جواهر الكلام - ج ٤٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

والخنق الذي هو كذلك ».

ولكن ذلك كله كما ترى لا يرجع إلى محصل بعد ما عرفت أن المدار على صدق القتل عمدا ، سواء كان مباشرة أو تسبيبا ، بل لم نجد شيئا منهما عنوانا في شي‌ء من الأدلة ، كما أن جملة مما ذكروه في السبب يعد مباشرة عرفا ، وقد ذكر الفاضل الخنق تارة بالمباشرة وأخرى بالتسبيب ، ونحوه وقع للمصنف ، نعم ما سمعته من الضابط المزبور في القصاص موافق لما ذكرناه ، هذا كله في المباشرة.

( وأما التسبيب فله مراتب : الأولى لو رماه بسهم فقتله قتل ) لا ( لأنه مما يقصد به القتل غالبا ) ضرورة كونه أعم من ذلك ، بل لما سمعته من صدق القتل عمدا وإن لم يقصد القتل به ، بل وإن قصد عدمه فاتفق القتل ، بل لو أراد برميه غير المقتل فأصاب المقتل ، فان ذلك كله من العمد الموجب للقصاص لما عرفته ، ولا يرد التأديب ونحوه مما لم يكن عدايا فيه ، نعم خرج من ذلك الصورة المزبورة خاصة للأدلة المذكورة.

( وكذا لو رماه بحجر المنجنيق ، وكذا لو خنقه بحبل ولم يرخ عنه حتى مات أو أرسله منقطع النفس ) وإن لم يكن ميتا ( أو ) غير منقطع بل تردد ولكن بقي ( ضمنا ) زمنا في جسده بلاء من الخنق المزبور ( حتى مات ) بل في كشف اللثام « طالت المدة قدرا يقتل الخنق في مثله غالبا أو لا ، قصد القتل أو لا لما عرفت » أي من الضابط المزبور.

لكن في المتن متصلا بذلك ( أما لو حبس نفسه يسيرا لا يقتل مثله ) لمثله ( غالبا ثم أرسله فمات ففي القصاص تردد ) ينشأ مما سمعته سابقا.

( و ) لكن ( الأشبه ) بأصول المذهب وقواعده ( القصاص إن قصد القتل ، والدية إن لم يقصد أو اشتبه القصد ) لما تقدم ، إذ ذلك‌

٢١

فرع من المسألة السابقة كما اعترف به في المسالك وغيرها ، بل قد عرفت عدم الخلاف فيه بناء على أن المحكي عن الشيخ إنما هو في المجدد دون غيره ، نعم لو كان ضعيفا لمرض أو صغر يموت بمثله فهو عمد وإن لم يقصد القتل ، كما صرح به بعضهم.

وفي القواعد « وكذا لو داس بطنه أو عصر خصيتيه حتى مات أو أرسله منقطع القوة أو ضمنا حتى مات » وفي كشف اللثام « فالقصاص أتى منهما بما يقتل غالبا أو لا ، قصد القتل أو لا ، وإن أتى بما يقتل نادرا ومات عقبه من غير أن يتعقبه ضمنه ، فان قصد القتل فالقصاص وإلا الدية ، وهما يختلفان بالشدة والضعف وطول المدة وقصرها ، وضعف المقتول وقوته ».

وهذا صريح في الفرق في ما لا يقتل مثله بين أن يعقب مرضا وعدمه ، فالأول القصاص وإن لم يقصد القتل به ، وإلا فإن قصد فالقصاص ، ومع عدمه الدية ، وربما كان ظاهر المصنف أيضا وستسمع تحقيقه.

الصورة ( الثانية : إذا ضربه بعصا مكررا ما لا يحتمله مثله بالنسبة إلى بدنه وزمانه ) من حيث الضعف والمرض والصغر ونحوها والحر البرد ( فمات فهو عمد ) بلا خلاف نصا وفتوى ولا إشكال سواء قصد القتل أو لا.

قال الصادق عليه‌السلام في مرسل يونس (١) السابق : « وإن علاه وألح عليه بالعصا أو بالحجارة حتى يقتله فهو عمد يقتل به ».

وفي الصحيح (٢) « سألت الصادق عليه‌السلام عن رجل ضرب رجلا بعضا فلم يقلع عنه الضرب حتى مات أيدفع إلى المقتول فيقتله؟

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٢.

٢٢

قال : نعم ». ونحوهما غيرهما من النصوص (١).

( ولو ضربه دون ذلك فأعقبه مرضا ومات فالبحث ) فيه ( كالأول ) وفي القواعد وشرحها التصريح بأن عليه القصاص كالمخنوق المرسل ضمنا حتى مات.

وفي المسالك « لأن ضربه وإن لم يكن قاتلا غالبا ولا قصده إلا أن أعقابه للمرض الذي حصل به التلف صير الأمرين بمنزلة سبب واحد ، وهو مما يقتل غالبا وإن كان الضرب على حدته مما لا يقتل ، ويؤيده ما سيأتي من أن سراية الجرح عمدا يوجب القود وإن كان الجرح غير قاتل ، وهذا من أفراده ، لأن المرض مسبب من الجرح ، ومنه نشأ الهلاك ، فكان في معنى السراية ، وبهذا الحكم صرح في القواعد والتحرير ، ولا يخلو من إشكال ، لأن المعتبر كما تقدم إما القصد إلى القتل أو فعل ما يقتل غالبا ، والمفروض هنا خلاف ذلك ، وإنما حدث القتل من الضرب والمرض المتعقب له ، والمرض ليس من فعل الضارب وإن كان سببا فيه ، ولأجل هذا الاشكال فسر بعضهم « الأول » في قول المصنف : « فالبحث كالأول » بما فصله سابقا في الصورة الأولى من قوله : « أما لو حبس نفسه يسيرا لا يقتل مثله غالبا ـ إلى قوله ـ : أشبهه القصاص إن قصده القتل ، والدية إن لم يقصد » فيكون الحكم هنا أن الضرب المتعقب للمرض عمدا إن قصد به القتل فالقصاص ، ويوجب الدية إن لم يقصد ، لا أنه عمد مطلقا ، وهذا التفسير وإن وافق الظاهر من الحكم إلا أنه غير مراد للمصنف ، لأنه حكمه وحكم غيره في خصوص هذه المسألة بكونه عمدا مطلقا ، والعلامة فرض المسألة على وجه لا يحتمل سوى ذلك ، وإن كانت عبارة المصنف بقرب المسألة الأخرى محتملة احتمالا مرجوحا ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس.

٢٣

قلت : هو كذلك حتى لو كانت السراية فيه نادرة ، ولكن لعل الوجه فيه ما ذكرناه من كون الجميع عمدا لما عرفته من الصدق العرفي من غير اعتبار قصد القتل ولا كون الشي‌ء مما يقتل مثله غالبا ، إذ ذلك عمد إلى القتل لا قتله عامدا ، والعنوان في الأدلة الثاني الذي تشهد له النصوص السابقة لا الأول الذي وإن شهدت له النصوص الأخر في الجملة إلا أنه لا جابر لها ، لكن خرج عن ذلك صورة عدم تعقب المرض ، للنصوص المزبورة ، وبقيت هي تحت الضابط ولو لعدم انجبار تلك النصوص بالنسبة إلى هذه الصورة المؤيدة بنصوص سراية الجرح الغير القاتل مثله والاتفاق ظاهرا هنا ، لا ما سمعته من كونه مع السراية مما يقتل غالبا ولا فحوى سراية الجرح ، إذ هما معا كما ترى ، والله العالم.

( ومثله لو حبسه ومنعه الطعام والشراب فان كان مدة لا يحتمل مثله البقاء فيها ) صحة ومرضا وشبعا وجوعا وريا وعطشا ( فمات فهو عمد ) بلا خلاف ولا إشكال ، وإن لم يكن كذلك ، بل كان مدة يحتمل مثله البقاء فيها ولكن أعقبه ذلك مرضا علم أنه مسبب عنه مات به أو ضعف قوة كذلك حتى تلف فيه فهو عمد وإن لم يرد القتل ، لما عرفته وإن لم يكن تولد ذلك غالبا منه ، ويختلف ذلك باختلاف الناس قوة وحالا وزمانا.

نعم في ثبوت القصاص مع جهل الجاني بالحال في القواعد إشكال ، ولعله من تحقق القتل مما يقتل مثله عادة وتعمده ، ومن الجهل بأنه ممن يقتله. وفيه أن مقتضى ما ذكرناه القصاص ، ضرورة صدق العمد إلى فعل يترتب عليه الموت.

بل فيها أيضا « فإن نفيناه ففي إيجاب كل الدية أو نصفها إحالة للهلاك على الجوعين إشكال » ونحوه في جريان الإشكالين ضرب المريض‌

٢٤

بما يقتله مع الجهل بحاله.

ولكن فيه أن مقتضاه عدم القصاص فيه في صورة العلم إلا مع رد نصف الدية في متابعة الجوع الأول الذي هو غير مضمون على الجاني ، وهو معلوم العدم ، فالتحقيق ثبوت الدية كلا للصدق مع عدم دليل على التوزيع في مثله ، ولعله لذا استضعف النصف في محكي التحرير ، والله العالم.

الصورة ( الثالثة : لو طرحه في النار فمات قتل به ) إذا كان على وجه لا يتمكن من التخلص لكثرتها أو لضعفه ، أو لأنه في وهدة أو نحو ذلك ، أو لأنه منعه هو منه.

بل في المتن ( ولو كان قادرا على الخروج ) بمعنى عدم مانع ظاهر من نحو ما عرفت ولكن يمكن عدم خروجه ( لأنه قد يشده و ) يدهش ( لأن النار قد تشنج الأعصاب بالملاقاة ) مثلا ( فلا يتيسر الفرار ) ومقتضاه ثبوت القصاص حينئذ كالمحكي عن الإرشاد والتلخيص. وفي المسالك توجيهه بعد فرض موضوع المسألة في من مات فيها واشتبه الحال هل كان قادرا فتركه تخاذلا أم لا بأن « التسبب المقتضى للضمان وهو الإلقاء متحقق مع الشك في المسقط ، وهو القدرة على الخروج مع التهاون فيه ، ولا يسقط الحكم بثبوت أصل القدرة ما لم يعلم التخاذل عن الخروج ، لاحتمال أن يعرض له ما يوجب العجز من دهشة وتحير أو تشنج أعضائه ونحو ذلك ».

وعلى كل حال فمقتضى الجميع ثبوت القصاص ، ولكن عن الخلاف القطع بعدمه ، بل هو ظاهر القواعد أو صريحها أيضا ، قال : « ولو تركه في نار فتمكن من التخلص منها لقلتها أو لكونه في طرفها يمكنه الخروج بأدنى حركة فلم يخرج فلا قصاص ، وفي الضمان للدية إشكال ، أقربه السقوط إن علم أنه ترك الخروج تخاذلا ، ولو لم يعلم ذلك ضمنه وإن‌

٢٥

قدر على الخروج ، لأن النار قد ترعبه وتدهشه وتشنج أعضاءه بالملاقاة ، فلا يظفر بوجه التخلص ».

ومن هنا قال في كشف اللثام : « إنها تعطي القطع بعدم القصاص مطلقا والتردد في سقوط الدية ، ثم استقربه إذا علم الإهمال تخاذلا ـ ثم قال ـ : ومبني الوجهين على تعارض ظاهرين وأصلين ، فان الظاهر من حال الإنسان أن لا يتخاذل عن الخروج حتى يحترق وظاهر النار المفروضة سهولة الخروج عنها ، وأنه لا يحترق بها إلا من تعمد اللبث فيها ، والأصل براءة الذمة ، والأصل عدم الشركة في الجناية ، والاحتياط يقوى ما في الكتاب ».

قلت : قد يقال : إن مبنى المسألة على تحقق صدق قتله ، فان حصل اتجه القصاص حينئذ مع فرض كونه الشي‌ء مما يقتل مثله غالبا وإلا فمع قصد القتل به أو إذا لم يقصد عدم القتل به وإن لم يحصل فالمتجه سقوطها معا.

ودعوى أن مجرد الإلقاء سبب للضمان واضحة المنع ، ضرورة عدم دليل على كونه كذلك ، فليس هنا إلا صدق قتله ، والاحتياط في الدماء لو سلم عدم اقتضائه للقصاص ولو للشبهة بناء على أنه كالحد في ذلك لكنه لا يقتضي ضمان الدية مع عدم العلم بالترك تخاذلا ، فالتحقيق مراعاة الصدق المذكور على الوجه المزبور ولو بملاحظة الظاهر الذي لا ينافيه بعض الاحتمالات ، هذا كله مع عدم العلم.

( أما لو علم أنه ترك الخروج تخاذلا ) بالقرائن أو بإقراره ( فلا قود ) قطعا ( لأنه ) هو الذي ( أعان على نفسه ) بلبثه الذي هو كون غير كون الإلقاء ، فيستند القتل إليه لا إلى الجاني.

( و ) منه ( يقدح أن لا دية له أيضا ، لأنه مستقل بإتلاف

٢٦

نفسه ) وإن كان الجاني قد جنى عليه بالإلقاء فيها ، إلا أن ذلك ليس سببا مقتضيا للضمان مع فرض قدرته على التخلص.

( ولا كذلك لو جرح فترك المداواة فمات ) المتفق على ضمان الجاني فيه ( لأن السراية ) المزهقة للنفس ( مع ترك المداواة من ) آثار ( الجرح المضمون ) على الجاني ابتداء وسراية ، والتقصير بترك المداواة لا ينافي استناد السراية إلى الجرح وكونها من آثاره.

( و ) أما ( التلف بالنار ) فـ ( ـليس بمجرد الإلقاء ) ولا بأثره ( بل بالإحراق ) بالنار ( المتجدد ) بعد الإلقاء ( الذي لو لا المكث لما حصل ) فهو شي‌ء غير الأول ، نعم على الملقى ضمان ما شيطته النار عند وصوله إليها إلى أن يخرج منها في أول أوقات الإمكان.

ولو لم يمكنه الخروج إلا إلى ماء مغرق فخرج فغرق ففي القواعد في الضمان إشكال ، ولو لم يمكنه إلا بقتل نفسه فالإشكال أقوى ، والأقرب الضمان ، لأنه صيره في حكم غير مستقر الحياة ، ووافقه عليه في ظاهر كشف اللثام ، لكن فيه ـ مع فرض بقائه على اختياره ـ عدم صدق نسبة القتل إلى الأول لا مباشرة ولا تسبيبا ، ضرورة عدم كون ذلك من توليد الأول.

( وكذا البحث لو طرحه في اللجة ) فإن كان على وجه لا يتمكن من التخلص من الغرق فعمد قطعا ، ولو ألقى العالم بالسباحة في ماء مغرق فترك السباحة حتى مات ولكن لم يعلم أنه عن تخاذل أو عن دهشة ونحوها ففيه البحث السابق الذي منه يعلم الحكم في باقي الصور ، إذ لا فرق بين النار والماء.

ولو غرقه آخر لقصد التخليص من التلف أو من زيادة الألم ففي القواعد الأقرب الحوالة بالضمان على الأول ، فإن كان وارثا منع من‌

٢٧

الإرث ، وكذا في صورة ضمان الثاني.

وفيه أنه لا وجه للمنع من الإرث بعد عدم صدق أنه القاتل ، وخصوصا على تقدير ضمان الثاني الذي مبناه أنه القاتل لا الأول ، ودعوى كون المانع له التهمة وإزالة استقرار الحياة حكما لا حاصل لها بعد عدم ثبوت عنوان الممنوع ، كما أنه لا حاصل لدعوى كون الضمان على الأول وإن كان الذي غرقه الثاني ، لأنه الذي صيره غير مستقر الحياة بخلاف الثاني الذي هو محسن ، ضرورة حصول الموت بفعل الثاني لا الأول الذي زال أثر فعله ، فهو في الحقيقة كما لو قتله الآخر لتخليصه من زيادة الألم ، فإنه لا إشكال في كون الضمان عليه إلا الأول ، والله العالم.

( ولو فصده فترك ) هو ( شده ) فنزف دما حتى مات ( أو ألقاه في ماء فأمسك نفسه تحته مع القدرة على الخروج فلا قصاص ولا دية ) بلا خلاف ولا إشكال في الأخير ، لأنه القاتل دون الملقي باعتبار أن الكون المتأخر عن كون الإلقاء مستند إليه.

وأما الأول ففي القواعد الاشكال فيه ، وفي كشف اللثام « من استناد الموت إلى تفريط ، وكون الفصد غير مهلك عادة ، وأصل عدم وجوب الشد على الفصاد إلا مع نقص المفصود لصغر أو جنون أو إغماء ، وهو خيرة الإرشاد والتخليص ، ومن استناده إلى سراية الجرح فهو كغيره من الجراحات التي يهمل المجروح مداواتها ، وربما احتمل تضمين الطبيب إذا كان بأمره ، فإنه معالجة » ونحوه في المسالك ومجمع البرهان.

قلت : ظاهر المصنف وغيره ممن ذكر المسألة هنا فرض المسألة في الفصد عدوانا لا مداواة ، ولعل الفرق بينه وبين السراية بترك المداواة أن الفصد بنفسه غير قاتل ، وإنما الذي قتله خروج الدم المستند كونه إلى إبقائه ، فهو كاللبث في النار في استناد الموت إلى أمر لم يكن من فعل‌

٢٨

الجاني ولا من آثاره ، بخلاف سراية الجرح نفسه التي هي من آثار الجرح وإن ترك المداواة إثما ، أو يقال : إن الفارق بينهما العرف ، والله العالم.

الصورة ( الرابعة : السراية عن جناية العمد توجب القصاص مع التساوي ) بلا خلاف أجده فيه ، بل الظاهر الاتفاق عليه ، كما اعترف به في كشف اللثام ، بل فيه أن إطلاقهم يشمل كل جراحة ، قصد بها القتل أم لا ، كانت مما تسري غالبا أم لا.

وعلى كل حال ( فلو قطع يده عمدا فسرت قتل الجارح ، وكذا لو قطع إصبعه عمدا بآلة تقتل غالبا فسرت ) لكن لم يظهر لنا وجه للتقييد المزبور ، كما اعترف به الكركي في حاشية الكتاب ، وذلك لما عرفت من إيجاب السراية القصاص على كل حال من غير فرق بين الآلات والجراحات والنيات.

ولعله لذا غير الفاضل في القواعد التعبير المزبور ، قال : « لو سرت جناية العمد ثبت القصاص في النفس ، فلو قطع إصبعه عمدا لا بقصد القتل فسرت إلى نفسه قتل الجارح » نعم في كشف اللثام « ولكن فيه نظر ».

وقد سبقه إلى ذلك في المسالك ، فإنه بعد أن ذكر أن مقتضى الإطلاق عدم الفرق بين كون الجناية مما توجب السراية غالبا أو القتل كذلك وعدمه ، ولا بين أن يقصد بذلك القتل وعدمه ، وأن الفاضل صرح بهذا التعميم قال : « وتمشية هذا الإطلاق على قاعدة العمد السابقة لا تخلو من إشكال ».

قلت : قد مضى ما يستفاد منه ذلك وإن كان الانصاف عدم خلوه عن النظر أيضا.

الصورة ( الخامسة : لو ألقى نفسه من علو على انسان عمدا وكان

٢٩

الوقوع مما يقتل غالبا ) أو أنه قصد القتل به ( فهلك الأسفل فعلى الواقع القود ) لما عرفت ( ولو لم يكن يقتل غالبا ) ولا قصد به القتل ( كان خطأ شبيه العمد ، فيه الدية مغلظة و ) على كل حال ( دم الملقى نفسه هدر ).

لكن لا يخفى عليك ما في إطلاقه ، اللهم إلا أن يريد به البناء على ما سبق ، ومن هنا صرح بالتقييد في القواعد « ولو وقع لا عن عمد فلا شي‌ء » كما في كشف اللثام.

لخبر عبيد بن زرارة (١) عن الصادق عليه‌السلام « سألته عن رجل وقع على رجل فقتله ، فقال : ليس عليه شي‌ء ».

وفي‌ صحيح ابن مسلم (٢) عن أحدهما عليهما‌السلام « في الرجل يسقط على الرجل فيقتله ، قال : لا شي‌ء عليه ، قال : ومن قتله القصاص فلا دية له ».

وفي‌ خبر عبيد بن زرارة الآخر (٣) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل وقع على رجل من فوق البيت فمات أحدهما ، قال : ليس على الأعلى شي‌ء ولا على الأسفل شي‌ء ».

وظاهر الجميع عدم شي‌ء عليه حتى الدية ، ولعله لعدم صدور فعل منه ينسب إليه ولو خطأ ، بخلاف النائم والساهي ونحوهما ممن يصدر الفعل منهم ولو من دون شعور ، وربما يأتي إن شاء الله زيادة تحقيق لذلك.

ولو ألقاه غيره قاصدا للأسفل أن يقتله أقيد الدافع به وبالواقع إن كان الوقوع مما يقتل الواقع غالبا أو قصد قتله أيضا ، ولو قصد قتله بالدفع أو كان الوقوع مما يقتل غالبا ولم يقصد إيقاعه على الأسفل ضمن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٣.

٣٠

ديته ، لأنه من الخطأ المحض وقتل بالواقع.

ولكن في‌ خبر ابن رئاب وعبد الله بن سنان (١) عن الصادق عليه‌السلام « في رجل دفع رجلا على رجل فقتله ، فقال : الدية على الذي وقع على الرجل فقتله لأولياء المقتول ، قال : ويرجع المدفوع بالدية على الذي دفعه ، قال : وإن أصاب المدفوع شي‌ء فهو على الدافع أيضا ».

وفي كشف اللثام هو محمول على أنه لم يعلم إلا وقوعه ولم يعلم تعمده ولا دفع غيره له.

ولكنه كما ترى ، ضرورة صراحة الخبر في خلافه أو لا ، وعدم وجوب الدية على الوجه المزبور بعد التسليم ثانيا ، خصوصا بعد ما سمعته منه من عدم شي‌ء عليه مع الوقوع لا عن عمد وهذا منه ، لأن الفرض كونه مدفوعا للغير ، فالوجه الرجوع بالدية على الدافع ، خصوصا بعد معلومية مثل ذلك في المال ، بل ذكروا في كتاب الغصب أن الضمان من أول وهلة على المكره دون المكره بالفتح وإن كان قد أتلف هو المال ولكن بالإكراه ، وليس هو كقاعدة الغرور ، فلاحظ وتأمل. اللهم إلا أن يقال : إن ذلك هنا كذلك تعبدا ، وربما يأتي إن شاء الله في الأثناء تتمة له.

هذا وفي‌ صحيح الحلبي (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سألته عن رجل ينفر برجل فيعقره ويعقر دابة رجل آخر ، قال : هو ضامن لما كان من شي‌ء » وهو موافق للضوابط.

ولكن في‌ خبر أبي بصير (٣) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٣.

٣١

عن رجل كان راكبا على دابة فمس رجلا ماشيا حتى كاد أن يوطئه فزجر الماشي الدابة عنه فخر عنها فأصابه موت أو جرح ، قال : ليس الذي زجر بضامن ، إنما زجر عن نفسه ».

وقد يشكل بأن زجره عن نفسه لا ينافي ضمانه بعد نسبة الفعل إليه إذ الإذن الشرعية إنما تدفع الإثم ، نحو ما سمعته في تأديب الولد وغيره ، وليس ذا من الدفاع الذي لا يتعقبه ضمان سيما بعد إمكان تنبيه صاحب الدابة وإمكان التنحي عنها وغير ذلك ، اللهم إلا أن يقال : إن ذلك كتقصير الراكب المكلف بعدم إضرار دابته الغير فتأمل ، وربما يأتي إن شاء الله زيادة تحقيق لذلك ، والله العالم.

الصورة ( السادسة : قال الشيخ : لا حقيقة للسحر ) لقوله تعالى (١) ( وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ ) وقوله تعالى (٢) : ( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى ) وقوله تعالى (٣) ( سَحَرُوا أَعْيُنَ النّاسِ ) بل عن التبيان له « كل شي‌ء خرج عن العادة الجارية لا يجوز أن يتأتى من الساحر ، ومن جوز للساحر شيئا من هذا فقد كفر ، لأنه لا يمكنه مع ذلك العلم بصحة المعجزات الدالة على النبوة ، لأنه أجاز مثله من جهة الحيلة والسحر ».

( و ) لكن ( في الأخبار ما يدل على أن له حقيقة ) وأن منه ما هو من المطبب تأثيرا وعلاجا (٤) بل فيها ما يدل على وقوعه في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى قيل : انه سحر بحيث يخيل إليه‌

__________________

(١) سور البقرة : ٢ الآية ١٠٢.

(٢) سورة طه : ٢٠ ـ الآية ٦٦.

(٣) سورة الأعراف : ٧ ـ الآية ـ ١١٦.

(٤) البحار ـ ج ٦٣ ص ٢١.

٣٢

كأنه فعل الشي‌ء ولم يفعله ، وفيه نزلت المعوذتان (١) بل لعله قوله تعالى (٢) : ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) دال عليه ، بل تأثيره أمر وجداني شائع بين الخلق قديما وحديثا.

والتحقيق كما ذكرناه في محله أنه أقسام : فمنه تخييلى ومنه مؤثر حقيقة ، ولا ينافي ذلك الإقرار بالمعجزات التي يجب على الله تعالى بيان حالها عند الدعوى الكاذبة ، على أن التخييلي منه أيضا مؤثر ولو تأثيرا تخييليا ، وهو شي‌ء وجداني وإن كان ما يراه هو ليس كما يراه في الواقع.

ولكن مع ذلك قال المصنف ( ولعل ما ذكره الشيخ قريب ، غير أن البناء على الاحتمال أقرب ).

وعلى كل حال ( فلو سحرة فمات لم يوجب قصاصا ولا دية على ما ذكره الشيخ ، وكذا لو أقر أنه قتله بسحره ) لأن المفروض عدم الحقيقة له ، فهو كما لو قال : قتلته بنظري أو نحو ذلك مما يعلم عدم أثر له.

( وعلى ما قلناه من الاحتمال يلزمه الإقرار ) لعموم دليله ، بل في المسالك « لا طريق إلى معرفته بالبينة ، لأن الشاهد لا يعرف قصده ولا شاهد تأثير السحر ، وإنما يثبت بإقرار الساحر ، فإذا قال : قتله سحري فمن قال لا تأثير له لم يوجب بالإقرار عليه شيئا ، والأقوى الثبوت على القولين ، عملا بإقراره وإلغاء للمنافي على القول به ، ثم من قال مع ذلك : إن سحرة مما يقتل غالبا فقد أقر بالعمد ، وإن قال : نادرا استفسر ، فان أضاف إليه قصده قتله فهو عمد أيضا ، وإلا فهو شبيه العمد ، وإن قال : أخطأت من اسم غيره إلى اسمه فهو إقرار بالخطإ ، فيلزمه حكم ما أقر به ، ولكن في صورة الخطأ لا يلزم إقراره العاقلة ،

__________________

(١) البحار ـ ج ٦٣ ص ٢٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٠٢.

٣٣

بل تجب الدية في ماله ، نعم لو صدقوه أخذناهم بإقرارهم ».

قلت : قد يناقش ( أولا ) بإمكان إثباته بالبينة برؤية عمل السحر الذي يشاهد أثره ويعرفه من له معرفة بالسحر من الثقات أيضا ، وحينئذ فلا يحتاج إلى تعرف قصده واستفساره ولا إلى غير ذلك مما ذكر ( وثانيا ) بأن ما ذكره من الأقوى خروج عن المسألة ، ضرورة عدم كون البحث في العبارة المزبورة المشتملة على تعقب الإقرار بما ينافيه ، إذ يمكن تفسيرها على وجه لا يصدر منه إلا نسبة القتل إلى سحرة.

ومن الغريب ما في مجمع البرهان من تبعيته في ثبوت القصاص به على التقديرين وإن لم يكن بالعبارة المزبورة ، أخذا‌ بعموم « إقرار العقلاء » (١) مع جواز القتل به خوفا وإن لم يكن له حقيقة ، وهو كما ترى واضح الوهم وإن نشأ مما في المسالك ، لكن قد عرفت أن مراده مسألة تعقب الإقرار بالمنافي ، لا أن السحر قد يقتل خوفا وإن قلنا بأنه لا حقيقة له ، فإنه بناء على أنه لا حقيقة له لا يؤثر شيئا حتى الخوف فضلا عن أن يؤدي إلى القتل وإن كان القول المزبور قد عرفت ما فيه ، على أنه يمكن فرض المسألة لو قال : قتلته بسحر لم يحدث فيه خوفا ولكن أحدث فيه موتا أو مرضا قاتلا له وإن كان هو في بلاد بعيدة عن الساحر. وبالجملة التحقيق ما عرفته.

ولو قال : قتله دعائي أو حسدي أو نحو ذلك فلم أجد به تصريحا لكن الأصل البراءة من الضمان بذلك ، لعدم معرفته ، وعلى تقديرها لا يخلو القول بالضمان من وجه ، بل قد يثبت القصاص.

اللهم إلا أن يقال : إن ذلك ونحوه ليس من الأسباب المتعارف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من كتاب الإقرار ـ الحديث ٢ والمستدرك ـ الباب ـ ٢ ـ منه ـ الحديث ١.

٣٤

التضمين بها ، بل يمكن نحو ذلك القول في السحر مع القول بتأثيره ، إلا أن ظاهرهم الإنفاق على الضمان به مع القول بأنه مؤثر والعلم بحصول الأثر فيه ولو بالإقرار ، ومثله يأتي في الدعاء والحسد ونحوهما ، هذا تفصيل الكلام في السحر من حيث إطلاق الأدلة.

( و ) أما ما ( في الأخبار ) (١) من أنه ( يقتل الساحر ) ففي المتن ( وقال ) الشيخ ( في الخلاف : يحمل ذلك على قتله حدا لفساده ، لا قودا ) وهو كذلك ، لعدم تقييد قتله بذلك ، بل ظاهرها قتله من حيث سحرة وإن لم يقتل به أحدا ، والله العالم.

( المرتبة الثانية ) من مراتب السبب ( أن ينضم إليه مباشرة المجني عليه ، وفيه ) أيضا ( صور : )

( الأولى : لو قدم له طعاما مسموما ) بما يقتل مثله غالبا أو قصد القتل به أو أعقب مرضا فمات به الآكل ( فان علم ) به ( وكان مميزا ) وإن لم يكن بالغا بل ومختارا كما تعرف ذلك في المرتبة الرابعة ( فلا قود ولا دية ) بلا خلاف ولا إشكال ، لكونه هو القاتل نفسه بمباشرته عالما بالحال لا المقدم ( و ) وإن كان تقديمه مؤثرا في الجملة ، لكن تأثير شرطية كمناولته السكين لمن ذبح نفسه بها عاقلا ( وما وقع من الحسن والرضا عليهما‌السلام (٢) من الاقدام على الطعام المسموم محمول على علم خارج عن علم التكليف أو غير ذلك مما هو مذكور في محله ) (٣).

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب بقية الحدود من كتاب الحدود والتعزيرات.

(٢) البحار ـ ج ٤٤ ص ١٥٣ ـ ١٥٤ وج ٤٩ ص ٢٩٤ و ٣٠١.

(٣) ما بين القوسين جاء في النسخة الأصلية المبيضة بعد قوله : « بالغرور واضح الضعف » الآتي في ص ٣٦ ، وفي النسخة الأصلية المخطوطة بقلم المصنف ( قده )

٣٥

نعم ( لو ( إن خ ل ) لم يعلم ) بالحال ( فأكل فمات فللولي القود ) عندنا ( لأن حكم المباشرة سقط بالغرور ) سواء خلطه بطعام نفسه وقدمه إليه أو أهداه إليه أو خلطه بطعام الآكل ولم يعلم أو بطعام أجنبي وندبه إليه من غير شعور أحد من الآكل والأجنبي ، ولو علم الأجنبي وشارك في التقديم كان شريكا في الجناية ، فما عن الشافعي من قوله بنفي القود ترجيحا للمباشرة التي عرفت سقوطها بالغرور واضح الضعف.

هذا وفي مجمع البرهان « لو قدم شخص إلى غيره طعاما مسموما فأكله ذلك الغير عالما بالسم وكونه قاتلا لا شي‌ء على المقدم من القصاص والدية ، لأنه السبب القوي بل المباشر ، فهو القاتل لنفسه لا غير ، وإن جهل أحدهما يكون المقدم قاتل عمد ، فعليه القصاص مع علمه بهما ، والدية عليه مع جهله بأحدهما ».

وفيه منع كون المقدم قاتل عمد مع فرض علم المتناول بأن في الطعام شيئا قاتلا ولكن لم يعلم أنه سم ، ضرورة عدم مدخلية جهله بالسم في إقدامه على قتل نفسه ، بل قد يشك في ذلك لو علم بأن فيه سما خاصة ، حيث إنه أقدم على ما يحتمل فيه القتل.

وكذا منع ثبوت الدية مع جهل المقدم بالحال بأن كان الواضع غيره ، للأصل وأولوية المباشرة مع التساوي ، وضمان الطبيب للمريض المختار في التناول إنما هو للدليل ، ولا ينافي ذلك ما تسمعه من المصنف والفاضل وغيرهما من ثبوت الدية في ما لو حفر بئرا في داره فدعا غيره فوقع في‌

__________________

جاءت هذه الجملة في الهامش ، لكن أشير بالعلامة لموضوع التخريج في موردين :

أحدهما ما جاء في هذه الطبعة ، الثاني ما جاء في سائر الطبعات والنسخة الأصلية المبيضة ، والموضع المناسب لها هو ما جاء في هذه الطبعة.

٣٦

البئر وإن كان ناسيا لضعف المباشرة بالغرور ، لوضوح الفرق بينهما بكونه الفاعل للسبب وإن كان قد نسيه ، بخلاف الفرض الذي هو أولى أو مساو لما ذكروه من عدم الضمان على الدافع الجاهل لشخص فوقع في البئر المحفورة بالطريق عدوانا ، معللين له بقوة السبب الذي هو حفر البئر على دفع الجاهل ووقوع المدفوع.

ومن ذلك يعلم النظر في ما سمعته منه إن أراد ما يشمل ذلك من الجهل بأحدهما ، بل لا يخفى عليك ما فيه من إطلاق ثبوت الدية بذلك مع أن من أفراده ما لو علم بكونه قاتلا ولكن لم يعلم أنه سم ، فان المتجه فيه القصاص لا الدية ، بل وكذا لو علم بأنه سم وجهل بكونه قاتلا وقصد القتل به أو أعقب مرضا أدى إلى ذلك اتجه أيضا القول بالقصاص.

ولو كان السم الموضوع في الطعام مما لا يقتل غالبا ولم يقصد القتل به ولم يعقب مرضا أدى إلى موته به ففيه البحث السابق.

ولو اختلف هو والولي في جنسه أو قدره فالقول قوله ، وعلى الوالي البينة ، فإن قامت وثبت أنه مما يقتل غالبا فادعى الجهل بأنه كذلك فعن التحرير احتمل القود ، ولأن السم من جنس ما يقتل غالبا فأشبه ما لو جرحه وقال : لم أعلم أنه يموت به ، وعدمه لجواز خفائه ، فكأن شبهة في سقوط القود ، فتجب الدية ، وفي كشف اللثام « الأقوى الثاني إذ حصلت الشبهة ».

قلت : قد يقال ، إن الأقوى الأول بعد فرض ثبوت العمد إلى القتل منه ، لعموم ( النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) (١) وصدق القتل عمدا وغير ذلك.

ولو قصد بالتقديم قتل غير الآكل بأن قدم إليه بظن أنه الغير لكونه في ظلمة أو من وراء حجاب أو نحو ذلك ضمن دية الآكل ، لأنه خطأ.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ٤٥.

٣٧

( ولو جعل السم ) القاتل مثله غالبا ( في طعام صاحب المنزل ) أو مع قصد ذلك به أو المعقب مرضا يترتب عليه الموت ( فوجده صاحبه فأكله فمات قال ) الشيخ ( في الخلاف والمبسوط : عليه القود ) بل في المسالك نسبته إلى الأشهر لضعف المباشرة بالغرور ، ولصدق القتل عامدا لغة وعرفا ، بل لعله نحو التقديم الذي هو ليس إلجاء ، وإنما هو داع للأكل والطريق المتعارف في القتل بالسم الذي هو كالآلة.

ومن هنا قال في مجمع البرهان : « وينبغي التفصيل ، وهو أنه إن كان الملقي عالما بأنه سم قاتل وأكل الآكل جاهلا بذلك فعليه القصاص ، لأنه تعمد القتل أو أدى إليه غالبا ، لأن إلقاءه مع عدم مانع من أكله بمنزلة فعل السبب ، ولأنه لو لم يكن مثل هذا موجبا للقود للزم منه وجود قتل كثير مع عدم القصاص ، بل يلزم عدم القود في مقدم الطعام المسموم أيضا ، إذ لا إلجاء أيضا ، وكذا في أمثال ذلك ، وهو ظاهر البطلان وفتح للفساد والقتل الكثير ، وهو مناف لحكمة شرع القصاص ، فتأمل. وإن أكل عالما لا شي‌ء عليه ، فان الآكل هو القاتل نفسه لا غير ، وإن فعل جاهلا فعليه الدية ، لعدم قصد القتل ولا إلى موجبه التام ولو نادرا ، فلا يكون عامدا ، مع ثبوت عدم إبطال دم امرء مسلم ، وعدم اعتبار القصد والعمد في الدية ، فتأمل ». وإن كان لا يخلو بعضه من نظر يعلم مما قدمناه سابقا إلا أنه جيد في ثبوت القصاص ( و ) إن قال المصنف ( فيه إشكال ) لقوة المباشرة وعدم إلجائه إلى الأكل ولا قدمه إليه.

نعم تثبت الدية لترتب القتل على فعله وعدم بطلان دم امرء مسلم ، فهو حينئذ كحفر البئر إن لم يكن أقوى وإن كان لا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه. وأضعف منه ما عن بعض العامة من القول‌

٣٨

بانتفاء الضمان رأسا.

نعم هو كذلك لو جعل السم في طعام نفسه وجعل في منزله فدخل إنسان فأكله عاديا ، فلا ضمان بقصاص ولا دية ، للأصل بعد أن كان الآكل متعديا بدخول دار غيره وأكله من طعامه ، بل لو قصد قتله بذلك لم يكن عليه شي‌ء ، مثل أن يعلم أن ظالما يريد هجوم دار فيترك السم في الطعام ليقتله مع فرض توقف دفعه على ذلك.

بل لعله كذلك لو دخل رجل بإذنه فأكل الطعام المسموم بغير إذنه ، لأنه المتعدي بأكله ، بل في كشف اللثام وإن كان ممن يجوز له الأكل من بيوتهم ، ولكن لا يخلو من نظر ، نعم لا ضمان لو سم طعاما ووضعه في منزل الآكل ولم يخلطه بطعامه ولا جعله حيث يشتبه عليه بل أكله وهو يعلم أنه ليس له ، ولو جعله بحيث يشتبه عليه كان عليه الدية ، كما في كشف اللثام.

الصورة ( الثانية : لو حفر بئرا بعيدة ) القعر ( في الطريق ) مثلا يقتل الوقوع فيها غالبا ( ودعا غيره مع جهالته ) على وجه يسقط فيها بمجيئه فجاء ( فوقع فمات فعليه القود ، لأنه مما يقصد به القتل غالبا ) ولأن ذلك ونحوه كيفية القتل به عادة ، فيندرج في عنوان القاتل عمدا ، بل وكذا إن كان مما يقتل نادرا وقصد به القتل أو أعقبه مرضا مات به ، أما إذا لم يقصد ولم يعقبه زمانة ففيه البحث السابق ، وكذا الكلام لو جعل البئر في ملك الواقع ، إذ هو نحو وضع السم في طعام الغير.

ولو كان دعاؤه إياه لا على وجه يقتضي وقوعه فيه ولا تقصد ذلك إلا أنه اتفق مجيئه في طريق وقع فيه بلا شعور منه فالظاهر الدية وإن كان قد أطلق المصنف وغيره ، بل ربما منه وقع إشكال للأردبيلي ،

٣٩

حيث قال : « لكن يرد على أمثاله شي‌ء ، وهو أن الموجب للقصاص هو قتل العمد المحض ، وهو قصد القتل أو الفعل القاتل غالبا ، وتحققهما في كل ما أوجبوا فيه القتل محل التأمل ، فتأمل » وفيه أن ذلك كله كذلك مع ملاحظة التقييد المزبور ، والله العالم.

الصورة ( الثالثة : لو جرحه فداوى نفسه بدواء سمي فـ ) ـفي المسالك « إن كان الجرح الأول متلفا وقد انتهى المجروح إلى حركة المذبوح فالأول هو القاتل » وهو كذلك مع فرض صحة الفرض و ( إن ) لم يكن كذلك بل لم يكن الجرح متلفا بنفسه وإنما ( كان ) الدواء السمي ( مجهزا ) على وجه يسند القتل إليه ( فالأول جارح والقاتل هو المقتول فـ ) ـلا قصاص حينئذ بل و ( لا دية له و ) لكن ( لوليه القصاص في الجرح إن كان الجرح يوجب القصاص وإلا كان له أرش الجراحة ) لعدم جناية له غير ذلك ، فهو مثل ما لو جرحه شخص وقتله آخر ، فان الجارح عليه جرحه وعلى القاتل القتل.

( وإن لم يكن مجهزا وكان الغالب فيه السلامة فاتفق الموت به ) وبالجرح الأول ( سقط ما قابل فعل المجروح ) لعدم ضمانه على الجارح ( وهو نصف الدية ) كما في نظائره ( و ) حينئذ فـ ( ـللولي قتل الجارح بعد رد نصف الدية ) لأن ذلك هو الثابت شرعا في كيفية استيفاء نصف القتل الذي هو مقتضى جنايته.

( وكذا لو كان غير مجهز وكان الغالب معه التلف ) لما عرفت وتعرف إن شاء الله من الاشتراك في الجناية بين الجانيين لا الجنايات وإن تعددت من واحد واتحدت من آخر من غير فرق بين القوي والضعيف فيها بعد العلم باستناد الموت إليهما أو عدم العلم باستناده إلى أحدهما بناء‌

٤٠