الإمام موسى الكاظم عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام موسى الكاظم عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-37-9
الصفحات: ٢٣٤

يا أبا الحسن» (١).

كما أسهم الإمام الكاظم عليه‌السلام في الانفاق على الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل والإحسان إلى الناس ورعاية اُمورهم حتى سمي منقذ الفقراء لكثرة ما بذل في هذا الاتجاه ، ودعا إلى منع الاحتكار بسبب غلاء الأسعار ، روى ثقة الإسلام الكليني عن معتب قال : « كان أبو الحسن عليه‌السلام يأمرنا إذا أدركت الثمرة أن نخرجها فنبيعها ونشتري مع المسلمين يوماً بيوم » (٢).

٥ ـ نفوذ البرامكة والجواري :

لعل أبرز ما يطالع الباحث في تاريخ هذه الحقبة هو تدخّل البرامكة وبعض الجواري في إدارة شؤون الملك وتسيير اُمور الدولة والحرب ، ومن الجواري التي كان لها دور متميز في هذا الاتجاه الخيزران ، وكانت من جواري المهدي فأعتقها وتزوجها ، وهي أم ابنيه الهادي وهارون الرشيد. ولما مات المهدي وولي ابنها الهادي انفردت بالسلطة والصولجان ، وأخذت المواكب تغدو وتروح إلى بابها ، وحاول الهادي منعها من ذلك حتى قال لها : إذا وقف ببابك أمير ضربت عنقه. وسعى في عزل أخيه الرشيد من ولاية العهد ، وقيل : إن الخيزران علمت عزمه على قتل الرشيد ، فأرسلت إليه بعض جواريها وهو مريض فجلسن على وجهه حتى مات خنقاً سنة ( ١٧٠ ه‍ ) وله من العمر ثلاث وعشرون ، وقيل : ست وعشرون (٣).

أما البرامكة فانّ رأسهم يحيى بن خالد بن برمك ، وهو مؤدب الرشيد

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٨٨ / ١١.

(٢) الكافي ٥ : ١٦٦ / ٣.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٦ و ٤٢١ ، البداية والنهاية ١٠ : ١٦٨ ، الاعلام / الزركلي ٢ : ٣٢٨.

٢١

ومعلمه ومربيه ، رضع الرشيد من زوجة يحيى مع ابنها الفضل ، فكان يدعوه : يا أبي ، ولما تولى الهادي أخذ يحيى بن خالد بن برمك فحبسه في بيت ضيق لا يقدر أن يمدّ رجليه فيه ، فأقام أياماً ، وأشرف عليه فيها بالقتل عدة مرات ، وذلك لما تناهى إلى سمعه من أن يحيى يمنّي نفسه بالوزارة وهارون بالخلافة (١).

وفي سنة ( ١٧٠ ه‍ ) ولي هارون الخلافة فدفع خاتمه إلى يحيى وألقى إليه أزمّة الملك وولاّه الوزارة ، وأمره بمشاورة والدته الخيزران ، فكانت هي المشاورة في الاُمور كلها ، فتبرم وتحلّ وتمضي وتحكم ، وبقي على ذلك حتى توفّيت الخيزران سنة ( ١٧٣ ه‍ ) (٢) ، ثمّ استأثر يحيى بأمور الخلافة كلها وانقادت له الدولة ، يحكم بما يشاء فلا ترد أحكامه ، واستمر إلى أن نكب الرشيد البرامكة سنة ( ١٨٧ ه‍ ) فقبض عليه وعلى ابنه الفضل (٣) ، وأخذهما معه إلى الرقة فسجنهما واستصفى أموالهما وأموال البرامكة كافة وقبض ضياعهم (٤).

وقد توقع الإمام عليه‌السلام هلاكهم على يد الرشيد ، روى الشيخ الطوسي عن موسى بن يحيى بن خالد : « أن أبا إبراهيم عليه‌السلام قال ليحيى بن خالد في حديث : ياأبا علي ، انظر إذا سار هذا الطاغية إلى الرقة وعاد إلى العراق لا يراك ولا تراه لنفسك ، فإني رأيت في نجمك ونجم ولدك ونجمه أنه يأتي عليكم فاحذروه » (٥). ومع هذا ، فقد كان ليحيى بن خالد دور فاعل في قتل الإمام الكاظم عليه‌السلام.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٦.

(٢) البداية والنهاية ١٠ : ١٧١.

(٣) استوزره هارون مدة وجيزة ثم ولاّه خراسان.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٢١ ، البداية والنهاية ١٠ : ١٨٣ ، الاعلام / الزركلي ٥ : ١٥١ و ٨ : ١٤٤.

(٥) غيبة الطوسي : ٢٥ / ٥.

٢٢

٦ ـ الثورات الشعبية :

هزّت أركان الحكم العباسي في هذا العصر عدّة ثورات عنيفة من حين إلى آخر ، قادها رجال أفذاذ من الطالبيين ومن غيرهم يهدفون في الغالب إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة حكم الله في الأرض ، وكانت تلك الثورات كما يبدو من خطابات الثوار من تداعيات ظلم الناس وأخذ أموالهم ووضعها في غير مواضعها ، وهي تمثّل ردّ فعل طبيعي لحالة التردي التي تعاني منها الأُمّة عموماً والطالبيون خصوصاً ، فضلاً عن تردّي الأحوال الاجتماعية والاقتصادية وسياسة القمع والاضطهاد والمطاردة التي مارستها السلطة مع الطالبيين على وجه الخصوص ، وفيما يلي نستعرض أهم الثوار الذين حملوا السلاح بوجه السلطة العباسية في هذه الفترة :

أ ـ محمد النفس الزكية :

هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، أحد الثوار الأشراف من الطالبيين ، وهو من أفضل آل الحسن في زمانه ، وكان غزير العلم بكتاب الله حافظاً له ، فقيهاً في الدين ، معروفاً بشجاعته وجوده وبأسه وحزمه. ولد سنة ( ٩٣ ه‍ ) وقتل شهيداً في رمضان سنة ( ١٤٥ ه‍ ) ، وكان يقال له : صريح قريش لأن جميع آبائه واُمهاته وجداته لم يكن فيهنّ أمّ ولد ، ويلقب بالأرقط وبالنفس الزكية ، وسماه أهل بيته بالمهدي ، ويقدّرون خطأ أنه الذي جاءت به الرواية ، وشاع ذلك له في العامة ، وبايعه رجال من بني هاشم من زمان بني أمية فيهم من آل أبي طالب وآل العباس نفر كثير ، وكان من دعاته وممن بايعه أبو العباس السفاح وأبو جعفر المنصور.

لكن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام ردّ مهدويته ، مصرّحاً بأنه المقتول بأحجار الزيت ، وطلب منهم ألاّ يبايعوه على أنه المهدي ، وأخبر أباه عبد الله بن الحسن في جمعٍ من بني هاشم أنه لا يملك ، وأن الملك يكون في بني العباس.

٢٣

وقال عليه‌السلام لعبد الله والد النفس الزكية : « لا تفعلوا ، فإن هذا الأمر لم يأتِ بعد ، إن كنت ترى أنّ ابنك هذا هو المهدي فليس به ولا هذا أوانه ، وإن كنت إنما تريد أن تخرجه غضباً لله ، وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، فإنّا والله لا ندعك وأنت شيخنا ونبايع ابنك » فانتبه بنو العباس من ذلك لأمر لم يكونوا يطمعون فيه ، وتبين بقتله ووصول بني العباس إلى سدة الحكم صدق قول الإمام عليه‌السلام.

وبعد أفول دولة بني أمية وقيام دولة بني العباس ، تخلف محمد هو وأخوه إبراهيم عن الوفود على السفاح ثم على المنصور ، فحرصا على تطلّب محمد وإبراهيم والظفر بهما ، واشتد الطلب أيام المنصور فتواريا بالمدينة ولم يقدر عليهما ، فقبض المنصور على أبيهما واثني عشر من أهل بيته أثناء موسم الحج ، فحبس أباهما عبد الله بالمدينة في دار مروان ثلاث سنين ، ثم سيره مع اثني عشر من آل بيته مغلولين إلى الربذة ومنها إلى الهاشمية ، فحبسهم بالمطبق مصفدين يرسفون بالقيود ، فمكثوا في الحبس سبع سنين سلّط عليهم فيها أنواع العذاب حتى قتلوا بضروب من القتل (١). وبقي محمد وابراهيم ينتقلان في الاستتار والطلب يزعجهما من ناحية إلى أخرى ، فلما علم محمد بموت أبيه وسائر أهل بيته ظهر ثائراً في نحو ثلاثمائة رجل فيهم كثير من الطالبيين سنة ( ١٤٥ ه‍ ) ، وبايعه أهل المدينة بالخلافة ، وأرسل أخاه إبراهيم إلى البصرة فغلب عليها وعلى الأهواز وفارس ، وبعث الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب إلى مكة فملكها ، وبعث عاملاً إلى اليمن.

وكتب إليه المنصور يحذّره عاقبة عمله ويمنّيه بالأمان وواسع العطاء ، وتتابعت بينهما الرسل فلم تنفع ، فانتدب المنصور لقتاله عيسى بن موسى

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ١٢١ و ١٤٥ و ١٥٤.

٢٤

العباسي ومعه حميد بن قحطبة الطائي ، فسارا إليه بأربعة آلاف فارس ، فقاتله محمد وأصحابه الثلاثمائة على أبواب المدينة ، وثبت لهم ثباتاً عجيباً ، وكان محمد فارساً شجاعاً ضخماً ، يشبهونه في قتاله بالحمزة عليه‌السلام فقتل منهم بيده في احدى الوقائع سبعين فارساً ، ثم تفرّق عنه أكثر أنصاره ، وبقي يقاتل حتى سقط شهيداً بين أحجار الزيت ، فاحتز رأسه حميد بن قحطبة وبعث به إلى المنصور ، ثم وجّه عيسى بن موسى كثير بن الحصين العبدي إلى المدينة فدخلها وتتبع أصحاب محمد فقتلهم وانصرف إلى العراق (١).

ولما بلغ إبراهيم مقتل أخيه محمد تمثل بهذه الأبيات :

أبا المنازل ياخير الفوارس من

يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا

الله يعلم أني لو خشيتهم

وأوجس القلب من خوف لهم فزعا

لم يقتلوه ولم أسلم أخي لهم

حتى نموت جميعاً أو نعيش معا

ثم بكى فقال : اللهم إنك تعلم أن محمداً انما خرج غضباً لك ونفياً لهذه المسوّدة وإيثاراً لحقك ، فارحمه واغفر له واجعل الآخرة خير مردّ له ومنقلب من الدنيا.

ب ـ أخوه إبراهيم :

ويكنى أبا الحسن ، أحد الثوار الأشراف الشجعان ، كان جارياً على شاكلة أخيه محمد في الدين والعلم والشجاعة والشدّة ، فضلاً عن كونه شاعراً عالماً بأخبار العرب وأيامهم وأشعارهم ، ولد في سنة ( ٩٧ ه‍ ) ومات شهيداً فى ذي الحجة سنة ( ١٤٥ ه‍ ) ، وقيل في ذي القعدة.

كان إبراهيم يدعو إلى أخيه محمد ، فلما قتل محمد دعا إلى نفسه ، فقصد

__________________

(١) مقاتل الطالبيين / أبو الفرج الأصفهاني : ١٤٢ و ١٥٧ و ١٦٧ و ١٦٩ و ١٧٢ ـ ١٧٤ و ١٧٦ و ١٧٨ و ١٨٠ و ١٨٥ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٩ و ٣٧٤ و ٣٧٦.

٢٥

الكوفة في رمضان سنة ( ١٤٥ ه‍ ) ، فلم يجد ناصراً ، فقصد البصرة فبايعه أهلها ، وخضعت له الأهواز وفارس وكسكر وواسط وما حولها ، وخرج من البصرة وكان قد أحصي ديوانه فكانوا ستين ألفاً ، وأسرع الناس إلى نصرته وآزره في ثورته سائر أهل العلم والفقهاء وأصحاب الحديث ونقلة الآثار ، فكانت ثورة عارمة كادت تقوّض أركان الحكم العباسي ، فأخذ صوب كسكر وليس له هّم إلاّ لقاء المنصور ، فتحول المنصور إلى الكوفة ، وندب إليه عيسى بن موسى وسيره في ثمانية عشر ألفاً من الجند ، وزحف إبراهيم حتى صار إلى قرية يقال لها باخمرى قاصداً الكوفة ، فكانت بينه وبين جيوش المنصور وقائع هائلة ، والدائرة على عيسى بن موسى الذي نكص برايته القهقرى وهزم وأصحابه هزيمة قبيحة حتى دخل أوائلهم الكوفة ، وبان للناس علوّ إبراهيم وظفره ، أما المنصور فكان لا ينام في تلك الليالي ، وأمر بإعداد الإبل والدواب على جميع أبواب الكوفة ليهرب عليها ، ثم أن خيلاً خرجت على أصحاب إبراهيم من احدى الجهات ، فتوهم أصحاب إبراهيم كميناً فانهزموا ، وبقي ابراهيم في أربعمائة من الزيدية يحارب أشدّ محاربة إلى أن سقط وهو يتلو قول الله تعالى : ( وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا ) (١) ، وأخذ رأسه فوجّه به إلى المنصور وهو بالكوفة فوضع بين يديه ، وأذن للناس فجعلوا يدخلون فينالون من إبراهيم وأخيه وأهله ، ثم أمر برأس إبراهيم فنصب بالسوق ، ودفن بدنه الزكي بباخمرى.

وتوقع الإمام الصادق عليه‌السلام قتله منذ زمان بني أمية ، فقد قال فيه وفي أخيه محمد : « إن هذا ـ يعني المنصور ـ يقتله على أحجار الزيت ، ثم يقتل أخاه بعده بالطفوف وقوائم فرسه في الماء. فكان كما قال عليه‌السلام.

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٨.

٢٦

وقال عليه‌السلام فيهما : رحم الله ابني هند ، إنهما إن كانا لصابرين كريمين ، والله لقد مضيا ولم يصبهما دنس » (١).

ج ـ عبد الله الأشتر :

عبد الله الأشتر ابن محمد النفس الزكية ، ثائر من شجعان الطالبيين ، خرج بالمدينة مع أبيه ، وأخرجه عبد الله بن محمد بن مسعدة المعلم بعد قتل أبيه إلى الهند ومعه أربعون رجلاً من الزيدية ، إذ اشترى خيلاً وأظهر أنه يريد المتاجرة بها ، وركب البحر حتى بلغ السند واتصل بأحد ملوكها غير المسلمين بتوصية من أحد أصحابه ، فلقي منه إكراماً كثيراً ، وأقام أربع سنوات أسلم فيها على يديه عدد كبير ، وتسللت إليه الزيدية حتى صار إليه منهم أربعمائة إنسان ، فكان يركب فيهم فيصيد ويتنزه في هيئة الملوك وآلاتهم ، ووصل خبره إلى المنصور ، فولى على السند هشام بن عمرو بن بسطام التغلبي ، وأمره بأن يكاتب الملك الذي عنده الأشتر لتسليمه إليه وإلاّ حاربه ، وهنا تختلف الروايات ، فقيل ان الأشتر خرج من السند إلى خراسان ، وكان على اتصال بواليها فقاتله هشام التغلبي ، وقتل من الفريقين زهاء ثلاثة آلاف رجل ، وكان بينهما قدر خمسين وقعة في نحو سنة ، وقتل الأشتر في الحرب سنة ( ١٥١ ه‍ ) وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة (٢) ، وكان يقاتل فارساً وراجلاً (٣).

د ـ الحسين شهيد فخ (٤) :

هو الحسين بن علي بن الحسن المثلث ابن الحسن المثنى ابن الحسن السبط

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ١٦٩ ـ ١٧٣ و ٢١٠ ـ ٢٣٠ و ٢٣٥ ـ ٢٤٤ و ٢٤٧ ـ ٢٥٣ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٧.

(٢) وقيل غير ذلك في مقتله.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٢٠٧ ـ ٢٠٩ ، الأعلام / خير الدين الزركلي ٤ : ١١٦.

(٤) فخ : بئر في ضواحي مكة بينه وبينها نحو فرسخ.

٢٧

ابن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، أبو عبد الله ، المعروف بصاحب فخ ، وأمه زينب بنت عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، قتل المنصور العباسي أباها وأخاها وزوجها وعمومتها وبنيهم أيام النفس الزكية.

كان الحسين من أشراف الطالبيين الشجعان الكرماء ، يضرب المثل بجوده وكرمه وطيبة نفسه ، بيد أن الفترة التي عاشها ابّان حكم الهادي المتعطش لدماء العلويين تعدّ من أقسى الفترات الرهيبة في تاريخ الطالبيين ، فقد مضى الهادي إلى آخر الشوط في استأصال زينة شبابهم ، وأسرف في ممارسة القمع والارهاب معهم ، مما اضطرهم إلى إعلان الثورة عليه حيثما توفرت الفرصة لذلك.

قال اليعقوبي : ظهر منه ـ أي الهادي العباسي ـ أمور قبيحة ، وضعف شديد ، فاضطربت البلاد ، وتحرك جماعة من الطالبيين ، وصاروا إلى ملوك النواحي فقبلوهم ووعدوهم بالنصر والمعونة ، وذلك أن موسى ألحّ في طلب الطالبيين وأخافهم خوفاً شديداً ، وقطع ما كان المهدي يجريه لهم من الأرزاق والاُعطيات ، وكتب إلى الآفاق في طلبهم وحملهم ، فلما اشتدّ خوفهم وكثر من يطلبهم ويحث عليهم ، عزم الشيعة وغيرهم إلى الحسين بن علي بن الحسن ، وكان له مذهب جميل وكمال ومجد ، فبايعه خلق كثير ممن حضر الموسم (١).

فقرر الحسين الثورة ، وكان خروجه بالمدينة في ذي القعدة سنة ( ١٦٩ ه‍ ) ، وبايعه الناس على العمل بكتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى أن يطاع الله ولا يعصى ، والدعوة إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والعدل في الرعية ، والقسم بالسوية ، وجهاد العدو.

واستولى الحسين على المدينة فاستخلف عليها دينار الخزاعي ، وخرج قاصداً مكة ومعه زهاء ثلاثمائة من أهله ومواليه وأصحابه ، فلما صاروا بفخ

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٤.

٢٨

وبلدح في ضواحي مكة تلقتهم الجيوش العباسية ، في يوم التروية سنة ( ١٦٩ ه‍ ) ، وكان القتال شديداً ، فانهزم من كان معه ، وصبر لهم الحسين محتسباً حتى قتل مع جماعة من أهله ، وحملوا رؤوسهم إلى الهادي العباسي مع جمع من الأسرى فأمر بهم فضربت أعناقهم.

وذكر الرواة أنه حين جاء الجند بالرؤوس إلى موسى والعباس وعندهم جماعة من ولد الحسن والحسين ، فلم يتكلم أحد منهم بشيء إلاّ موسى بن جعفر عليهما‌السلام فقيل له : « هذا رأس الحسين. قال : نعم ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، مضى واللّه مسلماً صالحاً صوّاماً قوّاماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ، ما كان في أهل بيته مثله ، فلم يجبه أحد بشيء ».

واقترف العباسيون ابّان هذه الحرب جرائم تشابهت مع جرائم الأمويين في كربلاء ، فقد رفعوا رؤوس العلويين على الرماح ، وطافوا بأسراهم في الأقطار وهم مقيدون بالسلاسل ، ثم أجهزوا عليهم فقتلوهم صبراً وصلبوهم ، وتركوا شهداء أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مجزرين تسفي عليهم الريح مبالغة منهم في التشفّي والانتقام ، ذكر المؤرخون : بقي قتلاهم ثلاثة أيام دون أن توارى في الثرى حتى أكلتها الحيوانات الضارية والطيور الجارحة ، ولهذا يقال : لم تكن مصيبة بعد كربلاء أشد وأفجع من فخ. وروى أبو نصر البخاري عن أبي جعفر الجواد عليه‌السلام أنه قال : « لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخ ».

ه‍ ـ يحيى بن عبد الله :

هو يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، أبو الحسن ، من كبار الطالبيين ، رباه الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام في المدينة ، فأكثر الرواية عنه وتفقه عليه ، وكان إذا حدّث عنه قال : حدثني حبيبي جعفر بن محمد ، وكان حسن السمت والهدي ، مقدماً في أهل بيته.

وكان يحيى قد خرج مع ابن عمه الحسين شهيد فخّ في ثورته بالمدينة أيام

٢٩

موسى الهادي وحضر مقتله ، ونجا فدعا إلى نفسه ، فبايعه كثير من أهل الحرمين واليمن ومصر ، وطاف البلدان فذهب إلى اليمن فأقام مدة ، ودخل مصر والمغرب ، وعاد إلى المشرق فدخل العراق متنكراً ، وقصد بلاد الري وخراسان فوصل إلى ما وراء النهر ، واشتد الرشيد في طلبه ، فانصرف إلى خاقان ملك الترك ومعه من شيعته وأنصاره نحو (١٧٠) رجلاً ، فأقام سنتين وستة أشهر ، وخرج إلى طبرستان فبلاد الديلم ، وأعلن بها دعوته سنة ( ١٧٦ ه‍ ) وكثر جمعه واتبعه خلق كثير وجم غفير وقويت شوكته ، فندب الرشيد لحربه الفضل بن يحيى البرمكي في خمسين ألفاً ، وولى الرشيد الفضل بن يحيى جميع كور المشرق وخراسان وأمره بقصد يحيى والخديعة به ، وبذل له الأموال والصلة إن قبل الأمان ، فسار الفضل بن يحيى إلى تلك الناحية في أبّهة عظيمة ، وكاتب الرشيد صاحب الديلم ووعده بألف ألف درهم إن هو سهل خروج يحيى إليهم ، وكتب الفضل إلى يحيى بن عبد الله يعده ويمنيه ويؤمله ويرجيه.

لقد رأى يحيى تفرق أصحابه وسوء رأيهم فيه وكثرة خلافهم عليه ، وخاف أن يغدر به ملك الديلم ، فأجابه إلى قبول الأمان شريطة أن يكتبه الرشيد بيده ، وكتب لنفسه شروطاً وسمى شهوداً وبعث بالكتاب إلى الفضل ، فبعث به إلى الرشيد فكتب له على ما أراد وأجابه بخطه ، فشخص يحيى مع الفضل حتى وافى بغداد وتلقاه الرشيد وأجزل له في العطاء ، غير أن نفراً من أهل الحجاز (١) تحالفوا على السعاية بيحيى بن عبد الله والشهادة عليه زوراً بأنه يدعو إلى نفسه سراً ، وأنه ما زال عنده من يقوم بدعوته ، فوافق ذلك ما كان يكنّه الرشيد في نفسه ، فحبسه عند الفضل بن يحيى ، غير أن الفضل رقّ له بعد

__________________

(١) وهم : عبد الله بن مصعب الزبيري ، وأبو البختري وهب بن وهب ، ورجل من بني زهرة ، ورجل من بني مخزوم.

٣٠

مدة فأطلقه. ثم جمع له الرشيد الفقهاء لنقض أمانه غير أنهم صرحوا بأن الأمان مؤكد لا شائبة فيه ، عدا أبي البختري وهب بن وهب الذي أفتى بما يريد الرشيد فقال : هذا باطل منتقض ، اقتله ودمه في عنقي. وأخذ سكيناً وجعل يشقّ الأمان ، فوهب الرشيد لأبي البختري ألف ألف وستمائة ألف ، وولاه القضاء ، وجعل يحيى في سرداب ووكل به مسروراً الكبير ، وكان كثيراً ما يدعو به إليه فيناظره ، واستمر على هذا الحال إلى أن مات في حبسه نحو سنة ( ١٨٠ ه‍ ).

واختلف المؤرخون في كيفية وفاته والراجح أنه قتل بالجوع والعطش والتعذيب ، وعن إبراهيم بن رياح : أنه بنى عليه اسطوانة بالرافقة وهو حي. وعن علي بن محمد بن سليمان : أنه دس إليه في الليل من خنقه حتى تلف. قال : وبلغني أنه سقاه سماً. وعن محمد بن أبي الخنساء : أنه أجاع السباع ثم ألقاه إليها فأكلته ، وكل جائز في أعراف القتل التي تمارسها الدولة (١).

و ـ إدريس بن عبد الله :

إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى ابن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، مؤسس دولة الأدارسة في المغرب وإليه نسبتها ، كان أولاً مع الحسين صاحب فخ ّ في المدينة أيام ثورته على الهادي العباسي سنة ( ١٦٩ ه‍ ) ، وأفلت من وقعة فخ فتوجه صوب مصر مع راشد مولاه وأمينه ، ومنها إلى سائر بلدان المغرب الأقصى ، فدخل فاس وطنجة ونزل مدينة وليلى على مقربة من مكناس ، ثم جمع البربر على القيام بدعوته ، وخلع طاعة بني العباس ، فتمّ له الأمر في رمضان سنة ( ١٧٢ ه‍ ) ، فجمع جيشاً كثيفاً وخرج به غازياً فبلغ بلاد

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣١٣ ـ ٣٢٣ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٨ ، البداية والنهاية ١٠ : ١٧٨ ، الأعلام / الزركلي ٨ : ١٥٤.

٣١

تادلة قرب فاس ففتح معاقلها ، ثم غزا تلمسان فبايع له صاحبها ، فبلغ الرشيد ذلك فغمه حتى امتنع من النوم ، فندب يحيى بن خالد ، ودعا يحيى أحد متكلمي الزيدية البترية وهو سليمان بن جرير الجزري ، فرغّبه ووعده عن الخليفة بكل ما أحبّ على أن يحتال لإدريس حتى يقتله ، فورد سليمان على إدريس متوسماً بالدفاع عن الزيدية فسرّ به إدريس لقوة عارضته ، ثم جعل سليمان يطلب غرته حتى سقاه السم وهرب ، وذلك في سنة ( ١٧٧ ه‍ ) ، فتولى راشد إدارة الملك باسم إدريس بن ادريس الذي نحله اسم أبيه وجدد له بيعة البربر ، وقام بأمره وأمر دولته وعلّمه ورباه ، وكان الأغالبة في القيروان يتتبعون أخبار الدولة الناشئة في جوارهم ، ويبعثون بالأموال للقضاء على إدريس الرضيع ، وكانت لهم يد في قتل أبيه بالسمّ ، فما زالوا على ذلك إلى أن تمكن إبراهيم بن الأغلب من دسّ بعض البربر لراشد فقتلوه غيلة بعد نشوء إدريس وتسلمه عرش أبيه بقليل ، وكان ادريس الابن فارساً شجاعاً جواداً شاعراً ، وبقي نسله في المغرب (١).

ز ـ يوسف البرم :

خرج رجل من موالي ثقيف بخراسان وبخارى ، يقال له يوسف البرم في أيام المهدي سنة ( ١٦٠ ه‍ ) منكراً عليه أحواله وسيرته وما يتعاطاه من الخمر ومجالس الغناء ، داعياً إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فالتف عليه خلق كثير ، وتفاقم أمره وعظم خطبه وحارب السلطان ، فوجّه إليه يزيد بن مزيد فلقيه واقتتلا قتالاً شديداً حتى أُسر يوسف وجماعة من أصحابه ، فبعثهم يزيد إلى المهدي ، فأدخلوا عليه ، فأمر بقطع يدي يوسف ورجليه ، ثم ضرب عنقه

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٢٤ ـ ٣٢٦ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٤ ، تاريخ أبي الفداء ٢ : ١٢ ، عمدة الطالب : ١٥٧ ، الأعلام / الزركلي ١ : ٢٧٩.

٣٢

وأعناق من معه ، وصلبهم على جسر دجلة الأكبر (١).

ح‍ ـ وهيب بن عبد الله النسائي :

هو أبو الخصيب ، ثائر شجاع ، خرج في نسا من أعمال خراسان سنة ( ١٨٤ ه‍ ) ، في أيام الرشيد العباسي ، واستفحل أمره سنة ( ١٨٥ ه‍ ) ، فتغلب على أبيورد وطوس ونيسابور ، وحاصر مرو ، فقاتله علي بن عيسى من قواد الرشيد فقتله سنة ( ١٨٦ ه‍ ) ، وسبى نساءه وذراريه (٢).

٧ ـ الحركات المتطرفة :

أ ـ أستاذسيس :

في سنة ( ١٥٠ ه‍ ) خرج رجل من الكفرة يقال له أستاذسيس في بلاد خراسان ، فاستحوذ على أكثرها وادّعى النبوة ، وصحبه على ذلك نحو من ثلاثمائة ألف وقتلوا من المسلمين هنالك خلقاً كثيراً ، وهزموا الجيوش التي في تلك البلاد وسبوا خلقاً كثيراً ، وتحكم الفساد بسببهم ، وتفاقم أمرهم ، فوجه المنصور خازم بن خزيمة التميمي إلى ابنه المهدي ليوليه حرب تلك البلاد ويضم إليه من الأجناد ما يقاوم أولئك ، فجمع المهدي لخازم الامرة على تلك البلاد والجيوش ، وبعثه في نحو من أربعين ألفاً ، فسار إليهم وما زال يراوغهم ويماكرهم حتى فاجأهم بالحرب ففض جموعهم ، وأسر أستاذسيس وحمله إلى المنصور في بغداد فقتله (٣).

ب ـ الخوارج :

كلفت حروب الخوارج المتصلة في هذه الفترة الدولة والناس المزيد من

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩٧ ، البداية والنهاية ١٠ : ١٣٩.

(٢) الأعلام / الزركلي ٨ : ١٢٦.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٩ ، البداية والنهاية ١٠ : ١١٣.

٣٣

الدماء والأموال ، فقد خرج مهلهل الحروري بفارس (١) ، وظهر الخوارج الشراة في خراسان سنة ( ١٥١ ه‍ ) حتى قاتلوا يزيد بن مزيد على جسر بغداد في وقعة جليلة ذهب ضحيتها كثير من الناس (٢) ، وفي سنة ( ١٤٩ ه‍ ) ظهرت الخوارج من الصفرية والأباضية وغيرهم ببلاد إفريقية بقيادة عاصم بن جميل الأباضي ، فولوا عليهم أبا الخطاب عبد الأعلى المعافري ، واجتمع من الخوارج سنة ( ١٥١ ه‍ ) ثلاثمائة وخمسون ألفاً مع جمع كبير من البربر في طرابلس الغرب ، وعليهم أبو عباد وأبو حاتم يعقوب الأباضي الأنماطي ، وانضم إليهم أبو قرة في أربعين ألفاً ، وأكثروا الفساد في البلاد وقتلوا النساء والأطفال حتى قتل قادتهم سنة ( ١٥٥ ه‍ ) (٣) ، وخرج بالجزيرة الفراتية سنة ( ١٧٧ ه‍ ) رأس الشراة الوليد ابن طريف بن الصلت التغلبي الشيباني وحكم بها ، وقتل خلقاً من أهلها ، وأخذ الرشيد يرسل الجموع تلو الجموع لحربه فيهزمهم ، حتى قتل بعد حرب شديدة سنة ( ١٧٩ ه‍ ) ، وهو الذي تقول أخته الفارعة في رثائه من قصيدة :

أيا شجر الخابور ما لك مورقاً

كأنك لم تجزع على ابن طريف

فتى لا يحب الزاد إلاّ من التقى

ولا المال إلاّ من قناً وسيوف (٤)

واذا كانت الدولة تحارب الخوارج على جبهة الحرب ، فان أصحاب الإمام الكاظم عليه‌السلام حاربوهم بالفكر والمناظرة ، فوجدنا في هذا العصر كتابات للرد على الخوارج ، منها كتاب محمد بن علي بن النعمان ، المعروف بمؤمن الطاق ، في

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨٤ ، البداية والنهاية ١٠ : ١١٥.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨٦ ، البداية والنهاية ١٠ : ١١٧ ـ ١٢٠ ، الأعلام / الزركلي ٨ : ١٩٧.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤١٠ ، البداية والنهاية ١٠ : ١٨٣ و ١٨٦ ، الأعلام / الزركلي ٨ : ١٢٠.

٣٤

كلامه على الخوارج.

ج ـ الزنادقة :

استفحلت حركة الزندقة في هذا العصر وتعددت مقولات الزنادقة ، فمنهم من يقول بالتناسخ وأزلية العالم أو قدم الدهر ، ومنهم من يقول بالثنوية كالمانوية والمزدكية ، ويتوسع الحكام في هذا المصطلح فيطلقونه على كل شاك أو ضال أو ملحد ، وعلى من يبطن الكفر ويظهر الايمان أو لا يتمسك بشريعة ، وقد يتهم المرء أحياناً بالزندقة بدوافع سياسية أو شخصية المراد منها تصفية الخصوم.

وممن قُتلوا على الزندقة محمد بن أبي العوجاء ، قتله العباس بن محمد أخو المنصور سنة ( ١٥٥ ه‍ ) ، وقُتل فيها الشاعر حماد عجرد (١). وفي سنة ( ١٦١ ه‍ ) خرج رجل يقال له المقنع (٢) بخراسان ، وكان يقول بالتناسخ ، واتبعه على ذلك خلق كثير ، وفي سنة ( ١٦٣ ه‍ ) حوصر بعد قتال طويل في قلعة كش ، فلما أحس بالغلبة تحسّى سماً وسمّ نساءه فماتوا جميعاً (٣).

وفي سنة ( ١٦٧ ه‍ ) ألحّ المهدي في طلب الزنادقة وقتلهم حتى قتل خلقاً كثيراً منهم صبراً بين يديه ، منهم كاتبه صالح بن أبي عبيد الله قتله مع أبيه ولم يكن أبوه زنديقاً ، وبشار بن برد الشاعر الذي وشى الوزير إلى المهدي أنه هجاه وقذفه ، وصالح بن عبد القدوس (٤).

وفي سنة ( ١٦٩ ه‍ ) شرع الهادي في تطلب الزنادقة من الآفاق فقتل منهم طائفة كثيرة. منهم يعقوب بن الفضل الهاشمي ، اتهمه المهدي العباسي بالزندقة وحبسه ، فلما مات المهدي قتله الهادي سنة ( ١٦٩ ه‍ ) (٥).

__________________

(١) البداية والنهاية ١٠ : ١٢١ ، وقيل : إن حماداً قتل سنة ( ١٥٨ ه‍ ) ، وقيل : سنة (١٦١ ه‍ ).

(٢) قال ابن خلكان : كان اسم المقنع عطاء ، وقيل : جكيم ، والأول أشهر.

(٣) البداية والنهاية ١٠ : ١٤٢ و ١٥٥.

(٤) لسان الميزان / ابن حجر ٣ : ١٧٢ / ٦٩٩.

(٥) سير أعلام النبلاء ٧ : ٤٤٣ ، الأعلام / الزركلي ٨ : ٢٠١.

٣٥

وظهر منهم سنة ( ١٨٠ ـ ١٨١ ه‍ ) طائفة بجرجان يقال لها المحمرة (١) ، لبسوا الحمرة واتبعوا رجلاً يقال له عمرو بن محمد العمركي ، فقتل أيام الرشيد لأنه كان ينسب إلى الزندقة (٢) ، وقتل الرشيد أنس بن أبي شيخ ( ١٨٧ ه‍ ) على الزندقة ، وقال المترجمون له : كان من البلغاء الفضلاء ، ويبدو أنه قتله لكونه كاتب البرامكة (٣).

وسجّل أصحاب الإمام الكاظم عليه‌السلام دوراً علمياً في الرد على الزنادقة ، فقد ألّف هشام بن الحكم كتاباً في الرد عليهم.

د ـ الفتن وأعمال التمرد :

حدثت في أرجاء الدولة المزيد من أعمال العنف والشغب والفتن التي عصفت بالحكم العباسي ، تعاملت معها الدولة بكل قسوة وعنف رغم أن أغلبها كان بسبب سوء أداء الولاة والعمال ، غير أن تلك الأعمال أثقلت كاهل الناس ، وألحقت بهم المزيد من الخسائر في الأرواح والممتلكات ، ولعل أبرز تلك الأعمال : حركت الخزر بناحية أرمينية ، ومعصية أهل اليمن وأهل مصر ، وخروج رجل من بني مرة يقال له عامر بن عمارة بحوران من أرض دمشق ، والفتنة العظيمة التي حصلت بالشام بين قيس واليمن التي تسببت في عودة الحمية الجاهلية (٤).

* * *

__________________

(١) وهم طائفة من البابكية الخرمية ، قيل لهم ذلك لأنهم لبسوا الحمرة أيام بابك الخرمي.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٠ ، البداية والنهاية ١٠ : ١٢١ و ١٥٩ و ١٦٧ و ١٨٨ و ١٩١ ، الأعلام / الزركلي ٥ : ٨٥.

(٣) لسان الميزان / ابن حجر ١ : ٤٦٨.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧١ و ٤٠٥ و ٤١٠ و ٤١١ ، البداية والنهاية ١٠ : ١٨٠ و ١٨٨ و ١٩١ و ١٩٦.

٣٦

الفصل الثّاني

السلطة والإمام عليه‌السلام

تعامل العباسيون مع أهل البيت عليهم‌السلام وفق معايير ثابتة تقوم على أساس التصدّي لمدرسة أهل البيت ومطاردة شيعتهم وقمع الطالبيين والنكاية بهم ، وذلك بسبب هاجس الخوف من نشاط الإمام والغيرة من دوره الفاعل والمحرك في الحياة الإسلامية ، سيما وأن رجال السلطة كانوا على مستوىً هابط من حيث الالتزام الديني ، بينما يتمتع الأئمة عليهم‌السلام بشخصية علمية وروحية وسيرة صالحة تجتذب مختلف أوساط الاُمّة ، وفي هذا الاتجاه يقول الإمام الكاظم عليه‌السلام لهارون الرشيد : « أنا إمام القلوب ، وأنت إمام الجسوم » (١).

من هنا عمل الحاكمون على استدعاء الإمام الكاظم عليه‌السلام من مدينة جده المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بغداد مرةً في زمان المهدي العباسي ، واُخرى في زمان هارون ، لتحديد حركته وعزله عن أتباعه ومواليه والحيلولة دون أداء دوره القيادي تجاه شيعته ، والتآمر على حياته في نهاية المطاف ، وقد واجه الإمام عليه‌السلام كل ممارسات الاضطهاد والقمع التي مارسها حكام الجور ضده بعزم ثابت وتصميم راسخ وصبر منقطع النظير حتى أنه عليه‌السلام سمّي الكاظم لما كظمه من الغيظ عما فعله الظالمون به ، ومن جانب آخر استطاع أن يؤدي ما يتوجب عليه ضمن هامش

__________________

(١) ينابيع المودة / القندوزي ٣ : ١٢٠.

٣٧

محدود من الحرية.

ولكي نستجلي موقف السلطة من الإمام عليه‌السلام وشيعته لابدّ من بيان مواقف الحاكمين المعاصرين له على انفراد ، بيد أن التاريخ لم يفصّل لنا طبيعة العلاقة بين الإمام عليه‌السلام وبين كل واحد من حكام عصره خلا بعض الأخبار المتعلقة باعتقاله ودور رجال السلطة في شهادته ومواقفهم من شيعته وأصحابه ، نسلط الضوء عليها وعلى موقف الإمام عليه‌السلام من السلطة ضمن مبحثين :

المبحث الأول

مواقف الحكام

١ ـ المنصور ( ١٣٦ ـ ١٥٨ ه‍ ) :

هو أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي ، ثاني خلفاء بني العباس وأكثرهم حزماً وبطشاً ، ذكر المؤرخون أنه قتل خلقاً كثيراً حتى استقام ملكه ، منهم أبو مسلم الخراساني داعية بني العباس ومؤسس دولتهم ، وابن المقفع لأنه كتب أماناً لعبد الله بن علي العباسي بأغلظ العهود والمواثيق ألا يناله المنصور بمكروه ، وحين استقدم المنصور عبد الله بن علي بنى له بيتاً في الدار ثم أجرى في أساسه الماء ، فسقط عليه فمات (١).

موقفه من الإمام الصادق عليه‌السلام :

كان الإمام الصادق عليه‌السلام أفضل الناس وأعلمهم بدين الله ، وكان أهل العلم إذا رووا عنه قالوا : أخبرنا العالم ، واعترف له المنصور بالفضل ورجاحة العلم حيث قال فيه بعد وفاته : إن جعفراً كان ممن قال الله فيه : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٤ و ٣٦٨ و ٣٧٩ و ٣٨٩ و ٣٩٥ ، فوات الوفيات / ابن شاكر الكتبي ١ : ٢٣٢ ، تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٥٩ ، تاريخ الخميس / الدياربكري ٢ : ٣٢٤.

٣٨

الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (١) وكان ممن اصطفى الله ، وكان من السابقين بالخيرات (٢).

من هنا كان المنصور يراجعه حيثما يعييه أمر ما ، وكان الإمام عليه‌السلام يجيبه طالما يتعلق الأمر بمصالح المسلمين ، فحين أراد المنصور أن يزيد في المسجد الحرام ، وقد شكا الناس ضيقه ، فكتب إلى زياد بن عبيدالله الحارثي أن يشتري المنازل التي تلي المسجد حتى يزيد فيه ضعفه ، فامتنع الناس من البيع ، فذكر ذلك للإمام الصادق عليه‌السلام ، فقال : « سلهم ، أهم نزلوا على البيت أم البيت نزل عليهم ؟ فكتب بذلك إلى زياد ، فقال لهم زياد بن عبيدالله ذلك ، فقالوا : نزلنا عليه ، فقال الإمام عليه‌السلام : فإن للبيت فناءه. فكتب أبو جعفر إلى زياد بهدم المنازل التي تليه » (٣).

ولما جُمع للمنصور القضاة ، قال لهم : « رجل أوصى بجزء من ماله ، فكم الجزء ؟ فأشكل ذلك عليهم ، فأبرد بريدا إلى صاحب المدينة أن يسأل الصادق عليه‌السلام فأتى والي المدينة أبا عبدالله عليه‌السلام ، فقال له : هذا في كتاب الله بيّن ، إن الله تعالى يقول : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ) إلى قوله : ( عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ) (٤) فكانت الطير أربعة ، والجبال عشرة ، يخرج الرجل من كلّ عشرة أجزاءٍ جزءاً واحداً » (٥).

ومثل هذه المواقف التي يضطر إليها المنصور ، لا تعكس حقيقة دخيلته وما

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٣٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٩.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٠.

(٥) تفسير العياشي ١ : ٢٦٦ / ٥٧٧.

٣٩

يضمره تجاه الإمام عليه‌السلام وشيعته ، من حقد وبغض وعداوة ، تجلّت في مراقبته واتهامه وتهديده له بالقتل تارة وبالحبس أخرى ، وروي أنه استدعاه مرات متعددة يريد قتله فيصرفه الله عنه في كل مرة (١).

وإذ لم يحتمل المنصور ما يراه من امتداد مجد الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام بين أوساط الناس ، ( فلم يهدأ خاطره ، ولم يزل يقلب وجوه الرأي ، ويدير الحيل للتخلص منه ، لأن مدرسته قد اكتسبت شهرة علمية بعيدة المدى ، فلم ترق له هذه الشهرة الواسعة ) (٢).

وكان المنصور يتحيّن الفرص ويختلق الذرائع للإيقاع بالإمام عليه‌السلام ، فاستدعاه إلى العراق بعد وقعة باخمرى ، ليوقفه بين يديه ، ولم تكفه الدماء التي أراقها من آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال عليه‌السلام : « لما قتل ابراهيم بن عبد الله بن الحسن بباخمرى حُسرنا عن المدينة ، ولم يترك فيها منا محتلم ، حتى قدمنا الكوفة ، فمكثنا فيها شهراً نتوقع فيها القتل ، ثم خرج إلينا الربيع الحاجب فقال : أين هؤلاء العلوية ؟ أدخلوا على أمير المؤمنين رجلين منكم من ذوي الحجى. قال : فدخلنا إليه أنا والحسن بن زيد ، فلما صرت بين يديه قال لي : أنت الذي تعلم الغيب ؟ قلت : لا يعلم الغيب إلاّ الله. قال : أنت الذي يجبى إليك هذا الخراج. قلت : إليك يجبى الخراج. قال : أتدرون لم دعوتكم؟ قلت : لا. قال : أردت أن أهدم رباعكم ، وأروّع قلوبكم ، وأعقر نخلكم ، وأترككم بالسراة لا يقربكم أحد من أهل الحجاز وأهل العراق ، فإنهم لكم مفسدة. فقلت له : إن سليمان أُعطي فشكر ، وإن أيوب ابتُلي فصبر ، وإن يوسف

__________________

(١) راجع : مهج الدعوات : ١٩٨ ـ ٢٠٢.

(٢) الإمام الصادق / د. حسين الحاج : ٨.

٤٠