أضواء وآراء - ج ١

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

أضواء وآراء - ج ١

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2730-73-5
ISBN الدورة:
978-964-2730-72-8

الصفحات: ٦٩٤

فمجرد كشف ذلك بالملازمة لا يكفي ولو اريد الملازمة بين الأمر بهذا والأمر بالآخر بأن يعلم بصدور الأمر منه كذلك فهذا المدلول محقق لصغرى حكم العقل على المسلك الآخر أيضاً فلا ثمرة.

ويمكن أن يكون المقصود ثبوت الأمر بالآخر ولكنه مجمل محفوف بما يصلح أن يكون ترخيصاً في الترك ، وقيل في المسلك المذكور بأنّ هذا مانع عن حكم العقل بالوجوب فتتم الملازمة المذكورة على مسلك الوضع والإطلاق دون مسلك حكم العقل ، إلاّ انّه أيضاً غير تام لأنّه على ذاك المسلك قد يجعل المدلول الالتزامي المذكور قرينة على عدم كون الإذن المحتمل المحفوف في الخطاب الآخر اذناً في الترك حتى إذا سلّمنا الاصول الموضوعية لهذا البيان ، فالأولى ترك هذه الثمرة.

ص ٢٤ قوله : ( ومنها ـ ثبوت دلالة السياق ... ).

فرق هذا عمّا يأتي بعده انّه هنا توجد أوامر عديدة ولكن علم بأنّ المراد من بعضها الاستحباب فبناءً على الوضع للوجوب بنحو بحيث يكون في موارد الاستحباب مستعملاً في غير ما وضع له مجازاً يلزم ما ذكر من اختلال ظهور الباقي لأنّ السياق ظاهر في وحدة المعنى المستعمل فيه تمام الصيغ المجتمعة في ذاك السياق بخلافه على مسلك الإطلاق فضلاً عن حكم العقل.

نعم ، لو كانت وحدة السياق ظاهرة في وحدة المراد الجدي من الأوامر لا خصوص المدلول الاستعمالي اختلّ ظهور الباقي في الوجوب حتى على مسلك الإطلاق ، وهذا قوي خصوصاً في الثمرة القادمة أعني الأمر الواحد مع تعدد المتعلّق.

١٤١

اتحاد الطلب والارادة :

بحث في الكفاية في مادة الأمر عن جهة تحت عنوان اتحاد الطلب والارادة وتغايرهما ناسباً إلى الأشعري القول بتغايرهما وإلى المعتزلي باتحادهما ، ثمّ حاول الجمع بينهما بدعوى انّ النزاع لفظي وانّ القائل أراد التغاير بين الارادة بوجودها الحقيقي الذي هو منصرف لفظها مع الطلب بوجوده الانشائي المنصرف إليه لفظه أيضاً والقائل بالاتحاد أراد الاتحاد بين الارادة والطلب بوجودهما الحقيقي. واختار هو اتحادهما مفهوماً وحقيقة وانشاءً ، ثمّ أفاد بأنّ اختلاف المعنى الانصرافي لكل منهما ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من المغايرة بين الطلب والارادة خلافاً لقاطبة أهل الحق والمعتزلة من اتحادهما ، ثمّ تصدّى للبحث عن المغايرة والاتحاد والكلام النفسي والجمل الخبرية المستعملة في الانشاء والجبر والاختيار.

أقول : الأشاعرة لهم في المقام بحثان كلاهما بحثان كلاميان :

الأوّل : في ثبوت الكلام النفسي في النفس وهو غير الكلام اللفظي المتجدد الموجود والحادث المنصرم ، وقد التزموا بذلك لتصحيح متكلمية الله سبحانه وقدمها كسائر صفات الله القديمة كي لا يلزم قيام الحادث بالقديم المحال.

الثاني : انّ الارادة الأزلية الالهية لا يمكن أن تتخلف عن المراد ، ومعه لا يمكن أن يكون العاصي الذي لم يرد الله صدور الفعل منه مطيعاً ولا المطيع عاصياً ، وهذا هو الجبر في أفعال العباد ، ولازم ذلك أن لا تكون ارادة من قبل الله سبحانه في حق العاصي أن يفعل وإلاّ لزم تخلفها عن المراد مع انّه مأمور به ومطلوب منه تشريعاً فلا محالة تكون الارادة غير الطلب.

١٤٢

وواضح انّ كلا هذين البحثين كلاميان وثبوتيان لا ربط لهما بالبحث الاصولي عن مدلول الأمر وهو الطلب ، وانّه متحد مع الارادة مفهوماً ومصداقاً أو مغاير معها ، واستفادة هذا الأخير من البحثين الكلاميين من الخلط في المنهجة بين الأبحاث الثبوتية العقلية والبحوث اللغوية.

توضيح ذلك : انّ البحث اللغوي بحث عن تحديد معنى اللفظ وما وضع له ويدلّ عليه ، بخلاف البحث العقلي الكلامي ، ففي المقام قد يختار انّ لفظي الطلب والارادة موضوعان لمعنى واحد ومع ذلك يختار انّ هناك كلاماً نفسياً لتصحيح متكلمية الله وقدمها كما قد يختار تعدد المفهومين في البحث اللغوي ، ومع ذلك يختار في البحث الكلامي عدم وجود شيء اسمه الكلام النفسي ، فلا ربط للبحثين أحدهما بالآخر.

وكذلك البحث الكلامي الثاني ، لوضوح انّ مراد الأشعري بالارادة الارادة الأزلية التكوينية الفاعلة والتي تكون علة لايجاد الأشياء ، وهذا ليس هو المراد من الطلب والارادة التشريعية جزماً حتى عند القائل بوحدتهما ، فالأشعري لا ينكر وجود الارادة التشريعية المساوقة للطلب ، كما انّه ليس نظره إلى البحث عن المدلول اللغوي للفظي الارادة والطلب الاسميين ولا للأمر مادة أو صيغة أصلاً فلا ينبغي خلط الأبحاث بعضها ببعض.

فالصحيح البحث أوّلاً عن مدلول الارادة والطلب ، ولا اشكال في تغايرهما مفهوماً ، بل وتباينهما مصداقاً أيضاً ، لأنّ الارادة اسم لصفة في النفس هي الشوق المؤكد أو فعل للنفس هو هجمة النفس وعزمه على العمل بينما الطلب اسم للسعي والتحرك الخارجي نحو شيء ، وإنّما يصدق الأمر على الطلب من الغير باعتبار كون أمره للغير بنفسه مصداق للطلب والسعي من قبل الآمر نحو تحقق

١٤٣

المطلوب من الغير. وبهذا يعرف انّ الطلب مباين مع الارادة مفهوماً ومصداقاً.

ثمّ يأتي البحث عن الكلام النفسي وعدمه وهذا هو البحث الكلامي الأوّل ولم يعرف انّ الأشعري يدعي انّه مدلول اللفظ بوجه أصلاً ؛ بل لعل الدلالة عليه دلالة عقلية التزامية عنده مع كون المدلول هو المدلول التصوري أو التصديقي بمعنى قصد الإخبار والحكاية أو الاعتبار أو غير ذلك (١). وهذا بحث كلامي صرف ، ثمّ البحث عن الجبر والاختيار وهو بحث كلامي فلسفي أيضاً.

ونقول بلحاظ البحث الثبوتي الأوّل :

أوّلاً ـ انّ صفات الله سبحانه تنقسم إلى صفات الذات وصفات الفعل ، أي المنتزعة عن العقل ومنها التكلم ، وهذا النوع لا محالة يكون حادثاً لحدوث الفعل نظير الخالقية والرازقية وغيرها ، والميزان في تشخيص ذلك موكول إلى محله من الأبحاث. فلا ملزم لأصل البحث المذكور.

وثانياً ـ وضوح ووجدانية عدم وجود شيء في النفس في موارد الكلام غير التصور والتصديق يمكن أن نسميه بالكلام النفسي ، وكل ما يذكر من الشواهد والمؤيدات شعرية لا محصل لها.

وثالثاً ـ لو فرض وجود شيء فلا اشكال في انّ عنوان الكلام والمتكلمية لا ينتزع إلاّعن الفعل الجارحي المعبر عنه بالنطق بالأصوات والذي تحققه لا يتوقف على شيء أكثر من التلفظ وقصد المعنى ، فأصل هذا البحث لغو لا طائل تحته.

__________________

(١) والشعر المعروف أيضاً لا يقتضي أكثر من ذلك.

١٤٤

وأمّا بلحاظ البحث الثبوتي الثاني أعني الجبر والتفويض فقد بحثه الشهيد قدس‌سره في الكتاب ضمن المسألتين الكلامية والفلسفية. أي تارة من جهة انّ الفعل هل هو منتسب إلى الإنسان أو إلى الله أو اليهما معاً بنحو طولي أو عرضي ، وقد سمّاه بالبحث الكلامي. والجهة الاخرى في الجبر والاختيار وهي الجهة المهمة للبحث وإن كان بينها وبين الجهة الاولى ارتباط في الجملة كما بيّن في الكتاب.

ونحن نقول : انّ منشأ شبهة الجبر أحد امور ثلاثة :

الأوّل : أن يقال في البحث عن الجهة الاولى ـ من يصدر عنه الفعل ـ أنّ أفعال الإنسان تصدر من الله سبحانه وانّ الإنسان ليس إلاّمحلاً وعلّة مادية نظير الخشب عندما يصنعه النجار سريراً ، ولعلّ هذا هو مدعى الأشعري.

وفيه : ما هو واضح بالبداهة والوجدان من الفرق بين حركة قلب الإنسان أو معدته وحركة يده أو رجله الاختيارية من حيث انّ للانسان واختياره دخلاً في صدوره وانّه ليس مجرد محل لايجاد الغير هذه الحركة فيه.

الثاني : شبهة انّ الله عالم بمعصية العاصي واطاعة المطيع وعلمه لا يمكن أن يتخلّف عن المعلوم لاستحالة الجهل في حقه ، وهذا يعني استحالة عدم تحقق العصيان من العاصي وعدم تحقق الاطاعة من المطيع ، وانّ صدور تلك المعصية وهذه الاطاعة ضرورية وهو مساوق مع الجبرية والحتمية وهذا هو المعبر عنه في شعر خيام ( گر مى نخورم علم خدا جهل بود ).

وفيه : ما هو واضح من انّ العلم ليس دوره إلاّالكشف لا التأثير في وقوع المعلوم وعدم وقوعه واستحالة الجهل في علم الله عزوجل لا تعني كونه علّة لتحقق الواقع المنكشف به ، وأي ربط لأحدهما بالآخر ، فإذا استحال مثلاً العلم

١٤٥

بأمر ممكن أو وجب العلم به لم يكن ذلك سارياً إلى المنكشف بأن يصير ذلك الممكن واجباً أو ممتنعاً ، وهذا واضح أيضاً.

الثالث : ـ وهو المهم والأساس ـ وهو الشبهة الفلسفية التي بيّنها السيد الشهيد قدس‌سره ضمن المقدمتين في المسألة الثانية. ويمكن تقريرها بنحو آخر حاصله : انّ الفعل الصادر من الإنسان عرض ممكن الوجود فما لم يجب لم يوجد فلابد من تحقق علته وهي الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات ، وهذا بدوره ممكن كذلك فلابد وأن ننتهي إلى الارادة الأولية الواجبة الذات ، وهذا هو الجبر.

واجيب عليه بما في الكتاب فلا نعيد ؛ إذ لا زيادة عليه.

ثمّ إنّ هذا الحل الاصولي بالتقرير الفني الذي ذكره السيد الشهيد قدس‌سره فتح كبير ، تظهر ثمرته وبركاته في بحوث فلسفية وكلامية كثيرة :

منها ـ البحث الكلامي المتقدم ، أعني الأمر بين الأمرين حيث يكون الفعل المباشري الصادر من الإنسان منسوباً إليه واختيارياً في الوقت الذي لا يكون فيه تفويض لأنّ نفس السلطنة والقدرة بل الوجود آناً فآناً من قبل الله سبحانه لأنّ الممكن محتاج إلى الفاعل حدوثاً وبقاءً لا حدوثاً فقط ؛ لأنّ نكتة احتياجه وافتقاره إنّما هو في ذاته. فيكون نظير حركة اليد المشلولة بعد ايصال الطبيب للسلك الكهربائي إليه ليصبح سالماً.

ومنها ـ حلّ مشكلة قدم العالم ، فإنّه بناءً على تفسير الاختيارية بالسلطنة ووضوح كون أفعال الله سبحانه اختيارية فلا موضوع لشبهة قدم العالم ، فإنّها مبنية على قانون الشيء ما لم يجب لم يوجد وتفسير صدور المخلوقات عن الله

١٤٦

بقانون العلية بمعناها الفلسفي. ومن هنا أيضاً اضطروا إلى القول بالعقول العشرة وانّ المخلوق الأوّل هو العقل الأوّل ثمّ العقول الاخرى بحسب الترتيب إلى أن ينتهي الأمر إلى النفوس الفلكية ثمّ إلى عالم الطبيعة فإنّ كل ذلك مبني على قاعدة الوجوب والعلية بالتفسير الفلسفي.

ومنها ـ انّ تحقيق صغرى قانون العلية الفلسفية كون الموجودات صادرة به يصبح مشكوكاً فيه بهذا البيان وبما حققه السيد الشهيد في بحث الاسس المنطقية بل لا يثبت أكثر من وجود فاعل ونكتة مشتركة لتحقق الأشياء والمخلوقات فلعلها عبارة عن الارادة الالهية المباشرة أو الملك الموكل بالخلق المعين وبذلك يمكن الأخذ والحفاظ على ظواهر الآيات والروايات والتصورات المستفادة منها في تفسير الخلق والمبدأ والمعاد فينهار كثير من البناءات الفلسفية في هذه المجالات كالعقول العشرة والحركة الجوهرية وغير ذلك من البحوث.

وهذا منهج جديد في بناء الفلسفة الإسلامية بحاجة إلى كثير بحث ونقد وتمحيص بحيث قد يمكن على أساس ذلك اعطاء التفسير المنطقي والفلسفي الرصين للظواهر القرآنية والروائية بلا حاجة إلى التأويلات التي وقع فيها بالفعل الفلاسفة فيكون مثلاً قوله تعالى : ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً ... ) (١) قابلاً للقبول بتمام ظاهره من انّ النار أصبحت غير حارّة وغير محرقة.

وقوله تعالى : ( ... أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (٢) يؤخذ بظاهره ، وكذلك يمكن تفسير المعاجز والكرامات بلا مشكلة أصلاً.

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٦٩.

(٢) سورة يس : ٨٢.

١٤٧

ص ٤٢ قوله : ( وهكذا يتلخص انّه في غالب الفروض ... ).

التحقيق هو التفصيل بين ما إذا كان المسافر من نيّته أن يرجع قبل العشرة وإنّما يريد مجرد النية لكي يتم في صلاته ويصوم ثمّ يرجع عن نيته فهذا لا تتأتى منه النية جداً على المسالك الثلاثة في تفسير النية.

وبين ما إذا لم يكن له مثل هذه النية بل المكث عشرة أو أقل في حقه سيّان ، إلاّ انّه لا غرض له فيه وإنّما تمام غرضه منحصر في تصحيح الصوم والاتمام ومثل هذا المكلف الوجدان يشهد بأنّه يتأتى منه النية والقصد خارجاً ، وما أكثر ما يبتلى بذلك بلا حاجة

إلى أي نذر أو شيء ، وهذا الوجدان تفسيره يكون بأحد أمرين :

١ ـ أن يكون المكلّف غافلاً عن كون غرضه يتحقق بنفس النية والقصد والذي يتحقق قبل زمان الفعل المنوي فلا حاجة له إلى فعله ، ومع غفلته عن ذلك يتصور توقف غرضه على المنوي فيقصده أو يشتاق إليه ويريده جداً ، وهذا واضح.

٢ ـ أن يكون المكلّف مدققاً محققاً ملتفتاً إلى ما ذكرناه ومع ذلك يتأتى منه النية ، وذلك لأنّه متوجه حينئذٍ إلى أنّ النية والقصد المذكور لا يكون جدياً منه إذا لم يبن فعلاً على المكث عشرة أيّام فهو ينوي المكث عشرة أيّام جداً رغم علمه انّه في زمان الفعل المنوي لن يحتاج إليه لغرضه في هذا السفر ولكنه يحتاج إليه لكي تكون نياته جزمية جدية في أسفاره الاخرى ، وإلاّ لما أتت نية منه حقيقة ، وهذا الغرض وإن كان مقدمياً ولكنه يكفي في حصول القصد والنية بل والشوق بمعنى الارادة اللازمة عقلاً للأفعال. نعم من لا يبني على هذه النكتة لا تتأتى منه النية والقصد الجدي للاقامة عشرة أيّام كما أفاده السيد الشهيد قدس‌سره.

١٤٨

دلالات صيغة الأمر

ص ٤٧ قوله : ( ولابد من أن نستبعد ... ).

بل يرد على مدعى السيد الخوئي قدس‌سره زائداً على الاشكال في المبنى اشكالان بنائيان آخران :

أحدهما : ما تقدّم من أنّه بناءً على مسلك التعهد يكون المدلول الوضعي هو المدلول التصديقي الأوّل ، وهو قصد الاخطار التصوري لا المدلول التصديقي الثاني ، وهو الاعتبار النفساني بدليل صحة الاستعمال في موارد فقدان الداعي الجدّي أيضاً وعدم وجود عناية فيه أصلاً. وقد تقدم سنخ هذا الاشكال عليه في بحث النسب التامة.

الثاني : انّ أصحاب مسلك التعهد أيضاً لابد لهم من تصوير مدلول تصوري اخطاري أو ايجادي للفظ ، غاية الأمر يدعون انّه دلالة حاصلة من الانس وليست هي الدلالة الوضعية ، وإنّما الدلالة الوضعية هي القصد وارادة اخطار ذلك المعنى التصوري ، ومن الواضح أنّ صيغة الأمر وأدوات الانشاء عموماً لابد لها من مدلول تصوري. وهذا لم يبرزه السيد الخوئي قدس‌سره ، فإذا لم يكن لها أي مدلول تصوّري فهذا خلف كونها موضوعة لمعاني وليست مهملة ، وإن كان لها معنى تصوري فلابد من إبرازه وإبراز الفرق بينه وبين سائر الصيغ كصيغة فعل الماضي والمضارع وتفسير وجه عدم إمكان استعمال صيغة الأمر في مقام الاخبار بخلاف الماضي والمضارع حيث يمكن استعمالهما في مقام الاخبار والانشاء

١٤٩

معاً. فهذه نقطة فراغ لابد من ملئها على كل المسالك في حقيقة الوضع.

ص ٤٩ قوله : ( الاحتمال الثاني ... ).

ما ذكر في الهامش من الاعتراضات كلّها صحيحة.

وتحقيق الحال في الانشاء أن يقال : قال المشهور انّه ايجاد المعنى باللفظ ، وقيل في قبالهم بأنّه غير معقول ، فإنّ المعنى والمفهوم سواء كان محكيه خارج الذهن أو في الذهن والنفس ـ كالاعتباريات ـ ليس اللفظ من أسباب ايجاده أصلاً ، ومن هنا قالوا بأنّ الانشاء عبارة عن إبراز الاعتبار الذي هو أمر نفساني أو أي حالة نفسانية اخرى كالطلب والارادة والتمني والترجي ونحوها ، إلاّ انّ هذا يجعل الجملة الانشائية إخباراً عما في النفس من الحالات الاعتبارية أو الحقيقية ـ بحيث لو استعمل بدلاً عن الجمل الانشائية جملة خبرية كاشفة وحاكية عمّا في النفس من تلك الحالة كان المدلول واحداً مع وضوح عدم وحدة المدلولين ، بل قد لا يتحقق المعنى الانشائي بالثاني في كثير من الموارد ، كما انّه لا يشخص ما هو المدلول التصوري لأدوات الانشاء ، وفرقه عن المدلول التصوري للجملة الخبرية ـ كما أشرنا في الاشكالات ـ.

والصحيح انّ أدوات الانشاء إنّما تكون موضوعة لايجاد سنخ معانٍ ومفاهيم بطبيعتها تتحقق بالاستعمال واللفظ والابراز ، سواء كانت معاني اعتبارية كالعقود والمعاملات أو تكوينية كالترجي والتمني والطلب والنداء ونحوها ، فإنّ هذه المعاني ليست حقيقتها الاعتبارات والمجعولات ، فاعتبار تمليك مال بمال في عالم النفس ثمّ الاخبار عنها لا يكون بيعاً ما لم يحقق القرار المعاملي الانشائي الذي هو أمر ذهني وليس خارجياً ، أي الاستجابة الذهنية الحاصلة بالتعاقد والتوافق أو بالايقاع ويكون اللفظ صالحاً لايجادها ، وهكذا التمني والترجي

١٥٠

والأمر والنهي.

ومن هنا تأتي الانشائية لهذه المعاني ويصح كلام المشهور من أنّ أدوات الانشاء وضعت لايجاد أو انشاء المعنى باللفظ في مثل هذه المعاني من دون محذور ، إلاّ انّ هذه الايجادية غير ايجادية الحروف والنسب ، فلا ينبغي الخلط بينهما ، وقد شرحنا ذلك أيضاً في تعليقاتنا على الجزء الأوّل.

وأمّا المدلول الوضعي للجمل والأدوات المتمحّضة في الانشاء بناءً على مسلك المشهور والمختار من كون الحاصل بالوضع إنّما هو الدلالة التصورية لا التصديقية ، فالمدلول لها نفس ايجاد تلك المعاني ، كالإشارة باليد أو السحب الخارجي مثلاً في الطلب ، ومن هنا ما يقال من الوضع للنسبة الطلبية أو الارسالية بلا موجب ، بل الموضوع له نفس ايجاد الارسال كالسحب باليد ، إلاّ أنّ هذا الارسال حالة شعورية وليست خارجية فحسب ، فيمكن أن نقول انّ الموضوع له تلك الاستجابة الحسية ـ وإن شئت سمّها بالتصورية ـ الحاصلة لشعور الشخص بالسحب والانسحاب وشعور المرسل بالتسبيب والدفع ، وهذه الاستجابة الشعورية تختلف عن تصور فعل الارسال المستعمل فيه اللفظ في موارد الاخبار عنه ، كما أنّها تختلف عن تصوّر مفهوم الارسال سواء كان مفهوماً اسمياً أو حرفياً ، ولكنها حالة ذهنية شعورية على كل حال ، فيمكن أن يكون الاحساس باللفظ سبباً لحصولها في النفس على حدّ حصول تصوّر المعاني الخارجية في النفس عند سماع الألفاظ الحاكية عنها ، وكما يكون ظاهر حال المتكلم عند اخطار تصوّر المعاني الخارجية باللفظ في ذهن السامع أنّه قاصد لها جداً ، كذلك في الجمل الانشائية يكون ظاهر حال من يوجد تلك الاستجابات في ذهن المخاطب انّه قاصد لها جداً.

١٥١

وهذه نقطة مهمة ودقيقة ، وقد تجعل الفرق بين النسبة الانشائية والاخبارية ثابتة حتى في مرحلة التصور ، بمعنى الاستجابة الذاتية التي تحصل باللفظ في احساس الإنسان ، وقد شرحناها سابقاً في تعليقات الجزء الأوّل فراجع.

ومن هنا لا يصح استعمال الجمل والأدوات المتمحّضة للانشاء في مقام الاخبار ، بخلاف الجمل الخبرية فإنّها قابلة للاستعمال في مقام الانشاء لما أشرنا إليه من انّ نفس الحكاية والابراز ربّما يحقق المعنى الانشائي ـ وهو التصدي والتسبب لايجاد ذلك المعنى ـ كما يمكن أن يكون مقام الانشاء قرينة على اللحاظ التسبيبي للجملة الخبرية وجعلها مدخولها ومتعلقاً للتسبيب ، حيث أنّ النسبة الخبرية التصورية صالحة لهذه النظرة التسببية ، فإنّ الانشاء والتسبيب الشعوري لابد وأن يتعلق بالنسب التصورية التامة بين الفعل المرسل إليه وفاعله.

ثمّ إنّ التحليل المذكور هنا للجملة الفعلية من قبل السيد الشهيد قدس‌سره يختلف عمّا ذكره في الجزء الأوّل ، وما ذكره هناك هو الأدقُّ والأمتن ، فراجع وتأمل.

ص ٥١ قوله : ( الاولى ... ).

التعبير بالدلالة الالتزامية على الارادة غير فني ، فإنّه لو اريد الدلالة التصورية فواضح العدم ، وإن اريد الدلالة التصديقية فهو فرع وجود مدلول تصديقي ، والكلام في المدلول التصوري الوضعي لصيغة الأمر.

ولعلّ المقصود انّ الارسال أو النسبة الارساليّة والطلبية تناسب الارادة وتطابقها لا التعجيز والاستهزاء ، فيكون مقتضى التطابق الذي هو أيضاً ظهور حالي ولكنه ايجابي لا سلبي ـ كما في الوجه الثاني ـ وجود داعي الطلب والارادة ، كما في الحاشية.

١٥٢

ص ٥٣ قوله : ( امّا مسلك الإطلاق ... ).

الاشكال في تمامية الإطلاق اللفظي لا المقامي ، فيقال بأنّ اللفظ في صيغة الأمر إذا لم يكن دالاً على الطلب أو الارادة ، فلا يمكن اجراء الإطلاق اللفظي لاثبات الوجوب أو الطلب الشديد ؛ لعدم التعرض لفظاً للطلب أو الارادة.

والجواب : بأنّ المفروض دلالة صيغة الأمر على الطلب والارادة لفظاً ، امّا بالملازمة التصورية التي يدعيها السيد الشهيد قدس‌سره ـ وهو بعيد جداً ـ أو باعتبار أنّ البعث والارسال يناسب الطلب والارادة فتكون كالدلالات اللفظية ، فتجري مقدمات الحكمة بلحاظ الطلب المنكشف بأحد التقريبات المتقدمة للاطلاق المثبت لوجوبية الطلب في بحث مادة الأمر. بل قلنا هناك بأنّ تلك التقريبات إنّما تتم في دلالة صيغة الأمر لا مادته.

ص ٥٤ الهامش :

جوابه امّا بالنسبة للاطلاق اللفظي فقد عرفته. وأمّا بالنسبة للوضع فلا وجه لاستبعاد التحصيص على أنّه يمكن القول بأنّ التناسب للارسال والبعث الانشائي إنّما هو الارادة اللزومية لا الاستحبابية.

وإن شئت قلت : المنشأ بالصيغة ـ بالمعنى المعقول الذي تقدم ـ إنّما هو الارسال الالزامي الشديد المساوق للوجوب لا انشاء مطلق الارسال.

ص ٥٧ قوله : ( وأقرب هذه النكات ما لم تكن قرينة معينة لأحداها النكتة الاولى ... ).

بل النكتة الأخيرة أي قوله ( يعيد ) مستعمل في نفس النسبة التصادقية أو الصدورية الفعلية ، ولكن بقصد التسبب وارسال المكلف نحو تحقيقه نظير

١٥٣

( بعت ) الانشائي. لأنّ النكتة الاولى أي الاخبار عن وقوع الاعادة عمن يلتزم بالشريعة فيه التواء وعناية كبيرة إذ من أين يفهم المكلف ما هو الشريعة إلاّمن نفس هذا الخطاب ، مضافاً إلى أنّه لا ظهور لمقام الانشاء في أصل الأخبار ليقال بأنّه أقوى من الظهور في الإطلاق وعدم التقييد فإنّه ظهور حالي وهو في غير مقام الانشاء الذي مفروض في مثل هذه الجمل ، فالمستظهر هو الوجه الأخير لا الأوّل ولا الوجهان المتوسطان لوضوح عدم جريان نكتتهما في المقام كما يظهر بالتأمل.

ص ٥٥ قوله : ( الاولى ... ).

يمكن المناقشة فيها : بأنّ هذه الملازمة مبنية على أن تذكر الصفة المستلزمة للانتقال إلى الأمر الشرعي كعنوان المتشرع المطبق لحكم الشارع على أفعاله ، ومثل هذه الدلالة بحاجة إلى ما يدلّ عليه في مرحلة الاثبات ، ولا يكفي مجرد عدم الإطلاق والتضييق لافادة الملازمة.

هذا مضافاً إلى انّ الوجدان العرفي لا يساعد هذا التخريج ، فإنّ المتكلم عندما يقول : ( يعيد ... ) لا يلاحظ مثل هذا العنوان جزماً.

ومنه يظهر عدم عرفية النكات الثانية والثالثة فإنّهما مترتبان على ذلك. وامّا النكتة الرابعة فيمكن المناقشة فيها بأنّ النسبة الصدورية الناقصة يمكن تعلّق الارادة والطلب بها إلاّانها ليست النسبة الخبرية وإنّما النسبة الخبرية هي النسبة التصادقية التامة وهي لا تتعلق بها الارادة لأنّها إنّما تتعلق بما لا تحقق له.

نعم ، هناك معنى آخر سيأتي لعلّه المراد من هذه النكتة ، إلاّ انّه سوف يجعلها وجهاً ونكتة للمسلك الثاني لا لهذا المسلك على ما سنوضح.

١٥٤

ص ٥٧ قوله : ( المسلك الثاني ... ).

التحقيق انّ هذا المسلك معقول على مبنى المشهور من كون الدلالة الوضعيّة تصورية لا تصديقية ، وذلك بتقريب انّ النسبة الخبرية في عالم اللحاظ والتصور لها لحاظان : لحاظ تصوري ينظر فيه إلى النسبة بما انّه مفروغ عن تحققه ، ولحاظ انشائي تلحظ فيه النسبة بما انّه يطلب ويسعى إلى ايجاده وتحقيقه ، وقد ذكر السيد الشهيد قدس‌سره ذلك في بحث الخبر والانشاء في مثل جملة بعت اخباراً وانشاءً ، وهذا كما يعقل في الجمل الخبرية الدالّة على الامور الاعتبارية كذلك يعقل في الجمل الخبرية الاخرى ، فيمكن أن تلحظ نسبة الاعادة إلى الفاعل بنظر ايجادي يسعى إلى تحقيقه ، ولعلّ لام الأمر الداخل على فعل المضارع يجعله بهذا المعنى ، وهذا هو الذي يجعل فعل المضارع مناسباً لهذه النظرة لا الماضي إلاّإذا وقع في سياق الشرط فانقلب إلى المضارع معنىً ولا الجملة الاسمية إلاّفي مقام الدعاء الذي ليس طلباً للايجاد من المخاطب.

وعلى هذا الأساس يكون الفرق بين الجملة الخبرية في مقام الانشاء معها في مقام الاخبار بلحاظ المدلول التصوري وهو كيفية لحاظ النسبة الخبرية. نعم ، أصل النسبة التصادفية محفوظة فيهما. ولعلّه بهذا يقع تصالح بين المسلكين والاتجاهين ، فكل منهما لاحظ جانباً من الدلالة التصورية ، فتدبر جيداً.

ص ٦٤ قوله : ( المسألة الاولى ... ).

منشأ الاشكال عند مدرسة الميرزا على ما في كلمات السيد الخوئي قدس‌سره يرجع إلى البيان التالي :

انّ الأمر إذا اريد تعلّقه بالأعم من فعل المكلّف وفعل الغير بما هو فعل صادر

١٥٥

عن الغير بلا ارتباط له بالمكلّف فهذا غير معقول ثبوتاً لأنّ فعل الغير لا يعقل أن يتعلّق به تكليف الإنسان وإن اريد تعلقه بالأعم من فعله والتسبيب إلى فعل الغير ، فهذا وإن كان يعقل ثبوتاً تعلّق التكليف به إلاّ انّه خلاف الظاهر للزوم كون المتعلّق هو الجامع بين الفعل والتسبيب ولزوم كون مجرّد التسبيب كافياً لتحقق الامتثال ولو لم يفعل الغير بعد وهذا خلف.

وهذا البيان أجاب عليه السيد الشهيد بجوابين كما في الكتاب ؛ وتوضيحهما :

أوّلاً ـ انّ الجامع بين فعل المكلّف وفعل الغير الصادر منه بلا تسبيب من المكلّف يعقل تعلّق التكليف به ، لأنّه جامع بين الفعل الاختياري وغير الاختياري وهو اختياري على ما سيأتي من السيد الخوئي نفسه.

لا يقال : ليس الاشكال هنا من ناحية عدم المقدورية ليقال بأنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور ، وإنّما الاشكال من ناحية عدم صحّة تعلّق تكليف شخصٍ بفعل غيره من دون انتساب ذلك الفعل إلى المكلّف أصلاً لأنّ هذا خلف توجه التكليف إلى هذا المكلّف.

وبتعبير آخر : انّ نفس توجه التكليف إلى شخص يكون مقيداً لبياً لمتعلق الأمر بكونه الحصة المنتسبة إليه لا المنتسبة إلى غيره والأجنبية عنه بالمرة أي لا تنتسب إليه حتى بنحو التسبيب. وهذا نظير سائر قيود الوجوب التي تكون قيوداً للواجب أيضاً ثبوتاً.

فإنّه يقال : هذه النكتة إن اريد منها نكتة اثباتية لأخذ التقييد بالانتساب المذكور فهو صحيح ويقبله السيد الشهيد كما في الكتاب ، وإن اريد بها نكتة ثبوتية للتقييد فغير صحيح ؛ إذ لا محذور ثبوتي في أن يكون روح الحكم أو

١٥٦

الاعتبار متعلقاً بالجامع بين فعله وفعل الغير ، فالمولى يريد هذا الجامع أو يعتبره على ذمّة المكلّف.

وثانياً ـ لو تنزلنا عن ذلك قلنا انّه لا مانع أن يتعلّق الأمر بالجامع الأعم من فعل المكلّف أو فعل غيره الصادر منه بتسبيب المكلّف ، وما ذكر من انّ لازمه كون التسبيب عدلاً للفعل ومجزياً وهو خلاف الظاهر. مدفوع بأنّ المتعلق هو الفعل الصادر بالتسبيب لا نفس التسبيب.

وإن شئت قلت : انّ المحذور الثبوتي المذكور إنّما يقتضي تقييد إطلاق متعلق الأمر بمقدار فعل الغير غير المنتسب إلى المكلّف ولو بالتسبيب ، وامّا غيره من حصص المتعلّق فيبقى تحت إطلاق المتعلّق ولازمه الاجتزاء بفعل الغير المتسبب إليه من قبل المكلف ، وهذا لا يتحقق إلاّبصدور الفعل من الغير خارجاً.

ثمّ انّ ادخال بحث النيابة في هذه المسألة خلط بين التسبيب والنيابة وبينهما عموم من وجه إذ النيابة متقومة بالاتيان بالفعل بنية الغير سواءً كان بتسبيبه أم لا ، بخلاف التسبيب فإنّه يصدق حتى لو جاء به الغير بنية نفسه كما هو واضح ، فمسألة النيابة أجنبية عن هذا البحث.

ص ٧٠ قوله : ( الثاني لو سلم انعقاد إطلاق المادة ... ).

ما ذكر في الهامش غير تام لأنّ مدلول الهيئة لا يكون مقيداً لبّاً بعدم تحقق الملاك كيف وإلاّ لزم عدم إمكان التمسك باطلاق الهيئة كلما شك واحتمل وفاء غير المأمور به بالملاك واجزائه عنه لكونه من التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية له ، بل إطلاق الأمر بنفسه نافٍ لوفاء غير المأمور به بالملاك واجزائه

١٥٧

فإذا ثبت خلافه في مورد كان تخصيصياً وتقييداً لاطلاق الأمر لا محالة لا تخصّصاً.

ص ٧٠ قوله : ( الملاك الثاني. انّه وإن لم يكن الأصل ... ).

هذا نظير ما إذا ورد : أكرم كل عالم ، ويحرم اكرام فساق العلماء ، وورد في دليل ثالث : لا يحرم اكرام زيد الفاسق منهم ، فإنّ الأولين لو كانا منفصلين رجعنا في زيد الفاسق بعد تخصيص دليل حرمته بالقيد الثاني إلى عموم العام لاثبات وجوب اكرامه كالعالم العادل ، وامّا إذا كان المقيّد الأوّل متصلاً بالعام فلا يصح ذلك ؛ لأنّ العام لم ينعقد عموم له بالنسبة للفساق من العلماء ، وهذا واضح.

ص ٧٠ قوله : ( ثانياً ـ النقض بسائر موارد التقييد ... ).

يمكن دفع النقض بأنّ دليل التقييد الشرعي يدل بالملازمة على عدم سقوط الأمر والوجوب إلاّبالاتيان بالمقيّد فينفي بنفسه الاجتزاء بالمطلق ، أي الاتيان بفاقد القيد ، وإلاّ كان لغواً ولم يكن شرطاً ، وهذا بخلاف المورد الذي يكون عدم إطلاق المادة لمحذور عقلي في خصوص اطلاقها لحصة وفرد كما في المقام وموارد الاجتماع مع احتمال وفاء الفاقد بالملاك والاجتزاء به ، فإنّه لا دليل على عدم الاجتزاء به عندئذٍ إلاّإطلاق الأمر نفسه.

هذا ، إلاّ انّ الصحيح أنّ أصل النقض وارد على المحقّق العراقي قدس‌سره ، فإنّه لا إشكال في الرجوع فقهياً إلى إطلاق الأمر في موارد تقييد متعلقه ولو بمقيّد منفصل بقيد ، وبه يثبت عدم الاجتزاء بفاقد القيد ولزوم الاتيان بالمقيّد لا بدليل القيد. ومن هنا نحتاج إلى جواب حلّي للشبهة المذكورة في هذا البيان ؛ ولهذا لم يكتف السيد الشهيد قدس‌سره بهذين الجوابين وتصدّى لحلّ الشبهة بجوابين آخرين.

١٥٨

ص ٧١ قوله : ( ثالثاً ... ).

حاصل هذا الوجه ـ والذي هو أحد الأجوبة الحلّية على الشبهة ـ أنّ تحقق الواجب والامتثال لا يكون عدمه شرطاً في الايجاب والأمر امّا بنحو الشرط المتأخر بحيث يستكشف به عدم الأمر من أوّل الأمر فواضح جداً ؛ إذ يلزم أن لا يكون ما حققه المكلّف واجباً وامتثالاً وهو تهافت ، وامّا بنحو الشرط المقارن أي سقوط الأمر بقاءً بالامتثال ، فهذا مضافاً إلى عدم صحته فإن فعل المحبوب لا يخرجه عن المحبوبية حتى بقاءً غير ضار في المقام ؛ إذ بالمقيد نستكشف انّ الايجاب الفعلي قبل الامتثال متعلقه الحصة المقيّدة أي الاختيارية ، فيكون مقتضى إطلاق الهيئة الفعلي قبل تحقق الحصة غير الاختيارية والمتعلق بالمقيّد ولو بالدليل المنفصل لزوم الاتيان به ، بل بقائه وعدم سقوطه بمقتضى هذه الدلالة الالتزامية بين ثبوت الايجاب المتعلّق بالمقيّد حدوثاً وبين بقائه إذا لم يتحقّق المقيّد ، وإن لم يكن إطلاق لهيئة الأمر بلحاظ مرحلة البقاء ابتداءً.

فالحاصل ما جاء في هذه الشبهة يسقط إطلاق الهيئة بقاءً فقط فعلية أو فاعلية لا حدوثاً ، فإذا ثبت تقييد متعلّق الوجوب الفعلي حدوثاً كان لازمه بقاء الوجوب وعدم سقوطه ، وهذه الدلالة لا إجمال فيها.

لا يقال : الوجوب الفعلي حدوثاً بدليل الأمر هو ايجاب الجامع الأعم من واجد القيد وفاقده ، لا خصوص المقيّد ، وهذا لا يلازم بقاء الفعلية أو الفاعلية ولزوم الاتيان بالمقيّد بعد تحقق فاقد القيد ودليل التقييد المنفصل لا ينافي ذلك ؛ لأنّه وإن كان يكشف انّ الواجب لا يشمل الفاقد إلاّ انّه لا يدل على بقاء الوجوب

١٥٩

بحسب الفرض ، ويحتمل كون الفاقد محققاً للغرض الموجب لعدم فعلية أو فاعلية الأمر بالمقيّد بقاءً بعد تحقّق الفاقد.

فإنّه يقال : هذا خلف فرض عدم تعلّق الايجاب والأمر بالجامع المنطبق على فاقد القيد ، فإنّ المفروض انّ دليل التقييد ولو المنفصل دلّ عقلاً أو شرعاً على عدم الإطلاق في متعلّق الأمر للفاقد ، فالايجاب الفعلي حدوثاً لا محالة يكون متعلقاً بالمقيّد لا المطلق والجامع ، وهذا واضح.

فالجواب الثالث تام.

بل ظهر من هذا التقرير له تماميته حتى على تقدير القول بسقوط فعلية التكليف بالامتثال كما هو المشهور.

ص ٧١ قوله : ( رابعاً ـ انّ من يرى ... ).

قد يقال : إن اريد بالامتثال ما يعمّ تحقيق الغرض من الأمر الذي لا إشكال في كونه امتثالاً بحكم العقل فهذا يوقعنا في المحذور الذي ذكرناه وانّه لا يصحّ التمسك باطلاق الأمر كلما احتملنا الاجتزاء وحصول غرضه بغير المأمور به وإن اريد به خصوص الاتيان بالواجب ـ مع انّه بلا موجب بعد كون اتيان الغرض امتثالاً أيضاً ـ فإن اريد الواجب الذي هو متعلق الهيئة أي مدلول المادة رجع الاشكال ، وإن اريد الواجب الواقعي كما هو ظاهر الكتاب فلازمه أيضاً انّه لو احتملنا انّ الواجب الواقعي هو الأعم لم يصح التمسك باطلاق الهيئة ، فلو دلّ دليل على وجوب عتق الرقبة المؤمنة واحتملنا انّ قيد الايمان ليس واجباً واقعاً بل استحبابي لم يصح التمسك باطلاق الهيئة لأنّه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، وهو واضح البطلان.

١٦٠