الإمام موسى الكاظم عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام موسى الكاظم عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-37-9
الصفحات: ٢٣٤

وهو أن ندفع السيئة بالحسنة ، كي نقتل العداوة فيهم ، ونجعل إنسانيتهم تنفتح على المحبة والإيمان ، وهي عملية تحتاج إلى ضبط أعصاب وسعة صدر ، ولا يلقّاها إلاّ ذو حظ عظيم.

وروي أن عبداً لموسى بن جعفر عليهما‌السلام قدّم إليه صحفة فيها طعام حار ، فعجّل فصبّها على رأسه ووجهه ، فغضب فقال له : « ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ) ، قال : قد كظمت ، قال : ( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) ، قال : قد عفوت ، قال : ( وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (١) ، قال : أنت حرّ لوجه الله ، وقد نحلتك ضيعتي الفلانية » (٢).

وعن أحمد بن عمر الخلال ، قال : «سمعت الأخرس يذكر موسى بن جعفر عليهما‌السلام بسوء ، فاشتريت سكيناً وقلت : والله لأقتلنه إذا خرج للمسجد ، فأقمت على ذلك ، وجلست فما شعرت إلاّ برقعة أبي الحسن عليه‌السلام قد طلعت علي فيها مكتوب : بحقي عليك لما كففت عن الأخرس ، فإن الله ثقتي وهو حسبي ، فما بقي أيام إلاّ ومات » (٣).

وبينا موسى بن عيسى العباسي في داره التي في المسعى يشرف على المسعى ، اذ رأى أبا الحسن موسى عليه‌السلام مقبلاً من المروة على بغلة ، فأمر ابن هياج رجلاً من همدان منقطعاً إليه أن يتعلق بلجامه ويدّعي البغلة ، فأتاه فتعلّق باللجام وادّعى البغلة ، فثنى أبو الحسن عليه‌السلام رجله فنزل عنها ، وقال لغلمانه : « خذوا سرجها عنها وادفعوها إليه » (٤).

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٣٤.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٤٦.

(٣) الخرائج والجرائح ٢ : ٦٥١ / ٣ ، الثاقب في المناقب : ٤٣٨.

(٤) الكافي ٨ : ٨٦ / ٤٨ ، مجموعة ورّام ٢ : ١٣٥.

١٤١

وكان أبو الحسن موسى عليه‌السلام في حائط له يصرم (١) ، فأخذ غلام له كارة (٢) من تمر ، فرمى بها وراء الحائط ، فذهبوا به إليه ، فقال للغلام : « أتجوع ؟ قال : لا يا سيدي ، قال : فتعرى ؟ قال : لا يا سيدي ، قال : فلأي شيء أخذت هذه ؟ قال : اشتهيت ذلك ، قال : اذهب فهي لك ، وقال : خلوا عنه » (٣).

خامساً ـ التواضع :

تحلّى الإمام الكاظم عليه‌السلام كسائر آبائه الميامين بالتواضع والبساطة ورقّة الحاشية ، وكان إلى جانب ذلك تحوطه هالة من الوقار والهيبة ، تجعله يفرض احترامه وإجلاله وإعظامه على الناس حكّامهم ورعيتهم ، قال أبو العلاء المعري في قصيدة يرثي بها أبا أحمد الموسوي والد الشريف الرضي والمرتضى :

ويخال موسى جدكم لجلاله

في النفس صاحب سورة الأعراف (٤)

وجاء في وصيته المشهورة لهشام بن الحكم ما يؤكد هذه المعاني السامية قال عليه‌السلام : « يا هشام ، ما من عبد إلاّ وملك آخذ بناصيته ، فلا يتواضع إلاّ رفعه الله ، ولا يتعاظم إلاّ وضعه الله.

وأشار عليه‌السلام إلى نبذ الكبر لكونه رداء الرحمن : يا هشام ، إيّاك والكبر ، فإنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر ، الكبر رداء الله ، فمن نازعه رداءه أكبه الله في النار على وجهه. والتواضع في تعاليمه الإلهية سبب للرفعة والحكمة التي تجافي قلب المتكبر : يا هشام ، إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا ، فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ، ولا تعمر في

__________________

(١) صرم النخل : قطع ثمرته.

(٢) الكارة : مقدار معلوم من الطعام أو الحنطة أو التمر.

(٣) الكافي ٢ : ١٠٨ / ٧.

(٤) سقط الزند : ٣٦.

١٤٢

قلب المتكبر الجبار ، لأن الله جعل التواضع آلة العقل ، وجعل التكبّر من آلة الجهل ، ألم تعلم أن من شمخ إلى السقف برأسه شجّه ، ومن خفض رأسه استظل تحته وأكنّه؟ وكذلك من لم يتواضع لله خفضه الله ، ومن تواضع لله رفعه » (١).

وكان عليه‌السلام يتأسّى بسيرة الأنبياء وسلفه الصالحين ، فيفلح أرضه ويحرثها بيديه ، قال علي بن أبي حمزة : « رأيت أبا الحسن عليه‌السلام يعمل في أرض له قد استنقعت قدماه في العرق ، فقلت : جعلت فداك ، أين الرجال ؟ فقال : يا علي ، قد عمل باليد من هو خير مني في أرضه ومن أبي فقلت : ومن هو ؟ فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وآبائي كلهم كانوا قد عملوا بأيديهم ، وهو من عمل النبيين والمرسلين والأوصياء والصالحين » (٢).

وفي تعامله عليه‌السلام مع سائر الناس يجسد أخلاق جده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأبيه أمير المؤمنين علي عليه‌السلام حيث يقول : « الناس صنفان : إما أخ لك في الدين ، وإما نظير لك في الخلق » (٣).

قال الحرّاني في تحف العقول : «روي أنه عليه‌السلام مرّ برجل من أهل السواد دميم المنظر ، فسلّم عليه ، ونزل عنده ، وحادثه طويلاً ، ثم عرض عليه نفسه في القيام بحاجة إن عرضت له ، فقيل له : يا بن رسول الله ، أتنزل إلى هذا ، ثم تسأله عن حوائجه ، وهو إليك أحوج ؟!. فقال عليه‌السلام : عبد من عبيد الله ، وأخ في كتاب الله ، وجار في بلاد الله ، يجمعنا وإياه خير الآباء آدم عليه‌السلام ، وأفضل الأديان الإسلام ، ولعل الدهر يرد من حاجاتنا إليه ، فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين بين

__________________

(١) تحف العقول : ٣٨٣ ـ ٤٠٢ ، الكافي ١ : ١٠ ـ ١٥.

(٢) الكافي ٥ : ٧٥ / ١٠ ، من لا يحضره الفقيه ٣ : ١٦٢ / ٣٥٩٣.

(٣) نهج البلاغة / شرح محمد عبده ٣ : ٨٤ / ٥٣.

١٤٣

يديه. ثم قال عليه‌السلام :

نواصل من لا يستحق وصالنا

مخافة أن نبقى بغير صديق » (١)

سادساً ـ الكرم والمروءة :

عرف الإمام الكاظم عليه‌السلام بأنه واسع العطاء ، عظيم الفضل ، كثير البذل والإحسان إلى الناس ورعاية اُمورهم ، وهي خصال بارزة في سيرته وسيرة آبائه المعصومين ، ووصف عليه‌السلام بأنه أسخى أهل زمانه كفاً ، وأكرمهم نفساً ، وأسمحهم يداً ، وأوصل الناس لأهله ورحمه ، ومن أكابر العلماء الأسخياء.

وكان له عليه‌السلام دور بارز في تحمّل الديون عن ذوي الفاقة ورعاية الفقراء والإنفاق والبذل لسدّ حاجاتهم ورفع خصاصتهم ، ومن صفات معروفه إلى الناس أنه كان يبذل بداعي التقرب إلى الله تعالى ، فلا يطلب شهرة ولا يبتغي من أحد جزاءً ولا شكوراً ، وكان في صدقاته وبرّه يتوخّى الكتمان لئلاّ تبدو على الفقير ذلة الحاجة ، ملتمساً بذلك وجه الله ورضاه.

وقد اشتهر في الناس أنه كان يتفقّد فقراء المدينة والأيتام والأرامل وسائر ذوي الحاجة ، فيخرج في الليل ويحمل إليهم في كمّه صرراً من الدراهم والدنانير ، كما يحمل النفقات والهبات من العين والورق والأدقة والتمور ، وكانوا لا يعلمون من أي جهة هي.

وذكر جماعة من أهل العلم أنه يصل بالمائتي دينار إلى الثلاثمائة والأربعمائة ، وكان مثل صرر موسى بن جعفر عليهما‌السلام إذا جاءت الإنسان الصرّة فقد استغنى. وكان أهله يقولون : عجباً لمن جاءته صرّة موسى فشكا

__________________

(١) تحف العقول : ٤١٣.

١٤٤

القلّة (١).

وروى المؤرخون بوادر كثيرة من مظاهر سيرة الإمام عليه‌السلام في الكرم والسخاء ، وصوراً فريدة من الجود والإحسان وإسداء المعروف ، قلّما يوجد نظير لها إلاّ عند آبائه الكرام عليهم‌السلام.

ومن تلك الصور أن محمد بن عبد الله البكري قدم المدينة يطلب بها ديناً فأعياه ، فأتى الإمام عليه‌السلام في ضيعته ، فخرج إليه فأكل معه ، ثم سأله عن حاجته ، فذكر له قصته ، ثم مدّ يده إليه فدفع إليه صرّة فيها ثلاثمائة دينار (٢).

وحين خروجه إلى ضياعه بساية مع محمد ابنه ، أهدى له بعض العبيد عصيدة ، فاشترى العبد والضيعة التي فيها ذلك العبد بألف دينار ، وأعتقه ووهبها له (٣).

وكان لعيسى بن محمد بن مغيث القرظي زرع في موضع بالجوانية على بئر يقال لها أُم العظام ، فلما قرب الخير واستوى الزرع ، بغته الجراد فأتى على الزرع كله ، فبينما هو جالس إذ طلع عليه الإمام موسى بن جعفر عليهما‌السلام فسأله عن حاله ، فقال : أصبحت كالصريم ، بغتني الجراد فأكل زرعي ، وكان قد غرم فيه مائة وعشرين ديناراً مع ثمن جملين ، فأمر الإمام عليه‌السلام غلامه عرفة فوزن لعيسى مائة

__________________

(١) راجع : الإرشاد ٢ : ٢٣١ ، تاريخ بغداد ١٣ : ٢٩ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤٣٣ ، ألقاب الرسول وعترته : ٦٥ ، مقاتل الطالبيين : ٣٣٢ و ٣٦٢ ، المجدي في أنساب الطالبيين / العمري : ١٠٦ ، صفة الصفوة ٢ : ١٨٤ ، تذكرة الخواص : ٣٤٨ ، وفيات الأعيان ٥ : ٣٠٨ ، عمدة الطالب : ١٩٦ ، الفصول المهمة : ٢٣٧ ، إسعاف الراغبين / الصبان : ٢٤٦ ، الصواعق المحرقة : ٢٠٣ ، البداية والنهاية ١٠ : ١٩٠ ، عيون التواريخ / ابن شاكر الشافعي ٦ : ١٦٥ ، مرآة الجنان ١ : ٤٠٥.

(٢) تاريخ بغداد ١٣ : ٢٩ ، الإرشاد ٢ : ٢٣١ ، روضة الواعظين : ٢١٥.

(٣) تاريخ بغداد ١٣ : ٢٩ ، المنتظم في تاريخ الملوك والاُمم ٩ : ٨٧.

١٤٥

وخمسين ديناراً ، ثم دخل عليه‌السلام الضيعة ودعا له ، وحدثه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : « تمسكوا ببقايا المصائب » ، قال : فجعل الله فيها البركة وزكت ، فبعت منها بعشرة آلاف (١).

وأولم أبو الحسن موسى عليه‌السلام على بعض ولده ، فأطعم أهل المدينة ثلاثة أيام الفالوذجات (٢) في الجفان في المساجد والأزقة (٣).

* * *

__________________

(١) تاريخ بغداد ١٣ : ٣٠.

(٢) الفالوذج : حلوى تعمل من الدقيق والعسل والماء.

(٣) الكافى ٦ : ٢٨١ / ١.

١٤٦



الفصل السادس

إسهاماته العلمية

أولى أئمة أهل البيت عليهم‌السلام العلم والعلماء أهمية خاصة ، واهتموا ضمن هذا الاطار ببناء الإنسان فكراً وعقيدة وسلوكاً ، لذلك ركز الأئمة عليهم‌السلام جهودهم في مجال التعلّم والتعليم والتوعية ، بينما جعل الحاكم جهوده ضمن إطار دنيوي ضيق لا يتعدى الحفاظ على عرشه وبذخه مما يستدرّه من قوت الملايين الجائعة ، يتضح ذلك من وصية الإمام الكاظم عليه‌السلام لهشام بن الحكم : « يا هشام ، كما تركوا لكم الحكمة ، فاتركوا لهم الدنيا » (١).

وضمن هذا التوجّه سجل الإمام الكاظم عليه‌السلام رصيداً معرفياً واسعاً في أوساط الأُمّة ، حيث تواصل مع نشاط رواد مدرسة أبيه الصادق عليه‌السلام في حدود هامش الحرية المتاح له من وفاة المنصور سنة ( ١٥٨ ه‍ ) ـ إلى إلقاء القبض عليه من قبل الرشيد سنة ( ١٧٩ ه‍ ) ، وكان له دور كبير في إغناء تلك المدرسة إطاراً ومحتوى ومادة ، وترك كثيراً من الآثار في هذا الاتجاه منها المسائل الشرعية والبحوث الكلامية ، والمواعظ والوصايا البليغة والحكم الرائعة والأقوال الجامعة التي توجه بها إلى تهذيب النفس والسلوك ، وإرشاداته التي تنضوي تحت علم الطب ، فضلاً عن سعة الرواية عنه في كافة أبواب شرائع الإسلام ، وأسهم في إعداد جيل من الرواة والمحدثين والمؤلفين الثقات الذين أوصلوا نتاج تلك المدرسة إلى قاعدة عريضة تؤمن بمرجعية الإمام عليه‌السلام ، وأسهم في تشخيص

__________________

(١) الكافي ١ : ١٠ ـ ١٥ / ١٢ ، تحف العقول : ٣٨٣ ـ ٤٠٢.

١٤٧

بعض حالات الضلال والانحراف ، ليصححها ويقومها في الاتجاه الصحيح.

وفيما يلي نقف عند أهم تلك الإسهامات ضمن أربعة مباحث :

المبحث الأول

دوره عليه‌السلام في ترسيخ مبادئ العقيدة

روي عن الإمام الكاظم عليه‌السلام المزيد من الأخبار المتعلقة بالبحوث والمناظرات الكلامية ، دافع فيها عن أصول الاعتقاد السامية ، وردّ على أهل البدع والأهواء ، وناظر أهل الديانات ، وسوف نسلط الضوء على بعض الكلمات التي وردت عن الإمام الكاظم عليه‌السلام في شؤون العقيدة والكلام ، وما يتصل بذلك من ردود على بعض الفرق الضالة والأفكار المنحرفة ، وكما يلي :

كلمة جامعة :

جعل الإمام الكاظم عليه‌السلام من الدعاء وسيلة لتلقين أصول العقيدة والانفتاح على جميع مفرداتها ، كي يجعل من الداعي يستحضر في وعيه توحيد الخالق وصفاته ومشيئته وإرادته وعلمه وقضاءه وقدره ، ويعمّق علاقته الروحية بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ويعزّز فهمه لأبعاد شخصيته ومكارم أخلاقه ، ووصيّته بالإمامة لمن بعده باعتبارها الامتداد الطبيعي للنبوة ، وبيان مهمتها في إقامة مبادئ الدين والكتاب الكريم ، والحفاظ على السُنّة المباركة ، وبيان صفات الإمام ومكارم أخلاقه وفضائله ودلائله.

وقد وردت عن الإمام الكاظم عليه‌السلام المزيد من الأدعية التي تنطوي على تلك المضامين ، ومنها دعاء الاعتقاد : « ... اللهمّ إنّي أقرُّ وأشهدُ ، وأعترفُ ولا أجحدُ ، وأُسرُّ وأُظهرُ ، وأعلنُ وأبطنُ ، بأنّك أنت الله فلا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك ، وأن محمدا عبدك ورسولك ، وأنّ عليّا أمير المؤمنين ، وسيّد الوصيين ، ووارث علم النبيين... إمامي ومحجّتي ، ومن لا أثق بالأعمال

١٤٨

وإن زكت ، ولا أراها منجيةً لي وإن صلحت إلاّ بولايته والائتمام به والإقرار بفضائله... اللهمّ وأقرُّ بأوصيائه من أبنائه أئمةً وحججا وأدّلةً وسُرجاً ، وأعلاماً ومناراً ، وسادة وأبرار... اللهمّ فادعني يوم حشري وحين نشري بإمامتهم ، واحشرني في زمرتهم ، واكتبني في أصحابهم ، واجعلني من اخوانهم ، وانقذني بهم يا مولاي من حرِّ النيران... » (١).

كلماته في التوحيد والصفات :

في باب التوحيد لم يدع الإمام عليه‌السلام مناسبة دون أن يعلم أصحابه التوحيد الخالص بكلمات منتزعة من ألفاظ الكتاب الكريم وسنة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويحذرهم من رواسب الشرك ومقولات أهل البدع والأوهام الباطلة المستندة إلى تقديرات العقول ، ومن ذلك ما رواه محمد بن أبي عمير ، قال : « دخلت على سيدي موسى بن جعفر عليهما‌السلام فقلت له : يا بن رسول الله ، علمني التوحيد. فقال عليه‌السلام : يا أبا أحمد ، لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره الله تعالى ذكره في كتابه فتهلك ، واعلم أن الله تعالى واحد أحد صمد ، لم يلد فيورث ، ولم يولد فيشارك ، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً ولا شريكاً ، وأنه الحي الذي لا يموت ، والقادر الذي لا يعجز ، والقاهر الذي لا يغلب ، والحليم الذي لا يعجل ، والدائم الذي لا يبيد ، والباقي الذي لا يفنى ، والثابت الذي لا يزول ، والغني الذي لا يفتقر ، والعزيز الذي لا يذل ، والعالم الذي لا يجهل ، والعدل الذي لا يجور ، والجواد الذي لا يبخل ، وأنه لا تقدره العقول ، ولا تقع عليه الأوهام ، ولا تحيط به الأفكار ، ولا يحويه مكان ، ولا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير ، وليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ، ( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا

__________________

(١) مهج الدعوات : ٢٣٣.

١٤٩

كَانُوا ) (١) ، وهو الأول الذي لا شيء قبله ، والآخر الذي لا شيء بعده ، وهو القديم وما سواه مخلوق محدث ، تعالى عن صفات المخلوقين علواً كبيراً » (٢).

وعن محمد بن حكيم ، قال : « كتب أبو الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام إلى أبي : إن الله أعلى وأجل وأعظم من أن يبلغ كنه صفته ، فصفوه بما وصف به نفسه ، وكفوا عما سوى ذلك » (٣).

ففي هذين الحديثين نجد أن الإمام عليه‌السلام يريد أن يؤكد حقيقة عدم قدرة البشر على معرفة الله في صفاته إلاّ من خلاله ، وأنه لا يعرف الله إلاّ هو ، فهو الذي أحاط بذاته ولم يحط بذاته أحد سواه إلاّ من خلاله ، لأن الله سبحانه هو المطلق الذي لا حدود لأية صفة من صفاته ، وعلى هذا الأساس فإن المحدود مهما كانت عظمته لا يستطيع أن يدرك كنه الخالق ، وإذا أراد أن يعرف الله في صفاته فعليه أن لا يتجاوز ما وصف به نفسه ، فإن ما وصف به نفسه هو الذي يمكن لنا أن نطل من خلاله على الحقيقة الكامنة في صفات الله ، وإلاّ فقد يصفه من خلال ما يتوهمه ويتخيله فيقول ما لا يرضي الله.

نفي التشبيه والتجسيم :

كان الجدل يدور في صفات الله تعالى بين المعطلة والمشبهة ، فيذهب المعطلة إلى استحالة معرفة الله تعالى على العقول ، بينما ينسب المشبهة أو المجسمة الصفات البشرية إلى الذات الإلهية ، ويتطاولون إلى حدّ القول بأن الله سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا على حمار بصورة شاب أمرد تقدّس وتعالى عن ذلك ، الأمر الذي نفاه الإمام الكاظم عليه‌السلام بشدة على ما سيأتي ، إذ ان منهج الأئمة عليهم‌السلام

__________________

(١) سورة المجادلة : ٥٨ / ٧.

(٢) التوحيد : ٧٦ / ٣٢.

(٣) الكافي ١ : ١٠٢ / ٦.

١٥٠

يقوم على أساس التحدّث بلغة القرآن وأخذ العناوين الكبرى في العقيدة منه لا من غيره ، من هنا فهم عليهم‌السلام ينفون التشبيه والتجسيم والتعطيل جميعاً ، ويقولون إن الله تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء ، خارج عن الحدين : حد التعطيل ، وحد التشبيه ، وانه ليس بجسم ولا صورة ، ولا عرض ولا جوهر ، بل هو مجسم الأجسام ومصور الصور وخالق الأعراض والجواهر ، رب كل شيء ومالكه وجاعله ومحدثه.

وفيما يلي نستعرض بعض الروايات الواردة عن الإمام الكاظم عليه‌السلام وهي تؤكد هذه المضامين :

عن يعقوب بن جعفر الجعفري ، عن أبي إبراهيم عليه‌السلام ، قال : « ذكر عنده قوم يزعمون أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا.

فقال عليه‌السلام : إن الله لا ينزل ولا يحتاج إلى أن ينزل ، إنما منظره (١) في القرب والبعد سواء ، لم يبعد منه قريب ، ولم يقرب منه بعيد ، ولم يحتج إلى شيء ، بل يُحتاج إليه ، وهو ذو الطول لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم. أما قول الواصفين انه ينزل تبارك وتعالى ، فإنما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة (٢) ، وكل متحرك محتاج إلى من يحركه أو يتحرك به ، فمن ظن بالله الظنون هلك ، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حد تحدونه بنقص أو زيادة ، أو تحريك أو تحرّك ، أو زوال أو استنزال ، أو نهوض أو قعود ، فإن الله جلّ وعزّ عن صفة الواصفين ، ونعت الناعتين ، وتوهم المتوهمين ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ *

__________________

(١) أي مراقبته للأشياء بالعلم والإحاطة.

(٢) لأن الحاجة إلى النزول والصعود إنما تكون في الممكن الذي ينقص فيحتاج إلى أن يكمل نقصه ، ويزيد فيحتاج إلى أن يستزيد.

١٥١

وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) (١)» (٢).

نلاحظ هنا كيف يرصد الإمام عليه‌السلام الانحراف في تصور الخالق سبحانه ، وكيف يضع المسألة في نصابها التوحيدي ، بتجريد الذات الإلهية عن كل صفات الممكن ، وتوجيه الناس إلى عدم الخوض في صفاته بما لا يملكون كنهه وعمقه ، وأن يصفوه بما وصف به نفسه ، فإنه أعرف بنفسه من مخلوقاته كلها.

وعن يونس بن عبد الرحمن ، قال : « قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام : لأي علة عرج الله بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى السماء ، ومنها إلى سدرة المنتهى ، ومنها إلى حجب النور ، وخاطبه وناجاه هناك ، والله لا يُوصف بمكان ؟ فقال عليه‌السلام : إن الله تبارك وتعالى لا يُوصف بمكان ، ولا يجري عليه زمان ، ولكنه عز وجل أراد أن يشرف به ملائكته وسكان سماواته ، ويكرمهم بمشاهدته ، ويريه عجائب عظمته ، ما يخبر به بعد هبوطه ، وليس ذلك على ما يقول المشبهون ، سبحان الله وتعالى عما يشركون » (٣).

وعن الشيخ المفيد ، قال : « قال يونس بن عبد الرحمن يوماً لموسى بن جعفر عليهما‌السلام : أين كان ربك حين لا سماء مبنية ولا أرضاً مدحية ؟ قال عليه‌السلام : كان نوراً على نور ، خلق من ذلك النور ماء منكدراً ، فخلق من ذلك الماء ظلمة ، فكان عرشه على تلك الظلمة. قال : إنما سألتك عن المكان ! قال : قال عليه‌السلام : كلما قلت : أين ، فأين هو المكان. قال : وصفت فأجدت ، إنما سألتك عن المكان الموجود المعروف ! قال : كان في علمه لعلمه ، فقصر علم العلماء عند علمه » (٤).

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢١٧ ـ ٢١٩.

(٢) الكافي ١ : ١٢٥ / ١ ، الاحتجاج ٢ : ١٥٦ ، التوحيد : ١٨٣ / ١٨.

(٣) علل الشرائع ١ : ١٢٦ ، التوحيد : ١٧٥ / ٥.

(٤) الاختصاص : ٦٠.

١٥٢

ونهى الإمام الكاظم عليه‌السلام أصحابه عن مجالسة كل من يصف الله تعالى بالصفات البشرية ، أو يحده بالمكان والزمان والحركة والانتقال ، ولو كان من أولي القربى ، وحثّهم على مقاطعتهم وحذّرهم غضب الله وانتقامه إن لم ينتهوا عن ذلك.

عن سليمان بن جعفر الجعفري ، قال : «سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول لأبي : ما لي رأيتك عند عبد الرحمن بن يعقوب ؟ قال : إنه خالي. فقال له أبو الحسن عليه‌السلام : إنه يقول في الله قولاً عظيماً ، يصف الله تعالى ويحده ، والله لا يُوصف ، فإما جلست معه وتركتنا ، وإما جلست معنا وتركته. فقال : إن هو يقول ما شاء ، أي شيء علي منه إذا لم أقل ما يقول ؟ فقال له أبو الحسن : أما تخافن أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعاً ؟ أما علمت بالذي كان من أصحاب موسى عليه‌السلام ، وكان أبوه من أصحاب فرعون ، فلما لحقت خيل فرعون موسى عليه‌السلام تخلف عنه ليعظه ، وأدركه موسى ، وأبوه يراغمه حتى بلغا طرف البحر فغرقا جميعاً ، فأتى موسى عليه‌السلام الخبر ، فسأل جبرئيل عليه‌السلام عن حاله ، فقال له : غرق رحمه الله ، ولم يكن على رأي أبيه ، لكن النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمن قارب المذنب دفاع » (١).

الإرادة والمشيئة :

خلاصة ما أثبته الإمام الكاظم عليه‌السلام بخصوص الإرادة في مقابل مقالات القدرية الباطلة أن الإرادة هي الفعل لا غير ، وأن إرادته تعالى هي أن يقول للشيء كن فيكون ، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكّر ، لأنها من صفات المخلوق المنفية ، وإن الله سبحانه إذا شاء شيئاً أراده ، فإذا أراده قدره ، وإذا قدره قضاه ، وإذا قضاه أمضاه ، ولا يكون إلاّ ما شاء الله وأراد وقدر وقضى.

عن صفوان بن يحيى ، قال : « قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : أخبرني عن الإرادة

__________________

(١) أمالي المفيد : ١١٢ / ٣.

١٥٣

من الله ومن المخلوق. فقال عليه‌السلام : الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل ، وأما من الله عزّ وجلّ فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنه لا يروّي ولا يهم ولا يتفكر ، وهذه الصفات منفية عنه ، وهي من صفات الخلق ، فإرادة الله تعالى هي الفعل لا غير ذلك ، يقول له كن فيكون ، بلا لفظ ولا نطق بلسان ، ولا همة ولا تفكر ، ولا كيف لذلك كما أنه بلا كيف » (١).

وعن محمد بن إسحاق ، قال : «قال أبو الحسن عليه‌السلام ليونس مولى علي بن يقطين : يا يونس ، لا تتكلم بالقدر. قال : إني لا أتكلم بالقدر ، ولكني أقول : لا يكون إلاّ ما أراد الله وشاء وقضى وقدر. فقال عليه‌السلام : ليس هكذا أقول ، ولكني أقول : لا يكون إلاّ ما شاء الله وأراد وقدر وقضى.

ثم قال : أتدري ما المشيئة ؟ فقال : لا ، فقال : همه بالشيء ، أو تدري ما أراد ؟ قال : لا ، قال : إتمامه على المشيئة. فقال : أو تدري ما قدر ؟ قال : لا ، قال : هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء. ثم قال : إن الله إذا شاء شيئاً أراده ، فإذا أراده قدره ، وإذا قدره قضاه ، وإذا قضاه أمضاه.

يا يونس ، إن القدرية لم يقولوا بقول الله : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ ) (٢) ولا قالوا بقول أهل الجنة : ( الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ ) (٣) ولا قالوا بقول أهل النار : ( رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ) (٤) ولا قالوا بقول إبليس : ( رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ) (٥) ولا قالوا بقول نوح : ( وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ

__________________

(١) التوحيد : ١٤٧ / ١٧.

(٢) سورة الإنسان : ٧٦ / ٣٠.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٤٣.

(٤) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٠٦.

(٥) سورة الحجر : ١٥ / ٣٩.

١٥٤

لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (١)

ثم قال : قال الله : يا بن آدم ، بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء ، وبقوتي أديت إليّ فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، وجعلتك سميعاً بصيراً قوياً ، فما أصابك من حسنة فمني ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، وذلك لأني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. ثم قال : قد نظمت لك كل شيء تريده » (٢).

وروى داود بن قبيصة عن الإمام الرضا عليه‌السلام أنه قال : « سأل رجل أبي عليه‌السلام : هل منع الله عما أمر به ، وهل نهى عما أراد ، وهل أعان على ما لم يرد ؟ فقال عليه‌السلام : أما قولك هل منع عما أمر به ، فلا يجوز ذلك عليه ، ولو جاز ذلك لكان قد منع إبليس عن السجود لآدم ، ولو منعه لعذره ولم يلعنه. وأما قولك هل نهى عما أراد ، فلا يجوز ذلك ، ولو جاز ذلك لكان حيث نهى آدم عليه‌السلام عن أكل الشجرة أراد منه أكلها ، ولو أراد منه أكلها ، لما نادى عليه صبيان الكتاتيب ( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) (٣) والله تعالى لا يجوز عليه أن يأمر بشيء ويريد غيره. وأما قولك : هل أعان على ما لم يرد ، فلا يجوز ذلك عليه ، وتعالى الله عن أن يعين على قتل الأنبياء وتكفيرهم ، وقتل الحسين بن علي عليهما‌السلام والفضلاء من ولده ، وكيف يعين على ما لم يرد وقد أعدّ جهنم لمخالفيه ، ولعنهم على تكذيبهم لطاعته وارتكابهم لمخالفته ؟ ولو جاز أن يعين على ما لم يرد ، لكان أعان فرعون على كفره وادعائه أنه رب العالمين ، أفترى أنه أراد من فرعون أن يدعي الربوبية ؟

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٣٤.

(٢) المحاسن : ٢٤٤ / ٢٣٨.

(٣) سورة طه : ٢٠ / ١٢١.

١٥٥

ومضى الإمام عليه‌السلام يقول : يُستتاب قائل هذا القول ، فإن تاب من كذبه على الله وإلاّ ضربت عنقه » (١).

علمه تعالى :

إنّ الله تعالى عالم بمصير الأشياء كلّها غابرها وحاضرها ومستقبلها ، وعلمه هذا أزلي قديم لا يتصور فيه الظهور بعد الخفاء ، ولا العلم بعد الجهل. عن أيوب بن نوح : « أنه كتب إلى أبي الحسن عليه‌السلام يسأله عن الله عزّ وجلّ ، أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكوّنها ، أو لم يعلم ذلك حتى خلقها وأراد خلقها وتكوينها ، فعلم ما خلق عندما خلق ، وما كوّن عندما كوّن ؟ فوقع بخطه : لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء ، كعلمه بالأشياء بعدما خلق الأشياء » (٢).

وعن الكاهلي ، قال : « كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام في دعاء : الحمد لله منتهى علمه. فكتب إليّ : لا تقولن منتهى علمه ، ولكن قل منتهى رضاه » (٣).

إن الدعاء الذي يجري على اللسان قد يكون عرضةً للوهم والخطأ الذي لا يشعر به الإنسان حال اشتغاله بالدعاء والتوجه إلى الله سبحانه ، فلا يستحضر معانيه ودلالاته ، وهنا يمارس الإمام عليه‌السلام عملية تصحيح للدعاء ، وكأنه يريد أن يشير إلى حقيقة جديرة بالاهتمام ، وهي ضرورة اخضاع التراث للدراسة العلمية حتى لا ينفذ إلى تراثنا مفهوم غير إسلامي ، فلعلنا ندعو فنقول : الحمد لله منتهى علمه ، من حيث لا نشعر أن ذلك يجعل علم الله محدوداً بين البداية والنهاية ، والحال أن علم الله ليس له نهاية ولا تحدّه حدود ، من هنا علينا أن

__________________

(١) الاحتجاج : ٣٨٧ ، بحار الأنوار ٥ : ٢٤ / ٣١.

(٢) الكافي ١ : ١٠٧ / ٣.

(٣) الكافي ١ : ١٠٧ / ٤ ، التوحيد : ١٣٤.

١٥٦

نقول : منتهى رضاه ، لأن رضاه يتصل بعمل المخلوقين في درجات تتحرك حتى تبلغ منتهاها ، ولا يتعلق ذلك في ذاته وفي صفته.

السعادة والشقاوة :

اختلفت مقولات أهل الكلام اختلافاً شديداً في تفسير الآيات والآثار التي تسند الشقاء والسعادة إلى الله تعالى ، فأخذ بعضهم بظاهرها ، وحكموا بحتميّة الشقاء والسعادة في حياة الإنسان من جانب الله تعالى ، ونفوا دور الإنسان في اختيار الهداية والضلالة.

وفصّل أهل البيت عليهم‌السلام في هذا المطلب ، بأنّ علم الله المعبّر عنه بأُمِّ الكتاب ، لا يتطرق إليه التغيير والتبديل ، وعلمه تعالى في أُمِّ الكتاب محيط بكل شيء ، ومنها سعادة الإنسان وشقائه ، وعلمه تعالى بالشيء لا يعني نسبة فعله إليه. أما علمه تعالى المعبّر عنه بلوح المحو والاثبات ، فإن لله تعالى فيه المشيئة يقدّم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ، وهو موقوف على أعمال العباد ، فأعمال البر تحوّل شقاء الإنسان إلى سعادة ، واقتراف الذنوب وارتكاب السيئات تحوّل مصير الإنسان من السعادة إلى الشقاء. وعليه فإنّ الله تعالى هو مصدر السعادة والهداية في حياة الإنسان ، وأمّا الشقاء والضلالة فمن الإنسان نفسه ، وكلا الأمران يجريان باختياره وقراره.

ويدلّ على هذا المعنى ما رواه محمد بن أبي عمير ، قال : « سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام عن معنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الشقيّ من شقي في بطن اُمه ، والسعيد من سعد في بطن اُمه. فقال : الشقي من علم الله وهو في بطن اُمه أنه سيعمل أعمال الأشقياء ، والسعيد من علم الله وهو في بطن اُمه أنه سيعمل أعمال السعداء.

قلت له : فما معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اعملوا فكل ميسّر لما خلق الله ؟ فقال : إن

١٥٧

الله عزوجل خلق الجن والإنس ليعبدوه ، ولم يخلقهم ليعصوه ، وذلك قوله عزوجل : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (١) ، فيسّر كلاًّ لما خلق له ، فالويل لمن استحبّ العمى على الهدى » (٢).

الكفر والشرك :

وسأل أبو أحمد الخراساني الإمام الكاظم عليه‌السلام : « الكفر أقدم أم الشرك ؟ فقال عليه‌السلام له : ما لك ولهذا ، ما عهدي بك تكلّم الناس ! قال : أمرني هشام بن الحكم أن أسألك. فقال : قل له الكفر أقدم ، أول من كفر إبليس ( أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) (٣) والكفر شيء واحد ، والشرك يثبت واحد ويشرك معه غيره » (٤).

كلماته في النبوة والإمامة :

للإمام موسى الكاظم عليه‌السلام مناظرات وأقوال ووصايا تعرض فيها لمسألة الإمامة باعتبارها من أكثر القضايا التي شغلت حيزاً واسعاً من جهود العلماء وكثر الرأي فيها ، وللإمام الكاظم عليه‌السلام ومن قبله آباؤه الميامين عليهم‌السلام كلمتهم في هذا الإطار ، وهي أن الإمامة منصب إلهي ، والإمام يشترك مع النبي باعتبارهما حجة ظاهرة على الناس ، ويفترق عنه بالوحي فهو لا يُوحى إليه ، وأن الأرض لا تخلو من حجة منذ خلق الله تعالى آدم ، وأن الأئمة من آل البيت هم ورثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأولاده وأفضل من خلّف بعده في أُمته ، وأنهم أولي الأمر الذين فرض الله طاعتهم على خلقه باعتبارهم قادة الرسالة المعصومين ، وأن ولاء

__________________

(١) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٦.

(٢) التوحيد : ٣٥٦ / ٣.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٣٤.

(٤) تحف العقول : ٤١٢.

١٥٨

جميع الخلائق يجب أن يكون لهم ، وأن لهم حقوقاً جعلها الله لهم واجبة في أعناق من يدينون لهم بالولاء منها الخمس والمودة ، وأن منهم القائم الذي يطهر الأرض من أعداء الله ، وله غيبة يطول أمدها ، يرتدّ فيها أقوام ويثبت فيها آخرون ، وإنما هي ابتلاء من الله عزّ وجلّ ابتلى بها خلقه ، حتى يظهر ويملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً ، وهو الخامس من ولد الإمام الكاظم عليه‌السلام ، والثاني عشر من أهل البيت المعصومين عليهم‌السلام.

وكان لأصحاب الإمام الكاظم عليه‌السلام دور فاعل في التدليل على فكرة الإمامة وأطروحتها ، وذلك من خلال مناظراتهم واحتجاجاتهم مع أصحاب المذاهب والفرق الإسلامية ، كهشام بن سالم الجواليقي ، ومحمد بن علي بن النعمان المعروف بمؤمن الطاق ، وهشام بن الحكم ، وكان ممن فتق الكلام في الإمامة ، حاذقاً بصناعة الكلام ، وغير هؤلاء كثير ، الأمر الذي أدى إلى انتشار فكر أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وذيوع منهجهم بين المسلمين بفضل براهينهم الساطعة ومناظراتهم التي تميزت بقوة الحجة وسرعة البديهة والجرأة ، وفيما يلي نذكر أهم كلمات الإمام عليه‌السلام في هذا الإطار :

الحجّة الظاهرة :

قال الإمام الكاظم عليه‌السلام في وصيته لهشام بن الحكم : « يا هشام ، إن لله على الناس حجتين : حجة ظاهرة ، وحجة باطنة. فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة عليهم‌السلام ، وأما الباطنة فالعقول » (١).

لا تخلو الأرض من حجّة :

عن صفوان بن يحيى ، عن أبي الحسن الأول عليه‌السلام ، قال : « ما ترك الله

__________________

(١) الكافي ١ : ١٠ ـ ١٥ / ١٢ ، تحف العقول : ٣٨٣ ـ ٤٠٢.

١٥٩

عزّوجلّ الأرض بغير إمام قطّ منذ قبض آدم عليه‌السلام ، يهتدي به إلى الله عزّوجلّ ، وهو الحجة على العباد ، من تركه ضلّ ، ومن لزمه نجا حقّاً على الله عزّوجلّ » (١).

ولاية أهل البيت عليهم‌السلام :

عن عمرو بن سعيد ، قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن قوله : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (٢) ، قال : علي بن أبي طالب والأوصياء من بعده » (٣).

مودة أهل البيت عليهم‌السلام :

روى الخطيب البغدادي بالإسناد عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمد ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن جده : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ بيد حسن وحسين قال : من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة » (٤).

حقوق أهل البيت عليهم‌السلام :

عن التلعكبري ، بإسناده عن الكاظم عليه‌السلام ، قال : « قال لي هارون : أتقولون : إن الخمس لكم ؟ قلت : نعم. قال : إنه لكثير. قال : قلت : إن الذي أعطاناه علم أنه لنا غير كثير » (٥).

الغيبة :

عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، قال : « إذا فقد

__________________

(١) إكمال الدين / الشيخ الصدوق : ٢٢٠ / ٢.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٥٩.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٢٥٣ / ١٧٦.

(٤) تاريخ بغداد ١٣ : ٢٨٩.

(٥) بحار الأنوار ٤٨ : ١٥٨ / ٣٣.

١٦٠