جواهر الكلام - ج ٤٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

القسامة ولو كان المدعى عليه مسلما.

ودعوى منعه منها للإقدام على اليمين الكاذبة يدفعها عدم البأس مع الاستحقاق ، ولذا تقبل أيمان الكفار في كل دعوى يتوجه بها عليهم ، مع أنه يمكن فرضه حال عدم علم الحاكم بارتداده إلا بعد حلفه ، بل وفي كون الحالف غيره بناء على الاجتزاء بيمين الغير عن الولي.

وكذا دعوى كونه محجورا عليه بالتصرف الذي منه القسامة ، ضرورة عدم دليل على منعه من التصرف على وجه يشمل القسامة التي ليست من التصرف المتلف للمال ، بل هي من المحققة له ، وحينئذ فإن عاد إلى الإسلام استوفى حقه بما حلفه في الردة من غير حاجة إلى الاستئناف ، وإن مات أو قتل فيها انتقل إلى ورثته عندنا.

ولو تخللت الردة بين الأيمان فإن اشترطنا فيها الموالاة لأنها يمين واحدة كان عليه الاستئناف إن أخلت بالموالاة وإلا فلا.

وإن كان الولي قد ارتد لا عن فطرة فإن عاد الإسلام قبل قسمة الميراث كان له الحلف وإلا فلا.

وبذلك كله ظهر لك ما يثبت فيه القسامة للمرتد وما لا يثبت في السيد والوارث على وجه لا ينافي ما تقدم لنا من ثبوت القسامة للكافر على المسلم وإن ظنه بعض الناس لكنه في غير محله.

بقي شي‌ء : وهو أن من المعلوم عدم صحة القسامة إلا بإذن الحاكم ، فمع فرض وجوب منعه منها لا يتصور وقوعها مع المخالفة على وجه تصادق موقعها ، وفرض ذلك في حال عدم علم الحاكم بارتداده خلاف ظاهر العبارة أو صريحها ، فليس إلا حمل الأولوية على ضرب من الرجحان مع إمكانه ، فمع مخالفته وحلف تكون القسامة واقعة موقعها ، وحينئذ لا ينبغي الحكاية عن الشيخ وجوب المنع ، على أنه مناف لاستحقاقه لها‌

٢٦١

وإلا لم تقع موقعها ، فكيف يتجه لزوم منعها منه مع طلبه لها واستحقاقه إياها؟ فتأمل جيدا.

( ويشترط في اليمين ذكر القاتل والمقتول ، والرفع في نسبهما بما يزيل الاحتمال ، وذكر الانفراد أو الشركة ، ونوع القتل ) من عمد أو خطأ كما في بعض كتب الفاضل وبعض متأخري المتأخرين ، ولكن الأصل في ذلك ما في محكي المبسوط من احتياج اليمين التي يقسم بها إلى أربعة أشياء وذكر ما سمعته ، نعم عنه ما في كشف اللثام من الاكتفاء بالإشارة ، وفي الأخير منهما لا يكفي الإضمار ولو صرح بالاسم أو الإشارة قبله ، لاحتمال الرجوع إلى الله تعالى شأنه.

وقال في محكي المبسوط أيضا : إنه يحتاج في يمين المدعى عليه إلى ذكر ستة أشياء : يقول ما قتل فلانا ، ولا أعان على قتله ، ولا ناله من فعله ، ولا بسبب فعله شي‌ء ، ولا وصل بشي‌ء إلى بدنه ، ولا أحدث شيئا مات منه ، أما القتل فلا بد منه ، وقوله : « ولا أعان » لدفع الشركة ، وقوله : « ولا ناله » لأنه قد يرميه بسهم أو غيره فيقتله ، وقوله : « ولا بسبب فعله » لأنه قد يرميه بحجر فيقع على حجر فيطير الثاني فيصيبه فيقتله ، وقوله : « ولا وصل إلى بدنه بشي‌ء » لرفع سقيه السم ، وقوله : « ولا أحدث سببا مات منه » لأنه قد ينصب سكينا أو يحفر بئرا فيتلف بسببه » ثم اعترض على نفسه بأن الدعوى إذا لم تسمع إلا محررة فإذا حلف على ما تحررت عليه كفى ، وأجاب بوجهين : « أحدهما أن هذه اليمين مفروضة في ما إذا أطلقت الدعوى وقلنا : إنها تسمع مطلقة ، والثاني أنها في من لا يعبر عن نفسه لصغر أو جنون ، فينصب الحاكم له أمينا يستوفى له اليمين ، فيحتاط له كالاحتياط باليمين في الدعوى عليه مع البينة ».

٢٦٢

إلا أن ذلك كما ترى ، بل لم أجده لغيره في المدعى عليه ، نعم قد عرفت موافقة غيره له في ما سمعته منه في المدعي ، وكأن الذي دعاه إلى ذلك كله ما في النصوص (١) هنا من التعرض لصفة اليمين في الجملة ، نحو إن فلانا قتل فلانا ، وفي المدعى عليه ما قتلنا ولا علمنا له قاتلا إلى آخر ما سمعته في النصوص.

لكن من المعلوم إرادة الاستظهار في ذلك من حيث كون الدعوى في الدماء ، لا أن اليمين في المقام مخالفة لها في غيره من المقامات.

على أنه إن أريد بذلك التحرز عن التورية التي تكون في قلب الحالف ففيه أن ذلك وأضعافه غير مجد في دفع ذلك ، ومن هنا كان في الإثم وغيره على نية المحلف دون الحالف.

ولعله لذا اقتصر غير من عرفت من أساطين الأصحاب على ذكر كيفية اليمين هنا بما هو كالصريح في أنه كغيره من الدعاوي ، بل ينبغي الجزم بذلك بعد تحرير الدعوى على وجه لا اشتباه في شي‌ء منها ووقوع اليمين على مقتضاها ، كما اعترف به الفاضل ، بل قد سمعت ما في محكي المبسوط من أن ذلك في الدعوى المطلقة بناء على صحتها و ( أما الإعراب فـ ) ـفي القواعد ومحكي المبسوط وغيره أنه ( إن كان من أهله كلف وإلا قنع بما يعرف معه القصد ) أي وإن رفع قوله : « والله » أو نصبه بل عن التحرير أنه أطلق الاجتزاء به مرفوعا وإن كان لحنا ، لعدم تغير المعنى به ، ولعل ترك الأكثر التعرض لذلك للاتكال على ما ذكروه في غير المقام في الصيغ من اعتبار ذلك مع القدرة ، ضرورة اتحاد ما هنا معه في أصالة عدم ترتب الحكم على غير المعهود والمتيقن في جميع الصيغ التي منها صيغة اليمين في المقام ، بخلاف غير‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب دعوى القتل.

٢٦٣

القادر المستفاد الاكتفاء بما يتمكن منه من فحوى الاجتزاء بإشارة الأخرس ، كما أوضحناه في محله بل أوضحنا أيضا جملة من أحكام اليمين في كتاب القضاء (١) والحمد لله.

( وهل ) يعتبر أيضا أن ( يذكر ) الحالف ( في اليمين أن النية نية المدعي ) بكسر العين على معنى نيته حين حرر الدعوى أو فتحها على معنى الدعوى؟ ( قيل : نعم دفعا لتوهم الحالف ) أن النية في ذلك إليه ، فيغير اليمين عن وجهها ، وعن التحرير نسبته إلى قوم ، ولكن لم نعرف أحدا منهم ، نعم نسبة غير واحد إلى الشيخ في المبسوط ، وعبارته المحكية عنه أنه بعد أن ذكر احتياج اليمين إلى الأربعة قال : « والرابع يذكر نوع القتل من العمد والخطأ ، والنية في اليمين نية الحاكم ، والفائدة في اعتبار هذه الصفات أن كل أحد لا يعلم أن الأمر هكذا ، فربما يعتقد أن النية نية الحالف ، فيغير اليمين عن جهتها ، فلهذا يحلف بهذه الأوصاف ».

وظاهره كون الواو استئنافا لا عطفا ، مؤيدا ذلك كله بمعلومية كون ذلك من الأحكام الشرعية ، ولا مدخلية لذكر الحالف له المحتمل أيضا التورية فيه ، ومراده بقوله : « والفائدة » إلى آخره دفع ما عساه يقال من عدم احتياج ذكر الأمور الأربعة بعد انصراف اليمين إلى ما ينويه الحاكم ، وهو ما ادعاه المدعي سواء قيدت بما يصرفها إليه أو لا ، فأجاب بأنه وإن كان كذلك لكن ربما يعتقد أن له أن ينوي بها ما يشاء حين الحلف من القيود التي ادعاها غيرها ، بل التورية أيضا ، فيحتاط لدفع ذلك بذكر القيود في ألفاظ الأيمان.

وهو وإن كان فيه ما لا يخفى بعد الإحاطة بما ذكرناه سابقا إلا أنه‌

__________________

(١) راجع ج ٤٠ ص ٢٢٥ ـ ٣٠٣.

٢٦٤

أجنبي عن اشتراط ذكر ذلك في اليمين ، وإلا كان خامسا لا رابعا.

( و ) على تقديره فلا ريب في أن ( الأشبه ) بأصول المذهب وقواعده التي منها إطلاق الأدلة فضلا عما تعرض لخصوص صفة اليمين من النصوص السابقة ( أنه لا يجب ) كغيره من الأيمان ، كما هو واضح ، والله العالم.

المقصد ( الثالث في أحكامها )

التي منها عندنا نصا (١) وفتوى ثبوت القصاص بها في العمد إجماعا بقسميه ، خلافا لأبي حنيفة والشافعي في الجديد ، فأوجبا بها الدية مغلظة في مال الجاني ، وهو اجتهاد في مقابلة النص النبوي (٢) وغيره (٣) وثبوت الدية على القاتل في عمد الخطأ بلا خلاف أجده فيه بل ولا إشكال وعلى العاقلة في الخطأ المحض كما هو المشهور على ما في كشف اللثام ، لظهور النصوص في أنها كالبينة في ذلك.

لكن في محكي التحرير وإن كان القتل خطأ ثبتت الدية على القاتل لا على العاقلة ، فإن العاقلة إنما تضمن الدية مع البينة لا مع القسامة ، وعن الشهيد في الحواشي أنه قواه ، بل قد يؤيده‌ خبر زيد (٤) عن آبائه عليهم‌السلام « لا تعقل العاقلة إلا ما قامت عليه البينة » ‌إلا أنه لا جابر له ، والظاهر إرادة ما قابل الإقرار من الحصر المزبور فيه ، وإلا كان معارضا بظاهر ما دل على إثبات الدعوى بها مما هو أرجح منه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب دعوى القتل.

(٢) سنن البيهقي ج ٨ ص ١١٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب دعوى القتل.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب العاقلة ـ الحديث ١ من كتاب الديات.

٢٦٥

من وجوه ، كما هو واضح.

و ( لو ادعى على اثنين ) مثلا ( وله على أحدهما لوث حلف خمسين يمينا وثبتت دعواه على ذي اللوث ) بلا خلاف ولا إشكال ، لإطلاق الأدلة ( وكان على الآخر يمين واحدة كالدعوى في غير الدم ) أو فيه بلا لوث ، واحتمال وجوب الخمسين هنا مع عدم دعوى اللوث كما توهمه بعض الناس في غاية السقوط ، وحينئذ فإذا حلفها اندفعت عنه الدعوى كما في كل منكر ، فان رد اليمين على المدعي حلف ، وكذا لو نكل بناء على عدم القضاء بمجرده ، وعلى كل حال لا يتقدم المدعي هنا إجماعا كما عرفت الكلام فيه سابقا.

نعم في المسالك في دخوله في جملة الخمسين أو كونه خارجا عنها القولان السابقان في ما إذا تعدد المدعى عليه.

وفيه أن القولين في ما إذا تعدد المدعى عليه مع وجود اللوث لا في مثل الفرض الذي فيه اليمين المردودة أو يمين النكول التي لا مدخلية لها في يمين اللوث ، فالمتجه عدم دخولها على القولين ، كما هو واضح ، بل هو أيضا غير اليمين المردودة على مدعي اللوث ، فان احتمال وجوب الخمسين فيه أيضا لا يخلو من وجه.

( ثم إن أراد قتل ذي اللوث ) بعد الثبوت عليه بالقسامة ( رد عليه نصف ديته ) لاعترافه بأنه أحد القاتلين ، وكذا لو ثبت على الآخر باليمين المردودة وأراد قتله.

( ولو كان أحد الوليين غائبا وهناك لوث حلف الحاضر ) وحده أو مع قومه ( خمسين يمينا ويثبت حقه ) لإطلاق الأدلة المقتضي لعدم منع غيبة الشريك الحاضر عن إثبات حقه بالعدد المزبور الذي لو لم يكن الشريك غائبا لم يتعين عليه حلفه أجمع ، إلا أنه لما كانت الدعوى ولو جزء منها‌

٢٦٦

لا تثبت مع افتتاح القسامة إلا بتمامها تعين عليه ذلك ، فله حينئذ استيفاء حقه بعد الإثبات ( ولم يجب ) عليه ( الارتقاب ) وإن كان قودا بناء على عدم حبسه إلى قدوم الغائب وإن احتمل لكنه ضعيف جدا ، لأنه إذا جاز القصاص مع عفو الباقين فمع الغيبة أولى ، وللمحكي من إجماع الشيخ في الخلاف وظاهر المبسوط والسيدين علم الهدى وأبي المكارم ، ولقاعدة تسلط كل ذي حق على حقه ، وعدم الضرر والضرار وغير ذلك.

( و ) على كل حال فـ ( ـلو حضر الغائب ) وأراد استيفاء حقه ( حلف بقدر نصيبه ، وهو ) في الفرض ( خمس وعشرون يمينا ).

وإن كان الوارث ثلاثة أحدهم غائب حلف الحاضران خمسين كل منهما خمسة وعشرون ، فإذا حضر الثالث حلف الثلث وجبر المنكسر ، فيحلف سبع عشرة ، ولو كان الحاضر منهم واحدا حلف خمسين وأخذ نصيبه. ثم إن حضر الآخران معا حلف كل منهما سبع عشرة ، وإن حضر أحدهما حلف خمسا وعشرين ، إذ قد لا يحضر الثالث أو لا يدعي ، فإذا حضر الثالث حلف سبع عشرة ، وعليه فقس.

وفي المسالك « ونظير ذلك ما إذا حضر أحد الشركاء ، فإنه يأخذ جميع المبيع بالشفعة ، فإذا قدم آخر شاركه بالنصف ، فإذا حضر ثالث كان المبيع بينهما أثلاثا وهكذا ، إلا أن الفرق بينهما فورية الشفعة بخلاف المقام ، فليس له فيها أن يقول : لا آخذ إلا بقدر حصتي ، فإن الشفعة تبطل بذلك بخلاف المقام ، فان له تأخير القسامة حتى يقدم الغائب ».

لكن لا يخفى عليك أنه بعد فرض الحكم بذلك في النظير كما عرفت الكلام فيه في محله لا يقتضي ثبوت الحكم هنا كذلك ، ضرورة عدم انطباقه على الضوابط ، لأن القسامة إن كانت كالبينة في إثبات الحق ـ كما‌

٢٦٧

هو مقتضى ما سمعته سابقا من النص والفتوى وأن من مخالفتها للقواعد ثبوت الحق بيمين آخر وإن لم يكن شريكا معه فيه بناء على الاكتفاء بقسامة القوم دونه ـ فالمتجه حينئذ عدم احتياج الغائب إلى يمين مع فرض تصديقه الحاضر ، لحصول الخمسين المثبتة للحق في نفسه وإن كانت هي كذلك في حق خصوص المدعي دون غيره ، فالمتجه حينئذ حلف الآخر تمام الخمسين ، لعدم مدخلية ما وقع من الأول في إثبات حقه ، وأن ما وقع منه مقدمة منه ليأخذ نصيبه ، إذ لو حلف بعضا منها ولو أكثرها لم يثبت الحق ، ضرورة اتفاق النص والفتوى على أن المثبت تمامها دون البعض ، فلا تكفي الخمسين وعشرون للثاني ، كما لم تكن تكفي الأول.

واحتمال الفرق ـ أن إلزام الأول بالخمسين لاحتمال عدم حلف الآخر وعدم دعواه ، فتوقف إثبات نصيبه على تمام القسامة ، بخلاف الثاني الذي قد سبقه الأول بتمام القسامة إلا أنه قد كان لإثبات نصيبه فليس على الغائب إلا المقدار الذي عليه لو كان حاضرا مع الأول ـ كما ترى مناف لما يظهر من نصوص القسامة ، بل وما سلف من الفتاوى من أنها متى حصلت ثبت الحق لأهله من غير فرق بين الحالف منهم وغيره مع فرض كونه مدعيا ، وأنه لا يعتبر فيها حصول الأيمان منهم موزعة عليهم على قدر نصيبهم على وجه إن لم يحصل اليمين من بعضهم على قدر استحقاقه لم يثبت له حق ولا أن كل ذي حق منهم يحلف تمام الخمسين على وجه تبلغ ألف يمين أو أزيد الذي يمكن القطع بعدمه من النصوص والفتاوى.

ومن هنا احتمل الأردبيلي الاكتفاء بقسامة الحاضر في حق الغائب ، ولكن احتمل مع ذلك إلزامه بتمام الخمسين لإثبات حقه كالحاضر ، ولعله لأن دعواه غير دعوى الأول ، فلا بد له من الحلف تمام الخمسين كالأول ، إذ لا قسامة مثبتة للحق دون ذلك وإن كان في الأخير منافاة أيضا لما سمعته.

٢٦٨

اللهم إلا أن يدعى أن المتيقن من النص والفتوى الاكتفاء بالخمسين للمدعين دون من لم يدع منهم لصغر أو جنون أو غيبة ، فإنه حينئذ على دعواه ، وطريق إثباتها كاثبات غيرها بالبينة أو الإقرار أو القسامة اقتصارا في ما خالف عدم ثبوت حق لشخص بيمين آخر على خصوص المدعين دون غيرهم.

إلا أن هذا أيضا مناف لما سمعته منهم من حلف الغائب نصف القسامة إن كانوا اثنين ، أو ثلثها إن كانوا ثلاثة وكان الحاضر منهم واحدا والغائب اثنين ( اثنان خ ل ) وقد حضرا معا ، وإلا حلف الحاضر منهما خمسا وعشرين وأخذ حقه اكتفاء بما قسمة الأول ، ولاحتمال عدم حلف الآخر ، فان كان إجماعا كما يقضى به إرسال من تعرض له من الشيخ والفاضلين والشهيدين وغيرهم من الشارحين إرسال المسلمات فهو الحجة ، وإلا كان المتجه ثبوت الحق بالقسامة لكل مدع حاضر أو غائب ، بل وللصغير والمجنون مع قيام الولي عنهما بالدعوى ، بل لا يبعد كونها كالبينة بالنسبة إلى ذلك.

هذا وقد ألحق الفاضل وغيره الصبي والمجنون بالغائب. وإليه أشار المصنف بقوله ( و ) كذا ( لو كان أحدهما صغيرا ) وهو كذلك بناء على كون الحكم كذلك في الغائب ، نعم ينبغي تقييده بما إذا لم يدع الولي عنهما مع المدعين فتأمل.

ثم قال في كشف اللثام بعد تمام الكلام في المسألة على حسب ما سمعته من الأصحاب : « هذا إذا استوفى الحاضر حقه من الدية وأما إذا اقتص فلا يمين على الغائب إذا حضر ».

ولا ريب في عدم تمام إطلاقه ، ضرورة أن الغائب لا يخلوا إما أن يصدق الحاضر أو لا ، وعلى الأول إما أن يرضى بفعله أو لا ، فان لم‌

٢٦٩

يصدقه دفع المقتص إلى ورثة المدعى عليه الفاضل عن نصيبه ، وإن صدقه ورضي بفعله فيحتمل عدم القسامة عليه للورثة ، كما أنه ليس له حينئذ مطالبتهم ولا مطالبة أخيه بشي‌ء مع احتمال أن للورثة إلزامه باليمين أو مطالبة أخيه بنصيبه ، وإن صدقه ولم يرض بالقصاص كان له أن يحلف القسامة ويطالب أخاه أو الورثة بنصيبه أو يتخير في الرجوع على كل منهما ، فان رجع على الورثة رجعوا على أخيه ، وجوه ستعرف تحقيق الحال فيها ، وأن الأقوى منها الأول ، ولعل في عبارته سقطا ، لكن عثرت على نسخة الأصل فوجدته قد ألحق بما سمعته « إن اعترف به الحاضر ولم يأخذ نصيبه من الدية من تركة القاتل » والظاهر عدم وفائه بما ذكرنا ، والله العالم.

( ولو أكذب أحد الوليين صاحبه ) بأن قال : لم يقتله ، بل كان غائبا يوم القتل ، وإنما قتله فلان أو اقتصر على نفي القتل عنه أو قال : إنه بري‌ء من الجراحة ومات حتف أنفه ( لم يقدح ذلك في اللوث ، وحلف لإثبات حقه خمسين يمينا ) كما عن الخلاف والمبسوط والقواعد والمسالك وغيرها ، لعموم أدلة القسامة عند اللوث ، وإمكان كون كذب المكذب عن خطأ أو سهو أو عداوة أو غرض ، ولأنه لو منع التكذيب لاشتراط القسامة بعدمه ، فلا تصح إذا كان بعض الورثة غائبا أو صغيرا حتى يحضر أو يكمل فلا يكذب ، ولأنه كسائر الدعاوي التي لا تسقط بتكذيب أحد الوارثين حق الآخر منها ، إذ اللوث دلالة تنقل اليمين إلى حقية المدعي ، فتكذيب أحد الوارثين لا يمنع الآخر من اليمين ، كما لو ادعى أحد الوارثين دينا للمورث وأقام عليه شاهدا واحدا وكذبه الثاني ، فإن التكذيب لا يمنعه من أن يحلف مع شاهده.

لكن مع ذلك قد استشكل فيه الفاضل ، ولعله مما عرفت ومن أن‌

٢٧٠

إنكار الثاني يدل على أنه ليس بقاتل ، لأن النفوس مجبولة على الانتقام من قاتل المورث ، وإذا ذهب ظن القتل بطلت القسامة.

وبذلك يفرق بين المقام الذي مداره الظن وبين الحلف مع الشاهد ، بل وبين المكذب وبين الصغير والغائب وغيرهما ممن لم يكذب فان للمدعي أن يقسم اتفاقا ، إلا أنه كما ترى ، ضرورة عدم استلزام ذلك ذهاب الظن بعد ما سمعته من الاحتمالات المزبورة ، نعم ربما يذهب الظن في بعض المقامات ، وليس الكلام فيه ، إنما الكلام في الفرض من حيث التكذيب ، والأصح ما عرفت.

وحينئذ فلو قال أحدهما : قتل أبانا زيد وقال الآخر : بل عمرو أقسم كل واحد على من عينه بعد ثبوت اللوث ولو بالبينة على أن القاتل أحدهما ، وأخذ نصف الدية ، ولو قال أحدهما : قتله زيد وآخر : لا أعرفه وقال الأخر : قتله عمرو وآخر : لا أعرفه فلا تكاذب ، لاحتمال الآخر في الأول عمرا وفي الثاني زيدا ، ولكن يأخذ كل منهما ممن عينه ربع الدية بعد القسامة إن أوجبت الدية ، ولو قال الأول بعد ذلك : تبين لي أن الذي لم أكن أعرفه عمرو حلف وطالبه بربع آخر ، وكذا لو قال الثاني : تبين لي أن الذي لم أكن أعرفه زيد ، ولو قال كل منهما : تبين لي أن الآخر غير الذي ذكره أخي حصل التكاذب ، فان قلنا تبطل القسامة رد إلى كل واحد منهما ما أخذ منهما ، وإلا أقسم كل واحد منهما على من عينه ثانيا ، وأخذ منه ربع الدية حيث تكون هي الواجب.

ولو قال أحدهما : قتله هذا وحده وقال الثاني بل هذا مع آخر فعلى المختار من عدم الابطال حلف الأول على الذي عينه واستحق نصف الدية ، وحلف الثاني عليهما واستحق النصف : على كل واحد الربع.

نعم بناء على الابطال بالتكاذب يحتمل أن يقال : إنه حصل في‌

٢٧١

النصف فلا يستحقانه بالقسامة ، فيحلف الأول على الذي عينه ويأخذ الربع ويحلف الآخر عليه ويأخذ الربع ، ولا يحلف على الآخر ، لتكذيب الأخ له في شركته ، ويحتمل سقوط حكم اللوث من أصله كما إذا شهد لشخصين فردت شهادته لأحدهما سقطت الشهادة للآخر على وجه ، والله العالم.

( وإذا مات الولي ) قبل أن يحلف ( قام وارثه مقامه ) بلا خلاف ولا إشكال ، لانتقال الحق وحججه إليه كسائر الحقوق ( فان مات في أثناء الأيمان قال الشيخ رحمه‌الله : يستأنف الأيمان ، لأنه لو أتم لاثبت حقه بيمين غيره ) إذ الحق انتقل إليه بعد ما كان لمورثه ولم يكن شريكا له في الدعوى ، ولأن الخمسين كيمين واحدة ، ولو مات في أثنائها لزم الوارث استئنافها.

لكن قد يناقش ـ كما عساه يشعر به نسبة المصنف وغيره إليه ـ يمنع كون القسامة كاليمين الواحدة في جميع اللوازم ، ولذا توزع على جماعة ، ولا يجب الاستئناف لو تخلل الجنون ، وثبوت الحق بيمين الغير من شأن القسامة ، اللهم إلا أن يقال : إنها كذلك لكن الوارث لم يكن مستحقا إلا بعد موت المورث ، على أن الحق إذا كان للمقتول والورثة يحلفون بحكم الخلافة وضممنا إيمان بعضهم إلى بعض لإثبات حق الموروث فأولى أن يكمل يمين المورث في إثبات حقه بيمين الوارث.

نعم قد يقال : إن الثبوت بالقسامة على خلاف الأصل والمتيقن من دليلها غير الفرض ، ومن ذلك احتمل بعض اعتبار الموالاة فيها وإن كان إطلاق الأدلة يقتضي خلافه.

ولو مات بعد كمال العدد ثبت للوارث حقه من غير يمين.

وإذا مات من لا وارث له فلا قسامة ، لأن وارثه الامام عليه‌السلام

٢٧٢

وإحلافه كفر ، والله العالم.

( مسائل : )

( الأولى : )

( لو حلف ) المدعي ( مع اللوث واستوفى الدية ثم شهد اثنان أنه كان غائبا في حال القتل غيبة لا يتقدر ( لا يقتدر خ ل ) معها القتل ) أو مريضا أو محبوسا كذلك ففي القواعد وغيرها ( بطلت القسامة واستعيدت الدية ) تقديما للبينة على اللوث الذي هو أمر ظني ، بل في كشف اللثام « وكذا لو اقتص بالقسامة أخذت منه الدية ما لم يعترف بتعمد الكذب وإلا اقتص منه » نعم في المسالك « لو قال الشهود : لم يقتله هذا واقتصروا عليه لم تقبل شهادتهم ».

قلت : قد يناقش في أصل الحكم بأنه مناف لذهاب اليمين بما فيها ، كما في غير المقام من الدعاوي ، كما أنه قد يناقش في ما سمعته من المسالك بإطلاق ما دل على قبول شهادة العدلين وإن كانت هنا نفيا ، لاحتمال صدقها بما يرجع إلى إثبات وإن لم يذكراه فتأمل جيدا.

المسألة ( الثانية : )

( لو حلف واستوفى الدية ثم قال : هذه حرام ) سئل ( فإن فسره بكذبه في اليمين ) عمدا أو سهوا ( استعيدت منه ) الدية ( وإن فسره بأنه ) حنفي ( لا يرى القسامة لم ) يكن للمدعى عليه أن ( يعترضه ) بمطالبته بإعادة الدية ، لتقدم اجتهاد الحاكم على‌

٢٧٣

زعمه ، نعم لو ردها إليه باختياره أخذها منه.

( وإن فسر ) ذلك ( بأن الدية ليست ملكا للباذل فان عين المالك ألزم دفعها إليه ) مؤاخذة له بإقراره الذي هو حجة عليه نفسه ( و ) لذا ( لا يرجع على القاتل بمجرد قوله ) إلا إذا صادقة ، فإن له الرجوع عليه حينئذ كما لو ادعاها المالك وأقام بينة ( وإن لم يعينه ) ففي القواعد وغيرها ( أقرت في يده ) نعم في المسالك لو رأى الحاكم أخذها منه لأنه مال مجهول المالك جاز ، ولكن قد تقدم تحقيق الحال في ذلك في كتاب الإقرار (١) فلاحظ.

المسألة ( الثالثة : )

( إذا استوفى بالقسامة ) أو لم يستوف بعد أن حلفها ( فقال آخر : أنا قتلته منفردا قال ) الشيخ ( في الخلاف : كان الولي بالخيار ) بين البقاء على مقتضى القسامة وبين العمل على مقتضى الإقرار ( و ) قال ( في المبسوط : ليس له ذلك ، لأنه لا يقسم إلا مع العلم ، فهو مكذب للمقر ) ومقر بأنه لا يستحق عليه شيئا فكيف له أن يأخذ منه. وفي المسالك جعل محل البحث ما إذا صدقه ، وإلا فلا إشكال في عدم رجوعه عليه مع تكذيبه له.

وفيه أنه لا وجه للرجوع على الأول بعد تصديق الثاني في ما أقربه ، ضرورة اعترافه حينئذ بأن يمينه خطأ ودعواه باطلة ، وإن أريد بالتصديق العمل بمقتضى إقراره وإن لم يعلم صدقه ففيه أنه مناف لما وقع منه من‌

__________________

(١) راجع ج ٣٥ ص ٥٩ ـ ٦٣.

٢٧٤

الحلف المقتضي لعلمه بما حلف عليه ، وفرض عروض الشك له بعد الإقرار والإتيان بالقسامة يقتضي عدم الرجوع على الأول أيضا ، لأن الثابت من صحة القسامة الأخذ بها لمن هو باق على مقتضاها.

وفي المسالك بعد أن حكى عن الشيخ التخيير لليمين والإقرار قال : « وأجيب عن الأول بأن كذب الحالف ممكن ، وإكذابه إنما لم يسمع إذا تضمن إنزال ضرر بالغير لا بمجرد إقرار ذلك الغير ، وهنا لم يضرب الثاني بغير إقراره ، ولأنه لو أقر بقبض وديعته من المستودع فأنكر ثم رجع عن إقراره كان له مطالبة المستودع لاعترافه ، ولو أقر له بشي‌ء فأنكر تملكه ثم عاد وادعاه قبل ، فحينئذ لا تنافي بين الإقرار بالمنافي وبين الرجوع عنه ـ ثم قال : وفيه نظر ، لأن غاية هذا أن يجوز الرجوع على الثاني ، أما التخيير بمجرد الشهوة فلا ، نعم لو أكذب نفسه وأراد الرجوع على المقر ينبغي أن لا يمنعه الشارع ، لتمكين المقر له بإقراره كنظائره السابقة وغيرها ، وعلى التقديرين إذا أكذب نفسه وجب عليه رد ما أخذه من المحلوف عليه وإن لم نقل برجوعه على المقر ، لاعترافه بعدم استحقاقه شيئا على الأول » وقد تبع بذلك كله ما في غاية المراد ، ومرجعه في الحقيقة إلى عدم التخيير.

وفي كشف اللثام جعل التخيير بين أن يصدقه ويكذب نفسه وبين أن يكذبه ويثبت على ما كان عليه ، لأن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، فإذا أكذب نفسه فقد أقر بعدم استحقاق شي‌ء على الأول ، ولما أقر الثاني بالقتل أخذ بإقراره.

والجميع كما ترى مناف لظاهر التخيير المقتضى جواز رجوعه على كل منهما نحو البينتين والإقرارين ، وذلك لا يتم إلا إذا قلنا بعدم اعتبار الحلف من الولي وأن له الأخذ بوقوعها من قومه مثلا أو مع غيرهم ممن‌

٢٧٥

حلف من الأولياء ، فإنه حينئذ ليس بحالف ولا عالم ، وإنما له أمارتان يتخير في الأخذ بكل منهما ، نحو ما سمعته في الإقرارين والبينتين مع عدم الدعوى منه بمقتضى واحد منهما.

وعلى هذا يتجه ما في الخلاف ، كما أنه يتجه ما في المبسوط في خصوص الحالف العالم الذي هو مكذب للمقر بإقراره المستمر على ذلك ، وحينئذ لا خلاف بين الكتابين.

ونظيره يتفرع على ما عند العامة من جواز الحلف بالظن ، فإذا حلف وثبت حقه بالقسامة فأقر آخر كان له الرجوع على كل منهما ، لحصول الأمارتين له ، والفرض عدم علم له بما ينافي ، كما أنه لا إشكال في جواز الرجوع له على المقر بعد تكذيب نفسه ومصادقة المقر له على ذلك ، لأن الحق لا يعدوهما فتأمل جيدا.

المسألة ( الرابعة : )

( إذا اتهم ) رجل بالدم ( والتمس الولي ) الحاكم ( حبسه حتى يحضر بينته ففي إجابته تردد ) ولكن المحكي عن الشيخ وأتباعه والصهرشتي والطبرسي ذلك ، وتبعه الفاضل في القواعد وغيره ( ومستند الجواز ) ‌رواية السكوني (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ( « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحبس في تهمة الدم ستة أيام ، فإن جاء الأولياء ببينة ) ولفظ الخبر « أولياء المقتول » ( ثبتت وإلا خلى سبيلهم ) ولفظ الخبر « سبيله ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب دعوى القتل.

٢٧٦

( و ) لكن في ( المستند ( السكوني خ ل ) ضعف ) بالسكوني يمنع من العمل به في ما خالف أصل البراءة وغيره ، إذ هو تعجيل عقوبة لا مقتضي له ولذا كان خيرة الحلي والفخر وجده وغيرهم على ما حكي العدم.

وفي محكي المختلف « التحقيق أن نقول : إن حصلت التهمة للحاكم بسبب لزوم الحبس ستة أيام عملا بالرواية وتحفظا للنفوس عن الإتلاف ، وإن حصلت لغيره فلا عملا بالأصل » وفيه أنه خروج عن إطلاق الرواية.

كتقييد المصنف أصل الحكم بالتماس المدعي الخالي عنه لفظ الخبر بل وفتوى الشيخ ، نعم لو لم يرد حبسه لم يكن للحاكم ذلك ، ضرورة كون الحق له ، ولعل المصنف أخذ ذلك من اعتبار طلب ذي الحق في الأخذ له بحقه.

وعلى كل حال فلا يخلو العمل بالخبر المزبور هنا من قوة ، لاعتضاده بعمل من عرفت ، وحكاية الإجماع على العمل بأخبار الراوي المزبور الذي في غالب رواياته التوقيع عنه المؤيد بتتبع كثير من المقامات المنفرد في روايتها ، وبغير ذلك مما يقتضي السكون إلى رواياته ، وخصوصا في المقام المطلوب فيه الاحتياط والتحفظ.

بل عن الإسكافي الحبس سنة وإن لم نجد له شاهدا ، ويمكن قراءته بالتاءين لا بالنون ، فيكون موافقا للشيخ أيضا ، كالمحكي عن ابن حمزة من التقييد بالثلاثة ، فإنه لا شاهد له سوى القياس على التأجيل بها في غير المقام.

نعم الظاهر اختصاص الحكم بالقتل دون الجراح اقتصارا في ما خالف الأصل على المتيقن من الخبر المزبور ، بل لعله الظاهر منه بقرينة آخره وإن أطلق الدم في صدره ، والله العالم.

٢٧٧

( الفصل الرابع في كيفية الاستيفاء ) لكن لا بد أن يعلم أنه لا خلاف معتد به بيننا في أن ( قتل العمد يوجب القصاص لا الدية ) عينا قطعا بل ضرورة ، ولا تخييرا ، بل عن ابن إدريس نفي الخلاف فيه تارة ونسبته إلى الأصحاب أخرى والإجماع عليه ثالثة ، بل قال : « إنه ظاهر الكتاب (١) والمتواتر من الأخبار (٢) وأصول مذهبنا » وفي المبسوط أنه الذي نص عليه أصحابنا واقتضته أخبارهم ، بل عن الخلاف عليه إجماع الفرقة وأخبارهم ، بل في الغنية الإجماع عليه أيضا ، بل هو محصل ، إذ لم يحك الخلاف إلا عن العماني والإسكافي ، بل الأول منهما لا صراحة في كلامه فيه ، قال : « فان عفا الأولياء لم يقتل وكانت عليه الدية لهم » وهي محتملة للوجوب عليه حفظا للنفس لا التخيير كما ستعرفه ولذا اقتصر غير واحد على نسبة الخلاف فيه إلى الثاني ، وعبارة المقنعة والنهاية والمراسم وإن أوهم صدرها ذلك حتى توهمه بعض الناس فشدد النكير لكنها صريحة بعد ذلك في موافقة الأصحاب.

ويدل عليه ـ مضافا إلى ذلك ـ ظاهر قوله تعالى :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٩٤ وسورة المائدة : ٥ ـ الآية ٤٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب القصاص في النفس.

٢٧٨

( النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) (١). ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (٢) وغيرها من آيات القصاص الذي معناه فعل المماثل والنصوص المتواترة (٣) المتضمنة لوجوب القود من غير إشعار بالتخيير الذي مقتضى الأصل عدمه أيضا ، وخصوص المعتبرة التي منها‌ صحيح ابن سنان (٤) عن الصادق عليه‌السلام « من قتل مؤمنا متعمدا أقيد منه إلا أن يرضى أولياء المقتول أن يقبلوا الدية ، فإن رضوا بالدية وأحب ذلك القاتل فالدية اثنا عشر ألف » ‌الخبر.

وإلى قاعدة الإتلاف المقتضية للضمان بالمثل ، وغير ذلك مما لا يكافؤه النبويان اللذان لم نجدهما في طرقنا : أحدهما (٥) « من قتل له قتيل فهو بخير النظرين اما أن يفدى وإما أن يقتل » والثاني (٦) « من أصيب بدم أو خبل ـ والخبل الجراح ـ فهو بالخيار بين إحدى ثلاث : إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو » ‌الواجب تقييدهما بما عرفت في العقل والفداء على معنى وأراد القاتل ذلك ، كخبر العلاء بن الفضيل (٧) عن الصادق عليه‌السلام إنه قال : « والعمد هو القود أو يرضى ولي المقتول » ‌بل لعله ظاهر في إرادة وجوب القود أو تحصيل رضا الولي ، وهو لا نزاع فيه.

كما أنه لا إشكال في حمل المطلق المزبور على المقيد في صحيح‌

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ٤٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٩٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب القصاص في النفس.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب ديات النفس ـ الحديث ١٩ من كتاب الديات.

(٥) سنن البيهقي ـ ج ٨ ص ٥٢.

(٦) سنن البيهقي ـ ج ٨ ص ٥٣.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب ديات النفس ـ الحديث ١٣ من كتاب الديات.

٢٧٩

ابن سنان الذي سمعته خصوصا مع ملاحظة غلبة رضا الجاني بالدية إذا طلبها الولي.

وأما الاستدلال له بأن ولي الدم إذا رضي بالدية وأمكن القاتل دفعها كان ذلك ذريعة إلى حفظ نفسه فيجب عليه حفظها كما يجب اقتداؤها بالمال مع القدرة حيث يتوقف عليه مطلقا ففيه أولا أنه لا يقتضي ثبوت التخيير للولي أصالة بين القصاص والدية ، بل هو أمر آخر إن تم اقتضى وجوب بذل الزائد عليها ولو أضعافها مع القدرة ورضا الولي.

ومن هنا مال جماعة من أصحابنا المخالفين لابن الجنيد في القول المزبور إلى القول بوجوب البذل على الجاني ، كالفاضل وولده ، حيث قربا الوجوب ، بل عن الشهيد في الحواشي نفي البأس عنه تارة ، وفيه قوة أخرى ، بل حكاه عن ابن إدريس ، وفي اللمعة « وفي وجوبها على الجاني بطلب الولي وجه ، لوجوب حفظ نفسه » ونفي عنه البأس في الروضة وإن ظنه أنه قول ابن الجنيد ، لكنه اشتباه ، وظاهر المسالك القول به أو الميل إليه ، وعن الكركي أنه جيد ، ونفى عنه البعد في مجمع البرهان ، بل أطنب بعض مشايخنا في المفروغية من وجوب ذلك عليه عقلا ونقلا وجبره عليه وأكثر من نقل العبارات والأمارات ، إلا أنه بعد التأمل لم يأت بشي‌ء يعتد به.

بل ظاهر ما تسمعه من المصنف إن شاء الله والفاضل في القواعد والإرشاد أو صريحه بل وصريح التحرير عدم الوجوب ، بل هو الذي فهمه غير واحد من المشهور ، بل هو مقتضى الصحيح المزبور والأصل وغيره ، ولا دليل على وجوب حفظ النفس في المقام بعد تعلق حق الغير بها والأمر بإعطاء القصاص ، وعلى كل حال فالفرض أنه بعد تسليمه لا مدخلية له في ما ذكره ابن الجنيد من التخيير الأصلي للولي ، ضرورة‌

٢٨٠