المواسم والمراسم

السيد جعفر مرتضى العاملي

المواسم والمراسم

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منظمة الاعلام الإسلامي
المطبعة: سپهر
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٣٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

والظاهر هو أنه لا منافاة بين الأقوال السالفة ، لإمكان أن يكون مرادهم أن صاحب أربل أول من أحدثه في أربل ، وأُولئك أول من أحدثه في القاهرة ، وفي مصر ، نعم ... تبقى المناقاة بين ما تقدم نقله عن السيد رشيد رضا ، وما نقل عن غيره ، حول أول من أحدثه في مصر.

كما أن من الممكن أن يقصد البعض : أَن حاكم أَربل أَول من احتفل بالمولد احتفالاً عظيماً ، وبهذه الصورة الخاصة ، التي كانت تكلفه عشرات بلْ مئات الأُلوف من الدنانير ، حسبما صرَّحوا به.

ومهما يكن من أمر ... فإن الاهتمام بالمولد ، كان أسبق من التواريخ المتقدمة حيث نجدهم يقولون : كان ازدياد التعظيم للنبيِّ عليه السلام بين أهل الصلاح والورع سبباً في أن صار يحتفل بمولده عام ٣٠٠ هـ. وكان ذلك بدعة في نظر المتمسكين بالعادات الاسلامية الأولى.

ويحكى عن الكرجي (المتوفى عام ٣٤٣ ـ ٩٥٤ م) وكان من الزهّاد المتعبدين : أنه كان لا يفطر إلّا من العيدين ، وفي يوم مولد النبيِّ عليه السلام ... » ١.وقال السخاوي : « لم يفعله أحد من السلف في القرون الثلاثة وإنما حدثَ بعدُ » ٢.

أمّا نحن فنقول : إن الاهتمام بالمناسبات والمواسم قد بدأ من عهد النبي صلَّى الله عليه وآله ، ومن شخص رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ، حسبما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى ...

المولدُ عيدٌ عند البعض ، وما يفعل فيه

قال القسطلاني : « ... ولا زال أهل الاسلام يحتفلون بشهر مولده عليه السلام ، ويعملون الولائم ، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ، ويظهرون السرر ويزيدون في المبرَّات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ، ويظهر عليهم من بركاته كلُّ فضلٍ عميم ».

إلى أن قال : « فرحم الله ٱمرءً اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً ،

__________________

١ ـ الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري / ج ٢ / ص ٢٩٨.

٢ ـ السيرة الحلبية / ج ١ ص ٨٣ و ٨٤ وراجع السيرة النبوية لدحلان / ج ١ ص ٢٤.

٢١
 &

ليكون أشدَّ علة على من في قلبه مرض ، وأعياهُ داءً.

ولقد أطنب ابن الحاج في الدخل في الإنكار على ما أحدثه الناس من البدع والأهواء ، والغناء بالآلات المحرَّمة عند عمل المولد الشريف ، فالله تعالى يثيبهُ على قصده الجميل ١ ». وقال ابن عباد في رسائله الكبرى : « ... وأما المولد فالذي يظهر لي : أنه عيد المسلمين ، وموسم من مواسمهم. وكل ما يفعل فيه مما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك ، من إيقاد الشمع ، وإمتاع البصر والسمع ، والتزيُّن بلباس فاخر الثياب ، وركوب فاره الدواب ، أمر مباح لا ينكر على أحد » ٢.

وعن ابن حجر انه قال : « واما ما يعمل فيه ، فينبغي الاقتصار على ما يفهم منه الشكر لله تعالى ، من التلاوة ، والإطعام ، والصدقة ، وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية ... وأمّا ما يتبع ذلك من السماع واللهو ، وغير ذلك ، فما كان من ذلك مباحا ، بحيث لا ينقص السرور بذلك اليوم ، لا بأس بإلحاقه به ، وأمّا ما كان حراما ، أو مكروها ، فيمنع ، وكذا ما كان خلاف الأولى » ٣.

ابن تيمية ... والغناء في العيد

وقد أوضح ابن تيمية : أن العيد لا يختص بالعبادة ، والصدقات ، ونحوها ، بل يتعدَّى ذلك إلى اللعب ، وإظهار الفرح أيضا.

وقد رأى ابن تيمية : أن بذلكَ أصلاً في السنة ، أي في الرواية التي تذكر أنه قد كان عند النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم جوارٍ يغنين ، فدخل أبوبكر ، فأنكر ذلك ، وقال : أبمزْمورِ الشيطان في بيت رسول الله ؟

فقال له النبي (ص) : ان لكل قوم عيداً ، وإنَّ عيدنا هذا اليوم. ٤

__________________

١ ـ المواهب اللدنية / ج ١ / ص ٢٧ وراجع : ايضا السيرة النبوية لدحلان / ج ١ / ص ٢٤ ، والسيرة الحلبية / ج ١ / ص ٨٣ و ٨٤.

٢ ـ راجع : القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ص ١٧٥.

٣ ـ تلخيص من رسالة حسن المقصد للسيوطي ، والمطبوعة مع : النعمة الكبرى على العالم / ص ٩٠.

٤ ـ اقتضاء الصراط المستقيم / ص ١٩٤ ـ ١٩٥ والرواية في ص ١٩٣ عن الصحيحين. وراجع : صحيح البخاري / ج ١ / ص ١١١ ط الميمنية ، وصحيح مسلم / ج ٣ / ص ٢٢ ، والسيرة الحلبية / ج ٢ / ص ٦١ ـ ٦٢ ، وشرح مسلم للنووي بهامش إرشاد الساري / ج ٤ / ص ١٩٥ ـ ١٩٧ ، ودلائل الصدق / ج ١ /

`

٢٢
 &

وأضاف : « إن المقتضي لما يفعل في العيد ، من الأكل والشرب ، واللباس والزينة ، واللعب والراحة ، ونحو ذلك ، قائم في النفوس كلها ، إذا لم يوجد مانع ، خصوصا نفوس الصبيان ، والنساء ، وأكثر الفارغين » ١.

ولكننا نعتقد : ان الرواية المتقدمة لا أساس لها من الصحة ، لأن الروايات في ذلك متضاربة ومتناقضة ، ولأن أكثرها يدل على حرمة الغناء ، حيث لا يعقل أن يحلل الشارع ما يعتبره العقلاء من مزامير الشيطان ... إلى آخر ما ذكرناه في كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلَّى االله عليه وآله وسلم / ج ٢ / ص ٣١٤ ـ ٣٢٩ ، فليراجع ...

الغناء في العيد عند اهل الكتاب

والغريب في الامر اننا نجد ابن كثير الحنبلي ، حينما وصل به الكلام الى الحديث عن مريم أخْت عمران ، التي كانت في زمان موسى ، يقول :

« ... وضربها بالدف في مثل هذا اليوم ، الذي هو أعظم الأعياد عندهم ، دليل على أنه قد كان شرع من قبلنا ضرب الدف في العيد ... » ٢.

ثم نراه يحكم بجواز ذلك في الأعياد ، وعند قدوم الغُيّاب ، تماما على وفق ما استنبطه من رواية مريم ، وذلك استنادا للرواية المتقدمة ، التي استند إليها سلفه ابن تيمية.

التهنئة في العيد

قال ابن حجر الهيثمي : « وأخرج ابن عساكر ، عن إبراهيم بن أبي عيلة ، قال : دخلنا على عمر بن عبد العزيز يوم العيد ، والناس يسلمون عليه ويقولون : تقبَّلَ الله منّا ومنكَ يا أميرَ المؤمنين ، فيردُّ عليهم ، ولا ينكرُ عليهم.

قال بعض الحفاظ الفقهاء من المتأخرين : « وهذا أصلُ حسنٌ للتهنئة بالعيد

__________________

ص ٣٨٩ ، وسنن البيهقي / ج ١٠ / ص ٢٢٤ ، واللمع لأبي نصر / ص ٢٧٤ ، والبداية والنهاية / ج ١ / ص ٢٧٦ ، والمدخل لابن الحاج / ج ٣ / ص ١٠٩ ، والمصنف / ج ١١ / ص ١٠٤ ، ومجمع الزوائد ٢ / ص ٢٠٦ عن الطبراني في الكبير.

١ ـ اقتضاء الصراط المستقيم / ١٩٥.

٢ ـ البداية والنهاية / ج ١ / ص ٢٧٦.

٢٣
 &

والعام ، والشهر ، انتهى. وهو كمال قال ، فان عمر بن عبد العزيز كان من أوعية العلم والدين ، وأئمة الحق والهدى الخ ... » ١.

وقبل ذلك نجد أن هذا النص قد قاله عمرو الانصاري لأبي وائلة فيردُّ عليه نفس العبارة ٢ :

وليت شعري ، لماذا لا تكون تهنئة الشيخين لعليٍّ يوم الغدير أساسا لتهنئة في العيد ٣.

المولد في جميع الأقطار الاسلامية

وقال السخاوي : « لم يفعله أحد من السلف في القرون الثلاثة ، وإنما حدث بعد ، ثم لا زال أهل الاسلام ، من سائر الأقطار ، والمدن الكبار يعملون المولد ، ويتصدَّقون في لياليه بأنواع الصدقات ، ويعتنون بقراءة مولده الكريم ، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم » ٤.

من خواص المولد

قال ابن الجوزي : « ومن خواصه : أنه أمان في ذلك العام ، وبشرى عاجلة بنيل البُغْية والمرام » ٥.

« وحكى بعضهم : أنه وقع في خطب عظيم ، فرزقه الله النجاة من أهواله بمجرد أن خطر عمل المولد النبوي بباله » ٦.

استحباب القيام

وقد ذكروا : أنهم كانوا حينما يقرؤون المولد ، فإذا وصلوا إلى ذكر ولادته (ص)

__________________

١ ـ الصواعق المحرقة / ص ٢٢٣.

٢ ـ مجمع الزوائد / ج ٢ / ص ٢٠٦ عن الطبراني في الكبير.

٣ ـ راجع كتاب : الغدير ، للعلامة الأميني ، الجزء الأوّل.

٤ ـ السيرة الحلبية / ج ١ / ص ٨٣ ـ ٨٤ ، والسيرة النبوية لدحلان / ج ١ / ص ٢٤ ، وراجع تاريخ الخميس / ج ١ / ص ٢٢٣.

٥ ـ المواهب اللدنية / ج ١ ص ٢٧ ، وتاريخ الخميس / ج ١ ص ٢٢٣ وجواهر البحار / ص ٣ / ص ٣٤٠ عن أحمد عابدين ، والهيثمي والقسطلاني ، والسيرة النبوية لدحلان / ج ١ / ص ٢٤.

٦ ـ جواهر العلم / ج ٣ / ص ٣٤٠.

٢٤
 &

يقرمون وقوفا ، احتراما وإجلالا ، وقد تكلَّموا في حكم هذا القيام :

فقال الصفوري الشافعي : « مسألة القيام عند ولادته ، لا إنكار فيه ، فانه من البدع المستحسنة. وقد أَفتىٰ جماعة باستحبابه عند ذكر ولادته. وقال جماعة بوجوب الصلاة عليه عند ذكره ، وذلك من الإكرام والتعظيم له (ص) ، وإكرامه وتعظيمه واجب على كل مؤمن. ولا شك أن القيام له عند الولادة من باب التعظيم والإكرام ... » ١.

وسيأتي من الحلبي الشافعي وغيره ، التأكيد على مشروعية القيام عند ولادته (ص).

النعمة الكبرى على العالم

هذا ... وقد أُلِّفَ العديد من الكتب والرسائل ، ونشرت بحوث كثيرة ، تتحدث عن مشروعية المولد النبوي ، وسائر المواسم والمراسم ، هذا عدا عن البحوث المبثوثة في الكتب المختلفة ، المؤلفة لاغراض أخرى ...

وعلى هذا ...

فليس كتاب التنوير لابن دحية ، ثم رسالة السيوطي ، المسمَّاة بحسن المقصد ، ولا المولد الذي أَلَّفه ابن الديبع هي البداية ، ولا النهاية في هذا المجال.

ولكن ما لفت نظرنا هنا هو ذلك الكتاب المطبوع باسم : « النعمة الكبرى على العالم ، في مولد سيد ولد آدم » والمنسوب الى شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي الشافعي. وهو اسم صاحب الكتاب المعروف المسمى : بالصواعق المحرقة.

حيث قد تضمن هذا الكتاب كلمات منسوبة إلى ابي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي عليه السلام ، والحسن البصري ، والجنيد البغدادي ، ومعروف الكرخي ، وفخر الدين ، والإمام الشافعي ، والسري السقطي.

ونحن نشك فيه نسبة تلك الكلمات الى هؤلاء وذلك لأننا لم نعثر على شيء منها في المصادر الاخرى ، التي في حوزتنا ، وإن كنا لا ندَّعي أننا بلغنا الغاية في الاِستقصاء.

__________________

١ ـ نزهة المجالس / ج ٢ / ص ٨٠.

٢٥
 &

وعلى كل حال ، فإننا نَكِلُ أَمر هذه المنسوبات ، وأمر الكتاب ومؤلفه الحقيقي إلى الله ، فهو المطَّلع على السرائر ، والمحيط بما في الخواطر ...

٢٦
 &

الفصل الثاني



استدلالات لا تصح

٢٧
 &

المواسم والمراسم ـ السيد جعفر مرتضى العاملي

٢٨
 &



بداية

نجد للمجوِّزين لإقامة المواسم والمراسم استدلالات عديدة ، ولكننا لا نجد من بينها ما يجدي في إثبات ما يريدون إثباته ، ولا يصلح للاستدلال به ، ونحن نشير إلى طائفة من أدلتهم تلك ، مع التذكير ببعض ما يرد عليها. فنقول ،

أبو لهب ... وعتق ثويبة

إنهم يذكرون : أن أبا لهب حينما بشر بولادته (ص) ، اعتق مولاته ثويبة ، فرآهُ العباس ـ وفي رواية اليعقوبي : رآه النبي (ص) ـ بعد موته في المنام ، فأخبره انه يخفف عنه العذاب كل يوم اثنين لعتقه ثويبة حينما بشر بذلك. ١

قال القسطلاني : « قال ابن الجزري : فإذا كان هذا أبو لهب الكافر الذي

__________________

١ ـ راجع : السيرة النبوية لابن كثير / ج ١ / ص ٢٢٤ ، البداية والنهاية / ج ١ / ص ٢٧٣ ، وتاريخ اليعقوبي / ج ٢ / ص ٩ ، وفتح الباري / ج ٩ / ص ١٢٤ ، وعمدة القاري / ج ٢ / ص ٩٥ ، والسيرة الحلبية / ج ١ / ص ٨٤ و ٨٥ ، والسيرة النبوية لدحلان / ج ١ / ص ٢٥ ، ورسالة حسن المقصد للسيوطي ، المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم / ص ٩٠ ، وارشاد الساري / ج ٨ / ص ٣١ ، وهو ظاهر صحيح البخاري / ج ٣ / ص ١٥٧ ط سنة ١٣٠٩ هـ ، وجواهر البحار / ج ٣ / ص ٣٣٨ / ٣٣٩ ، وتاريخ الاسلام للذهبي / ج ٢ / ص ١٩ ، والوفاء / ص ١٠٧ ، ودلائل النبوة للبيهقي / ج ١ / ص ١٢٠ ، وبهجة المحافل / ج ١ / ص ٤١ ،

=

٢٩
 &

نزل القرآن بذمه ، جُوزيَ في النار بفرحه ليلة مولد النبي (ص) به ، فما حال المسلم الموحِّد من أمته عليه السلام ، الذي يسر بمولده ، ويبذل ما تصل اليه قدرته في محبته ؟ لعمري ، إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله العميم جنات النعيم ». ١

ورحم الله حافظ الشام شمس الدين محمد بن ناصر ، حيث قال :

إذا كان هذا كافر جاء ذمُّه

تَبَّتْ يَداه في الجحيم مُخلَّدا

أتى أَنَّه في يوم الاثنين دائما

يخفف عنه للسرور بأحمدا

فما الظن بالعبد الذي كان عمره

بأحمدَ مسرورا ومات موحدا ٢

ولكن هذا الاستدلال لا يصح ، وذلك لانَّ إعتاق ثويبة قد كان بعد مولده (ص) بزمن طويل ، أي بعدما هاجر النبي (ص) الى المدينة ، بعد أن حاولت خديجة شراءها من أبي لهب لتعتقها ، بسبب ما يزعم من إرضاعها للنبي (ص) فرفض أبو لهب بيعها. ٣

وتوجيه الحلبي لذلك ، بأن من الممكن أن يكون أبو لهب ، قد أعتقها أوَّلاً لكنه لم يذكر ذلك ولم يظهره ، ورفض بيعها لخديجة لكونها كانت معتوقة ، ثم عاد فأظهر ذلك ٤ ... هذا التوجيه غير وجيه ، لأن من غير المعقول أن لا يظهر الناس ولا يطلّعوا على عتقه لجاريته طيلة حوالي خمسين سنة ، كما أن هذه الجارية التي اعتقها

__________________

وطبقات ابن سعد / ج ١ قسم ١ / ص ٦٧ ـ ٦٨ ، والمواهب اللدنية / ج ١ / ص ٢٧ ، وتاريخ الخميس / ج ١ / ص ٢٢٢ ، وسيرة مغلطاي / ص ٨ ، وصفة الصفوة / ج ١ / ص ٦٢ ، ونور الابصار / ص ١٠ ، وإسعاف الراغبين بهامشه / ص ٨.

١ ـ المواهب اللدنية / ج ١ / ص ٢٧ ، ورسالة حسن المقصد للسيوطي ، المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم ص ٩٠ ـ ٩١ ، وتاريخ الخميس / ج ١ / ص ٢٢٢.

٢ ـ السيرة النبوبة لزيني دحلان / ج ١ / ص ٢٥ ، ورسالة السيوطي المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم / ص ٩١.

٣ ـ أنساب الأشراف (سيرة النبي « ص ») / ص ٩٥ ـ ٩٦ ، والكامل لابن الأثير / ج ١ / ص ٤٥٩ ، وطبقات ابن سعد / ج ١ / قسم ١ / ص ٦٧ ، والإصابة / ج ٤ / ص ٢٥٨ ، وإرشاد الساري / ج ٨ / ص ٣١ ، والسيرة الحلبية / ج ١ / ص ٨٥ ، وراجع الوفاء / ص ١٠٧ ، وفتح الباري / ج ٩ / ص ١٢٤ ، والاستيعاب بهامش الإصابة / ج ١ / ص ١٦ ، وذخائر العقبى / ص ٢٥٩ ، وقاموس الرجال / ج ١٠ / ص ٤١٧.

٤ ـ السيرة الحلبية / ج ١ / ص ٨٥.

٣٠
 &

لماذا بقيت عنده طيلة هذه المدة المتمادية وهي خارجة عن ملكه .. ؟ ولماذا لم يظهر ذلك إلّا بعد هجرته (ص) ؟ فما هو الداعي له للكتمان ، ولا سيما قبل النبوة ؟ وما الداعي للاظهار ، ولا سيما بعد الهجرة ؟

وأوردوا أيضا على الرواية بأنها مرسلة ،

وبأنه لا حجِّيَّة في المنامات ،

وبأنها مخالفة لظاهر القرآن : الذي يقول عن الكفار : « وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ». ١

ولكن إذا ثبت أنَّ الرأي هو النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ، كما هو مقتضى رواية اليعقوبي ، كان المنام حجة ... كما أنهم قد ناقشوا في هذا الاعتراض الأخير بما لا مجال لذكره ، فلتراجع المصادر المتقدمة ، والعمدة هو ما ذكرناه نحن آنفا ونذكر أخيرا ... ان فرحه لو كانَ استجابة لحاجة نفسية طبيعية ، ولم يكن لله ، فلماذا يثاب عليه !؟

الاستدلال بفعل حاكم إربل

ونجد في كلماتهم أيضا الاستدلال بفعل حاكم اربل ، الذي ابتكر عمل المولد على ذلك النحو المخصوص حسبما ذكروه ، وقد كان فاضلا ورعا ديِّنا الى آخر ما وصفوه به. ٢

ولكنه استدلال لا يصح أيضا. لأن التشريع لا يصح من أحد إلّا من صاحب الشريعة ، ولم يكن هذا الرجل من العلماء ، حتى يحمل عمله على أنه قد استند فيه إلى دليل شرعي ، فلعله ، كان غافلا عن اللوازم الفاسدة لمثل هذا العمل ، أو حتى متعمِّداً لها ...

إلّا إذا كان المقصود والاستدلال على هذا الامر بالإجماع المتحقق في زمانه وحضور العلماء وغيرهم لتلك المناسبات كما يظهر من سياق كلامه ... ولسوف نشير إليه فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

__________________

١ ـ راجع : فتح الباري / ج ٩ / ص ١٢٤ / ١٢٥ ، وارشاد الساري / ج ٨ / ص ٣١ ، وعمدة القاري / ج ٢٠ / ص ٩٥ ، والقول الفصل / ص ٨٤ ـ ٨٧.

٢ ـ راجع : رسالة حسن المقصد للسيوطي ، والمطبوعة مع كتاب : النعمة الكبرى على العالم / ص ٨٠.

٣١
 &

ولكنه ايضا استدلال باطل عندنا ، لأننا نعتقد : أن الإجماع بما هو هو لا حجِّيَّة فيه ، إلّا بسبب اشتماله على قول النبي المعصوم (ص) ، أو قول أحد الأئمة المعصومين ، أما دون ذلك فلا اعتبار به ، ولكن المشهور عند أولئك المستدلين بهذه الأدلة هو حجيَّته متى تحقق ، حتى ولو بعد عصر النبي (ص) ، ثم ما تلاه من أعصار فيكون حجة عليهم ... فراجع كتب الاصول. ١

العقيقة ... دليل آخر

قال السيوطي ما حاصله : « إنه له تخريج عمل المولد على أصل آخر ، وهو أنه (ص) قد عقّ عن نفسه بعد النبوة ، مع أنه قد ورد أنَّ جدَّه عبد المطلب عقَّ عنه في سابع ولادته ... فهذا يعني أنه (ص) أراد إظهار الشكر على إيجاد الله تعالى إيّاه رحمة للعالمين ، وتشريفاً لأمته ، فيستحب الحب لنا أيضا إظهاراً للشكر بمولده ، بالاجتماع وإطعام الطعام ، ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرّات ». ٢

ولكن هذا لا يصلح للاستدلال ايضا ، اذا لم يثبت ان ذلك كان منه (ص) فرحا وابتهاجا ، بما ذكر ، فان ذلك لا يعدو عن ان يكون استنباطا استحسانيا قد يوافق الواقع وقد لا يوافقه. هذا كله بالاضافة الى عدم ثبوت انه (ص) قد عق عن نفسه ٣ ، وعدم ثبوت ان عبد المطلب كان قد عقَّ عنه (ص) ... ٤ فلا بد من ثبوت ذلك بشكل قطعي ليتكلم في دلالته على المدعى او عدم دلالته.

مضافا الى ان العقيقة بنفسها مستحبة في الشرع ، وقد ثبت ذلك بالدليل القطعي ولكن لا يلزم من استحبابها ، والعمل بها جواز اقامة المراسم والمواسم في اوقات معينة وبكيفية خاصة ... حتى لو ثبت أنَّ ذلك كان فرحا واستبشاراً بمولده (ص) ، وإلّا لكرّرها بعد ذلك في كل عام ، كما يراد إثباته ، فلعل للاستبشار بالعقيقة مرَّةً واحدةً في العمر خصوصية عند الشارع ...

__________________

١ ـ راجع : المستصفى وفواتح الرحموت ، والاحكام ، إرشاد الفحول ، بحث الإجماع ...

٢ ـ راجع : رسالة حسن المقصد للسيوطي ، المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم ص ٩٠.

٣ ـ روى ذلك البيهقي في السنن الكبرى ج ٩ ص ٣٠٠.

٤ ـ الرواية تهذيب تاريخ دمشق ج ١ ص ٢٨٣.

٣٢
 &

الاستدلال بيوم عاشوراء

وقد نقل السيوطي عن أبي الفضل ابن حجر قوله عن عمل الموالد للنبي (ص) : « وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت ، وهو ما ثبت في الصحيحين ، من أن النبي (ص) قدم المدينة ، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فسألهم ، فقالوا : هذا يوم أغرق الله فيه فرعون ، ونجَّىٰ موسى ، ونحن نصومه شكراً لله تعالى ، فقال (ص) : فأنا أحقُّ بموسى عليه السلام منكم ، فصامه ، وأمر بصومه ...

وفي نص آخر : « كان يوم عاشوراء يوما تصومه اليهود ، تتخذه عيداً ، فقال رسول الله (ص) : صوموه أنتم ». ١

قال ابن حجر : فيستفاد منه ، فعل الشكر لله تعالى على ما منَّ به في يوم معيَّن ، من إحداث نعمة ، أو دفع نقمة. ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة ... وأيُّ نعمة أعظم من نعمة بروز نبيِّ الرحمة في ذلك اليوم. » ٢

وقد رد البعض على هذا الاستدلال بأنَّ السلف الصالح لم يعملوا بهذا النص ، على الوجه الذي يفهمه منه مَنْ بعدهم ، وهذا يمنع من اعتبار هذا النهي صحيحا ، فاستنباط ذلك من الحديث مخالف لما أجمع عليه السلف ، من ناحية فهمه ، ومن ناحية العمل به ، وما خالف إجماعهم ، فهو خطأ. ٣

ونقول : إن هذا الردَّ صحيحا ، كما سيتضح في الفصل الذي نردُّ فيه على أدلة المانعين ... ولذا فلا حاجة الى تكرار الكلام هنا ...

__________________

١ ـ راجع : القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ص ٧٨ و ٧٩ ، وسنن الدارمي / ج ٢ / ص ٢٢ ، وصحيح البخاري / ج ١ / ص ٢٢٤ ، وصحيح مسلم / ج ٣ / ص ١٥٩ و ١٥٠ ، ومسند أحمد / ج ٤ / ص ٤٠٩ ، وزاد المعاد ج ١ / ص ١٦٤ فما بعدها ، وكشف الأستار / ج ١ / ص ٤٩٠ ، ومجمع الزوائد / ج ٣ / ص ١٨٥. والحديث طرق متعددة ، ونصوص مختلفة ، وهو موجود في مختلف المصادر الحديثية عند أهل السنة. ولتراجع رسالة حسن المقصد للسيوطي ، المطبوعة مع : النعمة الكبرى على العالم / ص ٨٩ ، والسيرة النبوية لدحلان / ج ١ / ص ٢٥ ، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيِّين / ص ١١٤ ، وعجائب المخلوقات ، بهامش حياة الحيوان / ج ١ / ص ١١٤ ، والمنتقى من أخبار المصطفى / ج ٢ / ص ١٩٢ ، ومجمع الزوائد / ج ٣ / ص ١٨٤ ـ ١٨٨ ، ومنحة المعبود / ج ١ / ص ١٩٣.

٢ ـ تلخيص من رسالة حسن المقصد للسيوطي ، المطبوع مع : النعمة الكبرى على العالم / ص ٨٩ ـ ٩٠ وراجع : التوسُّل بالنبيِّ وجهلة الوهابيِّين / ص ١١٤ / ١١٥.

٣ ـ ارجع : القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ص ٧٨ و ٧٩.

٣٣
 &

ولكننا نودُّ أن نشير هنا إلى أمر آخر لم نتعرض له هناك ، وخلاصته :

اننا نعتقد : أن ما ورد من الأحاديث التي تحث على صيام يوم عاشوراء ، لا يمكن أن تصح ، وقد بحثنا هذا الموضوع مفصلا في كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلَّى الله عليه وآله وسلم / ج ٣ / ص ١٠٤ ـ ١١٠.

وذلك لأنه صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يكره موافقة أهل الكتاب في كلِّ أحوالهم ، حتى قالت اليهود : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلّا خالفنا فيه ... ١ وفي الحديث : « من تشبَّه بقوم فهو منهم ». ٢

بالاضافة إلى التناقض الشديد بين الروايات المشار إليها ... ٣

هذا عدا عن أن اسم عاشوراء إسلامي لا يعرف في الجاهلية. ٤

ولسنا هنا في صدد تقصّي هذا البحث ، فمن أراد المزيد فليراجع : الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلَّى الله عليه وآله وسلم. وسيأتي المزيد من الكلام حول يوم عاشوراء في فصل : لن يخدع السراب.

تعظيم شعائر الله سبحانه

وقد استدل بعض الاصدقاء ٥ في مقال له حول نفس هذا الموضوع بقوله تعالى : « ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ » ٦.

على اعتبار : أن شعائر الله سبحانه هي أعلام دينه ، خصوصا ما يرتبط

__________________

١ ـ راجع : الدخل لابن الحاج / ج ٢ / ص ٤٨ ، والسيرة الحلبية / ج ٢ / ص ١١٥ ، ومفتاح كنوز السنَّة عن عدد من المصادر ، ومسند أحمد / ج ٣ / ص ٢٤٦ ، والجامع الصحيح للترمذي / ج ٥ / ص ٢١٤ / ٢١٥ ، وصحيح مسلم / ج ١ / ص ١٦٩ ، وسنن أبي داود / ج ٢ / ص ٢٥٠ / وج ١ / ص ٦٧ ، وسنن الدارمي / ج ١ / ص ٢٤٥ وسنن النسائي / ج ١ / ص ١٨٧.

٢ ـ المدخل لابن الحاج / ج ٢ / ص ٤٨ ، وسنن أبي داود / ج ٤ / ص ٤٤ ، ومسند أحمد / ج ٢ / ص ٥٠ ، ومجمع الزوائد ، / ج ١٠ / ص ٢٧١ عن الطبراني في الأوسط.

٣ ـ الصحيح من سيرة النبي / ج ٣ / ص ١٠٥.

٤ ـ مجمع البحرين / ج ٣ / ص ٤٠٥ ، والجمهرة في لغة العرب لابن دريد / ج ٤ / ص ٢١٢ ، والنهاية لابن الأثير / ج ٣ / ص ٢٤٠.

٥ ـ المستدل هو صديقنا الشيخ رسول جعفريان حفظه الله في مقال له حول هذا الموضوع.

٦ ـ الحج / ٣٢ ـ ٣٣.

٣٤
 &

منها بالحج ، كما قاله القرطبي ، لأنَّ أكثر أعمال الحج إنما هي تكرار لعمل تاريخي ، وتذكير بحادثة كانت قد وقعت في عهد إبراهيم عليه السّلام ، وشعائر الله مفهوم عام شامل للنبيِّ (ص) ولغيره ، فتعظيمه (ص) لازم. ومن أساليب تعظيمه إقامة الذكرى في يوم مولده ، ونحو ذلك ، فكما أن ذكرى ما جرى لإبراهيم عليه السلام من تعظيم شعائر الله سبحانه ، كذلك تعظيم ما جرى للنبيِّ الأعظم ، محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يكون من تعظيم شعائر الله سبحانه.

ونقول : إنه لا بدَّ من إصلاح هذا الاستدلال ، والقول : بأنه لا يتوقف على دعوى أن شعائر الحج ما هي إلّا تكرار لحوادث ، تاريخية ، ليمنع ذلك بعدم ثبوت ذلك ، أولا ، وبأنه قد كان يمكن التذكير بحوادث تاريخية مهمة جداً غيرها ، ولعل بعضها أهم بكثير من قضية التحيُّر بين الصفا والمروة في طلب الماء ، أو نحوه مما يذكر هنا.

كما لا يرد على هذا الاستدلال : أن تفسير القرطبي للشعائر باعلام الدين ، الذي هو معنى عام ، لا ينافي اختصاص هذا التعبير في القرآن بـ « أعمال الحج » ومواضعه ، لا يرد عليه ذلك ، لأن العبرة إنما هي بعموم اللفظ ، لا بخصوصية المورد.

ولكن يلاحظ : أن القرآن يكرر ويؤكد على أن في هذه الشعائر منافع للناس ، فهو يقول في الآية السابقة وهو يتحدث عن أعمال الحج « ... ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏ » كما ويشير إلى أن عمل الحج نفسه يحصلُ الناس فيه على المنافع كما قال تعالى : « لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ».

وفي آية أخرى في نفس الموضوع ، نجده تعالى يقول : « وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْر فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ». ١

وقد أطلق في القرآن لفظ المشعر الحرام على المزدلفة ، كما وأطلق على الصفا والمروة انهما من شعائر الله ...

فالظاهر : ان المراد هو : أن هذه الأماكن ، وكذلك البدن التي يشعرها

__________________

١ ـ الحج / ٣٦ و ٣٧.

٣٥
 &

الحاج ويعلمها إنما هي من أعلام المناسك ، ودلائله المظهرة لكمال انقياد العباد له تعالى ، فلا يجوز التعدِّي على هذه الأعلام ، ولا يجوز تجاوزها ، بل لا بد من تعظيمها والتقيد بها ، وقد ورد النهي عن تجاوزها وتعدّيها في قوله تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ». ١ وقبل آية تعظيم شعائر الله ، تجده تعالى يقول وفي نفس المناسبة : « ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ » ٢ فنجد أن هذا السياق متحد مع سياق الآية التي استدل بها هنا.

وبعد ... كل ما تقدم نقول : إن الاستدلال بالآية يتوقف على كون مولد النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ، وكذا يوم عاشوراء ، مثلا ، وغير ذلك من المناسبات من شعائر الله ، أي من أعلام الله التي نصبها لطاعته ، ليجب تعظيمها ... وكما يقال :

العرش ، ثم النقش ...

فإن قوله تعالى : « وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ » يشعر بأن كونها من الشعائر يحتاج الى جعلٍ منه تعالى ...

وذكِّرهم بأيّام الله

وقد استدل أيضا على مشروعية المواسم والمراسم بقوله تعالى مخاطبا موسى عليه السلام : « وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ » ٣ ، فإن المقصود بأيّام الله ، أيّام غلبة الحق على الباطل ، وظهور الحق ، وما نحن فيه من مصاديق الآية الشريفة ، فإن إقامة الذكريات والمواسم فيها تذكير بأيّام الله سبحانه. ٤

ونقول : إن ما تدل عليه الآية هو التذكير بالأسلوب العادي والمعروف ، وأمّا الخصوصية ، فلا تفهم من الآية ، وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام : « كان رسول الله (ص) يخطبنا فيذكِّرنا بأيّام الله ، حتى نعرف ذلك في وجهه ، كأنه نذير

__________________

١ ـ المائدة / ٢.

٢ ـ الحج / ٣٠.

٣ ـ إبراهيم / ٥.

٤ ـ المستدل بذلك هو الصديق المشار اليه آنفا في مقال له حول هذا الموضوع. وذكر هذا الاستدلال ايضا عن بعضهم في كتاب : القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل / ص ٧٣.

٣٦
 &

قوم يصبحهم الأمر غدوة ». ١

وعن ابي بن كعب : « ان رسول الله (ص) قرأ يوم الجمعة تبارك ، وهو قائم ، فذكَّرنا بأيّام الله ». ٢

وعن النبي (ص) : « بينما موسى عليه السلام في قومه يذكِّرهم بأيّام الله. وأيّام الله نعمه وبلاؤه إذ قال ... الخ ». ٣

فذلك كله يدل على أن التذكير بأيّام الله كان يتخذ صفته الطبيعية والعادية ، ولو للأفراد على انفراد ، ولم يكن يقيم لهم احتفالات ومراسم معينة في أوقات مخصوصة من أجل ذلك. إلّا أن يقال : إن أمر تعيين المصداق قد ترك إلينا ، كما سيأتي ، فتكون الآية من أدلة العنوان العام.

كما أن المقصود بأيّام الله ... لعلَّة تلك الأيام التي تحدث فيها خوارق العادات ، وتظهر فيها الآيات ، أيّام بطشه بالظالمين ، وأخذه لهم أخذ عزيز مقتدر ، وكذا الحال بالنسبة لآية : « قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ » ... فلا تشمل الآية ما هو محل الكلام هنا ..

الفرح بفضل الله سبحانه

وقد استدل أيضا بقوله تعالى : « قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا » ، إذ من المصاديق الجلية لرحمة الله سبحانه ، هو ولادة النبي (ص) ، الذي أرسله الله رحمة للعالمين ، فالفرح بمناسبة ميلاده صلَّى الله عليه وآله وسلم مطلوب ومراد. ٤

ولكننا نقول : إن الآية تدل على لزوم الفرح برحمة الله سبحانه وفضله ... أمّا الخصوصية ، فلا تدل عليها ، وحينما يصف الله الانسان بأنه فرح فخور ، فان ذلك لا يعني إلّا ثبوت هذه الحالة النفسية له ، ولا تدل على أنه يقيم الحفلات ، ويلتزم بالمواسم والمراسم ، كما هو محل البحث هنا.

إلّا أن يقال : إن أمر تعيين الكيفية والمصداق قد اُؤكل الينا ، كما سبق في

__________________

١ ـ مسند أحمد / ج ١ / ص ١٦٧.

٢ ـ سنن ابن ماجة / ج ١ / ص ٣٥٢ ـ ٣٥٣.

٣ ـ مسند أحمد / ج ٥ / ص ١٢١.

٤ ـ راجع : القول الفصل / ص ٧٣ ، ومقالة الصديق المشار إليه آنفا.

٣٧
 &

الآية السابقة.

مناسك الحج تكرار للذكرى

واستدل بعض العلماء بأن جل أعمال مناسك الحج ما هي إلّا احتفالات بذكرى الأنبياء ، فأمر الله تعالى باتخاذ مقام إبراهيم مصلَّىٰ ، إحياءً لذكرى شيخ الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أمّا السعي بين الصفا والمروة ، فهو تخليد لذكرى هاجر حينما عطشت هي وابنها إسماعيل ، فكانت تسعى بين الصفا والمروة ، وتصعد عليهما لتنظر : هل ترى من أحد (كما ذكر البخاري) ...

ورمي الجمار تخليد لذكرى إبراهيم عليه السّلام ، حينما ذهب به جبريل الى جمرة العقبة ، فعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات فساخ.

وذبح الفداء ، إنما هو تخليد لذكرى إبراهيم أيضا حينما أُمِرَ بذبح ولده إسماعيل ففداه الله بذبح عظيم.

وفي بعض الأخبار : أن أفعال الحج إنما هي احتفال بذكرى آدم ، حيث تاب الله عليه عصر التاسع من ذي الحجة بعرفات ، فأفاض به جبريل حتى وافى إلى الشعر الحرام فبات فيه ، فلما أصبح أفاض إلى منى ، فحلق رأسه إمارة على قبول توبته ، وعتقه من الذنوب.

فجعل الله ذلك اليوم عيداً لذريته.

فأفعال الحج كلها تصير احتفالات واعياداً بذكرى الأنبياء ، ومن ينتسب اليهم ، وهي باقية أبد الدهر. ١

ونقول :

أوّلاً : ان هذا الاستدلال يتوقف على ثبوت الروايات المشار إليها آنفا ، على كون قوله تعالى : « وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى » قد جيء به للإشارة إلى هذا الأمر التاريخي ...

والآية إنما أوردت كلمة « مقام إبراهيم » للإشارة إلى موضوع الحكم ، وليس عنوان هذا الموضوع دخيلا في ثبوت ذلك الحكم ، لا بنحو الاقتضاء ولا بنحو العلِّيَّة التامّة ، ولعلة تكون العلة للحكم أمراً آخر ، ويكون العنوان من قبيل

__________________

١ ـ راجع كتاب : معالم المدرستين / ج ١ / ص ٤٧ ـ ٤٩ ، للعلامة العسكري حفظه الله تعالى.

٣٨
 &

لفظ « زيد في قولك : أكرم زيدا ».

كما ويرد هنا سؤال ، وهو : لماذا اختصت هذه الأحداث بأن يقام لها هذا الاحتفال الدائم أبد الدهر ، مع أنه قد توجد أحداث أعظم أهمية ، وأشد خطراً منها ؟ لماذا لم تخلَّد هي أيضا باحتفالات على نحو تخليد هذه ... ولتكن إحدى هذه الأحداث ، ولادة السيد المسيح من دون أب ، وقصة غرق فرعون ، ومحاولة إحراق إبراهيم بالنار ، فكانت برداً وسلاماً ، وقصَّة الطوفان ، وغير ذلك ؟

وثانياً : ان هذه الذكريات ، قد أمر الشرع بها وشرع الحكم بلزوم العمل بها ، وهذا لا ينكره المانعون ، وإنما هم يقولون : إن ما لم يرد به الشرع يكون بدعة وحراما ، وهذا مما قد ورد الشرع به ، فلا إشكال فيه ، وإنما الاشكال فيما عداه ...

الاستدلال بما جرى ليعقوب

واستدلال أيضا على مشروعية الاحتفالات والمراسم بحزن يعقوب على فراق ولده يوسف ، حتى ابيضت عيناه من الحزن ، فَلِمَ لَمْ يجز له بعد موت ولده العزيز على قلبه مع ان حرقته أعظم : أَنْ يُظْهِرَ التفجُّع عليه ، ويقيم المراسم في هذا السبيل ؟! ١.

ونقول : إن ذلك لا ربط له بإقامة المراسم والمواسم في زمان معيَّن ، وفي مكان معيَّن ، فإنَّ مجرد الحزن والأسى لا مانع منه ، ولكن الزيادة على ذلك هي التي تحتاج إلى ثبات ، بنظر المانع ، والآيات لا تدل على أكثر من ممارسة التوجُّع والتفجُّع والحزن ...

« وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ »

واستدل أيضا بقوله تعالى : « وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ » ٢ فإن الاحتفالات بميلاده (ص) ما هي إلّا رفع لذكره (ص) ... ٣

ويمكن المناقشة في ذلك بأن رفع ذكره (ص) من قبل الله سبحانه إنَّما هو

__________________

١ ـ راجع كتاب : آئين وهابيّت / ص ١٨٠ ـ ١٨١ للعلامة السبحاني حفظه الله.

٢ ـ الانشراح / ٤.

٣ ـ آئين وهابيت / ص ١٨٤ للسبحاني.

٣٩
 &

بجعله نبيّاً رسولاً ، وليس في الآية أمر متعلق بالمكلفين يطلب منهم إقامة احتفالات ، ولا غير ذلك ...

وقد ورد في الروايات أن المراد برفع ذكره ما هو واقع من ذكر الشهادة بنبوَّته إلى جانب الشهادة لله بالوحدانية في الأذان وفي غيره ... وقبل في تفسير الآية غير ذلك أيضا ...

آية المودة

واستدل أيضا بأن مودة ذوي القربى مطلوبة شرعا ، وقد أمر بها القرآن صراحة ، فإقامة الاحتفالات للتحدث عمّا جرى للأئمة (ع) لا يكون إلّا مودةً لهم ... إلّا ان يُدَّعىٰ أن المراد بالمودة الحب القلبي ، ولا يجوز الاظهار.

ونقول : صحيح أن إرادة الحب القلبي مجرداً ومن كلمة : « المودة » ، لا يمكن تقويته ، لا سيما وأن بعض المحققين يقول في تفسير المودة : « كأنها الحب الظاهر أثره في مقام العمل ... » ١.

ولكن يمكن المناقشة فيما ذكر ، بأن مودتهم تحصل من دون إقامة احتفالات ، فالمانع يدَّعي : أنَّ الخصوصية للزمان وللمكان ، وللتجمُّع ، وللمراسم الخاصة ؛ يحتاج جوازها إلى اثبات ... إلّا إذا التزم بالأمر بالعنوان العام ، وترك أمر تعيين المصاديق إلينا ، كما سيأتي بيانه ، مع عدم كون الخصوصية مورداً للحكم الشرعي ، ولا للتعبد بإتيانها ... ولعل هذا هو مراد المستدل ، فلا إشكال حينئذ.

ونفس ما تقدم يقال : بالنسبة إلى استدلاله بآية : « فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ ». ٢

آية المائدة

واستدل أيضا بقوله تعالى : « رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ». ٣

فقد اعتبر يوم نزول المائدة السَّماوية عيداً وآية ، مع أنها لأجل إشباع

__________________

١ و ٢ ـ راجع : تفسير الميزان / ج ١٦ / ص ١٦٦.

٣ ـ سورة المائدة / ١١٤.

٤٠