أضواء وآراء - ج ١

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

أضواء وآراء - ج ١

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2730-73-5
ISBN الدورة:
978-964-2730-72-8

الصفحات: ٦٩٤

والصحيح ما اختاره صاحب الكفاية لا ما اختاره الفصول ولا ما ادعاه العلمان.

أمّا الأوّل فلما تقدم من أنّ اثنينية المبدأ والذات في الوجود وإن كان مطابقاً مع الفهم العرفي في جملة من الأعراض والمبادىء إلاّ انّه لا ربط له بمدلول المشتق أصلاً ، وليس شرطاً في صدقه ، إذ المأخوذ فيه ليس إلاّالذات التي لها المبدأ بأحد أنحاء النسب الاتصافية على أنحائها المختلفة.

وقد ذكرنا انّ اللازم كون الحيثية المنتزع منها المشتق غير الحيثية المنتزع منها المبدأ ، فإنّ الأخير ينتزع من حدّ الشيء وكيفه بخلاف المشتق فإنّه منتزع بسيطاً أو مركباً من الذات المتحيثة والمتكيفة بتلك الكيفية ، وهذا صادق حتى في المصادر الجعلية كالانسانية والجسمية والشيئية ، فالتعدد في الوجود العيني بين الذات والمبدأ لا ربط له بمدلول المشتق أصلاً.

وعليه فيكون صدق الصفات المشتقة على الباري تعالى حقيقياً ؛ لأنّ حيثية انتزاع العالم منه غير حيثية انتزاع العلم وإن اتحدا في الوجود العيني ، وقد تقدم انّ تعدّد حيثية الانتزاع لا يوجب التركب في الوجود لأنّه قد يكون ذلك مربوطاً بكيفية الانتزاع الذهني للمفهوم فحسب.

وأمّا الثاني فلأنّ اتحاد المبدأ والذات مفهوماً مخالف لما تقدم من تغايرهما ذاتاً ، فإنّ قولنا البياض أبيض لو كان صادقاً كان معناه اتحاد معنى المبدأ والمشتق ، إذ الأبيض فيه مبدأ البياض أيضاً وهو خلف ، فلابد من فرض عناية في البين ولو بأن يكون المراد بالبياض في طرف الموضوع ملاحظة المبدأ بما هو ذات وشيء ـ أي اسم المصدر لا المصدر ـ فيكون مغايراً مع المبدأ الملحوظ في المشتق.

١٢١

والشاهد على هذه العناية مضافاً إلى وجدانيتها ما نراه من عدم اطراد ذلك في سائر المبادىء والمشتقات فلا يقال القيام قائم والجلوس جالس والضرب ضارب ... وهكذا.

فالتلبس بمعنى مطلق الواجدية وإن كان كافياً في صدق المشتق ، إلاّ انّه لابد فيه من حفظ المغايرة الذاتية والمفهومية بين المشتق والمبدأ.

ص ٣٣٦ قوله : ( الأسماء المبهمة ... ).

لا صحّة لما ذكره المحقّق الخراساني من انّ هذا موضوع للمفرد المذكر حتى إذا اخذت الإشارة الخارجية قيداً في العلقة الوضعية لأنّه لا ينبغي الشك في استفادة معنى الإشارة من أسماء الإشارة وأخذ الإشارة قيداً في العلقة الوضعية لا يحقق ذلك ؛ إذ اللفظ لا يدلّ إلاّعلى المعنى الموضوع له لا على قيد الوضع ، بخلاف أخذ آلية لحاظ المعنى أو استقلاليته قيداً للوضع لأنّ الآلية خصوصية في المعنى هناك وليست معنىً آخر. ففرق بين المقام وبين ذاك البحث.

ولعل هذا روح مطلب السيد الخوئي قدس‌سره واعتراضه على الخراساني ، وحاصله : انّ الإشارة إذا استفيدت من اسم الإشارة فهو معنى أخذها في الموضوع له وإلاّ بأن كانت قيد الوضع لزم وجود دال آخر عليها ليدل اسم الإشارة على المفرد المذكر ، وهذا معناه الحاجة إلى دال آخر على الإشارة وهو واضح البطلان.

وهذا بخلاف باب الحروف ، فالإشارة معنى ومفهوم زائد لابد في افادتها من أخذها في مدلول اسم الإشارة.

١٢٢

ص ٣٣٨ قوله : ( وامّا الثالث ... ).

توجد هنا تصورات عديدة ـ بعد بطلان ما ذكره المحقق الخراساني بما تقدم منّا وبما ذكره السيد الشهيد قدس‌سره من عدم صحة كبرى قيد الوضع وعدم ترادف هذا مع الفرد المذكر ـ نوردها فيما يلي :

١ ـ ما يظهر من كلمات بعض المتأخرين من انّ اسم الإشارة موضوع لنفس الإشارة الذهنية نظير الإشارة الخارجية باليد ، غاية الأمر حيث انّ الإشارة تلحظ بنحو طريقي إلى المشار إليه فلا يكون ملحوظاً مستقلاًّ كما في سائر الأفعال ، وقد ادعي انّ هذا مما قام عليه الوجدان.

وفيه : أوّلاً ـ انّ هذا يلزم صيرورة اسم الإشارة كأدواة النداء أداةً لنفس التوجه والإشارة إلى شيء فيكون أمراً انشائياً صرفاً مع وضوح انّه ليس كذلك بل هو على حدّ سائر المفاهيم الاخطارية الاسمية.

وثانياً ـ انّ فعل الإشارة الخارجي أو الذهني بنفسه لا يوجد انطباع مفهوم في الذهن يمكن أن يحمل عليه أو به ، وإنّما هو سبب تكويني لالتفات الذهن إلى المشار إليه التكويني الخارجي وانطباع مفهومه وصورته في الذهن من مشاهدته ثمّ الحكم عليه ، بينما نحن نجد انّ مدلول أسماء الإشارة والمبهمات في نفسها تصورات تامة ـ وإن كانت مبهمة من حيث التفاصيل ـ صالحة في نفسها ، ومع قطع النظر عن ملاحظة غيرها للحكم عليها أو بها ، فلا تكون قنطرة وسبباً لانطباع مفهوم آخر في الذهن لكي يحكم على ذلك.

نعم ، هي مفاهيم اجمالية وليست تفصيلية ، إلاّ انّ الإجمال بلحاظ

١٢٣

الخصوصيات الخارجية وإلاّ فكل مفهوم اجمالي أو تفصيلي هو مبيّن ومشخص في عالم المفهومية ـ كما هو مقرر في محلّه ـ فالتفسير المذكور مما لا يمكن المساعدة عليه بوجه أصلاً.

٢ ـ ما يظهر من كلمات السيد الخوئي قدس‌سره من انّ اسم الإشارة موضوع لواقع المفرد المذكر لا لمفهومه بقيد الإشارة إليه خارجاً ، ومن هنا يكون من الوضع العام والموضوع له الخاص.

وفيه : أوّلاً ـ ما أفاده السيد الشهيد قدس‌سره من لزوم كون المدلول الوضعي تصديقياً ، لأنّ واقع الإشارة اخذ قيداً فيه.

وثانياً ـ انّ واقع المفرد المذكّر لا مفهومه ليس إلاّالمصداق والوجود الخارجي للمفرد المذكر ، وهو يستحيل كونه الموضوع له على ما نقحه السيد الخوئي قدس‌سره نفسه أيضاً في محلّه ، بل لابد وأن يكون المعنى الموضوع له هو المفهوم مع قطع النظر عن وجوده خارجاً أو ذهناً.

نعم ، لو كان مقصوده واقع المفهوم المفرد المذكر أي واقع كل مفهوم مفرد مذكر لم يرد هذا الاشكال حيث صار هذا العنوان مشيراً إلى المفاهيم المفردة المذكورة ـ كما في تعبير السيد الشهيد في الوجه القادم ـ ولعلّه مقصوده ، والتعبير قاصر.

٣ ـ ما يظهر من الكتاب من الوضع لكل مفهوم مفرد مذكر واقع طرفاً للنسبة الاشارية التصورية فيكون من الوضع العام والموضوع له الخاص وتكون الإشارة مفادة بنحو المعنى الحرفي كالنسب الاخرى.

١٢٤

ويلاحظ على هذا البيان : بأنّنا إذا سلّمنا كون الإشارة نسبة كالمعاني النسبية فلا شك أنّ النسبة تحليلية وهي على ما تقدم لا تأتي إلى الذهن إلاّمن خلال المفهوم المحصّص والمنتسب ، وفي المقام لا يكون المفهوم المذكور موجوداً في الذهن إذ ليس هو مفهوم المفرد المذكر وإلاّ لرجعنا إلى كلام صاحب الكفاية ، وواقع المفهوم المفرد المذكر لا تصور له في الذهن لكي يوجد باسم الإشارة محصّصاً ، فكيف توجد النسبة الاشارية التصورية في الذهن؟ على انّ الإشارة ليست نسبة وإنّما لها نسبة واضافة إلى المشار إليه ككل فعل أو وصف يضاف إلى متعلقه وموضوعه كما أشرنا أوّلاً.

ويمكن أن يكون مقصود السيد الشهيد انّ اللفظ كما يمكن أن يوضع لمعنى ومفهوم معين تفصيلي يمكن أن يوضع لمفهوم مردّد بمعنى انّه يوضع من خلال عنوان انتزاعي كعنوان المفهوم المشار إليه لا بمعنى انّ هذا العنوان هو المفهوم الموضوع له بل هذا عنوان مشير نظير مفهوم النسبة الابتدائية في الحروف ويكون الموضوع له واقع ذلك المفهوم المشار إليه غير المعلوم لدى السامع إلاّ بحيثية كونه مشاراً إليه أي طرفاً للاشارة وكونه مفهوماً لمفرد مذكر ، وهذا يعني انّ المعنى الموضوع له لهذه الأسماء يكون معنى مردداً مبهماً في الذهن يتصور الذهن أوصافه من انّه مفهوم لمفرد مذكر مشار إليه ، ومن هنا يأتي الابهام في هذه الأسماء ؛ لأنّ واقع ذلك المفهوم لا يأتي إلى الذهن منها إلاّبدوال اخرى في الجملة كمرجع الضمير أو الصلة أو غير ذلك ، وامّا عنوان المفهوم المشار إليه فليس هو المدلول وإنّما هو مشير إليه ، وبهذا تكون هذه الأسماء أشبه بالرموز والألفاظ المشيرة إلى المفاهيم التفصيليّة ، ومن هنا تكون مستبطنة للإشارة ، والله العالم.

١٢٥

المشتق

ص ٣٦٣ قوله : ( المشتق عند الاصوليين ... ).

لا يبعد أن يكون المشتق المبحوث عنه عند الاصوليين مطلق موارد ثبوت حكم على عنوان وصفي سواء كان من خلال اسم اشتقاقي أو جامد متضمن لذلك أو نسبة اضافية كغلام زيد مثلاً ، أو معنى حرفي متضمن لذلك كقوله تعالى : ( نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَ ) أو غير ذلك حيث يبحث عن شمول مثل هذه العناوين لمن كان له ذلك الاتصاف ، فتدبر جيداً.

ص ٣٧٣ قوله : ( وهكذا يتضح عدم إمكان تصوير معنى جامع ... ).

هذا البرهان منشأه الميرزا ، وحاصله أنّه لو اريد أخذ الجامع بين زمان الحاضر والحال فهذا معناه أخذ الزمان في مدلوله ، وهو خلاف ما تقدم مسلّميته. وإن اريد انتزاع عنوان نسبي عام يشمل مطلق الاتصاف في أحد الزمانين فمن الواضح انّ هذا لا يمكن أن يكون من ناحية ما يدلّ على النسبة ، لأنّها معنى ايجادي خاص لا جامع ماهوي بين أفرادها ، فلا محالة لابد وأن يكون من خلال توسعة مفهومية للمبدأ المتصف به الذات ، وهذا خروج عن موضع النزاع كما ذكر أيضاً إذ لا اشكال في انّ المباديء مختلفة من حيث ارادة الفعلية أو الشأنية أو الحرفة أو المبدأ الآني أو صرف الوجودي أو الحلولي ومطلق الوجود أو غير ذلك. وفي جميع تلك الموارد لابد من ملاحظة انقضاء المبدأ بالنحو المأخوذ ، وهذا البرهان أو التحليل لا بأس به.

١٢٦

تعليقات على الجزء الثاني

بحوث الأوامر

دلالات مادّة الأمر

دلالات صيغة الأمر

الاجزاء

مقدمة الواجب

مبحث الضد

حالات خاصة للأمر

كيفيّات تعلّق الأمر

١٢٧
١٢٨

دلالات مادّة الأمر

ص ١١ قوله : ( ١ ـ مادة الأمر ... ).

ينبغي عقد جهة أو جهتين اخريين :

احداهما : فيما ذكره صاحب الكفاية من انّ مادة الأمر موضوع للطلب الانشائي لا الحقيقي.

وتفصيل ذلك :

انّ مجرد الارادة النفسانية للفعل من الغير ليس أمراً جزماً بل لابد من السعي نحو تحقيقه منه من خلال ابرازه بمبرز ، إلاّ انّ ما ذكر من انّه للأمر الانشائي إن اريد به انّه من المعاني التي تنشأ باللفظ فقد تقدم انّه لا معنى معقول لذلك ، وإن اريد انّه لابد من ابراز الارادة التشريعية لكي يصدق الأمر فلا يكفي ثبوتها في افق النفس وحده ، فهذا صحيح.

ثمّ إنّ صدق الأمر على مجرد ابراز الارادة وانشائها مع عدمها واقعاً كما في موارد الأوامر الامتحانية مجاز جزماً فإنّه نظير سائر موارد عدم الجدية من حيث انّه لا أمر واقعاً. نعم ، أمر بالمعنى الاصطلاحي أي استعمال لصيغة الأمر فما عن بعض المتأخرين في المقام غير تام.

١٢٩

الثانية : انّ المعنى الاصطلاحي الاصولي لمادة الأمر هو نفس الصيغة أو ما يقوم مقامها من أدوات انشاء الأمر كما انّ معناها الاصطلاحي النحوي خصوص صيغ الأمر الحاضر والغايب لا غيرها من الأدوات وكلاهما معنى جامد اصطلاحي.

ص ١٨ قوله : ( امّا القول الأوّل فدليله التبادر ... ).

أقول : لابد من احراز كون التبادر حاقياً وليس بملاك الإطلاق ومقدمات الحكمة ، كما انّه لابد من دفع الاشكالات التي تذكر بأزاء دعوى الوضع لخصوص الوجوب ، والمهم منها اثنان :

أحدهما ثبوتي : وحاصله : انّ مدلول صيغة الأمر ليس إلاّالبعث والارسال بنحو المعنى الحرفي ، وهو مفهوم مشترك بين تمام الموارد وأمره دائر بين الوجود والعدم لا الانقسام إلى الوجوبي والاستحبابي.

فالحاصل : الوجوب والندب خارجان عن مفاد صيغة الأمر ، ولا يمكن تنويعها إلى الوجوبي والندبي ، فكيف يمكن أن تكون الصيغة موضوعة لذلك ، فلا محالة يكون الوجوب مستفاداً ومفاداً بدالّ آخر.

والجواب : لو سلّمنا عدم صحّة انقسام الارسال بنحو المعنى الحرفي إلى مرتبتين كالمعنى الاسمي ، فيمكن دعوى التحصيص بلحاظ حيثية خارجة عنها وهي منشأ الارسال وداعيه ، فبلحاظه ينقسم إلى الوجوب وهو الارسال الناشىء من ارادة شديدة والاستحباب وهو الناشىء من ارادة ضعيفة ، فيقال بوضع الصيغة للحصة الاولى دون الثانية إلاّبنحو طولي كما في سائر المجازيات.

١٣٠

نعم ، لو اريد استبعاد ذلك فهذا مطلب صحيح سوف يأتي ، ولكنه لا يستوجب تعين مسلك حكم العقل.

والآخر اثباتي : وهو ما ذكره في الكفاية من كثرة استعمال الأمر في الندب فيلزم كثرة المجاز.

وأجاب عليه بأنّه مع القرينة ولا بأس به كما قيل ما من عام إلاّوقد خصّ ، مع انّه حقيقة في العموم.

إلاّ انّ هناك فرقاً بين العام المخصص وبين الأوامر الاستحبابية من ناحية انّ تخصيص العام لا يستلزم المجازية بخلاف المقام فإنّه بناءً على الوضع للوجوب يلزم كثرة المجازات.

هذا مضافاً إلى وجدانية عدم العناية في الاستعمال في موارد الاستحباب ، بل والأوامر الارشادية أو توهم الحظر وإنّما التخلف والعناية بلحاظ المدلول التصديقي ، وهذا معناه انّ الدلالة على الوجوب مربوطة بمرحلة المدلول الجدي والتطابق بين الاثبات والثبوت لا بلحاظ المدلول التصوري لصيغة الأمر ، وهذا يعني انّ الدلالة على أصل الطلب فضلاً عن الوجوب اطلاقية وليست وضعية ، وسيأتي مزيد توضيح لهذه النقطة وبيان حقيقة هذه الدلالة.

ص ١٨ قوله : ( وامّا القول الثاني ... ).

هناك بيانان لمدرسة الميرزا لتقريب مطلبها لابد من ذكرهما :

أحدهما : ما هو ظاهر تقريرات الفوائد ، وحاصله :

انّ الموجود في موارد انشاء الأمر بالصيغة بعث ونسبة ارسالية ، وهذا كما

١٣١

ذكرنا مشترك بين الوجوب والندب ولا تنويع فيه ، وارادة تشريعية وهي أيضاً مشتركة إذ المراد منها ما يكون تلك المرتبة التي تساوق هجمة النفس في الارادة التكوينية وهي أيضاً مشتركة بين الوجوب والندب ، فما قيل من انّ الفرق بين الوجوب والندب بالشدة والضعف كما عن بعض الأساطين غير صحيح ، كما انّ ما ذكره القدامى من انّ الفرق بينهما انّ الوجوب مركب من طلب الفعل مع عدم الترخيص في الترك والاستحباب مركب منه مع الترخيص في الترك أيضاً غير تام ، لوضوح بساطتهما وعدم التركيب.

فلا يبقى إلاّالمبادئ من المصلحة والمفسدة وهي لو فرض اختلافها في المرتبة والدرجة فلا ينبغي الشك في خروجها عن مدلول الأمر والوجوب والندب. ومن هنا حكم الميرزا قدس‌سره بأنّ الوجوب ينتزعه العقل من نفس طلب المولى وأمره حينما لا يكون معه إذن في الترك.

وهذا التقريب مضافاً إلى ورود ما أورده السيد الشهيد على أصل هذا المسلك في الكتاب يرد عليه :

أوّلاً ـ ما تقدم من انّ مفاد الصيغة يمكن تصنيفها بلحاظ منشئها إلى صنفين.

وثانياً ـ ما ذكره من انّ الارادة التشريعية واحدة في الوجوب والندب خطأ وخلط بين الارادة التشريعية للفعل والغرض التكويني للمولى من أمره بالسعي لتحصيل المراد التشريعي من خلال أمره للغير ، فإنّ ما يساوق هجمة النفس وهو واحد في الموردين الوجوب والندب إنّما هو الغرض والارادة التكوينية للآمر من أمره لا ارادته التشريعية المتعلقة بفعل الغير ، فإنّه لا اشكال في انقسامها إلى شديدة وضعيفة وما يرضى الآمر بمخالفته وما لا يرضى ، فليست هي المساوقة

١٣٢

مع هجمة النفس في الارادة التكوينية.

ثانيهما : ما أفاده السيد الخوئي على ما في تقريرات بحثه ( المحاضرات ) وحاصله : انّ تفسير الصيغة مرّة بالطلب ومرة اخرى بالبعث وثالثة بالارادة التشريعية لا يرجع إلى معنى محصل بل لا معنى نتعقله للارادة التشريعية أصلاً ، ولا يعقل الشوق والشدة والضعف فيما لا يعود لمصلحة فيه إلى المولى ، وإنّما صيغة الأمر لابراز الاعتبار النفساني أي ابراز اعتبار الفعل في ذمة الغير ويكون هذا الابراز بنفسه مصداقاً للبعث ، وامّا الوجوب فيستفاد من حكم العقل حينما لا يكون معه ترخيص في الترك.

ويلاحظ عليه مضافاً إلى الوجوه القادمة في الكتاب والتي هي مشتركة على التقريبين والبيانين :

أوّلاً ـ ما تقدم من بطلان مسلك التعهد في الوضع فلابد من تصوير معنى تصوري للصيغة ، بل حتى على ذلك المسلك أيضاً لابد من فرض معنى تصوري لها ، كما سيأتي في مبحث صيغة الأمر.

وثانياً ـ انّ كون مدلول الأمر اعتباراً نفسانياً مما لا يمكن قبوله ، كيف ولا اعتبار في الأوامر الشخصية بل مدلول الأمر ثابت في المجتمعات قبل ظهور الانشائيات والاعتباريات كما في أمر الامّ لطفلها ، وقد تقدم في محله انّ الاعتبار ليس قوام الحكم أصلاً وإنّما هو أمر صياغي فضلاً من أن يكون مدلول صيغة الأمر.

وثالثاً ـ لا اشكال في انّ الوجوب والندب في عالم الاعتبار يرجعان إلى اعتبارين مختلفين ، فلو ربطنا بين الأمر والاعتبار النفساني كان دعوى الدلالة

١٣٣

الوضعية أيسر وأوضح من المسلك القائل بوضعها للنسبة الارسالية.

ورابعاً ـ ما يأتي وتقدم من صحّة الارادة التشريعية وتقسيمها إلى الشديدة والضعيفة ، فإنّ نفس الأمر النفساني المتحقق في مورد الارادة التكوينية للفعل يحصل بلحاظ فعل الغير في الارادة التشريعية ولا يلزم أن يفسّر بالحب والشوق ونحو ذلك من العبائر فإنّها ليست لازمة حتى في التكوينية فضلاً عن التشريعية ، فانكار أصل الارادة مكابرة.

ثمّ إنّ هذه الأقوال الثلاثة موطن بحثها ومحلّها صيغة الأمر لا مادته ؛ لأنّ المادة موضوعة لمفهوم اسمي حكائي لا انشائي ـ وإن كان يمكن الانشاء به كالانشاء بالجملة الاخبارية ـ وعندئذٍ يتعين أن يكون موضوعاً لغة إمّا لجامع الطلب أي سواء كان معه ترخيص في الترك أم لا ، أو لخصوص الطلب الذي ليس معه ترخيص في الترك ؛ لأنّ الاهمال في الوضع غير معقول ، فإذا كان الأوّل كان مدلوله الوضعي جامع الطلب ، وهو خلف الفراغ عن استفادة الوجوب من المادة ، بل ادعى انها أوضح دلالة على ذلك من الصيغة.

وإن كان الثاني كان مدلوله الطلب المقيّد باللزوم والوجوب ، فيكون استعماله في الطلب الندبي أي مع الترخيص في الترك مجازاً لا محالة ، لأنّ استعمال اللفظ الموضوع للخاص والمقيد في المطلق مجاز ، فالبحث في مادة الأمر لابد وأن يكون بحثاً عن المدلول اللفظي الوضعي ، وإنّما الأقوال الثلاثة معقولة في صيغة الأمر أو مادته المستعملة في مقام الانشاء ، أي كلما كان هناك انشاء للطلب والأمر حيث يمكن أن يقال فيه بأنّ استفادة الوجوب قد يكون بحكم العقل أو بالاطلاق.

١٣٤

وأمّا الصيغة أو أي شيء استعمل في مقام انشاء الطلب لم يستعمل إلاّفي الطلب أو النسبة الطلبية وهي واحدة في الوجوب والاستحباب والوجوب والاستحباب أمران زائدان على الطلب بحكم العقل أو بالاطلاق ومقدمات الحكمة.

والظاهر أنّ محط نظر القائلين بالقولين الثاني والثالث أيضاً مقام الانشاء بصيغة الأمر ونحوه وليس بحثهم عن مادة الأمر ، فتدبر جيداً.

ص ١٩ قوله : ( ويرد عليه : أوّلاً ... ).

حاصل الاشكال أنّ الترخيص في الترك لو اريد به انشاء الترخيص أو ابرازه فمن الواضح أنّه لو علم المكلف من دون إبراز ذلك انّ غرض المولى وطلبه النفساني في المبرز ليس شديداً أو يرضى بتركه ولا يتأذّى من تركه لم يحكم عقله بالوجوب ، ولو اريد به نفس هذه الخصوصية الثبوتية للطلب ، والتي قد يعبر عنها بشدة الطلب ، وقد يعبّر عنها بعدم الرضا بالترك ، فهذا معناه انقسام الطلب والارادة التشريعية إلى صنفين ، ولا يراد بالوجوب إلاّذلك ، ولا يكون طريق إلى استكشاف الطلب الشديد إلاّالدلالة اللفظية من الوضع أو الإطلاق ومقدمات الحكمة ، أي الدلالة الايجابية أو السلبية السكوتية ، فينهدم القول الثاني.

ويمكن أن نضيف على ذلك بأنّ حكم العقل بالوجوب وجوب عقلي عملي أي حسن الطاعة وقبح المعصية ، وهذا لا ربط له بالوجوب التشريعي ، بمعنى الطلب الذي يجعله الآمر لزومياً ، فإنّ انقسام الطلب إلى القسمين اللزومي وغير اللزومي لا يختص في اللغة بالموالي فضلاً من أن يكون مربوطاً بحكم العقل في

١٣٥

باب أوامر الله سبحانه والمولى الحقيقي ، فهذا خلط بين باب الأحكام العقلية وباب الأغراض والمداليل اللغوية.

ومما ينبه على ذلك انّه لا إشكال في استفادة التحريم من النهي مع أنّ حكم العقل بوجوب اطاعة المولى وعدم مخالفته وعصيانه لا فرق فيه بين بابي الأمر أو النهي ، فلابد وأن يقال هناك انّ العقل في النواهي لا يحكم بوجوب الطاعة بل بحرمة المعصية ليتطابق مع دلالة النهي على التحريم وهو كما ترى.

وظني أنّ أصحاب القولين الثاني والثالث حيث لاحظوا في باب صيغة الأمر انّ مدلولها النسبة الارسالية أو الطلبية وكذلك مدلول النهي النسبة الزجرية ، ولاحظوا أنّ النسبة واحدة ومحفوظة سواء كان الطلب وجوبياً أو استحبابياً ولاحظوا انّه لا يلزم التجوّز من استعمالها في موارد الاستحباب والكراهة اضطروا إلى تفسير ذلك امّا على أساس حكم العقل ـ القول الثاني ـ أو على أساس الدلالة الاطلاقية ومقدمات الحكمة ـ القول الثالث ـ وسوف يأتي في بحث الصيغة إمكان تصوير دلالة لفظية اثباتية أي وضعية بنحو لا يلزم منه التجوّز في موارد استعمال الصيغة في الاستحباب أو الكراهة ، وذلك بأنّ مقتضى التطابق بين مقام الاثبات والثبوت سد تمام أبواب العدم كما هو مقتضى النسبة الارسالية أو الزجرية ، فإنّ الارسال والزجر الخارجيين كذلك فالدلالة على الوجوب والحرمة في صيغة الأمر والنهي اثباتية لا سلبية سكوتية ، ومع ذلك لا يلزم التجوّز إذا ورد قرينة على الترخيص والرضا بالترك ، لأنّ المعنى المستعمل فيه الصيغة هو النسبة المذكورة وهي محفوظة على كل حال والتطابق والتناسب المذكور إنّما هو بلحاظ المدلول التصديقي.

١٣٦

ص ٢٠ قوله : ( الأوّل ما ذكره المحقق العراقي ... ).

أورد عليه مدرسة المحقق النائيني باشكالين آخرين لم يشر اليهما الشهيد الصدر :

أحدهما : انّ الشدّة والضعف في الارادة إنّما يكون فيما إذا كانت المصلحة في المأمور به راجعة إلى الآمر ولا يعقل في الأوامر الشرعية التي تكون المصلحة والملاك فيها راجعة إلى المكلفين أنفسهم ، فإنّه لا شوق ولا ارادة فيها لمولانا أصلاً.

وفيه : انّه خلط بين تعلق الارادة في الارادة التشريعية بنفس الفعل وبين تعلقه بالفعل الصادر عن المكلف ، فإنّ الارادة التشريعية تعني تعلّق الشوق والارادة بحصول الفعل من الغير لا بنفس الفعل. وهذا لا إشكال في ثبوته في كل الأوامر حتى الصادرة من الشارع الأقدس ولو لم يكن في ذات الفعل أيّة مصلحة للآمر ، فالمصلحة العائدة للمكلف يجعل المولى محباً لصدور الفعل منه لا انّه سبب لحب نفس الفعل لكي يقال بأنّه متوقف على وجود مصلحة فيه عائدة إليه وهو محال في مولانا الحقيقي ، وحب صدور الفعل من المكلّف لا شكّ في انقسامه إلى الوجوبي والندبي أي الشديد الذي لا يرضى بتفويته والضعيف الذي يرضى بمخالفته.

الثاني : انّ الوجوب والارادة الشديدة في النفس كالارادة الضعيفة أيضاً له حدّ خاص به ، وليس صرف الطلب والارادة ، لأنّ كلاًّ منهما صفة عرضية ومرتبة في النفس ممكنة الوجود وكل ممكن له حدّ لا محالة. وكل منهما ضد للآخر في مرحلة الفعلية والوجود فلا يمكن التمسك باطلاق الصيغة لاثبات أحدهما في قبال الآخر بل خصوصية كل منهما بحاجة إلى بيان.

١٣٧

وهذا الاشكال بهذا المقدار قابل للدفع لأنّ المحقق العراقي يقول انّ الخصوصية للوجوب حيث انّه من سنخ مدلول الصيغة وهو الطلب والارادة فلا يحتاج إلى بيان زائد لو كان مقصوداً بخلاف الندب.

نعم ، يمكن أن يكون المقصود انّ مدلول الأمر إنّما هو جامع الارادة وصرف وجودها فلا يكون ذكرها مقتضياً لكونه في مقام البيان إلاّبمقدار هذا الجامع وأصل الارادة ، وامّا خصوصيته المتحققة في ضمنها هذا الجامع فبحاجة إلى مقام بيان زائد ، وليس ذاك الفرد مساوقاً مع الجامع كما يقال في المطلق والمقيّد ليكفي بيان الجامع عن بيانه كما انّه ليس المتكلم في مقام بيان شيء زائد على مدلول اللفظ عادة ولو فرض العلم بوجوده زائداً على الجامع كما سيأتي في ردّ الوجه الثاني والثالث في الكتاب فهو أمر آخر زائد على الإطلاق.

ثمّ إنّ هنا اشكالاً ثالثاً قد يستفاد من بعض كلمات مدرسة الميرزا على العراقي قدس سرهما حاصله : انّ الارادة والكراهة والحب والبغض خارجان عن مدلول صيغة الأمر رأساً فكيف يمكن اثبات الشدة والضعف فيهما بالاطلاق ومقدمات اصول الحكمة.

ويمكن الجواب عليه : بأنّ الارادة التشريعية تستفاد من الصيغة ولو بالدلالة الالتزامية التصورية فيمكن اجراء الإطلاق فيها بهذا الاعتبار.

والانصاف انّ هذا المقدار لا يكفي في الجواب ، فإنّ الإطلاق ومقدمات الحكمة إنّما تجري بلحاظ المدلول المستعمل فيه للفظ لا كل مدلول تصوري والمدلول الالتزامي التصوري ليس مما يستعمل فيه اللفظ. نعم ، هذا الاشكال غير متجه على التقريب الرابع الذي يختاره السيد الشهيد قدس‌سره.

١٣٨

ثمّ انّ التقريب الذي اختاره السيد الشهيد قدس‌سره معناه دلالة الأمر على الوجوب والالزام بالاطلاق أي بأصالة التطابق بين المدلول الاستعمالي والمدلول الجدي ، إلاّ انّه أظهر من الإطلاق فإنّ المراد بالاطلاق هو الدلالة السكوتية أي دلالة عدم الذكر اثباتاً على عدم وجود القيد ثبوتاً ، وامّا هذه الدلالة فهي ثبوتية مؤدّاها انّ ما ذكره قصده وأراده جداً ، لأنّ الصيغة موضوعة للدلالة على البعث الانشائي ، أو قل النسبة الارسالية بنحو المعنى الحرفي المساوق تصوراً مع اللزوم وسد تمام أبواب العدم وهو الوجوب ، غاية الأمر قد يتخلف المدلول التصديقي الجدي للمولى فلا يكون غرضه وداعيه من هذا البعث الانشائي الالزام بل قد لا يكون مقصوده الطلب أصلاً بل الامتحان أو الارشاد أو رفع الحظر ولو انّ كل ذلك لا يقدح بالمدلول التصوري والاستعمالي للصيغة في النسبة الارسالية والبعث الانشائي ، وإنّما نظير ما إذا لم يرد من العام عمومه جدا رغم استعماله لأدوات العموم ، فكما انّ دلالة العام على العموم وضعية وليست اطلاقية كذلك دلالة صيغة الأمر على الطلب اللزومي وضعية ، لأنّ النسبة الارسالية أو البعث الانشائي مساوق مع اللزوم تصوراً بحيث يكون قصده الجدي مساوقاً مع الطلب الوجوبي ، إلاّإذا نصب ما يدل على انّ داعيه خلاف ذلك فيكون القرينة قرينة على تخلف الداعي والمراد الجدي لا المجاز ، تماماً نظير ارادة الخاص من العام جداً بقرينة متصلة أو منفصلة.

وتمام النكتة في ذلك انّ مدلول الصيغة أمر انشائي هو البعث والارسال بنحو المعنى الحرفي النسبي ـ أي شيء كانت حقيقة الانشاء ـ وهو محفوظ في تمام موارد استعمالات صيغة الأمر.

وبهذا يعرف الوجه في عدم العناية في الاستعمال وعدم المجازية في موارد

١٣٩

ارادة الندب أو الامتحان أو الارشاد من الأمر كما هو في العمومات المخصّصة.

كما انّه يمكن المصالحة بين مسلك الوضع ومسلك الإطلاق بمعنى انّه من حيث كون الدلالة المذكورة على اللزوم اثباتية فهي كالدلالات الوضعية لا الاطلاقية ، ومن حيث انّ هذه الدلالة تصديقية لا تصورية بمعنى أنّ المدلول التصوري للصيغة محفوظة في تمام الموارد وإنّما التخلف في المدلول الجدي فهي كالدلالات الاطلاقية.

والشاهد على صحّة هذا المطلب انهم اتفقوا على دلالة الصيغة على الطلب ولم يناقش فيه حتى القائلين بعدم الوضع للوجوب مع انّ الأمر فيه أيضاً كذلك ، وامّا ما ذكرناه في هامش الكتاب من الاشكال فجوابه : ان قصد الارسال الجدي يساوق اللزوم والارادة الشديدة بالنكتة المبينة في التقريب من انّ الارسال يساوق سدّ تمام أبواب العدم ومن هنا يكون ارادة الندب جداً كارادة الترخيص في مورد الحظر أو الامتحان تخلفاً لهذا الظهور الحالي لا محالة.

ص ٢٣ قوله : ( هذا ويمكن لأصحاب هذا المسلك ... ).

والجواب الأصح والأولى من كلا الجوابين يظهر مما ذكرناه من انّ الظهور المذكور اطلاقي بالمعنى الاثباتي لا السلبي وهو مقدم على عموم العام وإطلاق المطلقات لكونه ظهوراً اثباتياً قوياً كالظهورات اللفظية الوضعية.

ص ٢٤ قوله : ( ومنها : انّه على مسلك الوضع ... ).

هذه الثمرة لا تتم بظاهرها لأنّ مجرد احراز الملاك والشوق الشديد لا يكفي لثبوت الوجوب ما لم يتصد المولى لطلبه بالأمر من المكلّف كما هو مقرر في محلّه.

١٤٠