أضواء وآراء - ج ٣

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

أضواء وآراء - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2730-75-9
ISBN الدورة:
978-964-2730-72-8

الصفحات: ٥٠٢

رقبة واحدة بلا أخذ الارتباط أو التقيّد بين الجزئين أصلاً ، وصدق القضيتين كذلك اختياري للمكلف ومقدور ، وذلك بتطبيق ذلك الزمان على زمان يكون نهاراً وعلى رقبة تكون مؤمنة ، وهذا اختياري في الواجب البدلي كما هو واضح ، فيجري استصحاب بقاء النهار أو نهارية هذا الزمان لاحراز تحقق القضية الثانية ، كما أنّ صدق القضية الاولى وهي الصلاة في آن أو عتق رقبة وجداني ، فلا محذور في البين أصلاً. ولعمري هذا واضح لا أدري كيف غفل عنه في حينه ، والله الهادي للصواب.

ثمّ إنّ ما ذكره السيد الخوئي قدس‌سره في الشبهة الحكمية كان المناسب التعرّض له ، فإنّ له مناسبة ببحث استصحاب الزمان.

وحاصله : انّه تارة تكون الشبهة حكمية مفهومية كما إذا شككنا في أنّ النهار حدّه سقوط القرص أو ذهاب الحمرة المشرقية ، واخرى تكون الشبهة حكمية غير مفهومية.

وقد ذكر في النوع الأوّل عدم جريان الاستصحاب الموضوعي ـ وهو صحيح ـ ولا الحكمي لكونه من الشبهة المصداقية لدليل لا تنتقض ، لأنّ النهار إذا كان إلى سقوط القرص فقد تبدل الموضوع.

وهذا الاشكال قد أجبنا عليه سابقاً من أنّ أخذ قيد في المفهوم لا يستلزم كونه حيثية تقييدية لما هو موضوع الحكم المتيقن سابقاً. فلا فرق بين الشبهتين الحكميتين من حيث جريان الاستصحاب الحكمي فيهما إذا كان الحكم له حالة سابقة ولم يكن الزمان مفرداً وكل آن منه قيداً مستقلاًّ ـ كما تقدم في الكتاب ـ.

٣٠١

ثمّ ذكر السيد الخوئي فرعين آخرين :

أحدهما : ما إذا احتملنا تحقق وجوب آخر بعد زمان الوجوب الأوّل ، ونقل عن الميرزا عدم جريان استصحاب العدم فيه ؛ لأنّه من العدم الأزلي.

وجوابه : انّه ليس عدماً أزلياً ، بل هو ثابت قبل ذلك الزمان ، ومجرّد كون متعلقه مقيداً بالزمان الثاني لا يجعله موضوعاً ، بل يمكن أن يكون ظرفاً للفعل في ذلك الزمان ، وهذا واضح.

الثاني : ما إذا احتملنا تعدد المطلوب في الواجب المقيّد بالزمان كالصلاة في النهار وقال انّه يجري فيه استصحاب كلي الوجوب من القسم الثاني ؛ لأنّ ذات الفعلي يعلم بوجوبه في الوقت ، إمّا ضمناً ـ على فرض وحدة المطلوب ـ أو استقلالاً ـ على فرض تعدد المطلوب ـ فيجري استصحاب أصل الوجوب بعد الوقت ويثبت تبعية القضاء للأداء ، خلافاً للمشهور والمتبع في الفقه.

وهذا الكلام صحيح إذا قبلنا الاستصحاب في القسم الثاني في الأحكام التكليفية. وقد تقدّم منّا الاشكال فيه حتى في مثل المقام ، خلافاً للسيد الشهيد قدس‌سره ، فتدبر.

ص ٢٨١ قوله : ( المقام الأوّل ... ).

كأنّ المشهور جريان الاستصحاب التعليقي في الشبهة الحكمية وانّ كل حيثية يشك في دخلها في الحكم بقاءً بعد الفراغ عن دخلها حدوثاً ينفى دخلها بالتعبد الاستصحابي سواءً كان الحكم الثابت في مرحلة الحدوث مطلقاً أي غير مقيد وغير مشروط بشرط كنجاسة وحرمة الماء المتغيّر أو منوطاً بشرط كحرمة العصير العنبي إذا غلى ، فكما إذا شك في دخل فعلية التغير في الحكم نتعبد

٣٠٢

بدليل الاستصحاب ظاهراً ببقاء الحرمة بعد زوال التغيّر وهو من الاستصحاب التنجيزي الذي لا اشكال فيه كذلك نتعبد بالاستصحاب ببقاء الحرمة المعلّقة على الغليان بعد زوال وصف العنبية وجفاف العنب من دون فرق لأنّ للمعلق نحو ثبوت أيضاً.

وهناك من فصّل بين أن يكون المجعول في لسان الخطاب الحرمة على العنب المغلي وما إذا كان لسان الخطاب العنب إذا غلى حرم فحكم بجريان الاستصحاب التعليقي في الثاني دون الأوّل إذ التعليق غير شرعي فيه بل منتزع عقلاً.

والميرزا قدس‌سره ناقش في جريانه في الموردين امّا إذا كانت الحرمة على المغلي فلأنّ التعليق انتزاع عقلي وامّا إذا كانت الحرمة على العنب إذا غلى فلأنّ المستصحب إن كان هو الجعل بنحو القضية الحقيقية فلا شك فيه بقاءً ، إلاّ إذا شك في نسخه وهو خارج عن الاستصحاب التعليقي وإن كان هو المجعول الفعلي فلا فعلية للحكم قبل فعلية موضوعه بتمام قيوده وقيود الحكم لكي يكون هناك يقين بالحدوث ، فإن قيد الحكم كالموضوع بل راجع إليه من هذه الناحية فأركان الاستصحاب غير تامة في الاستصحاب التعليقي.

وقد اسيىء فهم كلامه قدس‌سره فتصور انّه يجعل مبنى الاشكال رجوع قيود الحكم إلى قيود الموضوع فعلى القول به لا يجري الاستصحاب التعليقي ، وعلى القول بعدم رجوع قيد الحكم إلى الموضوع يجري الاستصحاب.

فاعترض عليه بأنّه لو اريد ارجاع قيود الحكم إلى الموضوع بحسب عالم الملاكات وانّه لا فرق بينهما لباً وثبوتاً من حيث انّ كلها من مقتضيات الحكم

٣٠٣

فليس الميزان في جريان الاستصحاب بعالم الملاكات والمقتضيات بل بالقضية الشرعية المجعولة وإن اريد رجوعها إلى الموضوع بحسب مفاد الدليل والقضية الشرعية فمن الواضح الفرق بين قولنا : العنب المغلي حرام والعنب إذا غلى حرم من حيث رجوع القيد في الثاني في مرحلة الاثبات والخطاب إلى الحكم لا الموضوع.

وهذا الاعتراض ناتج عن الخلط بين الموضوع بمعنى ما يكون معروضاً للحكم والموضوع بمعنى ما يكون مقدر الوجود وتكون فعلية الحكم والمجعول متوطأ بفعليته ، فإنّ الموضوع بالمعنى الأوّل يفهمه الميرزا قدس‌سره ولا يرجع قيود الحكم إليه ، كيف وهو المصرّح بذلك في بحث الواجب المشروط والمطلق برجوع القيد إلى الحكم والوجوب ، وكذلك في بحث المفاهيم ، وإنّما يريد بالموضوع هنا المعنى الثاني ، أي ما يكون فعلية الحكم متوقفاً على فعليته فيقول انّ قيد الحكم كالموضوع ـ بمعنى المعروض ـ من حيث انّ فعلية المجعول منوطة بفعليته بحيث لا فعلية للحكم قبل فعليته لأنّ وجه هذه الاناطة أخذ القيد مقدر الوجود في مقام جعل القضية الحقيقية ؛ لأنّ الأحكام ليست مجعولة على نهج القضايا الخارجية لكي يتصور جعل مطلق فيستصحب مثلاً ، وإنّما هناك جعل واحد بنحو القضية الحقيقية الكلية في صدر الشريعة ، وتمام القيود المأخوذة في الحكم أو في الموضوع كنفس الموضوع ـ بمعنى المعروض ـ تؤخذ في تلك القضية مقدرة الوجود لجعل الحكم عليها ، وفي فرض وجودها وتحققها ، فكما لا مجعول شرعي فعلي قبل تحقق الموضوع بمعنى المعروض لكي يستصحب ، كذلك لا مجعول ولا يقين سابق بالحكم بمعنى المجعول الفعلي قبل تحقق قيود الحكم.

٣٠٤

وأمّا الملازمة أو القضية الشرطية فإن اريد بها الجعل والقضية الحقيقية فلا شك فيها ، وإن اريد الملازمة والسببية بين تحقق الشرط وتحقق الجزاء فهي منتزعة وعقلية وليست موضوعاً للتنجيز والتعذير حتى إذا كانت شرعية.

وبهذا البيان عرف الخلط في البيان المتقدم لكلام الميرزا قدس‌سره الذي ورد في كلمات تلامذته حتى مثل السيد الخوئي قدس‌سره على ما في تقريرات بحثه ، فليس الميرزا قدس‌سره ناظراً إلى مقام الثبوت بمعنى الملاكات كما في المستمسك ، بل إلى مقام الثبوت بمعنى الجعل والقضية الشرعية ، ولكن لا يراد بالموضوع المعروض للحكم كما لا يراد مقام الاثبات والدلالة فإنّها أجنبية عن مصب الاستصحاب أصلاً بل يراد مقام الثبوت والقضية المجعولة ، ويراد بالموضوع كل ما يتوقف فعلية الحكم على فعليته لكونه مأخوذاً مقدر الوجود ، ومنه شروط الحكم كما ليس النظر إلى رجوع القيد إلى الحكم دون الموضوع ، وانّ الثابت للموضوع لو كان الحصة المقيدة من الحكم جرى استصحابه التعليقي كما في مصباح الاصول ، إذ لا فعلية للحكم حتى إذا كان الثابت للموضوع الحكم المقيّد لأنّ قيده مأخوذ مفروض الوجود بحسب الفرض.

كما أنّه ليس المقصود بيان انّ الأحكام منجعلة بالأسباب الشرعية بجعل السببية لها ، بل هي مجعولات من قبل المولى على الموضوعات المقدرة كما في فوائد الاصول ، فإنّ هذا أيضاً لا حاجة إليه فإنّ كون الحكم مجعولاً من قبل المولى لا شك فيه وإنّما الكلام في كيفية فعليته ، فإذا لم يكن قيد الحكم كالموضوع مقدر الوجود فالفعلية ثابتة وإن كانت الأحكام مجعولات المولى لا السببية وإن كان مقدر الوجود لم يجر الاستصحاب ، حتى إذا جعلت السببية الشرعية لأنّها ليست منجزة وإنّما المنجز المسبَّب والحكم ـ كما في الكتاب ـ.

٣٠٥

ص ٢٨٤ قوله : ( فإنّه مضافاً إلى ما ذكرنا ... ).

حاصل الكلام : انّه لا يرد اشكال الحاشية لأنّ السببية تكون مجعولة فتستصحب إلاّ انّه يرد عندئذٍ اشكال آخر هو انّ السببية وإن كانت مجعولة أصالة شرعاً إلاّ انّ المنجز هو المسبب لا السببية حتى إذا كانت مجعولة وترتب المسبّب على السببية الشرعية عقلية وبالملازمة أو لا ملازمة أصلاً ، فالقول بأنّ المجعول هو السببية أيضاً لا ينفع.

وأضاف في أجود التقريرات اشكالاً آخر حاصله : أنّه لو اريد جعل كبرى السببية فلا شك في بقائها وإن اريد السببية الفعلية فهو فرع تحقق تمام قيود الموضوع ومنها الغليان.

وهذا الشق إنّما يكون أمراً آخر غير الملازمة إذا اريد بها السببية الفعلية أي الترتب الفعلي للمسبب على السبب ، إلاّ أنّ هذا عبارة اخرى عن استصحاب المسبب والمجعول.

فالصحيح في تقرير كلام الميرزا قدس‌سره جعل التشقيق ثلاثياً والاشكال على كل قسم بما ذكرناه.

ثمّ إنّ برهان الميرزا لا يختلف جريانه وصحته بين القول بكون الاستصحاب في الشبهة الحكمية يجريه المجتهد في المجعول الكلي بفرض تحقق موضوعه أو يجريه المقلد عند تحقق موضوعه في حقه خارجاً ، والمجتهد يفتيه بجريان الاستصحاب والذي يكون المستصحب فيه المجعول الجزئي ، فإنّه كما لا تحقق للمجعول الفعلي الجزئي في الثاني كذلك لا تحقق للمجعول الكلي في نظر المجتهد بفرض العنبية ما لم يفرض تحقق الغليان كما هو واضح ، فما عن

٣٠٦

العراقي قدس‌سره من النقض بجريان الاستصحاب التنجيزي من قبل المجتهد قبل تحقق الموضوع في الخارج وانّ المجعول فعلي بفعلية الجعل وقع فيه خلط واضح ، فإنّ المجعول الكلي وإن كان فعلياً بفعلية الجعل إلاّ أنّه إنّما يفرض له الحدوث والبقاء لكي يستصحب فيما إذا لوحظ الجعل بالحمل الأولي ، ويفرض تحقق موضوعه بتمام قيوده ، ومنه الغليان ، وإلاّ فلا حدوث ولا بقاء.

ص ٢٨٦ قوله : ( ٣ ـ ما قد يستفاد من تعبيرات المحقق العراقي قدس‌سره ... ).

كأنّه يريد انّ العلم واليقين في موارد القضايا الشرطية التعليقية ليس مقيداً بواقع الشرط وإلاّ لم يكن يقين فعلاً ولا هو علم مطلق بالجزاء المقيد بالشرط إذ يلزم العلم بالقيد لأنّ العلم بالمقيد علم بقيده بل هو يقين مشروط ومقيد بفرض الشرط وتقديره وكذلك الشك في المقام فيكون في فرض الشرط له يقين سابق وشك لاحق فيجري الاستصحاب.

ص ٢٨٨ قوله : ( وتوضيح ذلك ... ).

خلاصة كلام السيد قدس‌سره : انّ الاعتراض بعدم وجود يقين سابق وشك لاحق يندفع بأنّ التقييدين إذا كانا طوليين كما في العنب إذا غلى حرم فيوجد يقين بحدوث وشك في البقاء لأنّه سوف يكون العنب وحده تمام الموضوع للحكم المعلق لأنّ تقييد الحكم بالغليان لم يؤخذ في عرضه بل في مرتبة أسبق منه ، ففي مرتبة موضوعية العنب لا يوجد قيد آخر ولا يكون تمام الموضوع إلاّنفس العنب للحكم المعلّق وبما انّ الزبيب بقاء للعنب بحسب الفرض فيشك في بقاء الحرمة المعلّقة التي هي قضية مجعولة شرعاً كالقضايا الحقيقية التنجيزية المجعولة شرعاً عند الشك فيها فتتم أركان الاستصحاب فيه.

٣٠٧

والاعتراض بعدم المنجزية إلاّللحكم بمعنى المجعول الفعلي يدفعه مضافاً إلى النقض بموارد استصحاب عدم النسخ ، انّ المنجز احراز الكبرى وهي القضية الحقيقية التي أنشأها المولى واحراز صغراها وهي كل القيود العرضية أو الطولية المأخوذة فيها والاستصحاب في المجعول الكلي يثبت توسعة الجعل بالحمل الأولي في القضية التنجيزية أو التعليقية على حدّ سواء ـ بعد أن كان اليقين بالحدوث ثابتاً فيهما معاً بالبيان المتقدم ـ فعند غليان الزبيب نكون قد أحرزنا الصغرى المركب من كون الزبيب بقاءً لذات العنب الذي كان هو الموضوع للقضية الحقيقية الام ببركة الاستصحاب ، وكونه قد غلى الذي هو القيد الطولي الثاني للحكم بالوجدان ، فتصبح الحرمة منجزة لا محالة ، فالتنجيز ليس للحكم الفعلي ليقال القضية التعليقية الصغرى ليست منجزة ، بل المنجز هو القضية الحقيقية الكبرى الام كلما احرز تحقق صغراها وشرطها ، وإنّما لا منجزية في فرض العنبية من دون الغليان لعدم احراز الصغرى وهو الغليان الذي هو القيد الطولي ، لا لأنّ الكبرى ليست منجزة ، فببركة جريان الاستصحاب واثبات التوسعة في الكبرى الام التي هي القضية المجعولة شرعاً نحرزها في حال الزبيبية كحال العنبية فتكون منجزة إذا احرزت صغراها.

وحاصل الجواب : انّه بحسب المدلول التصديقي الجدي يكون العنب جزء الموضوع للمجعول الشرعي سواء صيغ ذلك بالحملية أو الشرطية كان القيدان طوليين أو عرضيين ، وتوضيح ذلك :

انّ المدلول الجدي تارة : يراد به روح الحكم من الارادة والكراهة ، واخرى : يراد به عالم التقنين الاعتباري أي اعتبار الحرمة بناءً على ثبوت مثل هذا العالم.

٣٠٨

أمّا على الأوّل : فمن الواضح انّ الارادة والكراهة لا يعقل فيها التعليق تارة والإطلاق اخرى ، وإنّما القيود كلها ترجع إلى متعلقها كما حققناه في الواجب المشروط فتكون الكراهة متعلقة بالعصير العنبي المغلي لا محالة فلا حالة سابقة لها في العنب غير المغلي حتى بنظارة الحمل الأولي.

وأمّا على الثاني : فلأنّ كلاً من البيانين الحلّي والنقضي غير تام.

أمّا البيان الحلّي : فلأنّ احراز الجعل ( الكبرى ) والموضوع ( الصغرى ) وإن كان كافياً في التنجيز عقلاً ، بل هو المنجز دقةً وليس المجعول الفعلي في الخارج إلاّ أمراً وهمياً تصورياً ، إلاّ أنّ ما هو الجعل المنجز ليس هو القضية الحملية أو الشرطية ، وإنّما ثبوت محمولها الذي هو الأمر الاعتباري وهو الحكم والتكليف الذي يعتبره وينشئه المولى ، وأمّا الموضوع والنسبة والتعليق فكلها امور تكوينية أو انتزاعية عقلية ، ليست معتبرة ولا قابلة للتنجيز ـ كما تقدم ـ فلابد من اثبات سعة هذا الأمر الاعتباري وشموله للمكلف. وليس البحث في ألفاظ ما يسمّى بالجعل أو المجعول في اللغة والعرف ، بل في واقع ما ينشئه ويوجده المولى من الحكم والتكليف ، وهو الوجوب والحرمة ، فلابد من تطبيق اليقين السابق والشك اللاحق على هذا الأمر لكي يجري استصحابه وتوسعته ، وتوسعة القضية التعليقية ليس توسعة للحكم القابل للتنجيز.

نعم ، توسعته تستلزم توسعة الحرمة للزبيب المغلي ، إلاّ أنّه من الأصل المثبت ، فما فيه يقين سابق وهو القضية التعليقية ليس قابلاً للتنجيز ، وما يقبل التنجيز وهو ثبوت الحرمة للزبيب المغلي ليس به يقين سابق لكي يثبت بالاستصحاب.

٣٠٩

وكفاية احراز القضية التعليقية في العنب لتنجيز حرمته إذا احرز الغليان والشرط ليس باعتبار منجزية القضية التعليقية وكفايتها ، بل باعتبار ما يتولد منه من احراز الحكم الكلي بحرمة العنب المغلي ، وأنّ الشارع قد اعتبر وجعل الحرمة على العنب المغلي ، فهذا هو الكبرى والجعل المنجز عقلاً لا القضية التعليقية.

وإن شئت قلت : انّ التعليق أو الطولية في أخذ قيود التكليف بعضها بالنسبة للبعض الآخر كلها راجعة إلى عالم الصياغة أو التعبير ، ولا ربط لها بالمعتبر والمجعول الشرعي الذي هو الوجوب والحرمة المنجزين عقلاً ، سواء كان قالب جعلهما ملاحظة كل قيود موضوعه في عرض واحد وجعلهما على هذا التقدير أو ملاحظتها بنحو طولي وجعل الحرمة أو الوجوب في طول فرض تحقق تقديرين طوليين ، وهذا لعمري واضح جداً.

وما يترائى من أنّ إحراز نفس القضية التعليقية المجعولة في القضية الكبرى شرعاً كاف في التنجيز ، فيه مسامحة واضحة ، فإنّ المنجز بالدقة ما يتولد منها من ثبوت الحرمة وشمولها للموضوع بعد تحقق المعلّق عليه ، وأنّه الذي يريده المولى أو ينهى عنه ، فهذا هو المجعول الشرعي المنجز بالدقة ، وهو لباب مطلب الميرزا قدس‌سره الحق.

نعم ، لو فرض ورود تعبير في روايات الاستصحاب يقتضي النظر إلى عالم الصياغات في أدلّة الأحكام الشرعية فقد يستفاد منها من باب دلالة الاقتضاء التعبّد الاستصحابي ببقاء القضية التعليقية لاثبات القضية التنجيزية ، إلاّ أنّه مجرد فرض.

٣١٠

وأمّا النقض : باستصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل فليس المستصحب فيه القضية التعليقية أو الحقيقية ، بل المستصحب بقاء محمولها على موضوعها الكلي ، وهو من استصحاب الحكم التنجيزي لا التعليقي ، أمّا بناءً على أنّ النسخ تخصيص أزماني فواضح ، حيث انّه يرجع إلى الشك في سعة المجعول الكلي على موضوعه بلحاظ عمود الزمان ، فلا ارتفاع للجعل أصلاً لكي يستصحب ، وإنّما المستصحب المجعول الكلي على موضوعه الكلي المتحد عرفاً في الزمانين.

وأمّا على القول بأنّه رفع للجعل حقيقة بأن يكون المجعول شاملاً للفعل في الزمان الثاني من أوّل الأمر حقيقة ، وإنّما يلغيه الشارع بقاءً ـ كما في نسخ القوانين العرفية ـ فأيضاً كذلك ، فإنّ ما يرتفع بالنسخ هو المجعول أيضاً فيكون المستصحب بقاء التكليف والحكم على الموضوع في الزمان الثاني ، كما كان من أوّل الأمر.

ص ٢٩٠ قوله : ( الاتجاه الأوّل ـ ما ذكره صاحب الكفاية ... ).

يمكن تقريب هذا الاتجاه بأحد أنحاء :

١ ـ ما هو ظاهر الكفاية من أنّ الحلّية الثابتة سابقاً هي المغياة ، أي المعلقة على عدم الغليان ، وهي لا تنافي الحرمة المعلّقة على الغليان لاجتماعهما معاً في حال العنبية.

واجيب : بأنّ المستصحب ليست هي الحلّية المغياة المعلّقة ، بل الحلّية التنجيزية الثابتة قبل غليان الزبيب ، واستصحاب الحلّية المغياة لا تثبت ارتفاع الحلّية التنجيزية الفعلية قبل الغليان ، وهي تنافي الحرمة التعليقية.

٣١١

٢ ـ ما ذكره السيد الخوئي قدس‌سره في تطوير هذا الاتجاه من أنّ الحلّية التنجيزية مرددة بين الحلّية المتيقنة الثابتة في حال العنبية ، وهي يقطع بارتفاعها بالغليان وعدم بقائها بعده ، وبين حلّية اخرى تنجيزية يشك في أصل حدوثها ، والأصل عدمها لا ثبوتها.

وفيه : أنّ المستصحب جامع الحلّية التنجيزية الثابتة للزبيب قبل الغليان ، وهي مردّدة بين ما هو مقطوع البقاء على تقدير الثبوت ومقطوع الارتفاع ؛ لأنّ الزبيب إن كان كالعنب فحليته قبل الغليان مرتفعة ، وإن لم يكن كالعنب فحلّيته باقية بعد الغليان أيضاً.

وهذا من استصحاب الكلي من القسم الثاني لا الثالث ، واستصحاب عدم الحلية التنجيزية المقطوع بقائها على تقدير الحدوث ـ عدم الفرد الطويل ـ تقدم في استصحاب الكلي أنّه لا يمنع استصحاب الجامع والكلي المعلوم إجمالاً سابقاً ضمن أحد الفردين ، وكون الحلّية التنجيزية الثابتة زمان العنبية معلومة تفصيلاً لا يجعل المستصحب كلياً من القسم الثالث بعد فرض تبدله إلى علم إجمالي بعد الزبيبية أي تردّده بين احدى حلّيتين مقطوعة البقاء أو الارتفاع كما أشرنا.

فالعلم التفصيلي بالجامع ضمن فرد حال العنبية تبدل وتحوّل إلى العلم الإجمالي المردّد بين الفردين حال الزبيبية. نعم ، لو لم يكن يعلم باحدى الحلّيتين في حال الزبيبية كان من القسم الثالث ، ولكنه ليس كذلك.

٣ ـ ما هو الصحيح في تقريب روح مطلب المحقق الخراساني قدس‌سره من أنّ استصحاب الحلّية التنجيزية الثابتة قبل الغليان لا ينفي إلاّ الحرمة التنجيزية بعد

٣١٢

الغليان ، وحينئذٍ إذا قلنا أنّ المنجز إنّما هو الحرمة التنجيزية فقط لم يكن الاستصحاب التعليقي جارياً إلاّ إذا قيل باثبات الحرمة التنجيزية به ، فتتم وجه الحكومة ، وهو الاتجاه الثاني القادم.

وإذا قلنا بأنّ ثبوت الحرمة التعليقية كافٍ في التنجيز مع احراز شرطها ـ كما هو مختار السيد الشهيد قدس‌سره ـ فاستصحاب الحلّية التنجيزية لا ينفي هذه الحرمة ، ولا يمكن أن يؤمّن من ناحيتها بل غايته التأمين من ناحية الحرمة التنجيزية.

فالحاصل : لازم مبنى السيد الشهيد القول بأنّ المنجز هو الأعم من الحرمة التعليقية أو التنجيزية ـ بناءً على جريان الاستصحاب في المجعول الفعلي التنجيزي أيضاً ـ وكفاية اثبات احداهما في التنجيز ، وهذا نتيجته عدم كفاية استصحاب الحلّية التنجيزية ، والتي تساوق عدم الحرمة التنجيزية بالخصوص ، لا عدم الأعم منها ومن الحرمة التعليقية في التأمين ليكون معارضاً مع استصحاب الحرمة التعليقية.

وإن شئت قلت : انّ المؤمّن هو عدم كلتا الحرمتين ، وهذا لا حالة سابقة له ، بل الحالة السابقة ثبوت الحرمة التعليقية ، فلا موضوع للاستصحاب المؤمّن لكي يكون معارضاً مع الاستصحاب التعليقي المنجز.

ص ٢٩١ قوله : ( الاتجاه الثاني ـ ما ذكره الشيخ ... ).

أورد عليه السيد الخوئي قدس‌سره بايرادين كلاهما قابل للدفع :

١ ـ في المقام مشكوك واحد وشك واحد ، وهو الشك في حرمة أو حلّية العصير الزبيبي المغلي ؛ ولهذا المشكوك الواحد حالتان سابقتان حرمة تعليقية

٣١٣

وحلّية تنجيزية ، فيكون بينهما تعارض كالاستصحابين في مورد توارد الحالتين ، فليس المقام بابه باب الشك السببي والمسببي ـ كالثوب المغسول بالماء المشكوك طهارته ـ لأنّه إنّما يعقل فيما إذا كان هناك شكّان ومشكوكان ، والحلّية والحرمة هنا طرفان لشك ومشكوك واحد.

وفيه : انّ مبنى جريان الاستصحاب التعليقي لم يكن كذلك ، بل مبناه استصحاب الحكم التعليقي والحرمة المعلّقة ، وهي غير الحرمة التنجيزية ، فالحرمة التنجيزية مع الحلّية التنجيزية شك ومشكوك واحد ، إلاّ أنّها مع الحرمة التعليقية شكان ومشكوكان ، والمفروض أنّ استصحاب الحرمة التعليقية تثبت به الحرمة التنجيزية أو يكفي للتنجيز ، ففي المقام أيضاً يوجد شكان ومشكوكان.

٢ ـ انّ مطلق السببية لا تكفي للحكومة ، بل لابد وأن تكون السببية شرعية ، أي حكم وموضوع وليس المقام منه ، فيكون أصلاً مثبتاً.

وفيه : انّ هذا رجوع إلى أصل اشكال الميرزا في المقام الأوّل ، والمفروض في هذا المقام التنزل والفراغ عنه ، بمعنى أنّه لابد من افتراض أنّ استصحاب الحرمة التعليقية يثبت الحرمة التنجيزية ـ والتي هي المنجزة عند المشهور ـ امّا لكون الترتب شرعياً أو لجعل الحكم المماثل وكون اللازم للأعم من الواقع والظاهر ، أو لكون الواسطة خفية أو غير ذلك ، فإذا افترض أحد هذه الامور كانت النتيجة الحكومة لثبوت الحرمة التنجيزية وارتفاع الشك في الحلّية التنجيزية دون العكس ، حيث انّ ثبوت الحلّية التنجيزية لا يثبت انتفاء القضية والحرمة التعليقية.

وهذا هو مبنى المشهور في تقدم الأصل السببي الشرعي أي الموضوعي على

٣١٤

الأصل المسببي أي الحكمي ، حيث انّ الأصل في الموضوع يثبت الحكم دون العكس.

نعم ، بناءً على مبنى كفاية اثبات نفس القضية التعليقية للتنجيز بلا حاجة إلى اثبات الحرمة التنجيزية لا تتم الحكومة ، ولكنه يتم البيان والاتجاه الأوّل المتقدم. فعلى كل من المبنيين يتم أحد الاتجاهين في الجواب ، فتأمل جيداً.

ص ٢٩٢ قوله : ( والتحقيق في الاجابة على هذا الاعتراض ... ).

تقدم انّه لا نحتاج إلى هذا البيان المشتمل على مصادرة زائدة بل وجه عدم جريان استصحاب الحلية هو أنّ أركان الاستصحاب غير تامة فيها ؛ إذ كما انّ الجعل قد جعل فيه العنب تمام الموضوع للحرمة المعلقة أصبحت الحلية المجعولة له في حال عدم الغليان حلية مغياة أيضاً ، فلو اريد استصحاب الحلية المجعولة فهي مغياة وإن اريد استصحاب عدم الحرمة الثابتة قبل الغليان ـ كما هو الصحيح ؛ لأنّ التأمين يكفي فيه عدم الحرمة ـ فإن اريد به عدم مطلق الحرمة حتى المعلقة فهو خلف الفرض ، وإن اريد به عدم الحرمة التنجيزية فقد تقدم كفاية ثبوت الحرمة التعليقية في التنجيز. وهذا الجواب يتم هنا وفيما يأتي من اشكال المعارضة في استصحاب عدم النسخ فانتظر.

بل المتعيّن هذا الجواب.

وأمّا ما ذكره السيد الشهيد بعنوان التحقيق ، فغير تام في المقام ، حتى إذا تمّ في مثال التدريس والحالات السابقة المركّبة ؛ لأنّنا هنا نحتمل بحسب الفرض تبدل الحكم بجفاف العنب وصيرورة حلّيته مطلقة لا مغياة ، فيجري استصحاب الحلّية التنجيزية ـ مع قطع النظر عن الاشكال المذكور عليه في

٣١٥

بياننا ـ ولا وجه للمنع عن جريانه مع تبدل العنوان وكون الشبهة حكمية ، فإنّ تلك النكتة لا تتم في موارد طروّ ما يوجب احتمال تغيّر الحالة السابقة كبروياً ، فإنّه إذا كان من جهة أنّ اثبات الحرمة بنحو القضية التعليقية حاكم على الحلّية المنجزة فهذا خلف فرض المثبتة. وإن كان من جهة أنّ النظر إلى الجعل ينافي النظر إلى المجعول الفعلي من الحرمة والحلّية التنجيزيين فهو بلا موجب بعد فرض قبول جريان الاستصحاب في المجعول التنجيزي الفعلي ـ كما هو محقق في محلّه في بحث جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية ـ وإن كان من جهة القياس بموارد الحالة السابقة المكرّرة والمركّبة فمن الواضح أنّ ذلك لا يجري في المقام ، والذي لا تكرر فيه للحالة السابقة ، وإنّما يكون منشأ الشك تبدل حيثية وخصوصية أوجب الشك في كل من القضيتين التعليقية والتنجيزية على حد سواء ، بل هو شك واحد في مشكوكين لكل منهما حالة سابقة معاكسة مع ما للُاخرى ، فلا وجه لتقديم احداهما على الاخرى إلاّبما ذكرناه من منع جريان استصحاب الحلّية التنجيزية ـ بناء على ما هو الصحيح من كفاية اثبات القضية التعليقية في المنجزية ـ أو الحكومة ـ بناءً على مسلك الميرزا قدس‌سره ـ.

ص ٢٩٦ قوله : ( وثالثاً ـ انّ استصحاب بقاء الحكم ... ).

هذا هو التعارض المتقدم في المقام الثاني من الاستصحاب التعليقي ، وهو لا يرد على استصحاب بقاء الحكم التنجيزي في الشبهات الحكمية الاخرى غير الشك في النسخ رغم انّ الشك في النسخ رجع اليها موضوعاً وحكماً ، لأنّ الحالة السابقة للماء المتغير قبل زوال تغيره مثلاً هو النجاسة لا عدمها بخلاف المقام فإنّه كالاستصحاب التعليقي في الشبهات الحكمية الاخرى.

٣١٦

والجواب عليه بما ذكرناه هناك أيضاً من انّ استصحاب عدم الوجوب الفعلي مثلاً للجمعة قبل الزوال إن اريد به نفي سعة الكبرى والمستصحب وهو وجوب الجمعة على طبيعي المكلف في ظهر كل يوم جمعة فهو من الأصل المثبت وإن اريد به نفي التنجيز واثبات التأمين بمجرده فهو لا يكفي لذلك لكفاية احراز الكبرى للمجعول الكلي مع صغراها للتنجيز ، بل قد عرفت عدم وجود شيء باسم الحكم الفعلي ، وقد أفاد السيد الشهيد قدس‌سره بنفسه هذا الجواب في ص ١٤٩ فراجع.

ص ٢٩٧ قوله : ( أوّلاً ـ المناقشة ... ).

هذا الايراد أيضاً لا يرد هنا إذ لو اريد استصحاب عدم المجعول الثابت بلحاظ ما قبل الزوال فإن اريد منه استصحاب عدم المجعول الملحوظ بالحمل الأولي ـ كما هو كذلك في الشبهات الحكمية ـ فالمفروض القطع بسعة المجعول وإنّما الشك في الغاء نفس الجعل والاعتبار ، وإن اريد عدم المجعول الجزئي الفعلي فالمفروض انّه لا حقيقة له وليس هو المنجز بل المنجز احراز كبرى الجعل مع صغراه.

ص ٢٩٧ قوله : ( والجواب : انا بعد أن فرضنا وجود اعتبار عقلائي ... ).

يمكن أن يورد على استصحاب بقاء الجعل أي نفس الجعل الذي هو أمر اعتباري وعدم نسخه الحقيقي بعد فرض امكانه بلحاظ هذا العالم حتى في حق الشارع بوجوه اخرى :

أحدها : ما في هامش الكتاب أوّلاً من انّ المنجز روح الحكم لا الأمر الاعتباري.

٣١٧

وجوابه ما في الهامش أيضاً ، فإنّ العرف والعقلاء بعد أن كانت طريقتهم وديدنهم وارتكازهم على التعامل مع الاعتباريات المولوية والتي له حدوث وبقاء اعتباري معاملة روح الحكم فدليل الاستصحاب محمول على ذلك لا محالة.

الثاني : ما هو مذكور في الهامش ثانياً من دعوى المعارضة مع استصحاب عدم الجعل الزائد ، وهذا هو اشكال المعارضة في سائر الشبهات الحكمية.

وفيه : أوّلاً ـ انّ هذا لا يتم إذا كان الحكم المشكوك نسخه المراد استصحابه ترخيصياً لا الزامياً كما لا يخفى وجهه. إلاّ أنّ هذا جواب عام لا يختصّ بالمقام جارٍ في أصل شبهة التعارض.

وثانياً ـ لا يتم حتى في الحكم الالزامي ، إذ لو اريد استصحاب عدم الجعل الزائد بلحاظ عالم الاعتبار فالمفروض العلم بثبوته حدوثاً بناءً على هذا التفسير للنسخ ، وإنّما الشك في رفعه والغائه ، وإن اريد استصحاب عدم الجعل الزائد بلحاظ عالم روح الحكم أي عدم الارادة الزائدة فهذا الاستصحاب بعد فرض انّ الحكم بمعنى الاعتبار أيضاً احرازه موضوع للتنجيز لا يجدي في التأمين من ناحية احتمال بقاء الجعل ما لم نثبت به عدم بقاء الجعل وهو من الأصل المثبت.

وهذا بخلاف شبهة التعارض الجاري فيها الاستصحاب في مركز واحد من الارادة أو من الجعل والاعتبار.

الثالث : انّ استصحاب بقاء نفس الجعل بمعنى الاعتبار منافٍ لما قدمناه في دفع شبهة المعارضة في سائر الشبهات الحكمية من انّ العرف يطبق دليل الاستصحاب على الجعل بلحاظ الحمل الأولي له لا الحمل الشائع ، وانّ هناك

٣١٨

تهافتاً في لحاظ الجعل تارة بالحمل الأولي وتطبيق دليل الاستصحاب عليه لاثبات بقاء مجعوله ، واخرى بالحمل الشائع لنفي الجعل الزائد.

والجواب : انّ المراد من الجعل بالحمل الشائع نفس الانشاء والايجاد للمجعول ، فالمجعول الزائد إذ لوحظ بما هو خارجي ـ أي الحمل الأولي ـ فهو بقاء للمجعول المتيقن ، وإذا لوحظ بما هو أمر انشائي لابد من ايجاده بالانشاء ، فأمره دائر بين الأقل والأكثر ، أي يشك في حدوث انشائه وايجاده الاعتباري ، وقد ذكرنا هناك انّ المجعول لا ينظر إليه بالنظر الثاني بل بالأوّل ، وهذا لا ينافي جريان الاستصحاب في بقاء نفس المجعول بما هو أمر اعتباري كما في استصحاب عدم النسخ ، فإنّه كاستصحاب عدم جعل حكم يشك في أصل جعله يكون المستصحب فيه المجعول الكلي المنظور إليه بالحمل الأولي لا الشائع ، فإنّ الحدوث والبقاء يضافان إلى المجعول الكلي بالحمل الأولي أيضاً كما يضافان إلى انشائه وايجاده الاعتباري ، فالمستصحب بقاؤه في المقام وعدمه في موارد الشك في أصل الجعل إنّما هو الجعل الملحوظ بالحمل الأولي أيضاً.

إلاّ أنّ الصحيح ورود الاشكال الثاني من هذه الاشكالات الثلاثة ، بتقريب آخر ، حاصله : أنّ الاعتبار وإن كان منجزاً كالارادة وروح الحكم ، إلاّ أنّ المنجز هو الاعتبار الذي تكون ورائه ارادة لا محض اعتبار ، فإنّه ليس موضوعاً لحكم العقل والعقلاء بالتنجيز ، ومع احتمال النسخ بالمعنى المذكور وإن كان يحرز جعل الحكم على المكلفين في الزمان الثاني من أوّل الأمر ، ويكون له حدوث وبقاء اعتباري عقلائياً ، ولكنه لا يحرز انّ ورائه ارادة لاستحالة نسخ الارادة في حق الشارع ، فلا يكون اليقين السابق بالجعل للزمن الثاني يقيناً بجعل منجز لكي يجري استصحاب بقائه عند احتمال نسخه.

٣١٩

ودعوى : ظهور الخطاب في ثبوت الارادة وراء الجعل والاعتبار بتمام قطعاته ، فبذلك يحرز وجود الارادة حدوثاً بلحاظ الزمان الثاني أيضاً.

مدفوعة : بأنّ هذا الظهور لو فرض كان بنفسه دليلاً على عدم النسخ حتى بالمعنى المذكور ؛ لأنّ لازم فعلية الارادة بلحاظ الزمان الثاني عدم نسخ الجعل أيضاً.

ومنه يعلم أنّ ما في الكتاب من عدم امكان نفي النسخ بالمعنى الثاني باطلاق الدليل الاجتهادي على الحكم غير سديد ، بل لو فرض الإطلاق فيه بلحاظ الزمن الثاني فظاهره إطلاق المبادىء وروح الحكم أيضاً في مورد الجعل ، وهذا الظهور لازمه امتناع النسخ للحكم بهذا المعنى ؛ لأنّ هذا المعنى للنسخ يلازم انتفاء روح الحكم بلحاظ الزمان الثاني من أوّل الأمر ، فإذا كان للخطاب بلحاظ الزمان الثاني ظهور في فعلية مباديه وروحه في ذلك الزمان أيضاً كان لازمه انتفاء النسخ حتى بهذا المعنى ، ففرض الشك في النسخ بهذا المعنى من دون امكان رفعه بالدليل الاجتهادي هو فرض عدم ظهور دليل الخطاب إلاّفي إطلاق الجعل لا مباديه بلحاظ الزمان الثاني.

وهذا بنفسه نقطة ضعف في هذا المعنى للنسخ أيضاً ؛ لأنّ الظهور الذي ذكرناه موجود في الخطابات ولا يمكن انكاره.

نعم ، لو قلنا بكفاية احتمال وجود الارادة وراء الجعل لمنجزيته عقلائياً وعدم لزوم احراز ذلك بمحرز كان الاستصحاب تام الأركان في الجعل ؛ لأنّ فعليته سابقاً محرزة واحتمال وجود الارادة ورائه موجود ؛ لعدم العلم بالنسخ فيجري استصحاب بقائه.

٣٢٠