جواهر الكلام - ج ٤٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الربا والميتة ولحم الخنزير ونكاح الأخوات ، وإظهار الأكل والشرب بالنهار في شهر رمضان ، واجتناب صعود مسجد المسلمين ، واستعملوا الخروج بالليل عن ظهراني المسلمين والدخول بالنهار للتسوق وقضاء الحوائج ، فعلى من قتل واحدا منهم أربعة آلاف درهم ، ومر المخالفون على ظاهر الحديث ، فأخذوا به ولم يعتبروا (١) الحال ، ومتى آمنهم الإمام وجعلهم في عهده وعقده وجعل لهم ذمة ولم ينقضوا ما عاهدهم عليه من الشرائط التي ذكرناها ، وأقروا بالجزية فأدوها فعلى من قتل واحدا منهم خطأ دية المسلم ـ إلى أن قال ـ : ومتى لم يكن اليهود والنصارى والمجوس على ما عوهدوا عليه من الشرائط التي ذكرناها ، فعلى من قتل واحدا منهم ثمانمائة درهم ».

وهو ـ مع أنه مخالف لما عرفت ـ تفصيل لا يستفاد من النصوص. كالتفصيل المحكي عن أبي علي ، قال : « أما أهل الكتاب الذين كانت لهم ذمة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يغيروا ما شرط عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فدية الرجل منهم أربعمائة دينار أو أربعة آلاف درهم ، وأما الذين ملكهم المسلمون عنوة ومنوا عليهم باستحيائهم كمجوس السواد وغيرهم من أهل الكتاب والجبال وأرض الشام فدية الرجل منهم ثمانمائة درهم » والله العالم.

( ولا دية لغير أهل الذمة من الكفار ) بلا خلاف أجده للأصل ( ذوي عهد كانوا أو أهل حرب ، بلغتهم الدعوة أو لم تبلغ ) هم بل في محكي الخلاف (٢) « من قتل من لم تبلغه الدعوة لم يجب عليه القود بلا خلاف وعندنا أيضا لا يجب عليه الدية » بل في‌ الموثق (٣) « عن دماء المجوس واليهود والنصارى ، هل عليهم وعلى من قتلهم شي‌ء إن غشوا المسلمين وأظهروا العداوة لهم والغش؟ قال : لا إلا أن يكون متعودا لقتلهم » ، بل ربما كان في بعض نصوص دية أهل الذمة إشعار باختصاص‌

__________________

(١) « ولم يغيروا الحال » كذا في الأصل.

(٢) الخلاف ج ٢ ص ٣٩٥.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب ديات النفس الحديث الأول.

٤١

شرعية الدية بهم.

وكذا لا دية لمن لا يقر على ديته لارتداده وانتقاله من دين إلى آخر وإن كان يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا.

( ودية العبد قيمته ) نصا ( و ) فتوى نعم ( لو تجاوزت دية الحر ردت إليها ) فإن كان مسلما ردت إلى ديته وإن كان ذميا فإلى ديته (١) والأمة كالحرة في ذلك كله كما تقدم الكلام فيه مفصلا.

( وتؤخذ من مال الجاني الحر إن كانت الجناية عمدا أو شبه عمد ومن عاقلته إن كانت خطأ ) بلا خلاف معتد به بل ولا إشكال لإطلاق الأدلة ، بل عن المبسوط والخلاف الإجماع عليه ، خلافا للمحكي عن أبي علي فجعلها في ماله في الخطأ أيضا لأنه مال ، واستحسنه في محكي المختلف ، بل ربما حكي عن ظاهر الإيضاح أو صريحه ، ولكنه غير محقق.

( ودية أعضائه وجراحاته مقيسة على دية الحر فما فيه ديته ففي العبد قيمته كاللسان والذكر ) وما فيه نصف ديته كاليد ففي العبد نصف قيمته ، ( لكن لو جنى عليه جان بما فيه قيمته لم يكن لمولاه المطالبة إلا مع دفعه ) ولا بعضها مع العفو عن الزائد على إشكال ، وخصوصا مع تعدد الجناية كقطع اليدين ، دون قطع الأنف ، كما تقدم الكلام في ذلك كله وفي دليله من النص وغيره ، بل ( و ) في أن ( كل ما فيه مقدر في الحر من ديته ) (٢) ( فهو في العبد كذلك من قيمته ) من غير فرق بين قطع الأعضاء وبين الشجاج.

( ولو جنى عليه جان بما لا يستوعب قيمته كان لمولاه المطالبة بدية الجناية مع إمساك العبد ) الذي هو باق على ملكه ، ( وليس له دفع العبد والمطالبة بقيمته ) للأصل وغيره كما ليس للمجنى عليه إيقاف الدفع‌

__________________

(١) في الأصل « إلى ديته ديته » والظاهر زيادة الثانية.

(٢) من دية ( ن ل ).

٤٢

على ذلك.

( وما لا تقدير فيه من الحر ففيه الأرش و ) حينئذ ( يصير العبد أصلا للحر فيه ) كما صار أصلا له بما له مقدر.

( ولو جنى العبد على الحر خطأ لم يضمنه المولى ، ودفعه إن شاء ، أو فداه بأرش الجناية ، ) أو بأقل الأمرين ، ( والخيار في ذلك إليه ، ولا يتخير المجني عليه ) بخلاف العمد ، ( وكذا لو كانت جنايته لا تستوعب ديته ) أو قيمته ، ( تخير مولاه في دفع الأرش ) (١) ( ، أو تسليم العبد ليسترق منه بقدر تلك الجناية ، ويستوي في ذلك كله القن والمدبر ذكرا كان أو أنثى ، وفي أم الولد تردد ) على ما مضى ( والأقرب أنها كالقن وإذا دفعها المالك في جنايتها استرقها المجني عليه أو ورثته ، و ) ‌في رواية (٢) « جنايتها على مولاها » ‌كما تقدم الكلام في ذلك مفصلا بل قد تكرر جملة من ذلك في كتاب الغصب ، وفي كتاب الاستيلاد ، وفي كتاب القصاص ، بل وفي بحث بيع أم الولد فلاحظ وتأمل.

( النظر الثاني )

( في موجبات الضمان ) للدية ( والبحث إما في المباشرة ) المقتضية لذلك ( أو التسبيب ) كذلك ( أو تزاحم الموجبات ).

( أما المباشرة )

( فضابطها ) صدق نسبة ( الإتلاف ) إليه ولو بإيجاد علته ( لا مع القصد إليه ) وإلا لاقتضت القصاص كما عرفت الكلام فيه سابقا وإنما هي هنا ( نحو أن يرمى غرضا ‌

__________________

(١) في الأصل : « أرش الجناية ».

(٢) الوسائل الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب القصاص في النفس الحديث ١.

٤٣

فأصاب إنسانا أو كالضرب للتأديب فيتفق الموت منه ) الذي عن المشهور نفى الخلاف عن الضمان في ماله فيه للزوجة ، لأنه مشروط بإسلامه ، وإن توقف فيه بعض ، باعتبار كونه من التعزير السائغ فلا يستعقب ضمانا كما تقدم في الحدود.

نعم لو كان من الأب أو الجد أو وصيهما للطفل ، فظاهرهم الاتفاق على الضمان به ، بل عن بعض الإجماع صريحا ، كما عن ظاهر إجارة المبسوط الإجماع أيضا على ضمان المعلم للصبيان ، بل عن غير واحد التصريح به ، قيل لأنه أجير والأجير يضمن بجنايته وإن لم يقصر ، ولعل الأوفق بالعمومات الضمان في الجميع ، من غير فرق بين الزوجة والصبي وغيرهما مع حصول التلف بالفعل الذي لم يقصد به القتل ولا هو مما يقتل غالبا ، وكأن ذكر المصنف للمثالين لبيان عدم اختصاص المباشرة الموجبة للدية بشبه العمد ، بل هي تكون فيه وفي الخطأ المحض الذي هو منه.

( و ) كيف كان فـ ( ـتتبين هذه الجملة بمسائل ).

( الأولى : )

( الطبيب يضمن ما يتلف بعلاجه إن كان قاصرا أو عالج طفلا أو مجنونا لا بإذن الولي أو بالغا لم يأذن ) بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، بل في التنقيح « الطبيب القاصر المعرفة ضامن لما يتلفه بعلاجه إجماعا ، وكذا العارف إذا عالج صبيا أو مجنونا أو مملوكا من غير إذن من الولي والمالك ، أو عالج عاقلا حرا من غير إذن فيه » (١) وفي مجمع البرهان « الطبيب ضامن لما يتلف بعلاجه إن قصر سواء كان حاذقا أم لا ، بإذن المريض ووليه أم لا والظاهر عدم الخلاف في ذلك وكذا يضمن لو عالج طفلا أو مجنونا مع عدم إذن الولي ، » (٢) وفي الرياض « هذا الحكم‌

__________________

(١) التنقيح ص ٨١٨ من مخلوط عندنا ، وفيه « من غير اذن منه ».

(٢) مجمع البرهان كتاب الديات ، ص ١.

٤٤

مما لم أجد خلافا فيه في صورة ما لو كان الطبيب قاصرا في المعرفة ، أو عالج من غير إذن من يعتبر إذنه ، وبنفي الخلاف هنا صرح المولى المقدس الأردبيلي ، بل في التنقيح عليه الإجماع » (١).

قلت : قد سمعت ما وجدنا فيهما ، وعلى كل حال فلا إشكال في شي‌ء من ذلك في صورة الإذن للقاصر المعلوم قصوره عند الإذن ، فإنه قد يقال سقوط الضمان فيه بسبب الإذن ، بناء على سقوطه بالإذن في الجناية أو في العلاج وإن ترتب التلف عليه ، وإن كان الأقوى الضمان في الفرض ، لقاعدة الضمان على كل متلف ، وخصوصا في الدماء التي‌ ورد فيها « أنه لا يبطل دم امرء مسلم » (٢) ‌والإذن كعدمها بعد النهي عنه شرعا كما تقدم الكلام في نظيره سابقا ، بل لو جوزنا المباشرة للحاذق بلا إذن لقاعدة الإحسان أو أجبناها عليه مقدمة لحفظ النفس المحترمة كما في خبر أبان بن تغلب (٣) عن الصادق عليه‌السلام ، لا ينافي ذلك الضمان الذي هو من باب الأسباب كما في تأديب الزوجة والصبي ونحوهما ، فتأمل.

( و ) كيف كان فـ ( ـلو كان الطبيب ) في العلم والعمل ( عارفا وأذن له المريض في العلاج ) ولم يقصر هو فيه ( فـ ) ـعالج و ( آل ) علاجه ( إلى التلف ) في النفس أو الطرف ( قيل ) والقائل ابن إدريس ( لا يضمن ) للأصل و ( لأن الضمان يسقط بالإذن ولأنه فعل سائغ شرعا ) فلا يستعقب ضمانا.

قال في السرائر : « من تطبب أو تبيطر فليأخذ البراءة من ولي من يطيبه أو صاحب الدابة وإلا فهو ضامن إذا هلك بفعله شي‌ء من ذلك. هذا إذا كان الذي يجني عليه الطبيب غير بالغ أو مجنونا ، وأما إذا كان عاقلا مكلفا وأمر الطبيب‌

__________________

(١) رياض المسائل ج ٢ ص ٥٩٦.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب القصاص الحديث ٢ والباب ـ ١٠ ـ من أبواب دعوى القتل وما يثبت به ، الحديث ٥.

(٣) الكافي ج ٨ ص ٣٤٥.

٤٥

بفعل شي‌ء ففعله على ما أمر به فلا يضمن الطبيب ، سواء أخذ البراءة من الولي أم لم يأخذها ، والدليل على ذلك أن الأصل براءة الذمة والولي لا يكون إلا لغير المكلف ، فأما إذا جنى على شي‌ء لم يؤمر بقطعه ولا بفعله فهو ضامن سواء أخذ البراءة من الولي أم لم يأخذها » (١).

( وقيل ) والقائل الفاضل والشهيدان وغيرهم ، بل والشيخان وابن البراج وسلار وأبو الصلاح وابن زهرة والطبرسي والكيدري ونجيب الدين على ما في غاية المراد ( يضمن لمباشرته الإتلاف ) وإن لم يصرحوا أو أكثرهم بالإذن ( و ) كيف كان فـ ( ـهو أشبه ) بأصول المذهب وقواعده وفاقا لمن عرفت ، بل قال المصنف في النكت : « الأصحاب متفقون على أن الطبيب يضمن ما يتلفه بعلاجه » وفي الغنية الإجماع على ذلك أيضا ، وهو الحجة بعد قاعدة الضمان على المتلف ، والإذن في العلاج ليس إذنا في الإتلاف ، والجواز الشرعي لا ينافي الضمان كما في الضرب للتأديب ، نعم لما لم يكن ذلك عمدا له لم يقتص منه مضافا إلى خبر السكوني (٢) الذي تسمعه إن شاء الله ، بل قيل : وإلى ما حكي من تضمينه عليه‌السلام الختان القاطع لحشفة الغلام ، بل عن ابن إدريس نفى الخلاف عن صحة مضمونه ، وإن كان فيه أنه قضية في واقعة محتملة لتفريط الختان بقطع الحشفة الذي لم يؤمر به ، وعدمه ، ولكن ما ذكرناه كاف في إثبات المطلوب.

وعلى كل حال ( فإن قلنا لا يضمن فلا بحث وإن قلنا ) إنه ( يضمن فهو يضمن في ماله ) بلا خلاف أجده فيه ، بل ولا إشكال للأصل ، وظاهر الخبر (٣) الآتي ، ولأنه من شبه العمد بقصده الفعل دون القتل ، وقد عرفت أن الدية فيه على الجاني كما هو واضح.

( وهل يبرء ) الطبيب ( بالإبراء قبل العلاج؟ قيل : نعم ) يبرء ، والقائل الشيخان وأتباعهما وأبو الصلاح وابن البراج في ظاهر المهذب أو صريحه في كتاب‌

__________________

(١) السرائر كتاب الحدود باب النفوس وغيرها.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب موجبات الضمان الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب موجبات الضمان الحديث ١.

٤٦

الإجارة ، والآبي وفخر المحققين والشهيد وأبو العباس والمقداد والمقدس الأردبيلي وفاضل الرياض على ما حكي عن بعضهم ، بل في المسالك أنه المشهور ، وفي ظاهر الغنية أو صريحها الإجماع عليه‌ لرواية السكوني (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من تطبب أو تبيطر فليأخذ البراءة من وليه وإلا فهو ضامن » ‌( ولأن العلاج مما تمس الحاجة إليه ، فلو لم يشرع الإبراء تعذر العلاج ).

( وقيل ) ولكن لم نتحقق القائل قبل المصنف وإن حكي عن ابن إدريس : ( لا يبرء لأنه إسقاط الحق قبل ثبوته ) نعم يظهر من الفاضل التردد فيه كالمصنف هنا حيث اقتصر على نقل القولين ، ولعله مما عرفت ، مضافا إلى احتمال الخبر المزبور البراءة بعد الجناية مجانا أو على مال ، احتمالا ظاهرا ، وربما يرشد إليه لفظ « وليه » على أنه ضعيف ، والحاجة بمجردها لا تصلح دليلا لشرع الحكم المخالف للأدلة ، ومن هنا قال في المسالك : « وهو الوجه » بعد أن حكى ترجيحه عن قواعد الفاضل والميل إليه عن تحريره.

ولكنه كما ترى بعد الإغضاء عما في نقله عن الفاضل ضرورة عدم منافاة الاحتمال المزبور في الخبر الظاهر الذي هو الحجة في الأحكام الشرعية ، كعدم منافاة ضعفه ، بعد انجباره بما عرفت ، وتأييده بمسيس الحاجة. وذلك كله كاف للخروج به عن قاعدة عدم إسقاط الحق قبل ثبوته ، على أنه ينبغي الجزم به إذا أخذ بعنوان الشرطية في عقد إجارة الطبيب مثلا إذ هو حينئذ يكون كاشتراط سقوط خيار الحيوان والمجلس ونحوهما مما يندرج تحت‌ قولهم عليهم‌السلام (٢) : « المؤمنون‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب موجبات الضمان الحديث الأول.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب المكاتبة الحديث ٣ و ٥ و ٧ ، والباب ـ ٢٠ ـ من أبواب المهور الحديث ٤ والباب ـ ٣٢ ـ من أبواب المتعة الحديث ٩ والباب ـ ٦ ـ من أبواب الخيار الحديث ١ و ٢ ، ولفظ الرواية في غير الرابع هكذا : « المسلمون عند شروطهم » ‌راجع رسالة « الشرط وآثاره » للمرحوم الحاج الميرزا أبى الفضل القمي الزاهدي طبع قم.

٤٧

عند شروطهم » ‌بل ربما ظهر من الأردبيلي الاكتفاء بالشرط مطلقا ، وإن كان فيه أنه إن لم يكن في ضمن عقد وعدا أو كالوعد لا يجب الوفاء به.

كل ذلك مضافا إلى إمكان القطع به في مثل الأموال التي منها ما هو محل البيطرة ضرورة أنه إذن في الإتلاف على وجه يجري مجرى أفعال العقلاء نحو غيره من الإتلافات.

ومنه يعلم الوجه في غير المال مما له الإذن فيه إذا كان جاريا مجرى أفعال العقلاء كما في العلاج. وليس هذا من الإبراء قبل ثبوت الحق ، بل من الإذن في الشي‌ء المقتضية (١) لعدم ثبوته ، نحو الإذن في أكل المال مثلا ، والظاهر اعتبار إذن المريض في ذلك مع فرض كونه كامل العقل ، ولا يكفي إذن الولي ، إذ لا ولى له في هذا الحال ، وإنما هو أولى بنفسه ، وكون الولي هو المطالب بعد ذلك لا يرفع سلطنته الان على نفسه ، وما في الخبر المزبور (٢) محمول على إرادة الولي في ذلك الشامل للمريض ورب المال.

وقول الشهيد في غاية المراد وغيره باعتبار إذن الولي أو المريض ، محمول على التفصيل الذي ذكرناه ، لا أن المراد ، الاكتفاء بإذن الولي مع كمال عقل المريض.

وقال المصنف في النكت في الخبر : « وإنما عدل إلى الولي لأنه هو المطالب على تقدير التلف ، فلما شرع الإبراء قبل الاستقرار لمكان الضرورة صرف إلى من يتولى المطالبة بتقدير وقوع ما يبرء منه ، ولا أستبعد الإبراء من المريض فإنه يكون فعلا مأذونا فيه والمجني عليه إذا أذن في الجناية سقط ضمانها ، فكيف بإذنه في المباح المأذون في فعله » (٣) وهو إن لم يرد ما ذكرناه فمحل للنظر‌

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) أي خبر السكوني الذي مر آنفا.

(٣) نكت النهاية كتاب الديات.

٤٨

فتأمل جيدا.

هذا كله إذا تولي الطبيب العلاج بنفسه ، أما إذا قال : « أظن أن هذا الدواء نافع لهذا الداء ، أو لو كنت أنا لفعلت كذا » ونحو ذلك مما لم تكن فيه مباشرة منه وإن فعل المريض العاقل المختار أو وليه ذلك اعتمادا على القول المزبور ، فإن المتجه فيه عدم الضمان للأصل وغيره ، كما أن المتجه عدم شي‌ء عليه حيث لم يعلم الحال لاحتمال الموت بغير العلاج.

ولعله على ذلك يحمل‌ خبر أحمد بن إسحاق المروي في الكافي (١) في باب النوادر في آخر كتاب العقيقة ، « قال : كان لي ابن ، وكان تصيبه الحصاة فقيل لي : ليس له علاج إلا أن تبطه ، فبططته فمات ، فقالت الشيعة : شركت في دم ابنك ، قال : فكتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر فوقع : يا أحمد ليس عليك فيما فعلت شي‌ء ، إنما التمست الدواء وكان أجله فيما فعلت ».

ومنه يستفاد جواز العلاج بظن السلامة أو احتمالها.

كخبر إسماعيل بن الحسن المتطبب المروي في روضة الكافي (٢) عن الصادق عليه‌السلام « إني رجل من العرب ، ولي بالطب بصر ، وطبي طب عربي ، ولست آخذ عليه صفدا ، فقال : لا بأس ، قلت : إنا نبط الجرح ونكوي بالنار ، قال : لا بأس ، قلت : ونسقي هذه السموم الأسمحيقون والغاريقون ، قال : لا بأس ، قلت : إنه ربما مات ، قال : وإن مات ».

وخبر يونس بن يعقوب (٣) فيها أيضا عن الصادق عليه‌السلام « الرجل يشرب الدواء ، ويقطع العرق ، وربما انتفع به وربما قتله ، قال يشرب ويقطع ».

وخبر أبان بن تغلب (٤) فيها أيضا عن الصادق عليه‌السلام « كان المسيح عليه‌السلام

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٥٣ ، وفيه حمدان بن إسحاق.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٩٣.

(٣) الكافي ج ٨ ص ١٩٤.

(٤) الكافي ج ٨ ص ٣٤٥.

٤٩

يقول : إن التارك شفاء المجروح من جرحه شريك لجارحه لا محالة ، وذلك أن الجارح أراد فساد المجروح والتارك لإشفائه لم يشأ صلاحه ، فإذا لم يشأ صلاحه فقد شاء فساده اضطرارا ، فكذلك لا تحدثوا بالحكمة غير أهلها فتجهلوا ، ولا تمنعوها أهلها فتأثموا ، وليكن أحدكم بمنزلة الطبيب المداوي إن رأي موضعا لدوائه وإلا أمسك ».

ولا يخفى عليك ما في هذه النصوص من الفوائد ، منها : ما أشرنا إليه سابقا من وجوب العلاج لمن كان له بصيرة فيه ، ومنها : عدم اعتبار الاجتهاد في علم الطب ، بل يكفي للمداوى المداوي بالتجربيات العادية ونحوها مما جرت السيرة والطريقة به ، وخصوصا في العجائز للأطفال وغير ذلك.

وفي التنقيح « يجوز العلاج للأمراض ، أما أولا فلوجوب دفع الضرر عن النفس عقلا وشرعا ، وأما ثانيا فل‌ قوله (١) : « تداووا فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء » ، وقوله (٢) : « شفاء أمتي في ثلاث ، آية من كتاب الله ، ولعقة من عسل ، وشرطة من حجام ، » ‌وأما ثالثا فللإجماع على ذلك » انتهى (٣).

وفي المرسل (٤) ما حاصله : « إن موسى عليه‌السلام مرض فعاده بنو إسرائيل ووصفوا له دواء فامتنع منه ، فأوحى الله إليه إن الله يأمره بذلك وإلا لم يشفه ».

وقد ورد عنهم عليهم‌السلام في الطب نصوص كثيرة ، ومنه المعروف بطب الأئمة عليهم‌السلام ،

__________________

(١) المستدرك ج ٣ ص ١٢٣ وراجع الوسائل الباب ـ ١٣٤ ـ من أبواب الأطعمة المباحة.

(٢) لم أجده بهذا اللفظ.

(٣) التنقيح ص ٨١٨ من مخطوط عندنا ، وفيه « شراط حجام » مكان « شرطة من حجام ».

(٤) روى قريبا منها في الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب الاحتضار الحديث ٧.

٥٠

نعم لا بد من ملاحظة مناسبة الدواء للداء على حسب ما يكون عند العقلاء ، والله العالم.

المسألة ( الثانية : )

( النائم ) غير الظئر التي تسمع الكلام فيها إن شاء الله ( إذا أتلف نفسا ) أو طرفا ( بانقلابه أو بحركته ) أو بغير ذلك من أحواله على وجه يستند الإتلاف إليه ، ( قيل : يضمن الدية في ماله ) كما في المقنعة والنهاية والجامع والتحرير والإرشاد والتلخيص ومجمع البرهان ، وكذا التبصرة ، بل والنافع على ما حكي عن بعضها ، بل هو الذي استقر عليه رأيه في السرائر بعد أن نسبه إلى الرواية ، قال : « والذي يقتضيه مذهبنا أن الدية في جميع هذا ـ يعني النائم ومسألة الظئر ـ على العاقلة ، لأن النائم غير عامد في فعله ولا عامد في قصده وهذا أحد قتل الخطاء المحض ، ولا خلاف أن دية قتل الخطاء المحض على العاقلة ، وإنما هذه أخبار آحاد لا يرجع بها عن الأدلة ، والذي ينبغي تحصيله في هذا أن الدية على النائم نفسه ، لأن أصحابنا جميعهم يوردون ذلك في باب ضمان النفوس وذلك لا تحتمله العاقلة بلا خلاف » (١) ( وقيل : في مال العاقلة ) كما في السرائر في أول كلامه ، والقواعد وكشف الرموز والإيضاح واللمعة والتنقيح والروضة والمسالك ، على ما حكي عن بعضها ، بل نسبه بعض إلى عامة المتأخرين ( و ) إن كان فيه ما فيه ، نعم ( هو أشبه ) بأصول المذهب وقواعده التي منها ضمان العاقلة الخطأ المحض الصادق على الفرض عرفا باعتبار عدم القصد منه إلى الفعل ولا إلى القتل. والرواية التي (٢) أرسلها ابن‌

__________________

(١) السرائر باب النفوس وغيرها من كتاب الحدود والديات والجنايات.

(٢) وهي هكذا‌ « وروى أن من نام فانقلب على غيره فقتله كان ذلك شبيه العمد ، يلزمه الدية في ماله خاصة ، وليس عليه القود » ‌السرائر ، باب النفوس وغيرها من كتاب الحدود والديات والجنايات.

٥١

إدريس غير حجة.

ومن هنا قال في كشف الرموز : « ينبغي للمحصل أن يتعجب من هذا الكلام ، ذكر أولا أنه من أخبار الآحاد ولا يرجع بها عن الأدلة ، ثم رجع عقيب كلامه مستدلا بأن الأصحاب يوردونه في ضمان النفوس. فأبصر الاستدلال واقضى العجب مما رأيت ، على أن الدعوى غير مسلمة ، فإيراد الاثنين والثلاثة لا يكون حجة ».

وهو في محله وإيراد الأصحاب لذلك في ضمان النفوس لم يبلغ حد الإجماع الكاشف.

ودعوى ـ أن قتل النائم باعتبار ارتفاع الاختيار من باب الأسباب التي ضمانها عليه دون العاقلة ـ كما ترى لا تستأهل جوابا. كدعوى أنه من شبيه العمد الذي قد عرفت تفسيره.

وما‌ في بعض النصوص ـ « إنما الخطأ أن تريد شيئا وتصيب غيره (١) » وفي آخر « الخطأ من اعتمد شيئا وأصاب غيره » (٢) ‌ـ محمول على الحصر الإضافي ، ضرورة أولوية الفرض من ذلك في صدق الخطأ كما هو واضح.

وبذلك كله يظهر لك ما في الاستدلال بأصالة عدم ضمان العاقلة المقطوعة بما دل على ذلك في الخطأ المحض من نص (٣) وإجماع ، والله العالم.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس ، الحديث ٦.

(٢) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس الحديث ٣.

(٣) راجع أبواب العاقلة من كتاب الديات من الوسائل.

٥٢

المسألة ( الثالثة : )

( إذا أعنف ) الرجل ( بزوجته ) مثلا ( جماعا في قبل أو دبر أو ضما فماتت ضمن الدية ) في ماله ( وكذا الزوجة ) وفاقا للشيخين وسلار وابن إدريس والقاضي والفاضل وولده والآبي والمقداد وأبي العباس وثاني الشهيدين وغيرهم ، على ما حكي عن بعضهم ، بل في المقنعة « أن عليه الدية مغلظة » ولعله يريد بها دية شبيه العمد ، وإلا فلا دليل على التغليظ زائدا على ذلك.

نعم لا إشكال في أن عليه الدية للأصل ، بعد تحقق ضابط شبه العمد الذي هو القصد إلى الفعل دون القتل ، مع عدم كون الفعل مما يقتل غالبا ، و‌صحيح سليمان بن خالد (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أنه سئل عن رجل أعنف على امرأته فزعم أنها ماتت من عنفه ، قال : الدية كاملة ، ولا يقتل الرجل » ‌بل قيل (٢) إنه رواه الصدوق عن هشام بن سالم وغير واحد عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، و‌خبر زيد (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام « في رجل نكح امرأة في دبرها فألح عليها حتى ماتت من ذلك ، قال : عليه الدية ».

وفي نكت النهاية « لا يقال : فعله سائغ ، فلا يترتب عليه ضمان ، لأنا نمنع ولا نجيز له العنف ، أما لو كان بينهما تهمة وادعى ورثة الميت منهما أن الأخر قصد القتل أمكن أن يقال بالقسامة وإلزام القاتل القود » (٤) وعن ابن إدريس القطع به ، واستحسنه في كشف الرموز.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣١ ـ من أبواب موجبات الضمان الحديث الأول.

(٢) القائل صاحب الوسائل ، قاله في ذيل الحديث.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣١ ـ من أبواب موجبات الضمان الحديث ٢.

(٤) نكت النهاية ، كتاب الديات.

٥٣

ولا بأس به بعد فرض قيام التهمة المحققة للوث (١) ، ولكن لا مدخلية لعدم جواز العنف في الضمان الذي قد عرفت أنه من باب الأسباب التي لا فرق بين الجائز منها وغير الجائز. ولعله لذا لم يفرق بين الفرض والأجنبية ، وهو كذلك ، مع فرض عدم قصد القتل وعدم كون الفعل مما يقتل غالبا.

( و ) لكن مع ذلك كله ( في النهاية ) ومحكي الجامع وظاهر المقنع ، ( إن كانا مأمونين لم يكن عليهما شي‌ء ) لمرسلة يونس (٢) عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سألته عن رجل أعنف على امرأته وامرأة أعنفت على زوجها فقتل أحدهما الآخر ، فقال : لا شي‌ء عليهما إذا كانا مأمونين ، فإن اتهما ألزما باليمين بالله أنهما لم يردا القتل » ‌( و ) لكن ( الرواية ضعيفة ) بالإرسال ولا جابر ، محتملة لإرادة نفي القود ، بل لعله متعين بملاحظة قاعدة الإطلاق والتقييد ، كما أنه يمكن حمل اليمين فيها على القسامة إثباتا للقود دون الدية ، فيكون حينئذ فيها دلالة على ما سمعته سابقا من المصنف ، وعلى كل حال فهي غير صالحة للخروج بها عن أدلة الضمان كما هو واضح.

المسألة ( الرابعة : )

( من حمل على رأسه ) مثلا ( متاعا فكسره أو أصاب به إنسانا ضمن جنايته ) عليه وعلى المصاب ( في ماله ) كما صرح بالأول الشيخ والقاضي وابن إدريس ويحيى بن سعيد والفاضل وغيرهم على ما حكى عن بعضهم ، بل لا أجد خلافا فيه ، بل عن إجارة جامع المقاصد « يدل عليه النص والإجماع » بل تكرر ذلك من الواحد منهم هنا وفي كتاب الإجارة.

نعم عن الشيخ والقاضي وابن إدريس ، تقييد ذلك بما إذا لم يدفعه غيره ،

__________________

(١) في الأصل « للموت » وهو غلط ظاهرا.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣١ ـ من أبواب موجبات الضمان الحديث ٤.

٥٤

وإلا كان ضمان ذلك عليه ، بل لا خلاف أجده في الثاني الذي صرح به الشيخ والحلي والفاضلان والشهيدان وغيرهم على ما حكى عن بعضهم.

والأصل فيه الخبر الذي رواه المحمدون الثلاثة (١) ، ففي الكافي وموضع من التهذيب بطريق فيه « سهل » ، وفي الفقيه وموضع آخر عن‌ التهذيب بطريق صحيح عن رواية داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في رجل حمل متاعا على رأسه ، فأصاب إنسانا فمات أو انكسر منه ، قال : هو ضامن ».

لكن في المسالك « في طريق الرواية سهل بن زياد وهو ضعيف ، وهي بإطلاقها مخالفة للقواعد ، لأنه إنما يضمن المصدوم في ماله مع قصده إلى الفعل وخطأه في القصد ، فلو لم يقصد الفعل كان خطأ محضا ، وأما المتاع المحمول فيعتبر في ضمانه لو كان لغيره التفريط إذا كان أمينا عليه كغيره من الأموال » (٢).

وتبعه في كشف اللثام قال : « والموافق للأصول انه إنما يضمن المتاع مع التفريط ، أو كونه عارية مضمونة ونحو ذلك ، وإنما يضمن المصدوم غير الإنسان في ماله ، والإنسان إذا تعمد الصدم دون الإتلاف ولم يكن متلفا غالبا وإلا فهو إما متعمد ، عليه القصاص ، أو مخطئ محض ، على عاقلته الضمان » (٣).

قلت : لا إشكال في أن ذلك هو الموافق للقواعد ، بل في‌ الصحيح (٤)

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٥٠ التهذيب ج ١٠ ص ٢٣٠ الفقيه ج ٤ ص ١١١ وفيه : « هو مأمون » مكان « هو ضامن » والتهذيب ج ٧ ص ٢٢٢ وليس في سند الأخيرين سهل.

(٢) المسالك ج ٢ ص ٤٩٠.

(٣) كشف اللثام ج ٢ ص ٣٠٣.

(٤) الوسائل الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ٧ نقلا من الكافي والتهذيب وفي الأول « الجمال » بالجيم وفي الثاني « الحمال » بالحاء ، فراجع الكافي ج ٥ ص ٢٤٤ والتهذيب ج ٧ ص ٢١٦.

٥٥

« في الحمال يكسر الذي يحمل عليه أو يهريقه ، قال : إن كان مأمونا فليس عليه شي‌ء ، وإن كان غير مأمون فهو ضامن » ‌إلا أنه بعد أن كان الخبر جامعا لشرائط الحجية ، وقد عمل به من عرفت ، بل ظاهره في الروضة نسبة الإطلاق إليهم أجمع ، فلا مانع من الخروج به عنها خصوصا بعد أن أيده بعض الناس « بإمكان القول بأنه من باب الأسباب ، وأنه غير معلوم دخوله في الخطأ لما مر في تفسير الخطأ في بعض الروايات ، وتضمين شخص جناية شخص غيره خلاف القواعد العقلية والنقلية فلا يصار إليه إلا في المنصوص والمجمع عليه » (١) وإن كان فيه ما لا يخفى.

والعمدة ما ذكرنا مؤيدا بالنسبة إلى ضمان المتاع‌ بالخبر (٢) « أنه أتى بحمال كانت عليه قارورة عظيمة فيها دهن فكسرها وضمنها إياه ، وكان عليه‌السلام يقول : كل عامل مشترك إذا أفسد فهو ضامن ، فسألته من المشترك؟ فقال : الذي يعمل لي ولك ولذا » ‌ونحوه خبر آخر (٣).

بل عن المرتضى الإجماع على ضمان الأجير ما يتلف بيده ولو بغير سببه وإن ، كنا لم نتحققه ، بل قيل إنه غلط عليه ، والصحيح المزبور ، قيل (٤) « لم نعلم به عاملا عدا الشيخ في التهذيب ، فإنه جمع به بين الأخبار » بل في الرياض « هو شاذ غير معلوم العامل ، والتفصيل بالتفريط وعدمه غير مذكور فيه ، وحمل التفصيل عليه ليس بأولى من حمله على ما إذا ادعى كسر الحمل من دون علم صاحبه به ، ويكون المراد أنه حينئذ يستحب أن لا يكلف البينة إذا كان مأمونا وإلا فهو ضامن ، ويكون حينئذ سبيله كسبيل كثير من الأخبار (٥) الدالة على التفصيل » (٦) وإن كان هو كما ترى ، وقد‌

__________________

(١) مجمع البرهان للأردبيلي كتاب الديات ص ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ١٣.

(٣) راجع الباب المذكور.

(٤) قاله السيد جواد العاملي في مفتاح الكرامة ج ١٠ ص ٢٧٧.

(٥) راجع الوسائل الباب ـ ٢٩ و ٣٠ ـ من أبواب أحكام الإجارة.

(٦) رياض المسائل ج ٢ ص ٥٩٧.

٥٦

تقدم في كتاب الإجارة ماله نفع في المقام.

المسألة ( الخامسة : )

( من صاح ببالغ ) غير غافل ( فمات ) أو سقط فمات ( فلا دية ) كما عن المبسوط والمهذب وغيرهما ، وهو كذلك مع العلم بعدم استناد الموت إلى الصيحة ، بل ومع الشك للأصل ، بعد فرض عدم الموت بمثله عادة. نعم لو قامت قرائن على استناد الموت إلى ذلك على وجه تفيد العلم ، اتجه حينئذ الضمان ، كما هو واضح. بل قد يتجه فيه القصاص مع قصد القتل به ، وإن لم يكن مما يقتل غالبا ، بناء عليه في مثله ، كما تقدم تحقيقه سابقا.

ولكن مع ذلك في القواعد إشكال ، ولعله مما عرفت ، ومن ظهور المقارنة في موته منها ، و‌قول الصادق عليه‌السلام في صحيح الحلبي (١) « أي رجل فزع رجلا على الجدار ، أو نفر به عن دابته فخر فمات فهو ضامن لديته ، فإن انكسر فهو ضامن لدية ما ينكسر منه ».

ولكن ذلك كله كما ترى ، ضرورة أعمية المقارنة من ذلك ، بل لعلها ظاهرة في خلافه مع فرض كون الشي‌ء مما لا يقتل في العادة ، والخبر إنما هو في السبب المقتضى لذلك.

ومن الغريب ما في بعض شروحها من فرض الإشكال فيما لو علم موته بالصيحة ، إذ من الواضح فيه حينئذ الضمان ولا وجه للإشكال فيه.

هذا كله في العاقل غير الغافل الذي لا يموت مثله في العادة بمثلها ( أما لو كان مريضا أو مجنونا أو طفلا أو اغتفل ) العاقل ( البالغ الكامل وفاجأه بالصيحة لزم الضمان ) كما صرح به الفاضل وولده والشهيدان وغيرهم ، بل الظاهر القصاص مع إرادة القتل بها إذا كانت مما تقتل نادرا ، بل ومع عدمها إذا‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٥ ـ من أبواب موجبات الضمان الحديث ٢.

٥٧

كانت مما يقتل مثله غالبا نعم تضمن الدية مع عدم ذلك وهو واضح ، كوضوح الفرق بين هؤلاء وبين العاقل.

لكن في المتن ( ولو قيل بالتسوية في الضمان كان حسنا لأنه سبب الإتلاف ظاهرا ) وفيه منع الظهور فيه على وجه يترتب عليه قصاص ، أو دية ، بخلاف الطفل ونحوه ، اللهم إلا أن يفرض جبانا على وجه يكون كالطفل فيتجه حينئذ فيه المساواة.

وبالجملة فالمدار على تحقق نسبة القتل إلى صيحته ، ومطلق المقارنة لا يقتضي ذلك فيما لا يقتل بالعادة. نعم لعلها كذلك فيما يقتل ولو نادرا ، ولكنه في الفرض مختلف بالنسبة إلى كيفية الصيحة وفي سامعها وفي زمانها ومكانها وغير ذلك من أحوالها. وبالتأمل في ذلك يظهر لك عدم تنقيح للمسألة في كلامهم كما لا يخفى على من لاحظه.

وعلى كل حال فحيث يجب الدية فهي في ماله للأصل ، وكونه من شبيه العمد الذي قد عرفت تفسيره ، وظاهر الحسن المزبور (١) ( و ) لكن في المتن وغيره ( قال الشيخ : الدية على العاقلة ) ونحوه عن المهذب وفي المسالك « جعلا له من باب الأسباب » (٢) ( و ) فيه أن ذلك يقتضي كون الضمان عليه لا العاقلة كما سلف له سابقا نعم ( فيه إشكال ) كما في القواعد وغيرها ( من حيث قصد الصائح إلى الإخافة ) نحو الضرب للتأديب ( فهو ) من ( عمد الخطأ ) الذي ديته عليه دون العاقلة.

( وكذا البحث لو شهر سيفه في وجه إنسان ) أو غير ذلك مما يحصل به الإخافة بلا خلاف ، ولا إشكال في نظائر المقام ، ومن هنا قال في كشف اللثام‌

__________________

(١) أى حسنة الحلبي وهي التي عبر عنها بالصحيحة آنفا.

(٢) قال في المسالك : « وقال الشيخ في المبسوط : ان ديته على العاقلة جعلا له من باب الأسباب وهو ضعيف ... » ج ٢ ص ٤٩١.

٥٨

« يمكن حمل كلامهما على من صاح لا بالمجني عليه بل اتفق كونه هناك وإن عبرا بالصيحة بهما » (١) قلت : لم تحك لنا عبارة المهذب ، وأما عبارة المبسوط (٢) ، فقد قيل إنه ذكر أولا الصبي والمعتوه والغافل ولم يتعرض للمريض ، ثم قال في آخر كلامه : « ثم ينظر فإن كان فعله عمدا فالدية مغلظة في ماله عندنا ، وعندهم على العاقلة بلا خلاف وإن كان إنما صاح خطأ فالدية مخففة على العاقلة بلا خلاف » وهو صريح في الموافقة مما ذكرنا فلا خلاف ولا إشكال.

هذا كله فيما إذا مات بفعل المخيف ( أما لو فر فألقى نفسه في بئر أو ) من ( أعلى سقف ) وكان بصيرا ( قال الشيخ : لا ضمان لأنه ألجأه إلى الهرب ، لا إلى الوقوع ) في البئر الذي اختاره ( فهو المباشر لإهلاك نفسه ) وحينئذ إن كان المخيف مسببا لذلك لكنه غير ملجئ إليه ( فيسقط حكم التسبيب ) كالحافر والدافع ( وكذا لو صادفه في هربه سبع فأكله ) في ترجيح المباشرة على التسبيب غير الملجئ ، وقواه الشهيد ، قال : « لأن الهارب إما مختار أو مكره ، فإن كان مختارا فلا ضمان ، وإن كان مكرها فغايته أن يكون مثل مسألة ـ أقتل نفسك وإلا قتلتك ، فقتل نفسه ـ فإنه لا ضمان ، إذ لا معنى للخلاص عن الهلاك بالهلاك » (٣) ولأن المباشر فيه أقوى من السبب ، ورد « بأن المكره هنا على تقديره من غير مباشر للقتل ، فاعتبر السبب ، بخلاف القاتل نفسه ، فإنه يترجح فيه المباشر على السبب فافترقا » (٤) وفيه أن المفروض هنا إلقاء نفسه بالبئر فهو حينئذ كالمباشر لقتل نفسه.

__________________

(١) قوله كلامهما أى كلام المبسوط والمهذب ، وقوله بهما أي الصبي والمعتوه ظاهرا ، فراجع كشف اللثام ج ٢ ص ٣٠٣.

(٢) راجع المبسوط ج ٧ ص ١٥٨ ـ ١٥٩.

(٣) غاية المراد للشهيد الأول كتاب الديات ص ٣٤ من مخطوط عندنا.

(٤) مفتاح الكرامة ج ١٠ ص ٢٨١.

٥٩

ومنه يعلم ما عن التحرير ، من أنه ، « لو قيل بالضمان كان وجها » (١) وربما كان أيضا ظاهر نسبته في المتن إلى الشيخ ، إذ لعل وجهه ، أنه لو لا الإخافة لم يكن الهرب ، غايته اختياره طريقا سقط فيه لمرجح أولا له ، وهو كما ترى.

واحتمل في غاية المراد (٢) « إنه إن تساوى الطريقان في العطب ضمن المخيف ، إذ لا مندوحة ، وإلا فلا ، لأن له مندوحة في الطريق الأخر ، وكذا احتمل الضمان في أكل السبع » وفي كشف اللثام (٣) : « ويحتمل التفصيل ».

والجميع لا يخلو من نظر ، ضرورة كون الفرض اختياره الوقوع في البئر ونحوه بسبب الإخافة ، نعم لو فرض زوال عقله واختياره بسبب الإخافة المفروضة ، اتجه حينئذ الضمان باعتبار قوة التسبيب فيه على المباشرة بلا خلاف ولا إشكال.

( و ) كذا ( لو كان المطلوب أعمى ضمن الطالب ديته ) كما عن المبسوط والمهذب ( لأنه ) بـ ( ـسبب ) العمى صار ( ملجأ ) على معنى عدم بقاء حسن اختيار له ، وإن كان له قصد وشعور ، فيقوى حينئذ على المباشر ، بل قالا : ( وكذا لو كان مبصرا فوقع في بئر لا يعلمها أو انخسف به السقف ) لمساواته بالجهل للأعمى في عدم اختيار الوقوع ( أو أضطره إلى مضيق فافترسه الأسد لأنه يفترس في المضيق غالبا ) فيكون كما لو ربط يديه ورجليه وألقاه إليه فهو حينئذ وإن كان مباشرا ، إلا أنه فرق واضح بين الاضطرار إلى المضيق وعدمه.

نعم إن علم أن في الطريق سبعا وله طريق آخر فاختاره ، توجه عدم الضمان ، بل هو ليس من الاضطرار إلى المضيق في شي‌ء.

ولو خوف حاملا فأجهضت ، ضمن دية الجنين ، بلا خلاف أجده فيه ،

__________________

(١) التحرير ج ٢ ص ٢٦٢.

(٢) غاية المراد كتاب الديات ص ٣٣ من مخطوط عندنا.

(٣) كشف اللثام ج ٢ ص ٣٠٤.

٦٠