أضواء وآراء - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

أضواء وآراء - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2730-74-2
ISBN الدورة:
978-964-2730-72-8

الصفحات: ٤٥٦

أصالة التخيير

ص ١٥٥ الهامش ...

الجواب عليه : انّ ما هو غير اختياري إنّما هو الطاعة لمجموع الاحتمالين احتمال الوجوب واحتمال الحرمة ، أي جمعاً لا بدلاً ، فإنّه كل واحد منهما بالخصوص يمكن في نفسه الاطاعة فيه ؛ ولهذا لو كان العقل مثلاً يحكم بترجيح الحرمة ودفع المفسدة على الوجوب وجلب المصلحة ، أو يفصل في البراءة العقلية بين الشبهة التحريمية والوجوبية ، كما يصنع الاخباري في البراءة الشرعية ، تعيّن الترك.

وهذا يعني انّ هناك مجرىً للبراءة العقلية أيضاً عن خصوصية كل منهما المحتملة لنفي تعين الطاعة فيه ويكون معنى التخيير جريان البراءة العقلية عن تعين الطاعة لكل من الخصوصيتين ولا محذور فيه وإنّما المحذور جريان الاحتياط وحق الطاعة في الخصوصيتين ، ومن هنا قلنا بالتزاحم بينهما في الاقتضاء بناءً على مسلك حق الطاعة ، فالتخيير العقلي بناءً على مسلك حق الطاعة مرجعه إلى حكم العقل بتساوي مقتضي حق الطاعة في كل من الخصوصيتين المحتملتين أعني الوجوب والحرمة وتزاحمهما في مقام التأثير وعدم الترجيح لأحدهما على الآخر بحكم العقل ، وهذا يمكن أن يصطلح عليه بأصالة التخيير العقلية.

وكذلك الحال على مبنى الميرزا من عدم جريان البراءة الشرعية ولا العقلية

٤٤١

في المقام فإنّه بالنتيجة ننتهي إلى عدم منجزية العلم ومنجزية الاحتمال في نفسه في كل طرف ولكنه مزاحم بالاحتمال في الطرف الآخر والعقل يحكم بالتخيير بينهما ما لم يكن أحدهما أقوى احتمالاً أو محتملاً.

وأمّا بناءً على مسلك البراءة العقلية فلا يوجد بالدقة أصالة التخيير العقلية وإنّما الموجود حكم العقل بعدم منجزية العلم بالالزام لاستحالة الطاعة والمنجزية فيه وحكمه بقبح العقاب على مخالفة كل من الخصوصيتين المحتملتين أعني الالزام بالفعل أو الالزام بالترك لو صادف المخالفة ، وهذا نتيجته التخيير لا أصالة التخيير.

لا يقال : بناءً على انّ قبح العقاب بمعنى عدم حق الطاعة والمولوية في موارد عدم البيان والشك فهذا موضوعه أن يكون الطاعة ممكناً في نفسها وهنا لا يمكن الطاعة في نفسها فلا موضوع لعدم حق الطاعة ولا لحق الطاعة.

فإنّه يقال : بالنسبة لكلٍ من الخصوصيتين تعييناً وفي نفسه الطاعة معقولة فيه وإنّما تكون مزاحمة بالطاعة في الاخرى ، فحق الطاعة في كل منهما في نفسه معقول وإنّما يسقط بالمزاحمة ، الذي هو معنى أصالة التخيير بناءً على مسلك حق الطاعة.

وامّا على مسلك البراءة فلا تصل النوبة إلى ذلك ؛ لأنّ البراءة تثبت عدم حق الطاعة في كل منهما في نفسه ، وقد ذكرنا انّه لا تزاحم بين البراءة العقلية عن الخصوصيتين ، فتدبر جيداً.

ثمّ انّه بناءً على القول بعدم جريان البراءة العقلية في أطراف العلم الإجمالي لكونه بياناً ـ كما عن صاحب الكفاية ـ لا للتعارض بينهما ـ كما عن السيد

٤٤٢

الخوئي ـ لا موضوع لجريان البراءة العقلية في المقام أيضاً ؛ لأنّ عدم امكان منجزية هذا العلم الإجمالي لا يضر بارتفاع موضوع البراءة العقلية ؛ لأنّها معلّقة على عدم العلم لا على عدم العلم المنجّز ، فتدبر جيداً.

ص ١٥٧ قوله : ( الوجه الرابع ـ المنع عن شمول أدلّة البراءة ... ).

ويمكن الجواب عليه : أوّلاً ـ انّ ظاهر رفع ما لا يعلمون هو التفسير الأوّل لا الثاني ، أي ارادة المشكوك بالذات لا بالعرض ؛ لأنّ الثاني يجعله تقديرياً ، أي إذا كان المشكوك بالعرض ثابتاً فيكون هناك رفع ظاهري ، وهذا قد تقدم من قبل السيد الشهيد انّه خلاف الظاهر ، فما لا يعلم موضوع للرفع الظاهري حقيقة ، كما انّ ما لا يطيقون وما اضطروا إليه موضوع حقيقة للرفع الواقعي ، ويدور الرفع مدار هذه العناوين ، لا مدار أمر آخر واقعي يكون ثابتاً على تقدير دون تقدير.

وثانياً ـ انّ الحكم المردد في الدوران بين المحذورين وإن كان واحداً كما في الدوران بين الوجوب والجواز أو الحرمة والاباحة ، إلاّ أنّ الرفع في المقام متعدد وفي موارد الشك في الالزام واحد ، والوجه فيه أنّ الرفع إنّما هو للحكم الالزامي لا الترخيصي ، فالالزام هو المرفوع ظاهراً ، فإذا كان مقابله الترخيص فليس إلاّ رفع واحد ، وإذا كان مقابله الزام آخر ـ كما في المقام ـ فهناك رفعان لا محالة ؛ لأنّ كلاً منهما على تقدير كونه واقعاً فهو مرفوع ، فهناك رفعان مشروطان ، ومفاد البراءة بناءً على هذا التفسير دائماً هو الرفع على تقدير أي المشروط في قبال وضعين لايجاب الاحتياط بلحاظ كل واحد منهما مستقلاًّ عن الآخر ، والمفروض انّ عدم امكان الجمع بين الوضعين لا يمنع عن امكان الرفعين كما تقدم في دفع الوجه الثاني المتقدم عن الميرزا قدس‌سره ، فهذا الوجه الرابع غير تام أيضاً. وهذا الجواب لعله أوضح مما سيأتي في شرح الهامش القادم.

٤٤٣

ص ١٥٨ قوله : ( هذا كله فيما إذا لم تفرض مزية ... ).

مع فرض المزية إذا قلنا بعلّية العلم الإجمالي للتنجيز بنحو يمنع عن جريان الأصل الشرعي أيضاً ، وقلنا بأنّ العلم المذكور ينجز الأقوى احتمالاً أي الموافقة الظنّية لم يكن فرق بين الأصل الشرعي أو العقلي ، فلا ينبغي جعل البحث مخصوصاً بالبراءة العقلية كما هو ظاهر الكتاب.

وينبغي طرح البحث كما يلي :

بناءً على عدم جريان البراءة في أطراف هذا العلم الإجمالي والانتهاء إلى أصالة التخيير العقلي لعدم تنجيز كل من الطرفين على الآخر فالنتيجة تنجز الأقوى احتمالاً أو محتملاً ، إلاّ إذا كان عدم جريان البراءة من جهة اللغوية لا من جهة الامتناع أو قصور المقتضي ، فإنّه عندئذٍ لا لغوية في جريانها عن الأقوى ، وبناءً على جريان البراءة في نفسه في الطرفين يجري ما في الكتاب من غير فرق بين البراءة العقلية أو الشرعية.

ص ١٥٨ الهامش.

وحاصل الاشكال الثاني في الهامش أنّ استظهار كون المرفوع ظاهراً هو المشكوك بالعرض لا بالذات لا يمنع عن جريان البراءة الشرعية في المقام ، فإنّ التكليف الذي يجري عنه البراءة الشرعية ليس هو جامع التكليف المعلوم ، فإنّه لا شك فيه وإنّما الذي يجري عنه البراءة هو الوجوب المحتمل والحرمة المحتملة ، فيقول المكلف إن كان الوجوب له مطابق في الواقع فهو مرفوع ، وكذلك إن كان احتمال الحرمة له مطابق ومشكوك بالعرض في الخارج فهو مرفوع ، كما هو الحال في موارد الشبهات البدوية ، غاية الأمر بناءً على أن

٤٤٤

يكون موضوع البراءة الشرعية المشكوك بالذات تجري البراءة الشرعية عن كل من الوجوب والحرمة ، جمعاً لتحقق موضوعها فيهما ، فتكون هناك براءتان فعليتان في الطرفين ، وكل منهما يقابل وضع ايجاب الاحتياط بلحاظه في نفسه ، ومع قطع النظر عن جعله لسائر التكاليف المحتملة.

وأمّا بناءً على التفسير الثاني ، حيث انّ المرفوع هو المشكوك بالعرض لا بالذات ، أي الواقع ، ويعلم بعدم تحقق أكثر من واقع واحد في المقام ، لهذا يحرز جريان البراءة والرفع الظاهري في أحدهما بدلاً لا جمعاً ؛ إذ يعلم بتحقق أحد المشكوكين واقعاً وعدم الآخر ، فموضوع البراءة والرفع الظاهري في أحد الطرفين يكون ثابتاً.

وإن شئت قلت : انّ في كل من الطرفين يكون الرفع التقديري ثابتاً ، وهذا ينفع للمكلف وليس جعله لغواً ؛ إذ فائدته انّ المكلف يؤمن عن الواقع ، سواءً كان وجوباً أو حرمة ؛ إذ يعلم بعدم تحقق أحدهما واقعاً ، وبأنّ الآخر مرفوع عنه ظاهراً ، وهذا نظير موارد الشك البدوي الذي يعلم فيه بالبراءة ، امّا بعدم التكليف واقعاً ، أو ارتفاعه ظاهراً ، لو كان موجوداً واقعاً ، فالرفع للمرفوع واحد لا اثنان ، ونحن لا نشخّصه ، لا انّ البراءة تجري عن التكليف بعنوانه الإجمالي ، كيف وهو معلوم ، فالبراءة تجري عن العنوانين التفصيليين التعيينين المشكوكين.

وهذا لا يتوقف إلاّعلى امكان وضع ايجاب الاحتياط في ذلك المرفوع الواقعي تعييناً وهو ممكن كما إذا كان مصلحة الايجاب أو التحريم في موارد التزاحم الحفظي هو الأهم عند المولى ، فيجعل ايجاب الاحتياط بلحاظه تعييناً وما لا يكون وضعه ممكناً جعل ايجاب الاحتياط عن التكليف الواقعي على اجماله.

٤٤٥

بل يمكن أن يقال : انّ المهم للمكلف في التأمين إنّما هو الرفع على تقدير ثبوت التكليف المشكوك واقعاً لا أكثر فيكون مفاد دليل البراءة ذلك أي الرفع على تقدير. وفي كل من احتمال الوجوب والحرمة الرفع التقديري وبنحو القضية الشرطية يمكن أن يكون صادقاً ، فإنّ صدق الشرطية لا يستلزم صدق طرفيها فسواءً كان المحتملان ممكن اجتماعهما ووجودهما معاً في الخارج أم لا كانت البراءة الشرعية بمعنى الرفع التقديري جارية في الطرفين معاً وجمعاً.

لا يقال : هذا لغو لا فائدة فيه ، إذ لولا جعلهما أيضاً كان العقل يحكم بذلك للضرورة.

فإنّه يقال : هذا رجوع إلى بيان المحقق العراقي والذي أجبنا عليه سابقاً من امكان جعل الشارع لايجاب الاحتياط بلحاظ أحد الطرفين تعييناً وإن كان لا يمكن جعله فيهما جمعاً فدليل البراءة ينفي الاحتياط التعييني في أحد الطرفين.

ومما ينبه على صحة الرجوع إلى البراءة الشرعية انّه على تقدير وجود المزية لأحد الالزامين احتمالاً أو محتملاً بناءً على مسلك حق الطاعة سوف يجب الاحتياط بالالتزام بامتثال الطرف ذي المزية ، ومن البعيد التزام الاستاذ به ، فتدبر جيداً.

ص ١٦٣ قوله : ( المقام الثالث ... ).

تكرر الواقعة قد يكون عرضياً وقد يكون طولياً وبلحاظ عمود الزمان ـ كما ذكره في مصباح الاصول ـ ومثال الثاني واضح كما في الكتاب ، ومثّل للأوّل بما إذا صدر منه حلفان تعلّق أحدهما بفعل شيء كشرب عصير ـ كعصير الرمان ـ

٤٤٦

والآخر بترك آخر ـ كشرب عصير العنب ـ ثمّ اشتبه عليه الأمر فلم يدر أيّهما قد حلف على فعله وأيّهما حلف على تركه فيتشكل في كل منهما علم اجمالي بين محذورين وفيهما معاً علمان اجماليان امّا بوجوب هذا أو حرمة ذاك وبالعكس.

وقد أفاد السيد الخوئي ـ دام ظله ـ بأنّ العلمين الاجماليين المذكورين ـ سواءً في العرضين أم الطوليين بناءً على منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات ـ تحرم مخالفتهما القطعية فيجب فعل أحدهما وترك الآخر في العرضيين ويجب الفعل في اليومين معاً أو الترك كذلك لكي تكون المخالفة والموافقة احتمالية لا قطعية ، وقد ذكر انّ الحكم كذلك حتى إذا كان أحد التكليفين المعلومين بالاجمال في الواقعتين أهم من الآخر ـ كما إذا كان أحدهما قد نذر فعله والآخر قد نهاه أبوه عن فعله فاشتبه الأمر عليه وفرضنا انّ مخالفة النذر أشد من مخالفة الأب ـ فله مطلبان أحدهما تقدم المخالفة القطعية على الموافقة القطعية ، والآخر عدم الفرق في ذلك بين الأهم والمهم من التكاليف :

أمّا المطلب الأوّل فيمكن أن يذكر في وجهه أحد بيانين :

الأوّل : ما هو ظاهر تقريرات السيد الخوئي قدس‌سره من انّ وجوب الموافقة القطعية لكل من العلمين الاجماليين يزاحم الآخر ، ولا مرجح لأحدهما على الآخر فيتساقطان ، فيبقى حرمة المخالفة القطعية لكل منهما على حاله ؛ لامكان عدم المخالفة القطعية لهما معاً ، فلابد من الموافقة الاحتمالية ، ويكون التخيير بين الفعل والترك في الواقعتين إذا كانا تدريجيين بدوياً لا استمرارياً ، وهذا الوجه بهذا المقدار واضح الجواب ؛ إذ كما يزاحم وجوب الموافقة القطعية لأحد العلمين وجوب الموافقة القطعية للآخر كذلك يزاحم حرمة المخالفة القطعية له فكما تسقط وجوب الموافقة للعلم الآخر بذلك تسقط حرمة مخالفته به أيضاً وكذلك

٤٤٧

في طرف العكس ، وهذا يعني سقوط وجوبي الموافقة وحرمتي المخالفة في العلمين معاً لمزاحمة وجوب الموافقة لكل علم بكل من وجوب الموافقة وحرمة المخالفة للعلم الآخر.

الثاني : ما هو مذكور في الكتاب من انّ العلم الإجمالي علّة لحرمة المخالفة ، فيكون تنجيزياً ومقتضياً لوجوب الموافقة فيكون تعليقياً ، والتنجيزي مقدم على التعليقي.

وقد أجاب عليه في الكتاب بجوابين :

أوّلهما : انّ المعلّق عليه إنّما هو عدم الترخيص الشرعي ، وهو فعلي ، فيكون الاقتضائان معاً تنجيزيين ، وسوف يأتي عدم امكان فعلية الاقتضائين معاً عند المشهور.

وثانيهما : ادخال عنصر أهمية أحد التكليفين في الحساب وتأثيره على تجويز المخالفة القطعية للمهم ، في قبال الموافقة القطعية للأهم ، وانّ هذا إذا جاز في مورد العلم التفصيلي بالأهم والمهم فكيف لا يجوز في مورد العلم الإجمالي.

وهذا الجواب مربوط بالمطلب الثاني بحسب الحقيقة ، ويكون التقريب الثاني المذكور في الكتاب هنا جواباً عليه ، فلا ينبغي ذكره هنا.

وبعبارة اخرى : في مورد العلم التفصيلي يكون تزاحم امتثالي بين التكليف الأهم والمهم ، والمفروض ارتفاع التكليف بالمهم عند الاشتغال بالأهم فلا مخالفة ، وهذا بخلاف المقام والذي لا يكون فيه تزاحم بين التكليفين ، ويكون كلاهما فعليين واقعاً ، وإنّما التزاحم في حكم العقل بعدم المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ، وهذا واضح.

٤٤٨

وقد استشهد السيد الخوئي قدس‌سره على مدّعاه من حكم العقل بعدم المخالفة القطعية في المقام بموارد الاضطرار إلى أحد الطرفين لا بعينه ، فإنّه إذا فرضنا العلم اجمالاً بنجاسة أحد الانائين الشرقيين مثلاً والعلم اجمالاً أيضاً بنجاسة أحد الانائين الغربيين واضطر المكلف إلى شرب اثنين من الأربعة لا بعينه ، فإنّه لا يجوز له شرب الشرقيين معاً أو الغربيين كذلك ، بل يتعيّن عليه ـ طبقاً لما يأتي من بقاء التكليف الواقعي في موارد الاضطرار إلى أحد الطرفين لا بعينه على فعليته ومنجزيته ، وهو المسمّى عندهم بالتوسط في التنجيز ـ أن يختار أحد الشرقيين وأحد الغربيين ، أي لا يخالف مخالفة قطعية لأحد العلمين وإن كان فيه موافقة قطعية للعلم الآخر ، بل تتعين المخالفة الاحتمالية عقلاً.

وأمّا المطلب الثاني : فهو انّه لا فرق بين فرض التساوي أو فرض الأهمية لأحد التكليفين على الآخر فيما ذكر ـ خلافاً للميرزا قدس‌سره ـ لأنّ الحكمين وإن لم يكونا من قبيل المتعارضين إذ لا تنافي بينهما في الجعل ، إلاّ أنّهما ليسا من قبيل المتزاحمين أيضاً ليقيد إطلاق المهم منهما فيسقط عند امتثال الأهم ، إذ المفروض قدرة المكلف على امتثال كليهما لولا الجهل والاشتباه فلا تزاحم بين التكليفين ؛ ومعه يكون كل من التكليفين اطلاقه فعلياً غير ساقط أي داخلاً في العهدة ، والمفروض انّ العقل يحكم بقبح عصيان ومخالفة كل تكليف داخل في العهدة مخالفة قطعية سواء كان ملاكه شديداً أو خفيفاً فلا وجه للترجيح بالأهمية في المقام بخلاف باب التزاحم في الامتثال.

وأضاف السيد الخوئي على هذا البيان نقضاً على الميرزا قدس‌سره بأنّ لازم تطبيق قوانين باب التزاحم في المقام من الترجيح بالأهمية ونحوها الالتزام بالتخيير فيما إذا كان التكليفان المعلومان بالاجمال متساويين في الأهمية ، فيجوز

٤٤٩

المخالفة القطعية لأحدهما في قبال الموافقة القطعية للآخر ، مع انّه لم يلتزم به ، بل التزم بحرمة المخالفة القطعية في فرض التساوي في الأهمية وتعيّن الموافقة والمخالفة الاحتمالية لهما معاً ، وهذا يكشف انّ الأهمية لا دخل لها في المقام بوجه أصلاً ، وأنّ التزاحم هنا ليس بين واقع التكليفين كي يربط حكمه بملاك كل منهما ونسبته إلى ملاك الآخر ، وإنّما التزاحم والتمانع في حكم العقل بلزوم الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال ، فلابد من ملاحظة انّ أيّهما تنجيزي وأيّهما تعليقي في نظر العقل في قبال الآخر ، ولا شك انّ حرمة المخالفة القطعية هي المتعينة لكونها حكماً عقلياً تنجيزياً في قبال وجوب الموافقة القطعية.

وأجاب عليه في الكتاب بمنع عدم تأثير أهمية التكليف المعلوم بالاجمال في حكم العقل بالاطاعة ؛ لأنّه بملاك حفظ ما يهم المولى فكلما كان غرض المولى أهم كان حفظه آكد عقلاً وألزم.

وإن شئت قلت : المقدار الزائد من الغرض في الطرف الأهم كالمخالفة الأكثر والأشد مهم عند العقل في مقام اطاعة المولى ، فقد يحكم العقل بلزوم حفظه حتى إذا استلزم المخالفة القطعية للمهم ؛ لأنّه الأكثر اطاعة للمولى وحفظاً لحق مولويته ؛ ولأنّه لو كان مراداً تكوينياً للمولى لأقدم على ذلك أيضاً ، فكذلك العبد الذي هو بمثابة الآلة ويد المولى في الارادة التشريعية لابدّ وأن يقوم بذلك ، وهذا يعني انّ المهم حتى إذا كان معلوماً لا يدخل في دائرة حق الطاعة والمولوية في قبال الأهم ، فلا تكون مخالفته معصية قبيحة.

وهذا الجواب لا يمكن المساعدة عليه لا على مباني المشهور من قبح الترخيص في المخالفة القطعية وامتناعه ثبوتاً ، ولا على مباني السيد الشهيد من

٤٥٠

امكانه ثبوتاً ، وإنّما المحذور اثباتي وفي الارتكاز العقلائي.

أمّا على الأوّل : فلأنّ المفروض امتناع الترخيص في مخالفة أي تكليف واقعي معلوم ما لم يرتفع التكليف الواقعي بنفسه ، كما في موارد التزاحم الامتثالي ، حيث يتقدم الأهم بمعنى أنّ التكليف بالمهم يرتفع ويسقط حقيقة عند الاشتغال بالأهم ، فلا يكون الأمر بالمهم أمراً أو ترخيصاً في المعصية للمهم ، فكذلك المقام لو وجب أو رخّص فيما يلزم منه المخالفة القطعية للتكليف المهم كان ممتنعاً ما لم يرجع إلى ارتفاع التكليف المهم واقعاً فيزول العلم الإجمالي به ولا يكون في البين إلاّ العلم الإجمالي بالتكليف بالأهم ، بل احتمال ذلك أيضاً يستلزم زوال العلم الإجمالي بالمهم ، وهذا يعني انّه ما دام التكليف المهم المعلوم بالاجمال فعلياً ـ ولو من باب التمسك باطلاق أدلّة الأحكام الواقعية لنفي التصويب ـ فيستحيل أن يجوز الشارع أو العقل ما يلزم منه المخالفة القطعية لهذا التكليف ومعصيته.

لا يقال : إنّما يستحيل على الشارع الترخيص الظاهري في المخالفة ، وهذا لا ينافي أنّ العقل يحكم به من باب التزاحم في مقام الاطاعة للمولى والدوران بين مخالفة تكليفٍ وتكليف.

فإنّه يقال : نكتة الاستحالة القبح العقلي للمعصية والذي لا يرتفع ما دامت المعصية ، فإذا فرض ارتفاعه عقلاً ولو في هذا التزاحم والدوران جاز الترخيص الشرعي به أيضاً ، فالحاصل لا موضوع بناءً على مبنى المشهور لارتفاع قبح المعصية والمخالفة القطعية لتكليف واقعي فعلي لا شرعاً ولا عقلاً ما لم يرجع إلى ارتفاع نفس التكليف المعلوم بالاجمال كما ذكره السيد الخوئي في مثال العلمين الاجماليين بأنّ أحد الشيئين مؤمن يحرم ذبحه أو رميه والآخر شاة منذورة

٤٥١

يجب ذبحها ، حيث تجب الموافقة القطعية لحرمة قتل المؤمن بعدم رمي شيء منها وارتفاع وجوب النذر وسقوطه واقعاً ، فلا علم إجمالي إلاّبتكليف واحد.

وبهذا يعرف انّه على هذا المبنى الذي هو مبنى الميرزا والسيد الخوئي ٠ أيضاً اشكال السيد الخوئي قدس‌سره مسجّل على استاذه الميرزا حلاًّ ونقضاً ، ولا مجال بناءً عليه لما أفاده السيد الشهيد قدس‌سره من ارتفاع دائرة حق المولوية والطاعة للمهم في قبال الأهم ، فإنّ هذا ممتنع ما لم يرجع إلى ارتفاع الحكم الواقعي والذي هو خروج موضوعي عن البحث وبحاجة إلى دليل يقيّد دليل الحكم الواقعي لأحد المعلومين الإجماليين كما ذكر السيد الخوئي قدس‌سره.

وأمّا بناءً على مباني السيد الشهيد قدس‌سره فحيث يجوز عقلاً الترخيص الشرعي الظاهري في المخالفة القطعية بلا تناف مع فعلية الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال فثبوتاً يعقل دوران الأمر بين الموافقة القطعية للتكليف الأهم المستلزم للمخالفة القطعية للتكليف المهم ، وبين الموافقة والمخالفة الاحتمالية لهما معاً ، أي نحتمل أنّ الشارع يهتم في موارد التزاحم الحفظي بالأهم في قبال المهم ، حتى إذا استلزم المخالفة القطعية له ، أي يكون مرتبة الحكم الظاهري وروحه محفوظة في كل من طرفي الدوران والتزاحم الحفظي في المقام ، وحيث انّ حكم العقل بحق الطاعة والمنجزية تعليقي مشروط بعدم ثبوت حكم ظاهري على خلافه ـ كما هو محقّق في محلّه مفصلاً ـ فينفتح هذا البحث حينئذٍ ، سواء في المعلومين الإجماليين المتساويين أو الذي أحدهما أهم أو محتمل الأهمية بالنسبة للآخر فيما يقتضيه هذا الدوران ، ولا معنى للرجوع إلى حكم العقل ابتداءً وجعله هو المشخّص لما يخرج عن دائرة حق الطاعة من التكليفين ابتداءً ـ كما هو ظاهر الكتاب ـ لوضوح أنّ حكم العقل بذلك معلّق على تشخيص ما هو

٤٥٢

اهتمام المولى في هذا التزاحم الحفظي الحاصل بين التكليفين الالزاميين المعلومين بالاجمال.

وهنا يمكن أن تكون أهمية أحد التكليفين ملاكاً موجباً لاهتمام المولى بحفظه القطعي حتى إذا استلزم تفويت الآخر القطعي ، كما يمكن أن لا يكون كذلك ، أي رغم أهمية أحد التكليفين المولى يرضى بالموافقة والمخالفة الاحتمالية لهما معاً ، لا تفويت أحدهما في قبال الآخر ، وليس للعقل في هذا الميدان حكم أصلاً ، بل حال المقام حال سائر موارد التزاحم الحفظي التي لابد من أخذ الأحكام الظاهرية فيها من الشارع نفسه.

نعم ، لو فرض الشك في ما يهتم به الشارع انتهينا إلى ما يحكم به العقل في مورد الشك من الوظيفة التنجيزية ـ كما سنبيّن ـ فهذا هو المنهج الصحيح للبحث بناءً على مبنى السيد الشهيد قدس‌سره.

وعندئذٍ نقول : لو علم باهتمام المولى بحفظ أحد التكليفين في قبال الآخر ولو استلزم تفويته القطعي تعيّن ذلك عقلاً ، ولو علم بعدم رضاه بذلك وتعيّن المخالفة والموافقة الإجمالية فكذلك ، ولو شكّ في ذلك كان مقتضى حكم العقل هو التخيير بين الأمرين حتى إذا كان أحد التكليفين أهم من الآخر ملاكاً.

هذا هو مقتضى القاعدة بحسب الكبرى ومقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الاثبات فيقال : بأنّ ارتكاز المناقضة المذكورة في المحذور الاثباتي للترخيص في المخالفة القطعية يوجب تشكيل دلالة التزامية في دليل الواجب الأهم بعدم رضا الشارع بتفويته جزماً ، في قبال حفظ المهم وموافقته القطعية ، كما انّه إذا فرض تساوي التكليفين في الملاك أيضاً قد يقال

٤٥٣

بتشكيل نفس الدلالة الالتزامية في دليلي الحكمين الواقعيين أيضاً على عدم رضا الشارع بتفويتهما ، فلا يجوز المخالفة القطعية لشيء منهما ، وتتعين الموافقة والمخالفة الاحتمالية لهما ـ رغم انّه ثبوتاً يحتمل جواز الأوّل ـ.

ولعلّ هذا هو مبنى قبول السيد الشهيد قدس‌سره أيضاً ما قبله الميرزا أيضاً من تعيّن الموافقة الاحتمالية إذا كانا متساويين ـ كما هو ظاهر الكتاب ـ.

وأمّا إذا فرض أهمية أحد المعلومين بالاجمال على الآخر واريد موافقته القطعية وحفظه المستلزم للتفويت القطعي لغير الأهم فإذا فرض أنّ دليل الواجب الأهم كان يستلزم ذلك عرفاً لشدّة الأهمية وفهم مذاق الشارع فيه كما في باب حرمة الأعراض والنفوس ، فإن كان ذلك رافعاً للدلالة الالتزامية لدليل التكليف غير الأهم على عدم رضا الشارع بتفويت حفظه بمقدار المخالفة القطعية ، امّا ذاتاً بأن لم تنعقد هذه الدلالة في التزاحم مع التكليف الأهم من هذا النوع حتى عرفاً أو حجيةً لكون الأوّل قطعياً مثلاً تعيّن حفظ الأهم بهذا المستوى ، وأمّا إذا لم تنعقد دلالة من هذا القبيل في دليل الواجب الأهم امّا لضئالة أهميته أو لاحتمالها وعدم العلم بها كانت الدلالة الالتزامية لدليل التكليف المهم حجة ونافيةً لتجويز المولى لمخالفته القطعية ، ولو فرض ـ لأيّة جهة ـ عدم تشكيل هذه الدلالة الالتزامية أيضاً كانت النتيجة التخيير عقلاً بين المخالفة القطعية للمهم من أجل الموافقة القطعية للأهم أو الموافقة والمخالفة الاحتمالية لهما معاً ، والله الهادي للصواب.

ثمّ انّ لتعدد الواقعة ـ سواء في الدفعي أو التدريجي أي في زمانين ـ شقوقاً ثلاثة :

٤٥٤

١ ـ اختلاف الحكمين أي وجوب أحدهما وحرمة الآخر كما في مثال السيد الخوئي.

٢ ـ اتحادهما في الحكم كما إذا حلف فيهما على نحو واحد ولكن لا يدري حلف على الترك أو الفعل.

٣ ـ احتمال الاتحاد والاختلاف كما إذا علم بأنّه حلف فيهما معاً ولكن يحتمل انّه حلف على ترك أحدهما وفعل الآخر.

وفي هذا الشق الأخير لا يتشكل العلم الإجمالي الآخر أي التدريجي ، ولهذا لا تعقل المخالفة ولا الموافقة القطعية ، ويكون التخيير استمرارياً في الزمانين أيضاً وفي الشق الثاني يتشكل العلم الإجمالي ، كما يمكن المخالفة القطعية بالترك في أحدهما والفعل في الآخر ، إلاّ انّه لا يجري في هذا الشق بحث الترجيح بالأهمية إلاّ إذا اريد ترجيح الترك فيهما معاً أو الفعل كذلك لكونه أهم ، وقد تقدم جريان البراءة عنه بناءً على جريانها في الدوران بين المحذورين كما يجري في هذا الشق بحث عدم استمرارية التخيير في التدريجي وكونه ابتدائياً كما ذكره السيد الخوئي.

وأمّا الشق الأوّل فهو الذي يجري فيه البحث عن العلم الإجمالي الثاني والترجيح بالأهمية معاً ، ولا يجري فيه بحث ابتدائية التخيير ، بل لابد وأن يختار خلاف ما اختاره أوّلاً لكي لا يلزم المخالفة القطعية كما ذكره السيد الخوئي ، إلاّ انّ هذا أيضاً من جهة عدم استمرارية التخيير فلا وجه لتخصيصه بالشق الثاني.

٤٥٥

المحتويات

تعليقات على الجزء الرابع

(الحجج والامارات)

تقسيم الحجج.................................................................. ٧

حجية القطع.................................................................. ٣٧

التجري....................................................................... ٥٠

الموافقة الالتزامية............................................................. ١٣٨

جحية الدليل العقلي.......................................................... ١٤٩

منجزية العلم الاجمالي........................................................ ١٦٣

حجية الظن................................................................. ١٧٧

حجية السيرة................................................................ ٢٤٤

حجية خبر الواحد........................................................... ٢٦٦

تعليقات على الجزء الخامس

(الاصول العملية)

أصالة البراءة................................................................ ٣٣١

أصالة التخيير ............................................................... ٤٤١

٤٥٦