المواسم والمراسم

السيد جعفر مرتضى العاملي

المواسم والمراسم

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منظمة الاعلام الإسلامي
المطبعة: سپهر
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٣٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &



الميول ... والمشاعر

ونحن ... لا نستطيع أن نوافق المانعين في استدلالاتهم المتقدمة ! لأننا لا نجد فيها ما يكفي لتوفير الحدِّ الأدنى من القناعة بما يريدون تكريسه كحكم شرعي ، إلٰهي ، له بعدٌ عقائدي ، بنحو أو بآخر.

بل قد نجد في كلماتهم المتناثرة ، هنا وهناك ، ما يشعرنا بأن القضية لا تعدو عن أَن تكون ٱستسلاما لمشاعر طائفية ، أفرزت هذا الاصرار الذي يصل إلى حدِّ التحدِّي ، على إطلاق شعارات قوية ، وصاخبة ومبهمة كذلك ، بهدف التأثير على حالة التوازن العاطفي لدى الآخرين ، ليمكن من ثَمَّ إعطاء صفة الشرعية لأمر قد يكون عن منطق الشرع ، والعقل والفطرة ...

وحيث أن عمدة وأقصى ما يستندون إليه هو ما تقدم في الفصل السابق ، فإننا لا بدَّ وأن نذكِّر القارئ ببعض مواضع الخلل فيها. وتلك قناعاتنا التي نلتزم بكل آثارها ، سواء كانت بالنسبة لكلام الآخرين ، تصير رداً وتفنيداً ، أو تتضمن قبولاً وتأييداً ...

هذا ... ومن أجل بيان مواضع الخلل في كلماتهم المتقدمة ، نتكلم في الموضوع على النحور التالي :

٦١
 &

الاحتفالات والمواسم بدعة

قد تقدم أنهم يعتبرون المواسم والذكريات ، ونحوها بدعة.

وقد حاول البعض التخلص من هذا الاتهام ، والرد عليه ، فقال ابن حجر :

« عمل المولد بدعة ، لم تنقل عن احد من السلف الصالح ، من القرون الثلاثة ، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها ، فمن تحرَّى في عملها المحاسن ، وتجنَّب ضدها كان بدعة حسنة ، وإلّا ، فلا ». ١

وقال الحلبي الشافعي : « ... جرت عادة كثير من الناس : إذا سمعوا بذكر وصفه (ص) ٢ أن يقوموا تعظيماً له (ص).

وهذا القيام بدعة ، لا أصل لها. أي ولكن هي بدعة حسنة ، لأنه ليس كل بدعة مذمومة ، وقد قال سيدنا عمر (رض) في اجتماع الناس لصلاة التراويح : نعمت البدعة هي. ٣

وقد قال العزيز بن عبد السلام : إن البدعة تعتريها الأحكام الخمسة ، وذكر من أمثلة كل ما يطول ذكره .. ٤ ولا ينافي ذلك قوله (ص) : « إيّاكم ومحدثات الأمور ، فان كل بدعة ضلالة » وقوله (ص) : « من أحدث في أمرنا ، أي شرعنا ، ما ليس منه ، فهو ردُّ عليه ». لأن هذا عام أريد به خاص ، فقد قال إمامنا الشافعي قدس الله سره : ما أحدِثَ وخالف كتاباً أو سنَّة ، أو إجماعا أو أثراً ، فهو البدعة

__________________

١ ـ رسالة حسن المقصد ، المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم / ص ٨٨ ، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيين / ص ١١٤.

٢ ـ أي ولادته (ص).

٣ ـ كلام عمر موجود أيضا في : تهذيب الأسماء واللغات ، قسم اللغات / ج ١ / ص ٢٣ ، ونصب الراية / ج ٢ / ص ١٥٣ ، ودلائل الصدق / ج ٣ / قسم ١. وحول استحسان بعض البدع ، راجع : المصنف / ج ٣ / ص ٧٨ و ٧٩ و ٨٠.

٤ ـ راجع كلام العزيز بن عبد السلام أيضا في تهذيب الأسماء واللغات / قسم اللغات / ج ١ / ص ٢٢ / ٢٣ ، وفي القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ص ٤٧ عن قواعد الأحكام في مصالح الأنام / ج ٢ / ص ١٧٢ ـ ١٧٤ ، وقريب منه كلام القرافي الذي نقله عنه الشاطبي في الاعتصام / ج ١ / ص ١٤٧ ـ ١٥٠.

٦٢
 &

الضلالة. وما أحدِثَ من الخير ، ولم يخالف شيئا من ذلك ، فهو البدعة المحمودة. ١

وقد وجد القيام عند ذكر اسمه (ص) من عالم الأمة ، ومقتدى الأئمة ديناً ، وورعاً ، الإمام تقي الدين السبكي ، وتابعه على ذلك مشايخ الاسلام في عصره ، ... إلى أن قال : ويكفي مثل ذلك في الاقتداء.

وقد قال ابن حجر الهيثمي : والحاصل : أن البدعة الحسنة متفق على ندبها. وعمل المولد ، واجتماع الناس له ، كذلك ، أي بدعة حسنة.

ومن ثم قال الامام أبو شامة ، شيخ الامام النووي : ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده (ص) من الصدقات والمعروف ، وإظهار الزينة والسرور ، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء مشعر بمحبته (ص) ، وتعظيمه في قلب فاعل ذلك ، وَشُكر الله على ما منَّ به من إيجاد رسوله (ص) ، الذي أرسله رحمة للعالمين ... هذا كلامه. ٢

وقال النووي : إن البدعة في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ، وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة. قال الامام المجمع على إمامته وتمكُّنه في أنواع العلوم وبراعته ، أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله ورضي عنه ، في آخر كتاب القواعد : « البدعة منقسمة الى واجبة ومحرمة ، ومندوبة ، ومكروهة ، ومباحة الخ ... » ٣ ثم نقل كلامه بطوله ...

ولكننا بدورنا نقول : إن هذا الكلام ضعيف ، لوجهين يظهر منهما أيضا دليلان على جواز إقامة هذه المراسم والمواسم.

فأولاً : إن ما ذكر من تقسيم البدعة إلى حسنة ومذمومة ، ومن كونها تنقسم الى الاحكام الخمسة ... ثم الاستشهاد بقول عمر بن الخطاب عن صلاة التراويح : نعمت البدعة هي ...

ان ذلك كله ... ليس في محله ، ولا يستند إلى أساس صحيح.

وذلك ... لأن البدعة الشرعية هي : إدخال ما ليس من الدين في الدين.

__________________

١ ـ راجع كلام الشافعي أيضا في تهذيب الأسماء واللغات / قسم اللغات / ج ١ / ص ٢٣.

٢ ـ السيرة الحلبية / ج ١ / ص ٨٣ / ٨٤ ، وراجع : السيرة النبوية لزيني دحلان / ج ١ / ص ٢٤ / ٢٥ ، ورسالة حسن المقصد للسيوطي ، المطبوعة مع : النعمة الكبرى على العالم / ص ٨١ / ٨٢ ، وراجع : جواهر البحار / ج ٣ / ص ٣٤٠ / ٣٤١ و ٣٣٨.

٣ ـ تهذيب الأسماء واللغات ، قسم اللغات / ج ١ / ص ٢٢ و ٢٣.

٦٣
 &

استناداً إلى ما روي عنه (ص) : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » ١ لأن قوله « في امرنا » معناه : أدخل في تشريعاتنا الدينية ما ليس منها ، بل لقد قال السيد الأمين عن البدعة : « لا يحتاج تحريمها إلى دليل خاص ، لحكم العقل بعدم جواز الزيادة على أحكام الله تعالى ، ولا التنقيص منها ، لاختصاص ذلك به تعالى وبأنبيائه ، الذين لا يصدرون إلّا عن أمره ». ٢

فالبدعة في الشرع ، وبعنوان التشريع لا تقبل القسمة المذكورة ، بل هي من غير صاحب الشرع قبيحة مطلقا.

وأمّا الابتكار والابتداع في العادات والتقاليد ، وأمور المعاش ، والحياة ، فهو الذي يقبل القسمة إلى الحسن والقبيح ، ويكون موضوعا للأحكام الخمسة : الوجوب ، والحرمة ، والاستحباب ، والكراهة ، والإباحة ... (ويلاحظ : الخلط في الأمثلة التي ذكرها عبد العزيز بن عبد السلام بين هذا القسم وبين سابقه). ٣

وعليه فالأمور العادية والحياتية ونحوها ، مما لم يرد من الشارع حكم متعلق بها بخصوصها ، أو بعموم يكون كل منها أحد أفراده ومصاديقه ، إن عملها المكلف وقام بها ، أو تركها ، بعنوان أنها من الدين ، فإن لم تكن منه ، فإنه يكون قد أبدع في الدين ، وأدخل فيه ما ليس منه.

وأما إذا قام بها ، وعملها ، أو تركها ، ملتزما بها أو غير ملتزم ، لا بعنوان أنها من الدين ، ولا يدَّعي أن الله سبحانه قد شرع ذلك ، مع عدم منافاة ذلك لأيٍّ من أحكام الدين وتعاليمه ، فلا يكون ذلك بدعة في الدين ، ولا إدخالاً ما ليس منه ، فيه.

وما نحن فيه إنما هو من هذا القبيل ، كما هو ظاهر.

إذ لو كان اختيار الأساليب المختلفة للتعبير عن التقدير والاحترام ، المطلوب لله سبحانه بدعة ... لكان كل جديد يجري العمل به في طول البلاد وعرضها من البدع المحرَّمة.

__________________

١ ـ راجع : سنن أبي داود / ج ٤ / ص ٢٠٠ ، وسنن أبي مسلم / ج ٥ / ص ١٣٣ ، ومسند أحمد / ج ٦ / ص ٢٤٠ و ٢٧٠.

٢ ـ كشف الارتياب / ص ٩٨.

٣ ـ راجع أمثلته في تهذيب الأسماء واللغات / قسم اللغات / ج ١ / ص ٢٢.

٦٤
 &

وليكن حينئذ ... منصب وزير التجارة ووزير النفط ، واستعمال الراديو والتلفزيون ، والتلفون ، وركوب السيارة والقطار ، والطائرة ، من البدع.

وليكن كذلك اعتبار الجلوس كل يوم على الشرفة لاحتساء كوب من الشاي ، وكذا اطلاق القاب : جلالة الملل ، ومعالي الوزير ... الى غير ذلك مما لا مجال لتعداده ؛ من البدع المحرمة ، حيث لم يرد بها نص بخصوصها ، ولأنها من محدثات الأمور ، كما يدَّعي هؤلاء.

هذا ... وقد صرَّحوا هم أنفسهم بأن الأشياء ما عدا العبادات منها كلها على الإباحة حتى يرد ما يوجب رفع اليد عنها ، ولا سيما ما كان من قبيل العادات ١ ... الذي هو محل كلامنا بالفعل ، حيث قد جرت عادة الناس على إقامة الذكريات لعظمائهم ، وعلى اعتبار يوم ميلاد الشخص يوم فرح ومسرة ، فيهدون له فيه الهدايا ... ويقيمون المجالس ، وكذا يوم احتجامه ...

ومن ذلك ايضا : اعتبارهم يوم الاستقلال يوما عظيما ...

الى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه ...

وثانيا : إن الحقيقة هي : ان ما نحن فيه داخل في قسم ما أمر الله سبحانه به ، وأراده. فلا يكون بدعة ، لا بالمعنى الأول ، ولا بالمعنى الثاني.

وتوضيح ذلك : إن أوامر الشارع ونواهيه ، تارة تتعلق بالشيء ، بعنوانه الخاص به ، والذي يميزه عن كل من عداه .. وتارة بتعلق لا بعنوانه بخصوصه ، بل بعنوانه العام ، ويترك أمر تحقيق المصاديق واختيارها وملاحظة انطباق ذلك العنوان وعدمه إليه ..

فاختيار المكلف لهذا المصداق أو لذاك لا يعتبر بدعة ، ولا إحداثا في الدين ما ليس منه .. بل هو عين الامتثال والانقياد لأحكامه ، والانصياع لأوامره ، ويستحق على ذلك الأجر الجميل ، والثواب الجزيل.

وذلك ، كما لو أمر الشارع بمعونة الفقراء ، وترك اختيار المورد والمصداق ، والكيفية ، والأسلوب إلى المكلف ، فباستطاعته أن يعينهم بالعمل لهم ، أو بقضاء حوائجهم ، أو مساعدتهم ماليا .. إلى غير ذلك مما يصدق عليه أنه معونة .. وإن لم ينص الشارع على مصداق أو كيفية بالخصوص.

__________________

١ ـ راجع : اقضاء الصراط المستقيم / ص ٢٦٩ وراجع : إرشاد الفحول ، الصفحات الأخيرة ..

٦٥
 &

وكذا لو أمره باحترام الوالدين ، فيمكن أن يجسِّد ذلك في ضمن المصداق ، الذي هو الوقوف لهما حين قدومهما ، وبإجلاسهما في صدر المجلس ، وبالجلوس بين أيديهما في حالة الخضوع والتأدب ، وبعدم التقدم عليهما في المشي وفي المجالس ، وبتقبيل أيديهما ، وبغير ذلك من أُمور.

وكذا الحال .. لو صدر الأمر باحترام النبيِّ ، ومحبته ، وتعظيمه ، وإجلاله ، وتوقيره ، مع عدم التحديد المانع من الأغيار في نوع بخصوصه ... فبإمكان المكلف أَن يختار ما شاء من المصاديق التي تنطبق عليها تلك العناوين ، ولا يكون ذلك بدعة ، ولا إدخالا لما ليس من الدين في الدين.

فيمكن تعظيمه صلَّىٰ الله عليه وآله وسلم ، وتوقيره وتبجيله ، بإقامة الذكريات له ، ويمكن أن يكون بنشر كراماته وفضائله ، وبالصلاة والتسليم عليه كلما ذكر ، وبتأليف الكتب عن حياته الشريفة ، وبإطلاق اسمه على الجامعات ، والمعاهد ، وغيرها ، وبغير ذلك من مصاديق التعظيم والتبجيل ، والالتزام بالوقت المخصوص لا حرج فيه مادام أَنه لا يعتبر من الدين ، كما لا يعتبر توقيت درس الفقه مثلا بكونه بعد صلاة المغرب والعشاء ، كما يعترف به هؤلاء وينصحون به ١ ادخالا في الدين ما ليس منه ..

وهكذا يقال بالنسبة لما ورد من الحث على البكاء على الامام الحسين عليه الصلاة والسلام والتحزُّن لما أصابه وصحبه الأبرار حيث يترك أمر اختيار الكيفية والوقت الى المكلفين.

ألسُّنة الحسنة .. وٱلسنَّة السيِّئة :

بقي أن نشير إلى أنَّ الاستدلال على مشروعية عمل المولد بأنه سنَّةٌ حسنةٌ ، وقد قال (ص) : « من سَنَّ سُنَّةً حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها الخ ... » ٢

في غير محله أيضا ... وذلك لأن مورد الرواية ـ حسبما يقولون ـ هو التصدُّق على اُؤلئك الذين جاءوا إلى النبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بحالة يرثى

__________________

١ ـ الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف ، ص ٦٧.

٢ ـ نقل هذا الاستدلال في القول الفصل ص ٤٣ / ٤٤ عن : محمد بن علوي المالكي في مقدمته لطبقة مولد ابن الدبيع ص ١٣ وفي رسالته : حول الاحتفال بالمولد النبوي ص ١٨ وفي مقدمته للمورد المروي ص ١٧.

٦٦
 &

لها ، فخطب صلَّى الله عليه وآله وسلم الناس ، وحثَّهم على الصدقة ، فجاء أنصاري بِصُرَّةٍ ، ثم تتابع الناس بعده ، فقال صلَّىٰ الله عليه وآله : « من سنَّ سُنَّةً حسنه الخ ... » ١

فمعنى ذلك : هو أن مورد الرواية هو تعيين المورد والمصداق للنص الشرعي المتعلق بالعنوان العام ، حسبما تقدمت الإشارة اليه ، وليس موردها ما لا نص فيه أَصلا.

هذا كله .. عدا عن أن ما نحن فيه ليس من السنَّة التي معناها ٱلإدخال في الشرع ، بل هو من الأمور المباحة ، كما تقدم.

الذكريات عبادة لصاحب الذكرى

واستدلوا أيضا على حرمة الموالد والذكريات للأولياء ، بأنها نوع من العبادة لهم وتعظيمهم.

ونقول : إن ٱبن تيمية قد خلط بين العبادة والتعظيم وصار يُكفِّر الناس استنادا الى ذلك ، ونحن نعرض الفرق بينهما ليتضح زيف هذا الكلام .. فنقول :

قال السيد الامين رحمة الله تعالى :

« العبادة بمعناها اللغوي ، الذي هو مطلق الذل والخضوع والانقياد ، ليست شركاً ولا كفراً قطعاً ، وإلّا لزم كفر الناس جميعا من لدن آدم إلى يومنا هذا ، لأن العبادة بمعنى الطاعة والخضوع لا يخلو منها أحد ، فيلزم كفر المملوك ، والزوجة ، والولد ، والخادم ، والأجير ، والرعية ، والجنود ، بإطاعتهم وخضوعهم للمولى ، والزوج ، والأب ، والمخدوم ، والمستأجر ، والملك ، والأمراء ، وجميع الخلق لإطاعتهم بعضهم بعضا. بل كفر الأنبياء ، لإطاعتهم آباءهم ، وخضوعهم لهم ، وقد أوجب الله إطاعة أوامر الابوين ، وخفض جناج الذل لهما ، وقال لرسوله (ص) « واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين » (وأمر بتعزير النبي (ص) وتوقيره) وأمر بإطاعة الزوجة لزوجها ... وأوجب طاعة العبيد لمواليهم ، وسمّاهم عبيداً.

__________________

١ ـ راجع : صحيح مسلم / ج ٣ / ص ٨٧ ، والسنن الكبرى / ج ٤ / ص ١٧٥ و ١٧٦ وسنن النسائي / ج ٥ / ص ٧٥ ـ ٧٧ ومسند أحمد / ج ٤ / ص ٣٥٩ و ٣٦٠ و ٣٦١ ، والزهد والرقائق ص ٥١٣ / ٥١٤ ، والمسند للحميدي / ج ٢ ص ٣٥٢ / ٣٥٣ ، والمعتصر من المختصر / ج ٢ / ص ٢٥١ / ٢٥٢.

٦٧
 &

وأطلق على العاصي أنه عبد الشيطان ، وعبد الهوى ، وأَن الإنسان عبد الشهوات ، إلى غير ذلك ممّا لا مجال له .. ولا ريب في أَن هذه ، الأمور التي هي طاعة وخضوع ، وكذلك ما أشير إليه من تسمية ما ذكر عبادة ؛ لا يوجب الكفر والارتداد ، وإلّا لم يسلم منه أحد ، ولا ضرورة قاضية بخلافه ، السجود هو منتهى التذلل والخضوع فقد يكون حراما اذا كان على نحو العبادة للشخص وقد لا يكون كذلك مثل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم ، وسجود يعقوب وزوجته وبنيه ليوسف ، كما أخبر عن ذلك القرآن الكريم ، فدل ذلك على ان السجود ليس موجباً للكفر والشرك مطلقا ليكون نظير اتخاذ شريك للباري ، وإلّا لم يأمر الله به ملائكته ، ولا حكاه عن أنبيائه وغيرهم. وعلم من ذلك ايضا : أن مطلق الخضوع والتعظيم ، حتى السجود لغير الله ، ليس في نفسه شركا وكفرا ، حتى ولو أُطلق عليه اسم « العبادة » لغة .. اذ ليس كل ما يطلق عليه اسم « العبادة » يوجب الكفر والشرك ... إلّا إذا دلَّ دليل على تحريمه ، مثل السجود ، الذي اتفقت كلمة المسلمين على تحريم ما كان منه لغير الله سبحانه.

ونسوق هنا مثالا آخر ، وهو أنه قد أطلق لفظ « العبادة » على الدعاء ، قال تعالى : « ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي الخ ... » ١. وعنه (ص) : « الدعاء مخُّ العبادة ».

والمراد بالدعاء ، ليس مطلق أَن ينادي الانسان شخصا ما ، وإلّا لكان كل من نادى أحداً فقد عبده .. بل المراد : سؤال الله تعالى الحاجة ، مع الخضوع والتذلل ، واعتباره الفاعل المختار ، والمالك الحقيقي لأمور الدنيا والآخرة.

وأما ما ورد : « من أصغى الى ناطق فقد عبده ، فان كان ينطق عن الله ، فقد عبد الله ، وإن كان ينطق عن غير الله ، فقد عبد غير الله » فهو من باب التنزيل والادِّعاء ، ليس إلّا ..

والخلاصة : ان ما يترتب عليه الكفر ، أو الشرك ليس هو التعظيم ، ومطلق التعظيم ليس عبادة ..

وإنما الذي يترتب عليه الكفر والشرك هو الخضوع والانقياد الخاص ، والذي صرح الشارع بالنهي عنه ، أو كان معه اعتقاد : ان غير الله هو المالك المختار ،

__________________

١ ـ غافر : ٦٠.

٦٨
 &

الذي بيده مقاليد كل شيء أوَّلاً وبالذات.

وعليه فكل ما لم يكن كذلك من مصاديق التعظيم لم يكن عبادة ، فضلا عن ان يكون عبادة محرَّمة ، بل قد يكون تعظيماً مباحاً مثلاً : الإنحناء ، ورفع الجندي يده لقائده ، ورفع القبَّعه عند الإفرنج ، وحتى السجود أحيانا ، وقد يكون تعظيماً مطلوباً مثل تعظيم الحجر الأسود بتقبيله ، وكذا تعظيم الكعبة ، وتعظيم النبيِّ والإمامِ ، والوالدينِ ، والعلماء وغير ذلك .. ١

وتعظيم النبيِّ (ص) مطلوب ومحبوب لله سبحانه .. ، وقد كان المسلمون يعظمون النبيِّ (ص) غاية التعظيم ، حتى أنهم كانوا لا يحدُّون النظر إليه تعظيماً له .. ٢

وكتاب التبرك « تبرُّك الصحابة والتابعين بآثار الانبياء والصالحين » للعالم العلامة الشيخ على الاحمدي حفظه الله لخير شاهد وأوفى دليل على شدة تعظيم الصحابة له صلَّى الله عليه وآله وسلم .. وكذلك على تعظيم العلماء والصلحاء.

ولسنا بحاجة إلى إثبات لزوم تعظيم النبيِّ (ص) ، ويكفي أن نشير هنا إلى قوله تعالى : « لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا » ٣.

وقوله تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ » ٤.

بل.. إذا كان يجب احترام كل مؤمن وتعظيمه ، انطلاقا مما ورد في الحديث من أن المؤمن أعظم حُرمة من الكعبة. ٥

ولزوم تعظيم الكعبة وتكريمها أظهر من الشمس ، وأبين من الأمس .. فكيف يكون الحال بالنسبة لسيد الخلق أَجمعين وأفضل كل ولد آدم على الاطلاق من الأولين والآخرين ، فهل يكون تعظيمه وتوقيره واحترامه عبادةً له ، وحراماً شرعاً ؟! معاذ الله .. « كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ».

__________________

١ ـ كشف الارتياب / ص ١٠٣ ـ ١٠٦ بتصرف ، وتلخيص.

٢ ـ البحار / ج ١ / ص ٣٢ عن الشفاء لعياض.

٣ ـ النور / ٦٣.

٤ ـ الحجرات : ٢.

٥ ـ الجامع الصحيح للترمذي / ج ٤ / ص ٣٧٨ ، وسنن ابن ماجة / ج ٢ / ص ٢٩٧ ، وراجع المصنف لعبد الرزاق / ج ٥ / ص ١٣٩ ، وكشف الارتياب / ص ٤٤٦ / ٤٧٧.

٦٩
 &

والضحى ، والليل إذا سجى

وبالنسبة لتعظيم خصوص ليلة مولده (ص) وليلة المعراج ، نوردها هنا نصّاً يشير إلى هذا التعظيم من قبل الله سبحانه ، فقد قال الحلبي وغيره :

« ... وقد أقسم الله بليلة مولده في قوله تعالى : « والضُّحى ، واللَّيل » وقيل المراد ليلة الإسراء. ولا مانع أن يكون الإقسام وقع بهما ، أي استعمل اللَّيل فيهما ». ١

وفي بعض المصادر : أن المراد بالضُّحى هو الساعة التي خرَّ فيها السحرة سُجَّداً ، وباللَّيل ليلة المعراج.

وعن الصادق عليه السلام ، وقتادة ، ومقاتل : أن المراد بالضحى ، الضحى الذي كلَّم الله فيه موسى ، وباللَّيل ليلة المعراج. ٢

لا تجعلوا قبري عيداً

وبعد .. فإن اهمَّ دليل اعتمد عليه هؤلاء هو الرواية المنسوبة إلى النبيِّ الأكرم صلَّى الله عليه وآله وسلم ، والتي تضمَّنت النهيَ عن جعل قبره صلَّى الله عليه وآله وسلم عيداً.

وقد « قال الحافظ المنذري : يحتمل أَن يكون المراد به الحث على كثرة زيارة قبره (ص) ، وأن لا يهمل حتى يكون كالعيد ، الذي لا يؤتى في العام إلّا مرَّتين. قال : ويؤيده قوله : لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، أي لا تتركوا الصلاة فيها حتى تجعلوها كالقبور التي لا يصلَّى فيها .. » ٣.

__________________

١ ـ راجع : السيرة الحلبية / ج ١ / ص ٥٨ ، والسيرة النبوية لدحلان / ج ١ / ص ٢١ ، وقد نبَّهني إلى وجود هذا النص في السيرة الحلبية أحد الفضلاء من الاخوة ، فنشكره على ذلك.

٢ ـ فتح القدير / ج ٥ / ص ٤٥٧ ، وراجع المصادر التالية : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي / ج ٢ / ص ٩١ ، والتفسير الكبير للرازي / ج ٣١ / ص ٢٠٨ ، وراجع ص ١٠٩ ، وغرائب القرآن للنيسابوري ، بهامش الطبري / ج ٣٠ / ص ١٠٧ ، والكشاف للزمخشري / ج ٤ / ص ٧٦٥ ، ومدارك التنزيل للنسقي ، بهامش تفسير الخازن / ج ٤ / ص ٣٨٥.

٣ ـ كشف الارتياب / ص ٤٤٩ عن السمهودي ، والصارم المنكي / ص ٢٩٧ ، وراجع ص ٣٠٠ ، وعون المعبود / ج ٦ / هامش ص ٣١ / ٣٢ ، وشفاء السقام / ص ٦٧ ، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيين / ص ١٢٢ ، وزيارة القبور الشرعية والشركية / ص ١٥.

٧٠
 &

ونحن ... وان كنا نحتمل المعنى الذي ذكره المنذري ، إلّا أن ما جعله مؤيدا ، لا يصلح للتأييد ، إذ ان الظاهر هو : ان هذه الفقرة في صدر بيان كراهة جعل القبور في بيوتهم. وان دفن النبي (ص) في بيت ابنته فاطمة ١ إنما كان لمصلحة خاصة اقتضت ذلك ، فليس لهم أن يتخذوا ذلك مؤشرا على رجحان الدفن في البيوت. « وذلك لأن للأنبياء خصوصية ليست لغيرهم ، وهي انهم يدفنون حيث يقبضون ». ٢

فلا يصح ما ذكروه من انه (ص) لم يدفن في الصحراء ، لئلا يصلَّى عند قبره ، ويتخذ مسجداً فيتخذ قبره وثناً. ٣

وذلك لما قدَّمناه من الرواية المقتضية للخصوصية .. هذا بالاضافة إلى أن دفنه في بيته أدعى لأن يتَّخذ مسجداً ، خصوصا وأنه متصل بالمسجد النبوي ، ولو كان في الصَّحراء ، لأمكن المنع عنه بصورة أسهل .. وقد منع عمر من الصلاة عند شجرة بيعة الرضوان ، فامتنع الناس ، ولذلك نظائر أخرى. ٤

وأمّا بالنسبة لفقرة : « لا تتخذوا قبري عيدا .. » .. فيحتمل قويّاً : أن يكون المراد : ان اجتماعهم عند قبره (ص) ينبغي أن يكون مصحوبا بالخشوع والتأمل والاعتبار ، حسبما يناسب حرمته وٱحترامه (ص) ، فإنَّ حرمته ميتاً كحرمته حيّاً .. فلا يكون ذلك مصحوبا باللهو واللعب والغفلة والمزاح ، وغير ذلك مما اعتادوه في أعيادهم .. ولعل هذا هو مراد السبكي حينما قال :

« ويحتمل : لا تتخذوه كالعيد في الزينة والاجتماع وغير ذلك ، بل لا يؤتى

__________________

١ ـ لقد نشرنا مقالاً أثبتنا فيه أنه (ص) دفن في بيت فاطمة ، لا في بيت عائشة فراجع كتابنا : دراسات و حوث في التاريخ والاسلام / ج ١.

٢ ـ مقدمه شفاء السقام / ص ١٢٥ / ١٢٦ والتوسل بالنبيِّ وجهله الوهابيِّين.

٣ ـ راجع : مقدمة شفاء السقام ، المسماة : تظهير الفؤاد من دنس الاعتقاد / ص ١١٨ ، والصارم المنكي / ص ٢٦١ / ٢٦٢ ، والتوسل بالنبيِّ وجهلة الوهابيِّين / ص ١٥١.

٤ ـ راجع : الدر المنثور / ج ٦ / ص ٧٣ ، عن مصنف ابن أبي شيبة ، وتاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي / ص ١٤٤ و ١٤٥ ، والسيرة الحلبية / ج ٣ / ص ٢٥ ، وفتح الباري / ج ١ / ص ٤٦٩ ، وج ٧ / ص ٣٤٥ ، وإرشاد الساري / ج ٦ / ص ٣٥٠ ، وطبقات ابن سعد / ج ٢ ، قسم ١ / ص ٧٣ ، وشرح النهج للمعتزلي / ج ١ / ص ١٧٨ ، وراجع الغدير / ج ٦ / ص ١٤٦ و ١٤٧ عن من تقدم وعن غيره ، وكذا كتاب التبرك / ص ٢٢٦ ـ ٢٣٥ عن من تقدم وغيره.

٧١
 &

إلّا للزيارة والسلام والدعاء ». ١

أمّا الرقص والغناء وغير ذلك من المحرَّمات ، فهي من الأمور الممنوع عنها من الأساس فلا يبقى مجال للإشكال بها ، حسبما ورد في كلام ابن الحاج وابن تيمية ..

وأمّا قوله (ص) : وصلُّوا عليَّ حيث ما كنتم ، فهو بيان لأمر ثالث آخر ، وهو : أنَّ الصلاة على النبيِّ (ص) لا يجب أن يراعى فيها الحضور عنده ، بل هي تصله عن بعد ، كما تصله عن قرب.

وأمّا احتمال : أن يكون المعنى لقوله : لا تتخذوا قبري عيداً .. لا تتخذوا له وقتا مخصوصا ٢ ؛ فهو بعيد عن مساق الكلام ، وعن ظاهره ، بل يكون أشبه بالأحاجي والألغاز ، كما ذكره البعض. ٣

وبعد كل ما تقدم ، وبعد أن كان الظاهر من العبارة هو المعنى الذي أشرنا إليه ، مع احتمال أن يكون كلام المنذري أيضا مراداً .. فلا تبقى الرواية صالحة للاستدلال بها على المنع من الاجتماعات ، وإقامة الموالد والذكريات والدعاء والزيارة في أوقات معينة ، كما يريد ابن تيمية وأتباعه إثباته .. إذ يكفي لرد الاستدلال ورود الاحتمال العقلائي فيه ، فكيف إذا كان هذا الاحتمال من القوة بحيث يصير صالحاً لأن يدَّعى أنه هو الظاهر من الرواية دون سواه ؟ ولو سلَّمنا : أن احتمال إرادة المنع عن الموالد والذكريات والاجتماعات وارد في الرواية ، فإنها لا أقل تصير مجملة لا ظهور فيها ، فتسقط عن صلاحيتها للاستدلال بها .. هذا كله .. بالاضافة الى أن الرواية خاصة بالتجمع عند القبور ، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى غيرها من المواضع ، ولعل لقبر النبيِّ (ص) خصوصية في المقام ، وهي : أنه يمكن أن يؤدى بهم الأمر إلى نحو من العبادة له ، فمنع الشارع من التجمُّع عنده احتياطاً لذلك ، بخلاف قبر غيره (ص) ، فان احتمال ذلك أَبعد ..

__________________

١ ـ كشف الارتياب / ص ٤٤٩ عن السمهودي في وفاء الوفاء ، وشفاء السقام / ص ٦٧ ، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيَّين / ص ١٢٢ ، والصارم المنكي / ص ٢٩٧.

٢ ـ المصادر المتقدمة ...

٣ ـ راجع : عون المعبود / ج ٦ / ص ٣١ / ٣٢ ، وراجع الصارم المنكي / ص ٢٩٧.

٧٢
 &

الرواية عن السجَّاد (ع) ، وابن عمه

وأمّا بالنسبة للرواية المنسوبة للإمام السجَّاد عليه السلام ، وقريب منها الرواية المنسوبة لحسن بن الحسن والتي مفادها : أنه عليه السلام حينما لاحظ ذلك الرجل يأتي كل غداة فيزور قبر النبي (ص) ويصلي عليه حدثه عليه السّلام عن النبي صلَّى الله عليه وآله أنه قال :

« لا تجعوا قبري عيدا ، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا ، وصلُّوا علي وسلِّموا حيئما كنتم فسيبلغني سلامكم وصلاتكم ». ١

فإن هذه الرواية ظاهرة في أنه عليه الصلاة والسلام قد لاحظ : أن ذلك الرجل قد ألزم نفسه بأمر شاق ، وهو المجيء يوميا للصلاة عليه صلَّى الله عليه وآله وزيارته ، فأراد عليه السلام التخفيف عنه ، وإفهامه : أنَّ بإمكانه الصلاة والتسليم عليه صلَّى الله عليه وآله حيثما كان ، فسيبلغه ذلك ، فلا داعي لإلزام نفسه بما فيه كلفة ومشقة. ولم ينهه عن الصلاة والدعاء عند قبره صلَّى الله عليه وآله. ٢

وعلى ذلك يحمل ما ورد عن حسن بن حسن أيضا ..

وأمّا ما ذكره البعض من أنَّ مراده عليه السّلام : أنَّ قصد القبر للدعاء ونحوه اتخاذ له عيداً .. كما أن حسن بن حسن شيخ أهل بيته (على حد تعبير هذا البعض) قد كره للرجل أن يقصد القبر للسَّلام عليه ونحوه ، عند غير دخول المسجد ، ورأى أنَّ ذلك من اتخاذه عيداً .. إلى أن قال : « .. والعيد إذا جعل ٱسما للمكان ، فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة عنده ، أو لغير العبادة كما أنَّ المسجد الحرام ، ومنى ، ومزدلفة وعرفة ، جعلها الله عيداً مثابة للناس ، يجتمعون فيها وينتابونها للدُّعاء ، والذكر والنسك ». ٣

أمّا .. ما تقدم .. فإنه لا ينسجم مع سياق الحديث ، وما ذكرناه هو الظاهر منه ، ولا أَقَلَّ هو محتمل بحيث يبطل به الاستدلال .. حسبما أوضحناه فيما سبق ، بالنسبة لخصوص فقرة : لا تجعلوا قبري عيدا .. وأما بالنسبة لما أراده الامام

__________________

١ ـ قد تقدمت مصادر الرواية في ضمن مصادر رواية ابن داود عن أبي هريرة : لا تتخذوا قبري عيدا.

٢ ـ أشار الى ذلك أيضا في شفاء السقام / ص ٦٦ ، والصارم المنكي / ص ٢٨١ و ٢٩٨.

٣ ـ راجع : الصارم المنكي / ص ٢٩٨ عن ابن تيمية. وقد تقدم بعض ما يشير الى ذلك في ضمن ما نقلناه من استدلالاتهم في الفصل السابق.

٧٣
 &

السَّجاد (ع) ، فإن ما ذكرناه آنفا هو الظاهر الذي لا محيص عنه.

هذا .. بالاضافة الى ما أشرنا إليه سابقا من أن ذلك لا يدل على عدم جواز عمل الموالد ، والذكريات ..

المعاصي في المناسبات دليل المنع

ونحن لا ننكر أن ارتكاب أيٍّ من المعاصي لا يجوز ، ولكن عدم جواز ذلك لا يختص بالاحتفالات ، بل حرمتها مطلقة ، ولا يلزم من تحريمها تحريم إقامة الذكريات والمواسم والاحتفالات ، بل يمكن أن تكون هذه محكومة بالحلِّيَّة ، وتلك بالحرمة ، ولا ملازمة بينهما ، إذ يمكن إقامة الاحتفالات من دون تعرض للمعاصي إطلاقا ، كما هو معلوم ومشاهد ، وإلّا .. فلو استغلت الصلاة لخداع الناس مثلا فهل تكون الصلاة محرَّمةً مطلقاً أم أنَّ المحرَّم هو خصوص هذا الذي يضاف إلى الصلاة ، ويجب الابتعاد عنه وتركه ؟!

هذا كله عدا من أن بعض ما ذكروه مما يفعل في المولد ، اما ليس حراما واما محل الخلاف. وان كان بعضه لا شك في تحريمه.

إحياء سنن الجاهلية الخ ..

وأمّا أنَّ هذه المواسم إحياءٌ لسنن الجاهلية فهو أوَّل الكلام ، فلا بدَّ من إثباته ، وأمّا أنَّها إماتة لشرائع الاسلام من القلوب ، فالقائل بجوازها يقول بعكس ذلك تماما ، أي إنه يقول : إنها إحياءٌ لشرائع الإسلام في القلوب ، ولا سيما ما فيه تَذَكّرٌ للنبي ولأعماله العظيمة ، وللإنجازات الكبرى للإسلام وللمسلمين ..

ولو كان في هذه الاحتفالات هذا المحذور ، بسبب ما يحدث فيه من الفرح واللهو والانصراف عن التفكر في الله وفي دينه وشرعه .. لوجب تحريم كل ما فيه هذه الخصوصية ، حتى الزواج ، وملاعبة الاطفال ، والتجارة ووالخ .. فان ذلك أيضا فيه انصراف والهاء عن التفكير في الله وفي شرعه وأحكامه .. بل هذه الأمور أدعى لذلك لما فيها من الاستمرار والتكرار لذلك ، بخلاف المواسم والاحتفالات والزيارات والأعياد ، فإنها قليلة جدّاً بالنسبة لما ذكرناه وأشباهه.

٧٤
 &

مانعية الاختلاف في المولد

وأمّا أن الاختلاف في مولده (ص) يوجب عدم جواز ٱتخاذ يوم مولده عيداً .. فهو عجيب بل وأعجب من عجيب ، إذ ان معنى ذلك هو أن الاختلاف في يوم عرفة مثلاً ، أو في أول شهر رمضان ، أو في أول شوال ، بسبب الاختلاف في رؤية الهلال وعدمها يوجب عدم جواز الوقوف في عرفة ، وصوم أول الشهر وإفطاره .. كما أن الاختلاف الحاصل في أكثر المسائل الفقهية يوجب الحكم بالحرمة فيها .. ولا أدري لماذا نشأت الحرمة عن ذلك ، ولم ينشأ غيرها من الأحكام .. وكذلك الحال بالنسبة للاختلاف في ليلة القدر ، كذلك الاختلاف في أول ما نزل من القرآن .. فإنه ينبغي أن يوجب حرمة قراءة ما اختلف فيه في الصلاة ، وكذلك ما اختلف في كونه مكيّاً أو مدنيّاً أو في السفر ، أو الحضر ، أو أنه نزل فيه شأن فلان ، أو فلان الآخر ، وهكذا ..

أضف إلى ذلك .. أن من المعروف عند جميع الفقهاء ، والمتشرعة : أن ما يقع فيه الاختلاف ، ممّا كان في هذا القبيل ، يمكن أن يؤتى به برجاء إدراك الواقع ..

هذا كله .. عدا من أن القائل بجواز إقامة الاحتفالات لا يدَّعي أنَّها جزءٌ من الدين ، فلا بدَّ من مراعاة خصوصياتها لذلك .. بل هو يقول : إنّها من جملة الأشياء التي بقيت على الإباحة ، حيث لم يرد فيها نهي ، فمن شاء فعلها ، ومن شاء ، تركها ، من دون أن يكون كل من الفعل أو الترك ، ذا صفة تعبدية إطلاقا .. فتكون كسائر حركات الانسان وأفعاله .. التي لم يرد فيها ما يوجب ترجيحا ، او تقبيحا.

عدم الدليل العقلي .. والشرعي

وأمّا الاستدلال .. بأن ذلك لم يرد به عقل ولا شرع .. فقد تقم آنفا الجواب عنه وأنَّ من يدَّعي المنع هو الذي يحتاج الى الدليل .. وأما الآخرون ، فهم لا يدَّعون أنَّ ذلك ـ اعني الاحتفالات والموالد ، ونحوها ـ من الشرع حتى يحتاجوا إلى الدليل المثبت لكونه قد ورد فيه تشريع بخصوصه .. كما أنهم لا يدَّعون كونها من الأحكام العقلية التي لا مفرَّ منها ولا محيص عنها ، بل هم يدَّعون عدم وجود

٧٥
 &

مانع عقلي ولا شرعي منها ، وإنّما هي باقية على الإباحة حتى يثبت الرادع أو المعيِّن لأحد الاحكام الأخرى .. هذا كله .. عدا عن أنَّ في هذه المناسبات والمواسم من الفوئد ما يجعلها راحجة عقلاً إذا خلت من ارتكاب المعاصي ، أضف الى ذلك : أن ثمة بعض الشواهد والدلائل التي تقيد مشروعية هذه المناسبات والاحتفالات .. بعضها ناظر إلى خصوص بعض المواسم .. وبعضها الآخر له صفة اطلاق والعموم أو الخصوص اللفظي ، مع ملاحظة عموم العلة وخصوصها كما سنرى.

كما أن ثمة دليلاً خاصّاً بالمولد .. وبغيره مما يرتبط بالأمور الدينية كما سنرى.

إيهام المشروعية

وأمّا الاستدلال على عدم مشروعية المواسم ، بأنَّ الناس العاديِّين يتوهَّمون مشروعيتها فيرد عليه :

أولاً : إنها لا توهم ذلك ، لأن الكلَّ يعلم أنها من باب التكريم والتعظيم ، ولا يتوهم أحدٌ صدور أمر خاص بها ، وبما لها من العنوان ، وإنَّما يعتبرونها من قبيل الاحتفال بولادة ولد ، أو قدوم عزيز.

وثانياً : لو سلِّم ، فان ذلك لا يجعلها بدعة ، ولا يلزمنا دفع الوهم المذكور إلا كما يلزمنا تعليم أيِّ جاهل .. ولو أوجب الوهم المذكور صيرورتها بدعة ، لأوجبت هذه الأوهام تحريم كثير من المستحباب والمباحات ، أو استحباب أو إباحة كثير من المحرَّمات ، ونحو ذلك .. إذ قد يتوهم من المداومة على بعض النوافل مثلا وجوبها فهل تصبح من أجل ذلك بدعة محرَّمة ، أم أنَّ على الجاهل أن يتعلم ، وعلى العالم أن يعلِّمه بالطرق العادية والمألوفة.

التخفيف عن الأمة .. والتعظيم بالوجه الشرعي

وأمّا حكاية ان النبي (ص) أراد التخفيف عن أمته فلم يلزمها بالمواسم والموالد ، فقد تقدم وسيأتي أن الشارع قد طلبها بعنوانها العام ، ولا اقل من أنها من الأمور المباحة التي لا مانع منها شرعاً ولا عقلاً.

وأمّا قولهم : إن التعظيم لا بدَّ وأن يكون بالوجه الشرعي .. فلا يختلف

٧٦
 &

الكلام فيه عن سابقه.

وليراجع الوجهان اللَّذان ذكرناهما حين الكلام على تقسيمات البدعة ، ليتضح فساد ما ذكر هنا.

مشابهة النصارى

وأمّا حديث : أن في ذلك مشابهة للنصارى في أعيادهم الزمانية والمكانية ..

فيكفي أن نذكر : أن عيد الفطر وعيد الأضحى يشبهان الأعياد الزمانية للنصارى أيضا ، كما أن الحج مثلا ـ حسب تفسيرهم للعيد ـ يشبه أعيادهم المكانية بالإضافة إلى سائر أيام عيد الأضحى .. فينبغي أن يصبح عيد الفطر والأضحى محرَّمين وكذلك الحج ، حسب ما يقتضيه الدليل المذكور.كما وينبغي تحريم بناءِ المساجد ، بل وتحريم الاجتماع فيها للصلاة لأنه يشبه تجمُّع النصارى في كنائسهم .. كذا ينبغي تحريم الأكل والشرب ولبس الثياب .. وركوب الدابة الى غير ذلك.

وأيضا .. فإن المشابهة للنصارى ، إن كانت في أمور تقتضيها طبيعة البشر وحياتهم وتعاملهم العادي والطبيعي ، فلا مانع منها ، وإن كانت نتيجة لتشريع إلهٰي يتحرّى مصلحة البشر وسعادتهم ، فلا مانع من ذلك أيضا.

وأمّا إذا كانت نتيجة اجتهاد بشري في مقابل التشريع الإلهي ، بهدف إبطال الشرع والدين ، أو بهدف لزيادة أو إحداث النقص فيه ، فذلك هو الذنب ، وتلك هي الجريمة ، بعينها ، ولكن ما نحن فيه ، إنما هو من القسم الأول .. بل ومن القسم الثاني كما سيتضح ، لا من قسم الأخير ..

يوم ولادته .. يوم موته (ص)

قال أبو بكر جابر الجزائري ـ تبعا لغيره ـ حول إعلان الفرح بمولده الشريف : « .. وإن كان باليوم الذي ولد فيه ، فإنه أيضا اليوم الذي مات فيه ، ولا أحسب عاقلا يقيم احتفال فرح وسرور باليوم الذي مات فيه حبيبه .. إلى أن قال : أضف إلى ذلك : أن الفطرة قاضية : ان الانسان يفرح بالمولود يوم ولادته ، ويحزن عليه يوم موته ، فسبحان الله ، كيف يحاول الانسان غروراً تغيير

٧٧
 &

الطبيعة .. » ١.

ونقول : انه لم يَدَّعِ أحد ، أنه حتى في يوم الوفاة لا بد من الفرح والسرور ، ولا يلزم من قول المجوِّزين للمواسم والذكريات ذلك.

بل هم يقولون : إن كل ذكرى ، لا بدَّ وأن يعمل فيها ما يناسبها ، ولأجل ذلك نجد الحملة الشعواء من ابن تيمية ، ومن لفَّ لفَّه ، على الروافض على إقامتهم المآتم في عاشوراء ، والأفراح في يوم الغدير ، ويوم المولد ، وأشباهه. أضف الى ذلك .. أنهم كما يقيمون الافراح في مثل يوم مولده ، ومبعثه صلَّى الله عليه وآله ، وسلم كذلك هم يقيمون العزاء ، والحزن في مثل يوم وفاته.

وأمّا كون يوم وفاته هو يوم ولادته فهو ليس مما ينبغي أن يقال هنا ، لأن الذكريات إنَّما تقام لصاحب الذكرى في كل عام مرة ، وهذا يتوقف على الاختلاف في تواريخ الذكريات من حيث موقعها من الأشهر ، والأيّام فيه.

ولا تقام في كل أسبوع مرة ، بحيث ينشغل الناس بها باستمرار ، وتختل أعمالهم ، وتتأثر مصالحهم ، حتى يقال : إنه قد اجتمع يوم الحزن وهو الوفاة يوم الاثنين ، مع يوم الفرح ، وهو الولادة يوم الاثنين.

هذا كله .. فضلا عن اعترافه أخيرا ، بان الفطرة قاضية بالفرح يوم المولد ، وبالحزن يوم الوفاة ، والناس قد عملوا في هذا الأمر تماما وفق مقتضيات الفطرة ، والذين يمنعون من ذلك هم المخالفون لأحكام الفطرة ، ولمقتضياتها .. كما هو ظاهر للعيان.

وليس ما نحن فيه إلّا أَدلَّ دليل على ذلك.

موقف السلف من الأعياد والمواسم

وأمّا ما ذكروه من أنَّ السلف ، لم يقيموا هذه المواسم ، ولم يفعلوا شيئاً من هذه الأعياد ، أو لم ينقل ذلك عنهم. فنقول :

١ ـ لسوف يأتي إن شاء الله تعالى أنَّ السلف قد احتفلوا ببعض الأعياد

__________________

١ ـ الانصراف في ما قيل في المولد من الغلو والإجحاف / ص ٥٤ / ٥٥ ، وراجع كلام الفاكهاني ص ٨٥ وفي ورسالة حسن المقصد للسيوطي ، الموجودة في الحاوي للفتاوي / ج ١ / ص ١٩٠ ـ ١٩٢ ، والقول الفصل / ص ٥١.

٧٨
 &

والمواسم ، غير الفطر والأضحى ، ولكننا نجد هؤلاء الذين يدَّعون لأنفسهم التبيعة للسلف ، لا يعترفون بتلك الأعياد والمناسبات أيضا.

٢ ـ وعلى فرض أنَّ السلف لم يفعلوا بعض الأمور ، ومنها الأعياد غير الفطر ، والأضحى ، فإنَّ عدم فعلهم لا يضر ، مادام قد ٱنعقد الإجماع بعد ذلك على إقامة هذه المواسم والأعياد ، ولا سيما عيد المولد النبوي ، وعمَّ ذلك جميع قطاعات الأمة ، صغيرها وكبيرها ، عالمها وجاهلها ، رئيسها ومرؤوسها الخ .. كما تقدم حين الكلام على أول من عمل المولد النبوي صلَّى الله عليه وآله وسلم ، وذلك في الفصل الأول وبعده ..

وقد استمر عمل الناس على هذه المواسم .. الى قرب ظهور ابن تيمية ، الذي أقام الدنيا وأقعدها ، في إنكاره أموراً واضحة ، وفي دعاواه العريضة.

وهم أنفسهم قد صرَّحوا : بأن الإجماع معصوم ، وبأنه يمكن ٱنعقاده في كل عصر وزمان ، ويكون حجة.

بل لقد صرَّحوا : بأن الإجماع نبوَّةٌ بعد نبوَّةٍ ، وليس لهم دليل معصوم سواه ، وقد جعله الله في الشريعة خَلَفَ النبوَّة ، حيث كان نبيُّها خاتم الأنبياء ، لا يخلفه نبي ، فجعل ٱجتماع أمته بدلاً من نبوَّةٍ بعد نبوَّةٍ. ١

نعم .. وقد ٱنعقد هذا الإجماع أيضاً على إقامة مراسم النيروز ، والمهرجان ، وكذا عيد الحجامة ، والختان ، وغير ذلك في العصور الثلاثة الأُولِ ، ثم على إقامة المولد بعد ذلك ..

٣ ـ وأمّا بالنسبة لإنكار بعض السلف زيارة القبور ـ قبور أئمة أهل البيت ـ في مواسم معينة ، لأسباب سياسية ـ كما ظهر من المنصور ـ والمتوكل ـ ولتعصُّبات مذهبية ... إنْ صَلُحَ هذا دليلا ، فإنَّما يصلح دليلا لأتباع ذلك البعض ، وهو حجة عليهم ، دون غيرهم من سائر الفرق والمذاهب الإسلامية.

٤ ـ أضف إلى ذلك كله .. أنَّ آراء السلف وأقوالهم ، ومواقفهم

__________________

١ ـ راجع فيما تقدم : المنتظم لابن الجوزي / ج ٩ / ص ٢١٠ ، وبحوث مع أهل السنَّة والسلفية / ص ٢٧ عنه ، عن أبي الوفاء بن عقيل ، أحد شيوخ الحنابلة ، وراجع (حول عصمة الاجماع أيضا) كتاب : الإلمام / ج ٦ / ص ١٢٦ ، والإحكام في أصول الأحكام / ج ١ / ص ٢٠٤ و ٢٠٥ ، وحول حجية الاجماع في كل عصر / ص ٢٠٨ ، فما بعدها ، وراجع كذلك : تهذيب الأسماء واللغات ، القسم الاول / ج ١ / ص ٤٢ ، وسائر كتب الأصول الباحثة حول الاجماع وحجيته على مذاق أهل السنَّة.

٧٩
 &

متناقضة ، ومتباينة ، حتى الصحابة مع بعضهم البعض في كثير من المسائل ، فما الذي يكون حجة منها ؟ وكيف ؟ مع أنه لم ينقل لهم رأي في ذلك ، لا أنه قد نقل لهم رأي مخالف بالنسبة للأعياد.

٥ ـ ولو سلم صلاحية منعهم من زيارة القبور للاستدلال به ، فإنَّما يقتصر على مورده ، وهو زيارة القبور فحسب ، ولا يصلح للاستدلال به على تحريم الاحتفال بعيد الاستقلال مثلا ..

٦ ـ وأمّا قولهم : إنَّ السلف كانوا أكثر حبّاً لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم منّا فهو ينافي قول النبيِّ (ص) : إنه سيأتي أقوام يحبونه أكثر من حب أصحابه له ، ونقل ذلك أيضا عن عمار بن ياسر. ١

٧ ـ هذا كله .. عدا أنه لا يلزم على السَّلف أن يعملوا بجميع المباحات ، أو حتى بجميع المستحبات.

٨ ـ أضف إلى ذلك : أنَّ السلف إذا تأوَّلوا ـ خطأ ـ حديث : « لا تتخذوا قبري عيداً » على ذلك ، فامتنعوا من عمل الموالد والذكريات. فلو أدركنا نحن خطأهم في فهم النص أو في الاستظهار منه كان لنا مخالفتهم ، بعد أن فرضنا : أنَّ باب الاجتهاد كان ولا يزال مفتوحا ، حسبما اعترف به ابن تيمية الذي حكم بالأجر لمن اجتهد في هذا الأمر وأخطأ.

٩ ـ أمّا تفسير الآيات القرآنية ... فقد جاء النص ليؤكد ويصرح بأنَّ القرآن إنَّما يفهم مع تمادي القرون والأزمان حيث تتضح مداليله ، وتظهر معالمه ، فبعد ان روى ابن المبارك حديث : أنّه ما من آية في كتاب الله إلا ولها ظهر وبطن ، ولكل حد مطلع ، قال : « سمعت غير واحد في هذا الحديث : ما في كتاب الله آية إلّا ولها ظهر وبطن يقول : لها تفسير ظاهر ، وتفسير خفي ، ولكل حد مطلع. يقول يطلع عليه قوم فيستعملونه على تلك المعاني ، ثم يذهب ذلك القرن ، فيجيءُ قرن آخر ، فيطلعون منها على معنى آخر ، فيذهب ما كان عليه من كان قبلهم ، فلا يزال الناس على ذلك إلى يوم القيامة .. الخ. ٢

__________________

١ ـ راجع : مجمع الزوائد / ج ١٠ / ص ٦٦ ، عن أحمد والبزار والطبراني ، عن أبي ذر وأبي هريرة عنه (ص) ، وعن عمار بن ياسر ، وكنز العمال / ج ٢ / ص ٣٧٤ عن ابن عساكر ، عن أبي هريرة ..

٢ ـ الزهد والرقائق ، قسم ما رواه نعيم بن حماد / ص ٢٣ ، ولتوضيح ذلك لا بأس بمراجعة كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلَّى الله عليه وآله وسلم / ج ١ / ص ٢٠٠ ـ ٢١٦.

٨٠