزبد ، ثم أمر القلم فاستمدّ من ذلك النهر ، وكتب إقرارهم وما هو كائن إلى يوم القيامة ، ثم ألقم ذلك الكتاب هذا الحجر ، فهذا الاستلام الذي ترى ، إنّما هو بيعة على إقرارهم ، وكان أبي إذا استلم الركن قال : اللّهمّ أمانتي أدّيتها ، وميثاقي تعاهدته ، ليشهد لي عندك بالوفاء. فقال الرجل : صدقت يا أبا جعفر ، ثم قام ، فلما ولّى قال الباقر لابنه الصادق عليهما‌السلام : اردده علي ، فتبعه إلى الصفا فلم يره ، فقال الباقر عليه‌السلام : أراه الخضر» (١).

وروى حريز ، عن ياسين ، أنّه أوصى رجل بألف درهم للكعبة ، فجاء الوصي إلى مكّة وسأل ، فدلّوه إلى بني شيبة ، فأتاهم فأخبرهم الخبر ، فقالوا له : برئت ذمّتك ، ادفعه إلينا. فقال الناس : سل أبا جعفر ، فسأله ، فقال عليه‌السلام : «إنّ الكعبة غنية عن هذا ، انظر إلى من زار هذا البيت فقطع به ، أو ذهبت نفقته ، أو ضلّت راحلته ، أو عجز أن يرجع إلى أهله ، فادفعها إلى هؤلاء» (٢).

وعن علي بن محمد بن القاسم العلوي أنّه سأل أبا جعفر عليه‌السلام عن آدم حيث

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٣ ، شرح الأخبار ٣ : ٢٧٨ ، ونقله ابن حجر في الإصابة ٢ : ٢٦٤ ، عن كتاب أخبار مكّة للفاكهي ، وكتاب النسب للزبيري.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٠ ، الكافي ٤ : ٢٤١ / ١.

١١١

حجّ ، بم حلق رأسه ، ومن حلقه؟ فقال : «نزل جبرئيل عليه بياقوتة من الجنّة ، فأمرّها على رأسه فتناثر شعره» (١).

٢ ـ العبادة :

كان الإمام الباقر عليه‌السلام مثلاً أعلى في العبادة والورع والتقوى ، شأنه شأن آبائه المعصومين عليهم‌السلام ، أولئك الذوات المقدسة الذين ذابوا في حبّ اللّه وانقطعوا إليه ، لنيل رضوانه ورجاء الزلفى لديه.

وقد جاء عن الإمام الباقر عليه‌السلام جملة توصيات في موارد العبادة المختلفة ، فأكّد على الجانب الأخلاقي فيها ، فخير العبادة ما اقترن بالورع عن المحارم وعفّة البطن والفرج ، قال الباقر عليه‌السلام : «إنّ أشدّ العبادة الورع» (٢). وقال عليه‌السلام : «ما من عبادة أفضل من عفّة بطن أو فرج» (٣).

وحثّ على حضور القلب في الصلاة ، وأداء النوافل ، فقال عليه‌السلام : «إنّ العبد ليرفع له من صلاته نصفها وثلثها وربعها وخمسها ، فما يرفع له إلاّ ما أقبل عليه بقلبه ، وإنّما أُمروا بالنوافل ليتمّ لهم ما نقصوا من الفريضة» (٤).

وفي سيرته العملية ، كان الإمام الباقر عليه‌السلام يحيي ليله قياماً وتضرّعاً إلى بارئه ، وهو في محراب عبادته ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه عليهما‌السلام ، أنّه كان في جوف الليل يقول : «أمرتني فلم أئتمر ، وزجرتني فلم أزدجر ، فها أنا عبدك

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٥ ، الكافي ٦ : ١٩٥ / ٦.

(٢) الكافي ٢ : ٧٧ / ٥.

(٣) حلية الأولياء ٣ : ١٨٧ ، تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٩٣ ، أعلام الدين : ٣٠١ ، البداية والنهاية ٩ : ٣٤١.

(٤) الكافي ٣ : ٣٦٣ / ٢.

١١٢

بين يديك ولا أعتذر» (١).

وعرف الإمام الباقر عليه‌السلام بكثرة الصلاة ، ولم يثنِه عنها كثرة مشاغله في الوسط العلمي والاجتماعي ، قال أبو يعقوب البزّار : رأيت على أبي جعفر محمد ابن علي إزاراً أصفر ، وكان يصلّي كل يوم وليلة خمسين ركعة بالمكتوبة (٢).

وعن عبد اللّه بن محمد بن عقيل : بلغنا أنّ أبا جعفر كان يصلّي في اليوم والليلة مئة وخمسين ركعة (٣).

وكان عليه‌السلام يطيل السجود ، ويتّجه بخالص قلبه نحو ربّه ، فيناجيه منقطعاً إليه ، طاعة للّه عزّوجلّ ، وتجسيداً لحقيقة العبودية.

عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : «إنّي كنت أُمهِّد لأبي فراشه ، فانتظره حتى يأتي ، فإذا أوى إلى فراشه ونام قمت إلى فراشي ، وإنّه أبطأ علي ذات ليلة ، فأتيت المسجد في طلبه ، وذلك بعد ما هدأ الناس ، فإذا هو في المسجد ساجد ، وليس في المسجد غيره ، فسمعت حنينه وهو يقول : سبحانك اللّهمّ أنت ربّي حقّاً حقّاً ، سجدت لك يا رب تعبّداً ورقّاً ، اللّهمّ إنّ عملي ضعيف فضاعفه لي ، اللّهمّ قني عذابك يوم تبعث عبادك ، وتب علي ، إنّك أنت التوّاب الرحيم» (٤).

وعن جعفر بن محمد عليهما‌السلام قال : «كان أبي يصلّي في جوف النهار ،

__________________

(١) كشف الغمّة ٢ : ٣٢٩ ، حلية الأولياء ٣ : ١٨٦ ، الفصول المهمّة : ١٩٤ ، نور الأبصار : ١٣٢ ، المختار في مناقب الأخيار / ابن الأثير الجزري : ٣٠.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ٤٥ : ٢٨٠ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٠٤.

(٣) سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٠٤ ، تذكرة الحفّاظ ١ : ١٢٤.

(٤) الكافي ٣ : ٣٢٣ / ٩.

١١٣

فيسجد السجدة فيطيل السجود حتّى يقال إنّه راقد» (١).

وكان عليه‌السلام في أكثر أوقاته وفي جميع حالاته ، لا يفتر لسانه عن ذكر اللّه سبحانه ، ويأمر أهله بالقراءة والذكر ، روى ابن القداح ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام ، قال : «كان أبي عليه‌السلام كثير الذكر ، لقد كنت أمشي معه وانّه ليذكر اللّه ، وآكل معه الطعام وانّه ليذكر اللّه ، ولقد كان يحدّث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر اللّه ، وكنت أرى لسانه لازقاً بحنكه يقول : لا إله إلاّ اللّه ، وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتّى تطلع الشمس ، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منّا ، ومن كان لا يقرأ منّا أمره بالذكر» (٢).

البكاء العبادي :

ونلمس عند الإمام الباقر عليه‌السلام امتداداً لظاهرة البكاء ، تلك الظاهرة التي تكاد تستحوذ على حياة أبيه عليه‌السلام ، المعروف بالبكّاء ، لكثرة نشيجه وبكائه ، نتيجة الألم الذي يعتصر قلبه الزكي ، ليس فقط لفجيعته بأبيه وأخوته الذين رآهم يقتلون رأي العين في ساحة المواجهة مع الجبروت الأُموي ، بل لفجيعته برموز التغيير والنهضة والإصلاح في واقع الأُمّة.

وفي فضاء محموم بالظلم والإرهاب ، كانت دموعه التي يرسلها ساخنة ، هي المتنفّس الوحيد للتعبير عن عمق ألمه ومرارته ، وكانت أيضاً رسالة ناطقة لاستنهاض وجدان الأُمّة ، وشحذ همّتها ، وتذكيرها بالجريمة النكراء التي ارتكبها عتاة بني أُمية بحقّ سبط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسيد شباب أهل الجنّة عليه‌السلام.

وعليه فلا ريب أن نجد آثار تلك الظاهرة تمتد إلى الإمام الباقر عليه‌السلام ، سيما

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ : ٣٨١ / ٨٢٤٢.

(٢) الكافي ٢ : ٤٩٨ / ١.

١١٤

في جانبها العبادي ، ولا يخفى أنّ البكاء هو تجسيد لخشية المؤمن وطاعته لربّه ، وذوبانه في حبّه ، سيّما إذا كان صادراً عن قلب مخلص متعلّق بخالقه.

عن خالد بن أبي الهيثم ، عن محمد بن علي بن الحسين عليهم‌السلام ، قال : «ما اغرورقت عين بمائها من خشية اللّه تعالى إلاّ حرّم اللّه وجه صاحبها على النار ، فإن سالت على الخدّين لم يرهق وجهه قتر ولا ذلّة ، وما من شيء إلاّ له جزاء إلاّ الدمعة ، فإن اللّه يكفّر بها بحور الخطايا ، ولو أنّ باكياً بكى في أُمّة لحرّم اللّه تلك الأُمّة على النار» (١).

من هنا كان الإمام الباقر عليه‌السلام يبكي في الحجّ بمجرّد أن يدخل المسجد الحرام تضرّعاً وخشوعاً للّه سبحانه ، وحين ينفتل من صلاته يبتلّ موضع سجوده من الدموع ، قال أفلح مولى الإمام الباقر عليه‌السلام : «خرجت مع محمد بن علي عليهما‌السلام حاجّاً ، فلما دخل المسجد الحرام نظر إلى البيت فبكى حتى علا صوته ، فبكى الناس لبكائه ، فقلت : بأبي وأُمّي إنّ الناس ينظرون إليك ، فلو رفقت بنفسك قليلاً. فقال : ويحك! لِمَ لا أبكي؟! لعلّ اللّه ينظر إليّ برحمة منه فأفوز بها عنده غداً. قال : ثم طاف بالبيت حتى جاء فركع عند المقام ، ورفع رأسه من سجوده ، فإذا موضع سجوده مبتلّ كلّه من دموعه» (٢).

__________________

(١) كشف الغمّة ٢ : ٣٦٠ ، نور الأبصار : ١٩٢ ، مطالب السؤول : ٨٠ ، تذكرة الخواص : ٣٤٩ ، البداية والنهاية ٩ : ٣٤١ ، أخبار الدول ١ : ٣٣٢.

(٢) كشف الغمّة ٢ : ٣٢٩ و ٣٦٠ ، حلية الأولياء ٣ : ١٨٦ ، الفصول المهمّة : ١٩٤ ، نور الأبصار : ١٩٣ ، المختار في مناقب الأخيار / ابن الأثير الجزري : ٣٠ ، تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٨٠ ، تذكرة الخواص : ٣٤٩ ، روض الرياحين / اليافعي : ٥٧.

١١٥

الدعاء :

وثمّة مظهر عبادي آخر نلمسه في حياة إمامنا الباقر عليه‌السلام ، وهو الدعاء ، مخّ العبادة وسلاح الأنبياء ، إذ تتوطّد به دعائم الصلة بين العبد وخالقه ، لأنّ اللّه تعالى قد أذن للإنسان بالدعاء وتكفّل له بالإجابة.

سار الإمام الباقر على خطى أبيه السجّاد عليهما‌السلام الذي عاش في مرحلة فرضت عليه أن يتّخذ من الدعاء والتضرّع والمناجاة منهجاً لتعليم العقائد ، وبلورة الفكر الإسلامي ، وإرساء المفاهيم الأخلاقية التربوية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذلك في مجموعة صحائف هي بمثابة زبور آل محمد عليهم‌السلام.

من هنا دعا الإمام الباقر عليه‌السلام إلى ربط الإنسان المسلم بربّه ، من خلال كشف ما يترتّب على الدعاء من ثمار طيّبة يجتنيها الإنسان في الدنيا والآخرة ، كدفع البلاء ونيل المحبّة والرضوان. قال أبو جعفر عليه‌السلام : «ما من شيء أحبّ إلى اللّه عزّوجلّ من أن يسأل ، وما يدفع القضاء إلاّ الدعاء» (١).

وعنه عليه‌السلام : «إنّ اللّه تعالى يحبّ من عباده المؤمنين كلّ دعّاء» (٢).

وقال عليه‌السلام : «إنّ اللّه كره إلحاح الناس بعضهم على بعض في المسألة ، وأحبّ ذلك لنفسه ، إنّ اللّه جلّ ذكره يحبّ أن يُسأل ويُطلب ما عنده» (٣).

وقد أثرت عن الإمام الباقر عليه‌السلام المزيد من الأدعية في مجال العبادة كالأذكار والقنوتات والتعقيبات التي تكشف عن تمسّكه عليه‌السلام بطاعة اللّه وعظيم إنابته إليه ،

__________________

(١) حلية الأولياء ٣ : ١٨٧ ، تاريخ دمشق ٤٥ : ٢٩٣ ، أعلام الدين في صفات المؤمنين : ٣٠١ ، البداية والنهاية ٩ : ٣٤١.

(٢) الدعوات / قطب الدين الراوندي : ٣٤ / ٧٨.

(٣) تحف العقول : ٢٩٣.

١١٦

وأخرى في مجال العقائد تشعّ منها معاني التوحيد ومختلف دروس العقيدة ، وأدعية في مجال التربية الأخلاقية وشدّ الناس باللّه تعالى وتذكيرهم بعظمته وجبروته ، وتحذيرهم من الكفر به وتجاوز حدوده ، وأدعية في مواقف ومواطن شتّى كأيّام الأسبوع وطلب الحاجات والمهمّات والأحراز عند المرض وعند النوم وبعد الطعام وغيرها.

ومن أمثلة أدعيته في مجال العبادة ، دعاؤه عند السجود ، رواه أبو عبيدة الحذّاء ، قال : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول وهو ساجد : أسألك بحقّ حبيبك محمد إلاّ بدّلت سيئاتي حسنات ، وحاسبتني حسابا يسيرا. ثم قال في الثانية : أسألك بحقّ حبيبك محمد إلاّ كفيتني مؤونة الدنيا وكل هول دون الجنّة. ثم قال في الثالثة : أسألك بحقّ حبيبك محمد لمّا غفرت لي الكثير من الذنوب والقليل ، وقبلت من عملي اليسير. ثم قال في الرابعة : أسألك بحقّ حبيبك محمد لمّا أدخلتني الجنّة ، وجعلتني من سكّانها ، ولما نجّيتني من سفعات النار برحمتك» (١).

ومن دعاء له عليه‌السلام عقيب صلاة الليل : «لا إله إلاّ اللّه ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ويميت ويحيي ، وهو حي لا يموت ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير ، اللهمّ لك الحمد يا رب ، أنت نور السماوات والأرض فلك الحمد يا رب ، وأنت قوّام السماوات والأرض فلك الحمد ، وأنت جمال السماوات والأرض فلك الحمد ، وأنت زين السماوات والأرض فلك الحمد ، وأنت صريخ المستصرخين فلك الحمد ، وأنت غياث المستغيثين فلك الحمد ، وأنت مجيب دعوة المضطرين ، فلك الحمد وأنت أرحم الراحمين.

__________________

(١) فلاح السائل / ابن طاوس : ٢٤٣.

١١٧

اللّهمّ بك تنزل كل حاجة فلك الحمد ، وبك يا إلهي أنزلت حوائجي الليلة فاقضها يا قاضي الحوائج ، اللّهمّ أنت الحقّ ، وقولك الحقّ ، ووعدك الحقّ ، وأنت مليك الحقّ ، أشهد أنّ لقاك حقّ ، وأنّ الجنّة حقّ والنار حقّ ، والساعة حقّ آتية لا ريب فيها ، وأنّك تبعث من في القبور.

اللّهمّ لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكّلت ، وبك خاصمت ، وإليك يا ربّ حاكمت ، فاغفر لي ما قدّمت وما أخّرت ، وما أسررت وما أعلنت ، أنت الحي القيوم لا إله إلاّ أنت» (١).

ومن أدعيته عليه‌السلام في المجال العقيدي قوله : «الحمد للّه الذي منّ علينا ووفّقنا لعبادته ، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، وجنّبنا عبادة الأوثان ، حمداً سرمداً وشكراً واصباً» (٢).

ومن دعاء له عليه‌السلام ، وكان يسمّيه الجامع ، رواه عنه أبو حمزة الثمالي :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم

أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله ، آمنت باللّه وبجميع رسل اللّه ، وبجميع ما أرسل به رسل اللّه ، وأنّ وعد اللّه حقّ ، ولقاءه حقّ ، وصدق اللّه وبلّغ المرسلون ، والحمد للّه ربّ العالمين ، وسبحان اللّه كلّما سبّح اللّه شيء ، وكما يحبّ اللّه أن يسبّح ، والحمد للّه كلّما حمد اللّه شيء ، وكما يحبّ اللّه أن يحمد ، ولا إله إلاّ اللّه كلّما هلّل اللّه شيء ، وكما يحبّ اللّه أن يهلّل ، واللّه أكبر كلّما كبّر اللّه شيء ،

__________________

(١) مصباح المتهجّد : ١١٦ ، بحار الأنوار ٨٤ : ٢٥٨.

(٢) التوحيد : ٩٣.

١١٨

وكما يحبّ اللّه أن يكبّر .. » (١).

وله عليه‌السلام من أدعيته القصيرة ما رواه الجاحظ : «اللّهمّ أعنّي على الدنيا بالغنى ، وعلى الآخرة بالتقوى» (٢).

وله عليه‌السلام دعاء حين يخرج من منزله ، رواه أبو حمزة الثمالي ، وهو في كفاية المهمّات ، قال عليه‌السلام في فضله : ما تكلم به أحد قط إلاّ كفاه اللّه ما أهمّه من أمر دنياه وآخرته ، ولفظه : «بسم اللّه ، حسبي اللّه ، توكّلت على اللّه ، اللّهمّ إنّي أسألك خير أُموري كلّها ، وأعوذ بك من خزي الدنيا وعذاب الآخرة» (٣).

وآخر رواه عبد اللّه بن عبد الرحمن ، عنه عليه‌السلام ، قال : قال لي : «ألا أعلمك دعاءً تدعو به ، إنّا أهل البيت إذا كربنا أمر ، وتخوّفنا من السلطان أمر لا قبل لنا به ، ندعو به. قلت : بلى بأبي أنت وأمي ، يا بن رسول اللّه. قال : قل : يا كائناً قبل كل شيء ، ويا مكوّن كلّ شيء ، ويا باقي بعد كلّ شيء ، صلِّ على محمد وآل محمد ، وافعل بي كذا وكذا» (٤).

ومن دعائه بعد الطعام ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «كان أبي يقول : الحمد للّه الذي أشبعنا في جائعين ، وأروانا في ظامين ، وآوانا في ضاحين ، وحملنا في راجلين ، وآمننا في خائفين ، وأخدمنا في عانين» (٥).

__________________

(١) مهج الدعوات / ابن طاوس : ٢١٣.

(٢) البيان والتبيين ٣ : ٢٥٠ ، كشف الغمّة ٢ : ٣٦٣ وفيه : وعلى الآخرة بالعفو.

(٣) الكافي ٢ : ٥٤١ / ٣.

(٤) الكافي ٢ : ٥٦٠ / ١٣.

(٥) الكافي ٦ : ٢٩٥ / ١٦.

١١٩

٣ ـ الزهد :

أما زهد الإمام الباقر عليه‌السلام في الحياة الدنيا ، وتجرّده عن كل نزعة مادية أو ذاتية ، فتشير كل تفاصيل حياته أنّه كان أزهد أهل زمانه وأورعهم وأتقاهم.

يقول ابن حجر الهيتمي : وله من الرسوم في مقامات العارفين ، ما تكلّ عنه ألسنة الواصفين ، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة (١).

وقد أفرد الشيخ الصدوق ، كتاباً في زهده ، سمّاه كتاب زهد أبي جعفر عليه‌السلام (٢).

وكان عليه‌السلام يحث أصحابه ويحدثهم بضرورة العمل بمقتضيات الزهد في الدنيا ، منها إخلاص الإيمان ، وإدامة الذّكر سيما ذكر الموت ، وقصر الأمل ، وغايته هدايتهم وتهذيب أخلاقهم ، قال عليه‌السلام : «لا زهد كقصر الأمل» (٣).

وعن أبي عبيدة الحذاء ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : «حدثني بما أنتفع به. فقال : يا أبا عبيدة ، أكثر ذكر الموت ، فإنّه لم يكثر إنسان ذكر الموت إلاّ زهد في الدنيا» (٤).

وقال عليه‌السلام : «ما أخلص العبد الإيمان باللّه عزّوجلّ أربعين يوماً إلاّ زهده اللّه عزّوجلّ في الدنيا ، وبصره داءها ودواءها ، فأثبت الحكمة في قلبه ،

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ٣٠٤.

(٢) رجال النجاشي : ٣٨٩.

(٣) تحف العقول : ٢٨٦.

(٤) الكافي ٢ : ١٣١ / ١٣.

١٢٠