الإمام موسى الكاظم عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام موسى الكاظم عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-37-9
الصفحات: ٢٣٤

وكتب هارون إلى الفضل بن الربيع ليسلمه إلى الفضل بن يحيى البرمكي ، فتسلمه منه وأراد هارون ذلك منه فلم يفعله ، وبلغه أنه عنده في رفاهية وسعة وهو حينئذ بالرقة ، فكتب إليه ينكر ذلك عليه ويأمره بقتله ، فتوقف عن ذلك ولم يقدم عليه ، فاغتاظ هارون من ذلك ، ودعا مسروراً الخادم أن يخرج على البريد من وقته إلى بغداد ، ويحمل كتابين إلى العباس بن محمد والسندي بن شاهك ، وحين وصول الكتابين جلد ابن شاهك الفضل بن يحيى مائة سوط ، وحبس الإمام عنده.

روى الشيخ الخصيبي بالاسناد عن علي بن أحمد البزاز ، قال : « أمر هارون السندي بن شاهك أن يبني لموسى عليه‌السلام محبساً في داره ويقيده بثلاثة قيود من ثلاثة أرطال حديد ، ويغلق الباب في وجهه إلاّ وقت الطعام ووضوء الصلاة » (١).

وجلس هارون في مجلس حافل ، فأمر الناس بلعن الفضل بن يحيى فلعنوه ، ثم ان يحيى بن خالد قال لهارون : ان الفضل حدث وأنا أكفيك ما تريد ، ثم دعا يحيى بن خالد السندي فأمره فيه بأمره فامتثله ، فقتل الإمام على يد السندي بسمّ جعله في طعام ، وقيل : في رطب قدمه إليه ، ولبث ثلاثاً بعده موعوكاً ، ثم مات في اليوم الثالث.

فلما استشهد الإمام عليه‌السلام أدخل السندي الفقهاء ووجوه أهل بغداد عليه ، فنظروا إليه لا أثر به وشهدوا على ذلك ، وإنما فعل السندي ذلك لإخفاء جريمة قتل الإمام عليه‌السلام بالسمّ ، وأخرج الجثمان المطهر فوضع على الجسر ببغداد ، ونودي : هذا موسى بن جعفر قد مات فانظروا

__________________

(١) الهداية الكبرى / الخصيبي : ٢٦٥.

٦١

إليه.

فجعل الناس يتفرسون في وجهه وهو ميت ، وأمر يحيى ابن خالد أن ينادى عليه عند موته : هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت فانظروا إليه.

فنظر الناس إليه ميتاً ، ثم حمل فدفن في مقابر قريش (١).

وفي هذا يقول أحد الشعراء (٢) :

ما أنصفتك بنو الأعمام إذ قطعت

أواصراً برسول الله تتحد

أبكيك رهن السجون المظلمات وقد

ضاق الفضا وتوإلى حولك الرصد

لبثت فيهن أعواماً ثمانية

ما بارحتك القيود الدهم والصفد

تمسي وتغدو بنو العباس في مرح

وأنت في محبس السندي مضطهد

دسوا اليك نقيع السم في رطب

فاخضر لونك مذ ذابت به الكبد

حتى قضيت غريب الدار منفرداً

لله ناءٍ غريب الدار منفرد

أبكي لنعشك والأبصار ترمقه

ملقى على الجسر لا يدنو له أحد

أبكيك ما بين حمالين أربعة

تشال جهراً وكل الناس قد شهدوا

نادوا عليه نداء تقشعر له

السبع الطباق فهلا زلزل البلد

لم تجتمع هاشم البطحا لديه ولا

الأشراف من مضر الحمراء تحتشد

كأنها ما درت أن العميد مضى

ومن رواق علاها قد هوى العمد (٣)

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٢٤٠ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٤٠ ، مقاتل الطالبيين : ٣٣٦ ، الغيبة / الطوسي : ٢٦ / ٦ ، اعلام الورى / الطبرسي ٢ : ٣٣ ، الفصول المهمة / ابن الصباغ : ٢٢٠.

(٢) هو الشيخ محمد علي اليعقوبي ( ت / ١٣٨٥ هـ).

(٣) ديوان اليعقوبي الموسوم بالذخائر : ٥٥.

٦٢

أسباب استدعاء الإمام وسجنه :

أولاً ـ الخوف من عمل الإمام عليه‌السلام :

وتلك عقدة لم تفارق غالبية الحكام العباسيين ومن قبلهم الأمويين ، فجميعهم يساورهم الشك بعمل الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام ويعتقدون أنهم يمتلكون من القوة والهيبة ما يستطيعون إزاحتهم عن عروشهم ، هذا مع قناعة بني العباس بابتعاد الإمام الكاظم عليه‌السلام عن واقع الحياة السياسية.

يروى أن هارون اللارشيد لعنه الله لما صار إلى المدينة وصل كل هاشمي أو قرشي أو مهاجري أو أنصاري ممن دخل عليه بخمسة آلاف درهم وما دونها إلى مائتي دينار ، على قدر شرفه وهجرة آبائه ، وحين دخل الإمام الكاظم عليه‌السلام رحّب به ، وعند منصرفه من الحج أمر بصرّة سوداء فيها مائتا دينار أرسلها إليه ، فسأله المأمون وكان جريئاً عليه : يا أمير المؤمنين ، تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش وبني هاشم ومن لا يعرف حسبه ونسبه خمسة آلاف دينار إلى ما دونها ، وتعطي موسى بن جعفر وقد أعظمته وأجللته مائتي دينار ؟! أخسّ عطية أعطيتها أحداً من الناس. فقال : اسكت لا أمّ لك ، فاني لو أعطيت هذا ما ضمنته له ، ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غداً بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه ، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم (١).

وهذه الذريعة عينها التي جعلت سلطة السقيفة تمنع الزهراء عليها‌السلام نحلتها ، وبقي الحكام بعدهم يحركون عجلة الحرب الاقتصادية ، ويضيّقون على آل البيت عليهم‌السلام ويقللون من أعطياتهم لسلب القدرة الاقتصادية التي قد تمكّنهم من استعادة سلطانهم المسلوب والتفاف الأنصار حولهم.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ١ : ٨٨ / ١١.

٦٣

وخوف هارون الطاغية اللعين من الإمام يتجلى من خلال تصريح سليمان ابن المنصور عم هارون ، حين قيل له : هذا موسى بن جعفر مات في الحبس ، فأمر هارون أن يدفن بحاله. فقال سليمان : موسى بن جعفر يدفن هكذا ! فإن في الدنيا من كان يُخاف على الملك ، في الآخرة لا يوفّى حقه ؟ (١).

ثانياً ـ الحقد والغيرة :

إن دأب الطغاة في كل عصر هو احتكار أسباب العظمة والتعالي لذواتهم ، فتستعر نفوسهم غيرة وحقداً على كل شخصية مرموقة في المجتمع ، ويزداد ذلك كلما كان الحاكم على مستوى متدنٍ في سيرته وخلقه ، فلم يرق له أن يسمع الناس وهم يتحدثون عن شخص تجتمع فيه الكمالات الروحانية والفكرية قولاً وعملاً ، ويعدّ اختصاراً لشخص الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله في مظاهر العظمة من العبادة ورجاحة العلم والحلم والزهد والكرم والشجاعة وغيرها.

إن بغض أهل البيت عليهم‌السلام ثقافة يرثها الحاكم عن أسلافه ويتقرب بها إليه أخلافه ، ففي رواية الشيخ الصدوق عن المأمون يقول : ما زلت أحب أهل البيت وأظهر للرشيد بغضهم تقرباً إليه (٢).

وما ذنب الأئمة عليهم‌السلام حتى يُحقد عليهم إذا أحب الناس العلم وأهله والحق ومن انتصر له ؟ ذنبهم الوحيد عند الطغاة أنهم ورثة الأنبياء عليهم‌السلام ، وأنهم أئمة حق وهدى وغيرهم أئمة باطل وضلال.

وتتجسد غيرة هارون اللئيم من الإمام الكاظم عليه‌السلام في موقف افتخر فيه الإمام عليه‌السلام على هارون حين جاء مكة حاجاً ، فأتى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله زائراً له وحوله قريش وأفياء القبائل ومعه موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، فلما انتهى إلى القبر

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٤١.

(٢) أمالي الصدوق : ٣٠٧ / ١ ، عيون أخبار الرضا ١ : ٩٣ / ١٢.

٦٤

قال : « السلام عليك يا رسول الله يا بن عمي. افتخاراً على من حوله ، لأنه كان في مقام استعراض ، لذلك يريد التضليل على الناس بالايحاء بأنه أقربهم إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبذلك فهو أحق بالخلافة.

فدنا موسى بن جعفر عليهما‌السلام فقال : السلام عليك ، يا أبة. وزاد في رواية اُخرى : أسأل الله الذي اصطفاك واجتباك وهداك وهدى بك أن يصلي عليك. فتغير وجه هارون وتبين فيه الغضب ، وقال : هذا الفخر يا أبا الحسن حقاً. ولم يحتملها هارون ، فلم يزل ذلك في نفسه حتى استدعاه وسجنه فأطال سجنه فلم يخرج إلاّ ميتاً مقيداً مسموماً » (١).

ثالثاً ـ الوشاية :

ذكر المؤرخون عدة ممن وشوا بالامام عند هارون ليزدادوا قرباً إليه وينالوا من حطام دنياه ، بدعوى قديمة جديدة هي أن الإمام عليه‌السلام تجبى له الأموال الطائلة من شتى ديار الإسلام ، وأنه يدعو إلى نفسه بالخلافة ويكتب إلى سائر الأمصار بذلك ، وأن الناس يبايعون له ، وما إلى ذلك من البهتان الذي اُعد سلفاً قبل حمل الإمام عليه‌السلام إلى العراق ، وقد تعاون جماعة من رجال البلاط على اختلاق تلك التهم وبذلوا الأموال الطائلة في سبيل اغراء بعض الجماعات المقربة من الإمام عليه‌السلام كي توقع به وتدلي بدلوها أمام الرشيد ، ومع أن الأخير قد ثبت لديه بالدليل بطلان ما يقولون لكنه كان مصراً على تنفيذ مآربه إلى النهاية.

__________________

(١) تاريخ بغداد ١٣ : ٣١ ، وفيات الأعيان ٥ : ٣٠٩ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ٢٧٣ ، البداية والنهاية ١٠ : ١٩٧ ، اعلام الورى ٢ : ٢٨ ، كامل الزيارات : ١٨ ، الكافي ٤ : ٥٥٣ / ٨ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٦ / ٣ ، اسعاف الراغبين / ابن الصبان : ٢٤٨ ، الصواعق المحرقة : ٢٠٢.

٦٥

من الذين وشوا بالإمام عليه‌السلام ؟ :

١ ـ علي بن إسماعيل بن جعفر :

ذكرت بعض الأخبار أن علي بن اسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام كان قد سعى بعمه ، وسبب ذلك أن الرشيد وضع ابنه محمد الأمين في حجر جعفر ابن محمد بن الأشعث ، فحسده يحيى بن خالد بن برمك خوفاً من أن يخسر موقعه بعد أن يفضي الأمر إلى الأمين وابن الأشعث ، وكان مذهب جعفر بن الأشعث التشيع ، فأظهر له يحيى أنه على مذهبه ، وأفضى إليه جعفر بجميع أموره ، فسعى به إلى هارون وزاد عليه بما يقدح في قلبه ، فذكر أنه لا يصل إلى ابن الأشعث مال من الخراج إلاّ أخرج خمسه فوجه به إلى موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، وكان هارون يكذب ذلك بعد الاختبار والتجربة ، وجعل يحيى يحتال في اسقاط ابن الاشعث ، فطلب من ثقاته رجلاً من آل أبي طالب له رغبة في الدنيا ، فدل على علي بن اسماعيل بن جعفر ، فوعده يحيى بمزيد من الاحسان ، وقرر الخروج إلى العراق ، فأحس به الإمام موسى عليه‌السلام فاعترض عليه ، فاعتذر بأن عليه ديناً ، ووعده الإمام عليه‌السلام بقضاء دينه وكفاية عياله ، فلم يلتفت إلى ذلك ، وأبى إلاّ الخروج ، فأرسل إليه ثلاثمائة دينار وأربعة آلاف درهم ، فقال : « اجعل هذا في جهازك ، ولا تؤتم ولدي.

فلما قام من بين يديه قال أبو الحسن موسى عليه‌السلام لمن حضره : والله ليسعين في دمي ، ويؤتمن أولادي. فقالوا له : جعلنا الله فداك ، فأنت تعلم هذا من حاله وتعطيه وتصله ! قال لهم : نعم ، حدثني أبي ، عن آبائه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن الرحم اذا قطعت فوصلت فقطعت قطعها الله ، وانني أردت أن أصله بعد قطعه لي ، حتى اذا قطعني قطعه الله.

فخرج علي بن اسماعيل حتى أتى يحيى بن خالد ، ثم أوصله يحيى إلى

٦٦

هارون ، فسأله عن عمه موسى بن جعفر ، فسعى به إليه ، وقال له : ان الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب ، وان من كثرة المال عنده أنه اشترى ضيعة تسمى اليسيرة بثلاثين ألف دينار. وذكر لهارون أنه يجتمع على باب عمه من الناس أكثر مما يجتمع على باب هارون لعنه الله ، فأمر له بمائتي ألف درهم وولاه على بعض النواحي ، ومضت رسله لقبض المال ، فدخل إلى الخلاء فزحر زحرة خرجت منها حشوته كلها فسقط لوجهه ، واجتهدوا في ردها فلم يقدروا ، فوقع لما به (١) ، فجاءه المال وهو ينزع ، فقال : ما أصنع به وأنا في الموت ؟ ومات ولم ينتفع بالمال ، وخرج الرشيد في تلك السنة إلى الحج ، وبدأ بالمدينة فقبض فيها على أبي الحسن موسى عليه‌السلام » (٢).

٢ ـ محمد بن اسماعيل بن جعفر :

وفي رواية أن الذي وشى بالامام عليه‌السلام هو محمد بن اسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام ، في قصة مشابهة لما تقدم ، رواها علي بن جعفر بن محمد ، وفيها أن محمد بن اسماعيل بن جعفر استاذن الإمام الكاظم عليه‌السلام في الخروج إلى العراق فأذن له ، وقال له : « أوصيك أن تتقي الله في دمي. فقال : لعن الله من يسعى في دمك. ثم ناوله أبو الحسن عليه‌السلام (٤٥٠) ديناراً فقبضها محمد ، ثم أمر له بألف وخمسمائة درهم كانت عنده ، فقلت له في ذلك واستكثرته ، فقال : هذا ليكون أوكد لحجتي اذا قطعني ووصلته.

قال : فخرج إلى العراق ، واستأذن على هارون فأمر بدخوله ، وقال : يا أمير المؤمنين ، خليفتان في الأرض ، موسى بن جعفر بالمدينة يجبى له الخراج ،

__________________

(١) أي ان حالته حالة الموت.

(٢) عيون أخبار الرضا ١ : ٦٩ / ١ ، الارشاد ٢ : ٢٣٨ ، مقاتل الطالبيين : ٣٣٣ ، روضة الواعظين : ٢١٨ ، التتمة في تواريخ الأئمة عليهم‌السلام : ١١٣.

٦٧

وأنت بالعراق يجبى لك الخراج. فقال : والله. فقال : والله. قال : فأمر له بمائة ألف درهم ، فلما قبضها وحملت إلى منزله أخذته الذبحة في جوف ليلته فمات ، وحُوِّل من الغد المال الذي حمل إليه إلى الرشيد » (١).

وقال ابن شهرآشوب : « كان محمد بن اسماعيل بن الصادق عليه‌السلام عند عمه موسى الكاظم عليه‌السلام يكتب له الكتب إلى شيعته في الآفاق ، فلما ورد هارون الحجاز سعى بعمه إلى هارون ، فقال : أما علمت أن في الأرض خليفتين يجبى اليهما الخراج ؟ فقال الرشيد : ويلك أنا ومن ؟ قال : موسى بن جعفر ، وأظهر أسراره ، فقبض عليه ، وحظي محمد عند هارون ، ودعا عليه موسى الكاظم عليه‌السلام بدعاء استجابه الله فيه وفي أولاده » (٢).

٣ ـ محمد بن جعفر الصادق عليه‌السلام :

وفي بعض الروايات أن محمد ابن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام هو الذي وشى بالامام الكاظم عليه‌السلام ، عن علي بن جعفر ، قال : « جاءني محمد بن اسماعيل بن جعفر ، وذكر لي أن محمد بن جعفر دخل على هارون الرشيد فسلم عليه بالخلافة ، ثم قال له : ما ظننت أن في الأرض خليفتين حتى رأيت أخي موسى ابن جعفر يسلم عليه بالخلافة » (٣).

ويبدو أنه محمد بن اسماعيل بن جعفر المتقدم إلاّ أنه منسوب إلى الجد ، لأن محمد بن جعفر كان معروفاً بالفضل والتقوى ، وكان مخالفاً لبني العباس ، وقد خرج أيام المأمون ، وتسمّى بأمير المؤمنين في سنة ( ١٩٩ ه‍ ).

٤ ـ يعقوب بن داود :

وروي أن يعقوب بن داود كان ممن سعى بالامام الكاظم عليه‌السلام ، وكان يرى

__________________

(١) رجال الكشي : ٢٦٣ / ٤٧٨.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٤٠.

(٣) عيون أخبار الرضا ١ : ٧٢ / ٢.

٦٨

رأي الزيدية (١).

رابعاً ـ مناظرة الرشيد في مسألة فدك :

كان الإمام الكاظم عليه‌السلام قد ذكر قضية فدك في مجلس المهدي باسلوب المطالب ، ويعيد طرحها هنا لكن باكراه والحاح من الحاكم ، ومهما تكن الظروف المحيطة بالامام عليه‌السلام فان المؤدّى واحداً ، هو أن فدك رمز لحقّ مغتصب وخلافة مسلوبة ، لأن الكاظم عليه‌السلام ذكر بلدان الخلافة العباسية عند تحديدها ، ولا ريب أن صاحب الحق فيها هو عليه‌السلام ، والرشيد يدرك ذلك تماماً.

روى المؤرخون أن هارون الرشيد كان يقول لموسى بن جعفر عليهما‌السلام : « حدّ فدكاً حتى أردها اليك ، فيأبى حتى ألح عليه ، فقال : لا آخذها إلاّ بحدودها ، قال : وما حدودها ؟ قال : إن حددتها لم تردها ؟ قال : بحق جدك إلاّ فعلت ، قال : أما الحد الأول فعدن ، فتغير وجه الرشيد ، وقال : إيهاً ، قال : والحد الثاني سمرقند ، فاربدّ وجهه ، والحد الثالث افريقية ، فاسودّ وجهه ، وقال : هيه ، قال : والرابع سِيف البحر مما يلي الجزر وأرمينية ، قال الرشيد : فلم يبقَ لنا شيء ، فتحول إلى مجلسي. قال موسى عليه‌السلام : قد أعلمتك أنني إن حددتها لم تردها ، فعند ذلك عزم على قتله ».

وفي رواية : قال الرشيد : « هذا كله ، هذه الدنيا !. فقال : هذا كان في أيدي اليهود فأفاءه الله على رسوله بلا خيل ولا ركاب ، فأمره الله أن يدفعه إلى فاطمة عليها‌السلام » (٢).

خامساً ـ مناظرة هشام :

وروي أن السبب الذي يمكن أن يضاف إلى باقي الأسباب ، هو مناظرة

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ١ : ٧٢.

(٢) ربيع الأبرار / الزمخشري ١ : ٣١٦ ، المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٤٣٤.

٦٩

اضطروا فيها هشام بن الحكم إلى الافصاح عن رأيه ، روى ذلك الكشي عن يونس بن عبد الرحمن ذكر فيه أن يحيى بن خالد البرمكي قد وجد على هشام ابن الحكم شيئاً من طعنه على الفلاسفة ، وأحب أن يغري به هارون ، فذكر لهارون أن هشاماً يزعم أن لله في أرضه اماماً مفروض الطاعة ، وأنه لو أمره بالخروج لخرج ، فاحتال هارون بعقد مجلس جمع فيه المتكلمين ، وجعل يسمع هو من وراء الستر لئلا يفطنوا به ، فشحن يحيى المجلس بالمتكلمين ، وكان منهم ضرار بن عمرو ، وسليمان بن جرير ، وعبد الله بن يزيد الاباضي ، ورأس الجالوت وغيرهم ، فتساءلوا فتكافّوا وتناظروا وتقاطعوا ، وأخيراً تراضوا بهشام حكماً بينهم ، فأتوا به فابتدءوا الكلام في فساد اختيار الناس الإمام ، فسأل سليمان بن جرير هشاماً عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام مفروض الطاعة ؟ فقال هشام : نعم ، قال : فإن أمرك الذي بعده بالخروج بالسيف معه تفعل وتطيعه ؟ فقال هشام : لا يأمرني ، قال : ولم اذا كانت طاعته مفروضة عليك ، وعليك أن تطيعه ؟ فقال هشام : عد عن هذا فقد تبين فيه الجواب. إلى أن قال سليمان : ليس أسألك إلاّ على سبيل سلطان الجدل ، ليس على الواجب انه لا يأمرك. فقال هشام : كم تحوم حول الحمى ! هل هو إلاّ أن أقول لك إن أمرني فعلت ، فتنقطع أقبح الانقطاع ، ولا يكون عندك زيادة ، وأنا أعلم بما يجب قولي ، وما إليه يؤول جوابي. قال : فتغير وجه هارون وقال : قد أفصح ، قال : فبلغنا أن هارون قال ليحيى : شد يدك بهذا وأصحابه ، وبعث إلى أبي الحسن موسى عليه‌السلام فحبسه ، فكان هذا سبب حبسه مع غيره من الأسباب (١) ، فعاش هشام متوارياً.

الإمام يرد التهم :

ونتعلم من الإمام الكاظم عليه‌السلام درساً في الدفاع عن الحق ودفع التهم التي

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال / الطوسي ٢ : ٥٣٠ / ٤٧٧.

٧٠

يلصقها أعداء الدين بالعقيدة الحقة وأهلها ، لقد دفع الإمام عليه‌السلام التهم عن نفسه إلى الحد الذي أقنع رأس السلطة بخلو ساحته من أي تهمة اُلصقت به أو اُعدّت له ، وعدم وجود أي نشاط مريب ضده ، لكن الرشيد كان مصراً على المضي في مخططه القاضي بتصفية الإمام إلى نهايته.

روى محمد بن الزبرقان الدامغاني ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : « لما أمر هارون الرشيد بحملي ، دخلت عليه فسلمت ورأيته مغضباً ، فرمى إليَّ بطومار فقال : اقرأه ، فاذا فيه كلام ، قد علم الله عزوجل براءتي منه ، وفيه أن موسى بن جعفر يجبى إليه خراج الآفاق من غلاة الشيعة إلى أن قال : قلت : يا أمير المؤمنين ، والذي بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوة ما حمل إليَّ أحد درهماً ولا ديناراً من طريق الخراج ، لكنا معاشر آل أبي طالب نقبل الهدية التي أحلها الله عزوجل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله : لو اهدي لي كراع لقبلت ، ولو دعيت إلى ذراع لأجبت. وقد علم أمير المؤمنين ضيق ما نحن فيه ، وكثرة عدونا ، وما منعنا السلف من الخمس الذي نطق لنا به الكتاب ، فضاق بنا الأمر ، وحرمت علينا الصدقة ، وعوضنا الله عزوجل عنها الخمس ، واضطررنا إلى قبول الهدية ، وكل ذلك مما علمه أمير المؤمنين. فلما تم كلامي سكت. ثم قلت : إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لابن عمه في حديث عن آبائه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فكأنه اغتنمها ، فقال : مأذون لك ، هاته ! فقلت : حدثني أبي ، عن جدي يرفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن الرحم اذا مست رحماً تحركت واضطربت. فان رأيت أن تناولني يدك ، فأشار بيده إليّ ، ثم قال : ادن ، فدنوت فصافحني وجذبني إلى نفسه ملياً ، ثم فارقني وقد دمعت عيناه ، فقال لي : اجلس يا موسى ، فليس عليك بأس ، صدقت وصدق جدك وصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لقد تحرك دمي ، واضطربت عروقي ،

٧١

وأعلم أنك لحمي ودمي ، وأن الذي حدثتني به صحيح » (١).

وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام أن الرشيد قال : « يا موسى ، خليفتين يجبى اليهما الخراج ؟! فقلت : يا أمير المؤمنين ، اعيذك بالله أن تبوء باثمي واثمك ، وتقبل الباطل من أعدائنا علينا ، فقد علمت أنه قد كذب علينا منذ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما علم ذلك عندك » (٢) إلى آخر الحديث المتقدم.

المبحث الثاني

مواقف الإمام عليه‌السلام إزاء تصرفات السلطة

كان الإمام الكاظم عليه‌السلام يدرك حراجة الموقف الذي مر به وهو في تباشير إمامته ، فكان من جانب ملزماً باتباع اُسلوب الحذر والكتمان من إبداء أي نشاط يدل على إمامته لشدة طلب المنصور لصاحب الوصية من أهل البيت عليهم‌السلام بعد الإمام الصادق عليه‌السلام ، ومن جانب آخر كان ينبغي أن يقوم بما يتوجب عليه تجاه أصحابه باعتباره قائداً رسالياً ، سيما وأن بعض الشيعة قد قال بإمامة غيره ، لكنه استطاع التوفيق بين الأمرين عن طريق التصريح بالوصية لخاصته وخلص أصحابه ريثما تتوفر الفرصة المناسبة لذلك ، ولعل من إفرازات تلك المرحلة أن الرواة من خلص أصحابه كانوا لا يسندون الحديث إليه بصريح اسمه حفظاً له وتقية من الظلم المسلط في ذلك العهد ، بل يكنون عنه بالعبد الصالح والعالم والسيد والرجل والماضي ، تعمية على رجال السلطة. ولم يشترك الإمام عليه‌السلام في الميادين السياسية بل كان منقطعاً إلى العلم والعبادة والزهد ، ولم ينضم إلى الثوار من الطالبيين ، لعلمه المسبق بمصير الثورة ، ولأنه لم يكن في

__________________

(١) الاختصاص : ٤٨.

(٢) عيون أخبار الرضا ١ : ٨١ / ٩.

٧٢

موقع المقاومة المسلحة للسلطة لعدم توفر عناصر القوة على مواجهة الحكم بالرفض الصريح والعمل الثوري من أجل إقامة دولة العدل ، وهناك مصالح أخرى يقدرها الإمام عليه‌السلام ويحسب حسابها ، ومع كل ذلك كان مبعث رعب وقلق في نفوس الحاكمين من بني العباس ، فأفقدوه حريته وجعلوه مفرداً غريباً وبالتالي تآمروا على حياته.

وفيما يلي نذكر مواقف الإمام عليه‌السلام من جملة الأمور الاُخرى التي تهمه وتتطلب تدخله ، سواء ما يخص رجال السلطة أو أصحابه وشيعته أو ساجنيه.

١ ـ موقفه في السجن :

السجن في عرف الإمام عليه‌السلام هو ابتلاء ينقضي مثلما ينقضي الرخاء ، لكن هناك يوم طويل أعده الله للمقاصّة من الطغاة الظالمين ، ذلك هو فحوى رسالته التي بعثها الإمام عليه‌السلام من السجن إلى هارون لما طال سجنه ، ونصها : « إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلاّ انقضى عنك معه يوم من الرخاء حتى نفضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون » (١).

والسجن عند الإمام الكاظم عليه‌السلام مدرسة للعبادة والطاعة والصبر يسخرها الإنسان العارف لبلوغ مدارج الكمال ، ويتعلم فيها ويعلّم العزم الثابت والإرادة الصلبة والتصميم الراسخ على تحمّل الأزمات ، فصبر راضياً بما قضاه الله حتى سمّي الكاظم لما تحمّل من صعاب وما كظم من غيظ عما فعله الظالمون به.

كان عليه‌السلام في السجن سيد الصابرين وإمام العابدين الذي يشكر خالقه لأنه حقق مراده ففرّغه لعبادته والانقطاع لطاعته بقوله : « اللهم إنك تعلم أني كنت

__________________

(١) البداية والنهاية ١٠ : ١٩٧ ، تاريخ بغداد ١٣ : ٣٣ ، نور الأبصار / الشبلنجي : ٢٠٤ ، إسعاف الراغبين / ابن الصبان : ٢٤٨ ، تذكرة الخواص : ٣٦٠ ، الفصول المهمة : ٢٢٢ ، الكامل في التاريخ ٦ : ١٦٤ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ٢٧٣.

٧٣

أسألك أن تفرغني لعبادتك ، اللهم وقد فعلت ، فلك الحمد » (١). من هنا كان عليه‌السلام يحيي الليل كله صلاة وقراءة للقرآن ودعاء ، ويصوم النهار في أكثر الأيام.

لقد واجه الإمام الكاظم عليه‌السلام السجن بروح ملؤها الصبر والإصرار والتحدّي ، فلم يهن ولم تلن له قناة ، بل بقي في موقع القوة والصلابة والعنفوان والإخلاص لله ولرسوله وللإسلام والأمة ، كما لم يخطر بباله أن يظهر الإذعان والخضوع إلى السلطان الجائر كي يستدرّ عطفه وشفقته ، فقد قيل له عليه‌السلام وهو في الحبس : « لو كتبت إلى فلان يكلم فيك الرشيد ؟ فقال : حدثني أبي عن آبائه : أن الله عزوجل أوحى إلى داود : يا داود ، إنه ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني... إلاّ وقطعت عنه أسباب السماء ، وأسخت الأرض من تحته » (٢).

٢ ـ موقفه من الرشيد :

تتفاوت مواقف الإمام الكاظم عليه‌السلام من الرشيد بحسب المقام الذي يمليه عليه ، فقد يواجهه بالموعظة الحسنة أحياناً.

عن إسماعيل بن بشر بن عمّار ، قال : « كتب هارون الرشيد إلى أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام : عِظني وأوجز. قال : فكتب إليه : ما من شيءٍ تراه عينك إلاّ وفيه موعظةٌ » (٣).

وعن عبدالعظيم الحسني ، عن محمد بن علي ، عن أبيه ، قال : « دخل موسى ابن جعفر عليه‌السلام على هارون الرشيد ، وقد استخفه الغضب على رجلٍ ، فقال له :

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٢٤٠ ، الفصول المهمة : ٢٢٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤١٤.

(٣) أمالي الصدوق : ٥٩٩ / ٨٢٩.

٧٤

انّما تغضب لله عزوجل ، فلا تغضب له بأكثر مما غضب لنفسه » (١).

وقال الرشيد لموسى بن جعفر عليهما‌السلام : « اني قاتلك ! فقال : لا تفعل ، فإني سمعت أبي يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن العبد يكون واصلاً لرحمه وقد بقي من أجله ثلاث سنين فيمدها الله له حتى ثلاثين سنة ، ويكون العبد قاطعاً لرحمه وقد بقي من أجله ثلاثون سنة فيصيرها الله حتى يجعلها ثلاث سنين » (٢).

وقد تكون المواجهة أشد وأكثر وقعاً ، كما في المناظرات التي ردّ فيها الإمام عليه‌السلام شبهات الرشيد المتعلقة بالامامة وحقوق أهل البيت عليهم‌السلام ، وانتسابهم إلى جدهم المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفضلهم على بني العباس. ومنها ما رواه هاني بن محمد بن محمود ، عن أبيه ، رفعه إلى موسى بن جعفر عليهما‌السلام أنه قال : « دخلت على الرشيد فقال لي : لِمَ جوزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقولون لكم : يا بني رسول الله ، وأنتم بنو علي ، وانما ينسب المرء إلى أبيه ، وفاطمة إنما هي وعاء ، والنبي جدكم من قبل اُمكم ؟

فقلت : يا أمير المؤمنين ، لو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نشر فخطب إليك كريمتك ، هل كنت تجيبه ؟ فقال : سبحان الله ! ولِمَ لا اُجيبه ؟ بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك. فقلت : لكنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يخطب إليّ ولا اُزوجه. فقال : ولِم ؟ فقلت : لأنّه ولدني ولم يلدك. فقال : أحسنت يا موسى.

ثم قال : كيف قلتم : إنا ذرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والنبي لم يعقب ، وإنما العقب للذكر لا للاُنثى ، أنتم ولد البنت ، ولا يكون لها عقب ؟

فقلت : أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه إلاّ ما أعفيتني عن هذه المسألة. فقال : لا أو تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي ، وأنت يا موسى

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٧١ / ٣٩ ، عيون أخبار الرضا ١ : ٢٩٢ / ٤٤.

(٢) ربيع الأبرار / الزمخشري ٣ : ٥٥٣.

٧٥

يعسوبهم وإمام زمانهم ، كذا أُنهي إليّ ، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه ، حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله تعالى ، وأنتم تدّعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شيء ألف ولا واو إلاّ وتأويله عندكم ، واحتججتم بقوله عزوجل : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (١) وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم.

فقلت : تأذن لي في الجواب ؟ فقال : هات ! فقلت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ ) (٢) من أبو عيسى يا أمير المؤمنين ؟ فقال : ليس لعيسى أب. فقلت : انما ألحقناه بذراري الأنبياء عليهم‌السلام من طريق مريم عليها‌السلام ، وكذلك أُلحقنا بذراري النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل أُمنا فاطمة عليها‌السلام.

أزيدك يا أمير المؤمنين ؟ قال : هات ! قلت : قول الله عزوجل : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (٣) ولم يدّع أحد أنه أدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تحت الكساء عند مباهلة النصارى إلاّ علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، فكان تأويل قوله عزوجل : ( أَبْنَاءَنَا ) الحسن والحسين عليهما‌السلام ( وَنِسَاءَنَا ) فاطمة عليها‌السلام ( وَأَنفُسَنَا ) علي بن أبي طالب عليه‌السلام » (٤).

ونجد الإمام عليه‌السلام أكثر صلابة وأشدّ تحدياً للرشيد وبطانته في حادثة

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٣٨.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٨٤ ـ ٨٥.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ٦١.

(٤) عيون أخبار الرضا ١ : ٨٣.

٧٦

افتخاره عليه‌السلام على هارون ، حين جاء قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله زائراً له وحوله قريش وسائر القبائل ، فلما انتهى إلى القبر قال : « السلام عليك يا رسول الله يا بن عمي ، فدنا موسى بن جعفر عليه‌السلام فقال : السلام عليك يا أبه » (١).

ومثلها أيضاً أن الرشيد لما حج لقيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام على بغلة ، فقال له الفضل بن الربيع : « ما هذه الدابة التي تلقيت عليها أمير المؤمنين ؟ فأنت إن طلبت عليها لم تدرك ، وإن طلبت لم تفت. قال : إنها تطأطأت عن خيلاء الخيل ، وارتفعت عن ذلة العِير ، وخير الأمور أوسطها » (٢). فإنما يتلقى الناس الخليفة على الخيل أو الابل الفارهة وليس على البغال ، لكن الإمام عليه‌السلام يريد أن يؤكد حقيقة أن أولى الناس بالتواضع هو خليفة المسلمين ، وعليه أن يتحلى بأوسط الأمور ويأمر الناس بها ، لأن التواضع خصلة كريمة ، والافراط بها يعني الخيلاء والتكبر ، والتفريط بها يعني الذلة والخنوع ، وهو هنا يقدم مثلاً رائعاً في الزهد والتواضع والترفع عن مظاهر الترف الزائلة.

٣ ـ مقاطعة الدولة :

اتخذ الإمام الكاظم عليه‌السلام ومن قبله آباؤه الميامين عليهم‌السلام موقفاً حازماً تجاه السلطات الحاكمة ، يتمثل في دعوة أصحابه إلى مقاطعتها وعدم الركون إليها ، والتحذير من شتى أنواع التعاون معها ، وتحريم الانضواء في أجهزتها إلاّ في حالات خاصة ، وصرّح الإمام عليه‌السلام بهذا الموقف لصفوان بن مهران الجمّال وغيره من أصحابه ، قال صفوان : « دخلت على أبي الحسن الأول عليه‌السلام فقال لي : يا صفوان ، كلّ شيءٍ منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً. قلت : جعلت فداك ، أيّ شيء ؟ قال : اكراؤك جمالك من هذا الرجل ـ يعني هارون ـ قال :

__________________

(١) تاريخ بغداد ١٣ : ٣١.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٣٣ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٣٣ ، اعلام الورى ٢ : ٢٧.

٧٧

والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا للهو ، ولكنّي أكريته لهذا الطريق ـ يعني طريق مكة ـ ولا أتولاه بنفسي ، ولكن أبعث معه غلماني. فقال لي : يا صفوان ، أيقع كراؤك عليهم ؟ قلت : نعم ، جعلت فداك. قال : فقال لي : أتحبّ بقاءهم حتى يخرج كراؤك ؟ قلت : نعم ، قال : من أحبّ بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم كان ورد النار. قال صفوان : فذهبت فبعت جمالي عن آخرها ... » (١).

وعن زياد بن أبي سلمة قال : « دخلت على أبي الحسن موسى عليه‌السلام فقال لي : يا زياد ، انّك لتعمل عمل السلطان ؟ قال : قلت : أجل. قال لي : ولِم ؟ قلت : أنا رجل لي مروءة وعليّ عيال وليس وراء ظهري شيء. فقال لي : يا زياد ، لئن أسقط من حالق فأتقطّع قطعة أحبّ إليّ من أن أتولّى لأحدٍ منهم عملاً أو أطأ بساط رجلٍ منهم ، إلاّ لماذا ؟ قلت : لا أدري جعلت فداك. قال : إلاّ لتفريج كربة عن مؤمن ، أو فك أسره ، أو قضاء دينه. يا زياد ، إنّ أهون ما يصنع الله جل وعز بمن تولّى لهم عملاً أن يضرب عليه سرادق من نار إلى أن يفرغ من حساب الخلائق. يا زياد ، فإن وليت شيئاً من أعمالهم فأحسن إلى إخوانك فواحدة بواحدة ، والله من وراء ذلك » (٢).

أسباب هذا الموقف :

يمكن أن نوعز الأسباب التي أدت إلى اتخاذ هكذا موقف من قبل الإمام الكاظم عليه‌السلام وآبائه المعصومين إلى ما يلي :

أولاً : إنّ السلطات المعاصرة للأئمة عليهم‌السلام قد أمعنت في إقصائهم عن قيادة الاُمّة ، وعن أداء دورهم الرسالي الذي جعله الله تعالى حقّاً لهم ، ومارست

__________________

(١) رجال الكشي : ٤٤٠ / ٨٢٨.

(٢) الكافي ٥ : ١٠٩ / ١ ، التهذيب ٦ : ٣٣٣ / ٩٢٤.

٧٨

معهم شتّى أساليب الظلم والجور والقتل والسجن وغيرها ممّا هو ثابت في صفحات التاريخ ، من هنا فإنّ التعاون مع تلك السلطات هو تعبير عن حالة الرضا عن ذلك الموقف ، وعن ممارسات الظلم التي يعاني منها غالبية الناس ، فلو لم يجد الحاكمون من يعينهم على ظلمهم وتعسّفهم لما تمادوا إلى هذا الحدّ.

ثانياً : إنّ السلطة تعتبر كياناً قائماً على الظلم والجور وبعيداً عن المنهج الإسلامي الأصيل في ممارسة الإدارة والحكم وعن أبسط مبادئ الإسلام الساميه وعقيدته السمحاء ، وعليه فإنّ العمل في أجهزتها يعبّر عن الإقرار بشرعيتها والاعتراف بأحقيّة ممارساتها.

ثالثاً : إنّ هذا الموقف هو بمثابة دعوةٍ صريحةٍ للاُمّة إلى الانفتاح على مبادئها الرسالية وتوعيتها على واقع الظلم والفساد الذي يعيشه الحكم بسبب السلوك الهزيل الذي تبنّاه الحاكمون في قيادة مسيرة الاُمّة.

استثناءات :

إلى جانب هذا الموقف نجد الإمام الكاظم عليه‌السلام أجاز في حالات استثنائية لبعض شيعته ممارسة العمل في أجهزة الدولة ، فكان من بين الذين زاولوا عمل السلطان أحد أصحابه الكبار وهو علي بن يقطين الذي تولّى ديوان الأزمّة (١) أيام المهدي ، ومنصب الوزارة أيام هارون ، وأقره الإمام الكاظم عليه‌السلام. وعبد الله ابن سنان الكوفي ، وكان خازناً للمنصور والمهدي والهادي والرشيد ، وهو ثقة جليل لا يطعن عليه في شيء (٢).

وقد أجاز عليه‌السلام ذلك لمصالح وأسباب خاصة ، منها إرساء قواعد الحقّ

__________________

(١) وهو ديوان استحدثه عمر بن بزيع أيام المهدي لضبط الدواوين المتعددة وتولاّه بعده علي بن يقطين. تاريخ الطبرى ٨ : ١٦٧ ، أحداث سنة ( ١٦٨ ه‍ ).

(٢) رجال النجاشي : ٢١٤ ، خلاصة العلاّمة : ١٩٢.

٧٩

والعدل ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمشاركة في دفع الظلم والجور عن كاهل الأبرياء من المؤمنين ، والإحسان إليهم وقضاء حوائجهم ، وتفريج الكرب عنهم ، وفك أسرهم كما هو مضمون حديث زياد بن أبي سلمة المتقدم.

وقال الإمام الكاظم عليه‌السلام : « إن قوماً يصحبون السلطان يتخذهم المؤمنون كهوفاً ، فهم الآمنون يوم القيامة ، إن كنت لأرى فلاناً منهم » (١). والمراد بفلان هو علي بن يقطين ، لكنه كنى عنه تقية عليه.

وعن علي بن يقطين قال : « قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام : إنّ لله تبارك وتعالى مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه » (٢).

وقد طلب ابن يقطين من الإمام عليه‌السلام الإذن في ترك منصبه ، فلم يأذن له ، وأجابه : « لا تفعل ، فإن لنا بك أُنساً ، ولاخوانك بك عزاً ، وعسى أن يجبر بك كسراً ، ويكسر بك نائرة المخالفين عن أوليائه. يا علي ، كفارة أعمالكم الإحسان إلى إخوانكم ، اضمن لي واحدة وأضمن لك ثلاثة ، اضمن لي أن لا تلقى أحداً من أوليائنا إلاّ قضيت حاجته وأكرمته ، وأضمن لك أن لا يظلك سقف سجن أبداً ، ولا ينالك حد سيف أبداً ، ولا يدخل الفقر بيتك أبداً. يا علي ، من سرّ مؤمناً فبالله بدأ ، وبالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثنّى ، وبنا ثلّث » (٣).

٤ ـ موقفه من أصحابه ومواليه :

يؤكد الإمام عليه‌السلام على ضرورة تعزيز مبدأ الأخوة الإيمانية بين أصحابه ، ويسهم في دعمهم وقضاء حوائجهم وتحذيرهم من الفتن ، ودفعهم باتجاه التغذي بمائدة العلم والمعرفة.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤١٤.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٠٨ / ٤٥١ ، الكافي ٥ : ١١٢ / ٧.

(٣) كتاب قضاء حقوق المؤمنين / الصوري ـ منشور في مجلة تراثنا ـ العدد ٣ الصفحة ١٨٧ ـ الحديث ٢٥.

٨٠