جواهر الكلام - ج ٤٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وعلى كل حال ففي كشف اللثام حكاية العمل بها عن الشيخين والصدوقين وجماعة وإن كنا لم نتحقق الجماعة ، لأن المحكي عن الأتباع موافقة المشهور.

( و ) على كل حال فـ ( ـالوجه أن عمد الصبي خطأ محض يلزم أرشه العاقلة حتى يبلغ ) الصبي ( خمس عشرة سنة ) وفاقا لمن عرفت ، لما سمعت ، بل في المسالك « هذه الروايات مع ضعف سندها شاذة مخالفة للأصول الممهدة ، بل لما أجمع عليه المسلمون إلا من شذ فلا يلتفت إليها ».

كل ذلك مضافا إلى ما مر في الحجر من النص (١) والفتوى على عدم حصول البلوغ إلا بأماراته المعلومة التي يمكن حمل خبر السكوني (٢) على ما إذا وجد أحدها مع الخمسة ، بل وخبر العشر وإن كان نادرا ، بل هي كافية في رده إن كان مراد القائل تحقق البلوغ بالعشر وبالخمسة أشبار ، ضرورة قصورها عن تخصيصها بها من وجوه ، وإن كان المراد أنه صبي يقتص منه فقد عرفت قصورها عن تقييد ما دل (٣) على أن عمده خطأ من وجوه.

فمن الغريب وسوسة الأردبيلي في الحكم المزبور ، من تخصيص القرآن الكريم والأخبار المتواترة بالإجماع وأخبار الآحاد ، مع أن بناء الفقه عليه ، ومن احتمال اختصاص حديث (٤) رفع القلم بغير القصاص الذي قد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من كتاب الحجر.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب العاقلة من كتاب الديات.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٢ والباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ الحديث ١١.

١٨١

يقال : إنه من القلم الوضعي الذي لم يرفع عن الصبيان ، ولذا يضمن لو أتلف مال الغير ، ومن احتمال الجمع بين النصوص بحمل ما دل على الاقتصاص منه في صورة القصد ، وحمل ما دل على عدمه على صورة عدم القصد ، والكل كما ترى كاد يكون خرافة بعد ما عرفت.

وأغرب من ذلك أنه غير موافق لما هو المعلوم من احتياطه وتقدسه المانعين من التهجم على الدماء بمثل ذلك ، خصوصا بعد عدم الموافق له على ما ذكره من القصاص من الصبي مطلقا.

نعم في كشف اللثام « أطلق ابن زهرة أن ظاهر القرآن الاقتصاص من الصغير » والموجود في غنيته « ومنها ـ أي شروط القصاص ـ : أن يكون القاتل بالغا كامل العقل ، فان حكم العمد ممن ليست هذه حاله حكم الخطأ بدليل إجماع الطائفة ، ومنها : أن لا يكون المقتول مجنونا بلا خلاف ، ومنها : أن لا يكون صغيرا على خلاف بينهم ، وظاهر القرآن يقتضي الاستفادة به » ونحوها عن عبارة السرائر ، وهما صريحان في خلاف ذلك ، وإنما استند إلى ظاهر القرآن فيما إذا قتله البالغ ، لا فيما إذا قتل غيره.

وأما صحيح أبي بصير (١) ـ المتقدم في مسألة اشتراك الرجل والمرأة في القتل المتضمن أن خطأ المرأة والغلام عمد جواب السؤال عن الغلام لم يدرك وامرأة قتلا رجلا ـ فهو محمول على قضية في واقعة يعلم الامام عليه‌السلام حالها وأن الغلام فيها مدرك ، وأنهما تعمدا القتل ، أو غير ذلك.

وبالجملة فالمسألة خالية من الاشكال على وجه لا يشكلها أمثال هذه النصوص المحتملة وجوها عديدة مع شذوذها والاعراض عنها ، نعم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ١.

١٨٢

ما عن التحرير من اشتراط الرشد مع البلوغ لا وجه له ، إلا أن يريد به كمال العقل لا الرشد بالمعنى المصطلح ، والله العالم.

( فرع : )

( لو اختلف الولي والجاني بعد بلوغه أو بعد إفاقته فقال ) ولي المجني عليه ( قتلت وأنت بالغ أو أنت عاقل فأنكر ) وقال : قتلته وأنا صبي أو قبل الإفاقة وكان ذلك ممكنا ( فالقول قول الجاني مع يمينه ) بلا خلاف أجده بين من تعرض له ( لأن الاحتمال متحقق ، فلا يثبت معه القصاص ) المنافي لأصل إبراءه ، والمتوقف على حصول شرطه ، وهو البلوغ والعقل ، والفرض عدم معلوميتهما ( و ) لكن ( تثبت ) فيه ( الدية ) في مالهما ، للاعتراف بالقتل الذي يمضي في حقهما دون العاقلة.

ولا فرق في ذلك بين الجهل بالتأريخ وبين العلم بتاريخ أحدهما والجهل بالآخر ، كما هو مقتضى إطلاق الأصحاب في المقام وفي غيره من نظائره ، وهو مما يؤيد ما ذكرناه غير مرة من عدم اعتبار تأخر مجهول التأريخ عن معلومه ، فيحكم حينئذ بالقصاص مع فرض الجهل بتأريخ البلوغ والإفاقة ، وفرق واضح بين المقام وبين التداعي في البيع ونحوه مما كان فيه دعوى الفساد بعد الاعتراف بالبيع من تعقيب الإقرار بالمنافي.

نعم لو لم يعهد للقاتل حال جنون فادعاها كان القول قول المدعي ، لأن الأصل السلامة ، ولعله لذا قال المصنف وغيره : « بعد إفاقته » لكن ومع ذلك في المسالك احتمال تقديم قول الجاني أيضا ، لقيام الاحتمال المانع من التهجم على الدماء. وفيه أن مثله أيضا لا يبطل به دماء المسلمين.

١٨٣

وكأن التقييد في المتن بما بعد البلوغ احتراز عما لو قال القاتل أنا صغير فعلا وكان ممكنا ، فان القول قوله أيضا ، لكن بدون يمين ، لعدم إمكان تحليفه ، لأن التحليف لإثبات المحلوف عليه ، ولو ثبت صباه بطلت يمينه ، فما عن الشهيد من احتمال تحليفه أو القول به واضح الضعف ، بل الظاهر تأخر إثبات الدية إلى زمن العلم ببلوغه ، فان مضى على الإقرار أخذت منه وإلا فلا ، والله العالم.

( ولو قتل البالغ الصبي قتل به على الأصح ) وفاقا للمشهور نقلا وتحصيلا ، بل في المسالك هو المذهب وفي محكي السرائر هو الأظهر بين أصحابنا والمعمول عليه عند المحصلين منهم ، بل لم أجد فيه خلافا بين المتأخرين منهم ، بل ولا بين القدماء عدا ما يحكى عن الحلبي من عدم قتله به ، وهو مع أنه مناف لعموم الأدلة وخصوص‌ مرسل (١) المنجبر بما عرفت « كل من قتل شيئا صغيرا أو كبيرا بعد أن يتعمد فعليه القتل » ‌قال في كشف اللثام : لم نظفر له بمستند ، والحمل على المجنون قياس ، ولا دليل على أنه يقتص من الكامل للناقص ( و ) إن كان قد يناقش بما تسمعه في صحيح أبي بصير (٢) نعم هو قاصر عن معارضة ما عرفت من وجوه فيحمل على خصوص المجنون.

نعم ( لا يقتل العاقل بالمجنون ) حال قتله بلا خلاف أجده فيه ، كما عن الغنية وغيرها الاعتراف به ، بل في كشف اللثام نسبته إلى قطع الأصحاب ، بل عن كشف الرموز الإجماع عليه ، وهو الحجة بعد‌ صحيح أبي بصير (٣) « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل قتل رجلا مجنونا ، فقال : إن كان المجنون أراده فدفعه عن نفسه فقتله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ١.

١٨٤

فلا شي‌ء عليه من قود ولا دية ، ويعطى ورثته الدية من بيت مال المسلمين قال : وإن كان قتله من غير أن يكون المجنون أراده فلا قود لمن لا يقاد منه ، وأرى أن على قاتله الدية في ماله يدفعها إلى ورثة المجنون ، ويستغفر الله عز وجل ويتوب إليه ».

وفي‌ خبر أبي الورد (١) « قلت لأبي عبد الله وأبي جعفر عليهما‌السلام : أصلحك الله رجل حمل عليه رجل مجنون بالسيف فضربه المجنون ضربة فتناول الرجل السيف من المجنون فضربه وقتله ، قال : أرى أن لا يقتل به ولا يغرم ديته ، وتكون ديته على الامام ».

وبالجملة فالحكم مفروغ منه ولو كان القاتل أدواريا فقتل حال عقله آخر كذلك لكن حال جنونه عملا بإطلاق النص والفتوى وإن كان لا يخلو من نظر.

( و ) على كل حال فلا خلاف في أنه حال سقوط القود ( يثبت على القاتل الدية إن كان عمدا أو شبيها بالعمد ، وعلى العاقلة إن كان خطأ محضا ) بل ( و ) لا إشكال.

نعم ( لو قصد العاقل دفعه ) وكان متوقفا على قتله ( كان هدرا ) لا قصاص ولا دية على القاتل ولا على عاقلته بل ولا غيرهم كما عن النهاية والمهذب والسرائر وكشف الرموز والتنقيح والمقتصر وروض الجنان ومجمع البرهان وغيرها ، بل عن غاية المرام أنه المشهور للأصل ( و ) فحوى نصوص الدفع (٢) ، لكن قد سمعت ما ( في رواية ) أبي بصير (٣) من أن ( ديته في بيت المال ) وعن المفيد والجامع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب القصاص في النفس.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ١.

١٨٥

الفتوى به ، ولعله لا يخلو من وجه بناء على انسياق نصوص (١) الدفع لغيره من المحارب الظالم ، فلا معارض للصحيح إلا الأصل المقطوع به ، بل يمكن تخصيص نصوص الدفع (٢) بناء على شمولها به أيضا ، ولا ينافيه خبر أبي الورد (٣) بعد حمله على الدفع ، لإمكان إرادة على الإمام تأديته من بيت المال منه ، واحتمال العكس وإن كان ممكنا أيضا إلا أن إرجاعه إلى الصحيح أولى منه ، خصوصا بعد عدم قائل به ، والله العالم.

( وفي ثبوت القود على السكران ) الآثم في سكره ( تردد ) وخلاف ( و ) لكن ( الثبوت أشبه ) وفاقا للأكثر ، كما في المسالك ، بل قد يظهر من غاية المراد نسبته إلى الأصحاب مشعرا بالإجماع عليه ، بل في الإيضاح دعواه صريحا عليه ناسبا له مع ذلك إلى النص ، ذكر ذلك في مسألة شارب المرقد والمبنج.

ولعله أراد بالنص‌ خبر السكوني (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كان قوم يشربون فيتباعجون بسكاكين كانت معهم ، فرفعوا إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فسجنهم فمات منهم رجلان وبقي رجلان ، فقال : أهل المقتولين : يا أمير المؤمنين أقدهما بصاحبينا ، فقال علي عليه‌السلام للقوم : ما ترون؟ قالوا : نرى أن تقيدهما ، قال علي عليه‌السلام : فلعل ذينك اللذين ماتا قتل كل واحد منهما صاحبه ، قالوا : لا ندري ، فقال علي عليه‌السلام : بل أجعل دية المقتولين على قاتل الأربعة ، وآخذ دية جراحة الباقين من دية المقتولين » ‌فان‌ قوله عليه‌السلام : « فلعل » ‌إلى آخره ، ظاهر في المفروغية عن كون القود عليهما لو فرض‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب القصاص في النفس.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب القصاص في النفس.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب موجبات الضمان ـ الحديث ٢ من كتاب الديات.

١٨٦

العلم بأن الباقين قتلا هما.

ولعله ( لـ ) ـذا قال الشيخ وغيره ( إنه كالصاحي في تعلق الأحكام ) مؤيدا بكونه ممنوعا من ذلك أشد المنع ، فهو حينئذ من الجارح عن الاختيار بسوء اختياره المعامل معاملة المختار في إجراء الأحكام حتى طلاق زوجته وغيره من الأحكام ، وإنما قضى عليه في الأربعة بما ذكره لعدم العلم بالحال ، كصحيح محمد بن قيس (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام « قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في أربعة شربوا فسكروا فأخذ بعضهم على بعض السلاح فاقتتلوا ، فقتل اثنان وجرح اثنان ، فضرب كل واحد منهم ثمانين جلدة ، وقضى بدية المقتولين على المجروحين ، وأمر أن يقاس جراحة المجروحين فيرفع من الدية ، وإن مات أحد المجروحين فليس على أحد من أولياء المقتولين شي‌ء ».

ولكن مع ذلك كله في المسالك لعل الأظهر عدم القصاص وفاقا للفاضل في الإرشاد بل والقواعد وإن قال : على إشكال مما عرفت من انتفاء العمد والاحتياط في الدم ، إلا أن الأقوى ما عرفت ، نعم لا قود عليه لو كان السكر بعذر شرعي ، للأصل بعد انتفاء القصد المعتبر ، هذا كله في السكران.

( أما من بنج نفسه ) بما لا يعد مسكرا ( أو شرب مرقدا ) كذلك ( لا لعذر فقد ألحقه الشيخ بالسكران ) في ثبوت القصاص عليه ، بل عنه أيضا إلحاق شارب الأدوية المبنجة بغير عذر ، كل ذلك للتساوي في زوال القصد بالاختيار لا لعذر ، ووافقه الفخر في الإيضاح.

( و ) لكن ( فيه تردد ) بل منع ، لعدم الدليل على الإلحاق بعد فرض عدم صدق السكران على شي‌ء منهم وإمكان الفرق‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب موجبات الضمان ـ الحديث ١ من كتاب الديات.

١٨٧

بشدة التوعد عليه دون غيره.

وكيف كان فلا خلاف ( و ) لا إشكال نصا (١) وفتوى في أنه ( لا قود على النائم ) بل الإجماع بقسميه عليه ( لعدم القصد ) الذي يدرجه في اسم العمد ( وكونه معذورا في سببه و ) لكن ( عليه الدية ) في ماله عند الشيخين ويحيى بن سعيد والفاضل على ما حكي عن بعضهم ، بل عن السرائر نسبته إلى أصحابنا ، قال : « لأنهم جميعا يوردونه في ضمان النفوس ، وذلك لا تحمله العاقلة بلا خلاف » لأنه شبيه عمد ، وللمرسل (٢) المنجبر بما سمعت ، ولأصالة الضمان على المتلف دون غيره ، وعلى العاقلة عند أكثر المتأخرين ، بل قيل : عامتهم حتى المصنف في كتاب الديات ، لأنه خطأ محض في الفعل والقصد.

هذا كله في النائم غير الظئر ، وأما هي ففيها أقوال ثلاثة : ثالثها التفصيل من الأظئار للفخر والعزة وبينه للحاجة ، فالأول في مالها ، والثاني على العاقلة ، وتمام الكلام في ذلك كله في كتاب الديات إن شاء الله.

( وفي الأعمى تردد ) وخلاف ( أظهره ) عند المصنف وأكثر المتأخرين ( أنه كالمبصر في توجه القصاص بعمده ) للعمومات ( و ) لكن ( في رواية الحلبي ) (٣) ( عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن جنايته خطأ تلزم العاقلة ) ‌قال : « سألته عن رجل ضرب رأس رجل بمعول ، فسالت عيناه على خديه فوثب المضروب على ضاربه فقتله ، فقال عليه‌السلام : هذان متعديان جميعا ، فلا أرى على الذي قتل الرجل قودا ، لأنه قتله حين قتله وهو أعمى ، والأعمى جنايته خطأ تلزم عاقلته يؤخذون‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ الحديث ١١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب العاقلة ـ الحديث ١ من كتاب الديات.

١٨٨

بها في ثلاث سنين في كل سنة نجما ، فان لم يكن للأعمى عاقلة لزمته دية ما جنى في ماله يؤخذ بها ثلاث سنين ، ويرجع الأعمى على ورثة ضاربه بدية عينيه ».

وعن أبي علي والشيخ والصهرشتي والطبرسي وابني البراج وحمزة بل والصدوق في ظاهره العمل بها ، بل في غاية المراد هذا القول مشهور بين الأصحاب ، وبه هذا الأثر ، فجاز مخالفة الأصل له ، وعن ثاني الشهيدين في روض الجنان موافقته على ذلك.

ويؤيده أيضا‌ خبر أبي عبيدة (١) عن الباقر عليه‌السلام « سألته عن أعمى فقأ عين رجل صحيحة متعمدا ، فقال : يا أبا عبيدة إن عمد الأعمى مثل الخطأ ، هذا فيه الدية من ماله ، فان لم يكن له مال فإن دية ذلك على الامام ، ولا يبطل حق المسلم ».

ولكن في المسالك « هاتان الروايتان مشتركتان في الدلالة على أن عمد الأعمى خطأ وفي ضعف السند ، ومختلفتان في الحكم ، ومخالفتان للأصول ، لاشتمال الأولى على كون الدية تجب ابتداء على العاقلة ومع عدمها تجب على الجاني ، وهذا مخالف لحكم الخطأ ، وفي الثانية مع جعله الجناية كالخطإ أوجب الدية على الجاني ، ومع عدم ماله على الامام ولم يوجبها على العاقلة ـ ثم قال ـ : إنها ليست صريحة في مطلوبهم أيضا ، لجواز كون قوله « خطأ » حالا ، والجملة الفعلية ، بعده الخبر ، وإنما يتم استدلالهم بها على تقدير جعله مرفوعا على الخبرية ، وأما نصب « خطأ » على التمييز ـ كما فعله بعضهم ـ فهو خطأ واضح ».

وعن المختلف الجواب عن الرواية الأولى بالحمل على قصد الدفع ، وفيه ـ مع أنه مناف لظاهر الترتيب ـ أنه مخالف لما فيه من إلزام العاقلة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ١.

١٨٩

الدية ، بل لا شي‌ء فيه حينئذ ، كما أن في احتمال النصب منافاة لقوله عليه‌السلام : « هذان متعديان » وللاستدلال ، بل ولقوله : « فوثب المضروب ».

بل لعل المناقشة في السند ضعيفة ، لأن الأولى رواها في الفقيه عن العلاء بن رزين عن الحلبي ، وطريقه إليه صحيح ، والثانية موثقة بعمار ، واختلافهما في الخارج عن موضوع المسألة غير ضائر ، خصوصا بعد اتفاق القائلين على أنه على العاقلة عدا الصدوق في ظاهره ، لأنه روى رواية الحلبي ، ومقتضاه ـ إن كان باقيا على ما قدمه في كتابه من العمل بما يرويه فيه ـ العمل به ، وعلى تقديره فهو شاذ لأن المعروف بين القائلين كونه على العاقلة كعمد الصبي والمجنون ، وعلى كل حال لا قدح في الرواية من هذه الجهة.

ودعوى عدم صلاحية أخبار الآحاد وإن صحت لتخصيص الكتاب قد ذكرنا فسادها في الأصول ، ولكن الانصاف مع ذلك كله عدم الجرأة بها على تخصيص العمومات بعد مخالفة المتأخرين واحتمال إرادة أن الأعمى غالبا لا يعلم تعمده إلا بإقراره منها ، والله العالم.

( الشرط الخامس : )

( أن يكون المقتول محقون الدم احترازا عن المرتد بالنظر إلى المسلم ، فان المسلم لو قتله لم يثبت القود ) وإن أثم بعدم الاستئذان ممن إليه القتل ، بل وإن تاب وكان مرتدا عن فطرة وقلنا بقبول توبته وبقي القتل عليه حدا.

( وكذا ) الزاني واللائط وغيرهما من ( كل من أباح الشرع

١٩٠

قتله ) حدا ، لكن قد عرفت البحث في ذلك (١) وفي غيره ممن حده القتل بالنسبة للمسلم والكافر وإن كان ظاهر المصنف هنا اختصاص ذلك بالمسلم دون الكافر.

ولذلك في كشف اللثام ـ بعد أن ذكر الشرط المزبور وهو كون المقتول معصوم الدم مفرعا عليه عدم القصاص من المسلم من كل من أباح الشرع قتله ـ قال : « وهذا أحد الوجهين في المسألة ، وقد مر خلافه في بعض الصور ».

ولكن في الرياض « والأصل في هذا الشرط ـ بعد الإجماع الظاهر المصرح به في كثير من العبائر كالغنية والسرائر ـ الاعتبار والمعتبرة المستفيضة التي كادت تبلغ التواتر ، ففي الصحيح وغيره (٢) « عن رجل قتله القصاص له دية ، فقال : لا لو كان ذلك لم يقتص من أحد ، وقال : من قتله الحد فلا دية له » ‌وبمعناهما كثير من المعتبرة ، ونحوها‌

النصوص (٣) الواردة في إباحة الدفاع وقتل المحارب ».

قلت : لا إشكال ولا خلاف في عدم القصاص بقتل مثل هؤلاء الذي أشار إليه المصنف وغيره بقوله ( ومثله من هلك بسراية القصاص أو الحد ) وقد سمعت النصوص (٤) الواردة فيها وفي المقتول دفاعا ، بل وساب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي قد ورد إهدار دمه لكل من سمعه بل والأئمة عليهم‌السلام (٥) ما لم يخش الفتنة من قتل‌

__________________

(١) راجع ص ١١ ـ ١٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ١ بطريقين.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب القصاص في النفس.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ و ٢٢ ـ من أبواب القصاص في النفس.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب حد القذف من كتاب الحدود.

١٩١

بري‌ء ونحوه.

إنما الكلام في من كان عليه القتل حدا كالزاني المحصن واللائط والمرتد عن فطرة ولو بعد التوبة يسقط القصاص عن قاتله المسلم أو مطلقا ، وليس في شي‌ء مما وصل إلينا من النصوص تعرض لذلك فضلا عن تواترها ، نعم ظاهر الأصحاب الاتفاق على ذلك بالنسبة للمسلم ، وقد تقدم الكلام في ذلك ، والله العالم.

( الفصل الثالث في دعوى القتل وما يثبت به ) ولكن قد تقدم في كتاب القضاء (١) البحث في اعتبار الجزم بالدعوى واقعا أو إبرازا ، كما أنه لا خلاف ( و ) لا إشكال في أنه ( يشترط في المدعي البلوغ ) لسلب عبارة غير البالغ ، بل في المتن وغيره ( والرشد ) بل لا أجد خلافا بينهم فيه ، وهو لا يخلو من وجه لو كان متعلق الدعوى مما حجر عليه فيه ، أما لو كانت قصاصا مثلا فالظاهر صحة دعواه به ، لعدم الحجر عليه فيه ، نعم لو أراد الصلح عليه بمال اعتبر إذن الولي ، بل قد يقال بصحة دعواه في ما يتعلق بالمال منه وإن كان لا يدفع إليه ولا يقع الصلح معه ، ضرورة عدم اقتضاء الحجر عليه أزيد من التصرف في المال.

__________________

(١) راجع ج ٤٠ ص ١٥٣ ـ ١٥٧.

١٩٢

اللهم إلا أن يقال : إن الدعوى به نوع تصرف فيه ، إذ قد يتوجه عليه اليمين مثلا فينكل عنه ، فلا تصح منه ، بل ولا في القصاص الذي قد يؤول إلى المال ، ولعل ذلك هو الوجه في إطلاق المنصف وغيره اعتباره في المدعي كالبلوغ ، ولكن الانصاف عدم خلو الإطلاق مع ذلك من إشكال ، خصوصا بعد ما تسمعه من صحة الدعوى عليه به.

أما المدعي عليه فلا يشترط فيه شي‌ء منهما عندنا ، بل ولا العقل ، فلو ادعى على مجنون أو طفل صحت ، وتولى الحكومة الولي ، وترتب عليه الأثر من دية أو قصاص خلافا للعامة ، فاشترطوا فيه البلوغ والعقل.

وأولى من ذلك صحتها على السفيه المصرح بها في القواعد وغيرها لكماله وصلاحيته للخطاب ، نعم قال فيها : « ويقبل إقراره بما يوجب القصاص لا الدية ، ولو أنكر صح إنكاره لإقامة البينة ، ويقبل يمينه وإن لم يقبل إقراره ، لانقطاع الخصومة بيمينه » وهو صريح في صحة الدعوى عليه حتى بالمال ، إلا أنه يصح إنكاره لأجل إقامة البينة عليه إن كانت ، وتقبل يمينه إن حلف ، وتنقطع الخصومة به وإن لم يقبل إقراره بل ولا رد اليمين بناء على أنه كالإقرار منه.

ومن هنا قال في كشف اللثام : « إن نكل فان جعلنا اليمين المردودة كالإقرار لم يصح الرد هنا ، وإن جعلناها كالبينة ردت ، فإذا حلف المدعي فكأنه أقام بينة ، وللعامة قول بعدم عرض اليمين بناء على أنه قد ينكل ، فلا يمكن الرد لكون اليمين المردودة كالإقرار » وظاهره المفروغية من الحكم عندنا ، ومن ذلك يتوجه ما سمعته سابقا من صحة الدعوى منه أيضا.

وكيف كان فالمراد من اعتبار ما سمعته في المدعي ( حالة الدعوى دون وقت الجناية ) فلو كان صبيا أو مجنونا حالة القتل صحت عند الكمال ( إذ قد تتحقق صحة الدعوى بالسماع المتواتر ) مثلا إن‌

١٩٣

اعتبرنا الجزم فيها وإلا لم يحتج إليه.

نعم لا خلاف ( و ) لا إشكال في إنه يعتبر في صحتها ( أن يدعي على من يصح منه مباشرة الجناية ، فلو ادعى على غائب ) وقت الجناية أنه القاتل ( لم يقبل ) للعلم بكذبها ( وكذا لو ادعى على جماعة يتعذر اجتماعهم على قتل الواحد كأهل البلد ).

( و ) لكن مع ذلك ( تقبل دعواه لو رجع إلى الممكن ) ولو بأن يفسر قتل الغائب بإرسال سم إليه ونحوه ، وقتل أهل البلد بقتل الواحد بينهم مع عدم دفعهم عنه أو بغير ذلك ، لإطلاق ما يقتضي صحة دعواه الثانية من‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « البينة على المدعي » ‌

وغيره كما هو واضح.

( و ) كذا لا خلاف ولا إشكال في أنه ( لو حرر الدعوى بتعيين القاتل وصفة القتل ونوعه سمعت دعواه ) فلو ادعى على جماعة مجهولين لم تسمع. ( وهل تسمع منه مقتصرا على مطلق القتل ) من دون ذكر صفته التي هي المباشرة والتسبيب ونحوهما ولا نوعه من العمد والخطأ وشبه العمد؟ ( فيه تردد ) وخلاف ( أشبهه ) عند المصنف ( القبول ) كما تسمع تحقيقه في المسألة الثانية إن شاء الله.

( ولو قال : قتله أحد هذين ) مثلا من دون تعيين لأحدهما بل قال : لا أعرفه عينا وأريد يمين كل واحد ( سمع ) وفاقا للفاضل وولده والشهيدين وأبي العباس والأردبيلي على ما حكي عن بعضهم ( إذ لا ضرر ) عليهما ( في إحلافهما ) مع حصوله عليه بالامتناع ، ولزوم إهدار المسلم ، ولأنه طريق يتوصل به إلى معرفة القاتل واستيفاء الحق منه ، ولأن القاتل يسعى في إخفاء القتيل كي لا يقصد ولا يطالب ، وتعسر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٥ من كتاب القضاء.

١٩٤

معرفته على الولي لذلك ، فلو لم تسمع دعواه هكذا لتضرر ، وهما لا يتضرران باليمين الصادقة ، إلا أن الجميع كما ترى لا يقتضي استحقاق السماع على وجه يترتب عليه استحقاق اليمين.

نعم لو قلنا بحصول اللوث بالنكول أمكن ذلك ، نحو ما ذكره المصنف ( و ) غيره من أنه ( لو أقام بينة ) على أن أحدهما القاتل ( سمعت لإثبات اللوث إن لو خص الوارث أحدهما ) بعد ذلك ، كما صرح به غير واحد ، فتثبت الدعوى حينئذ باليمين ، كما تسمعه في محله إن شاء الله ، لكن مقتضاه أنه لو لم يعينه بعد ذلك لم تكن فائدة لها ، فإنه لا يثبت الحق عليهما ولا على أحدهما بخصوصه ، كما صرح به في المسالك ، بل هو ظاهر غيره أيضا.

لكن في كتاب بعض المعاصرين « فتثبت الدية عليهما موزعة أو بالقرعة » بل قال فيه أيضا : « إنه معها لا تسمع منهم اليمين حينئذ ، لأنهم قد يحلفون جميعا فيكذبون البينة » ثم احتمل الحلف من كل منهم وأنه لا تكذيب فيه ، فإنه يحلف على براءة ذمته لا ذمة صاحبه.

وما أدري ما الوجه في ما ذكره أولا من الإلزام بالدية مع حلفهم أو عدمه؟! وكأن هذا الوهم نشأ عليه من مسألة اليمين إذا نكلا معا أو أحدهما ، فإنه قال بلزوم الدية ، ولكن هل يقرع بينهم أو يوزع؟ احتمالان ، والأظهر الثاني ، ولا يثبت بذلك إلا الدية وإن كانت الدعوى العمد ، لأنه لا يعلم القاتل ، ثم احتمل القصاص من الناكل إذا كان أحدهما ، وإن نكلا معا كان الولي بالخيار ، كما في صورة تعدد القاتل.

وجميعه كما ترى لا يستأهل أن يسود به الأوراق ، خصوصا ما ذكره أخيرا ، ضرورة الفرق بين الشركاء في القتل وبين المقام ، حتى لو قال المدعي : إن القاتل له إما أحدهما أو مجموعهما.

١٩٥

ومن ذلك يعلم أنه لا حكم لنكولهما إلا اللوث بناء على ترتبه عليه ، وكذا لو كان الناكل أحدهما خاصة فحلف المدعي أن القاتل أحدها ، بل لو أقر بأن القاتل واحد منا ولا نعلمه بعينه ، لأن كل واحد منا رماه ببندقة مثلا ولم تصبه إلا واحدة منها لا نعلمها أو قامت بينة بذلك لم يجب قصاص ولا دية ، وفرق واضح بين المقام وبين قيام بينتين على شخصين الذي قيل فيه : إنهم ذكروا توزيع الدية عليهما عملا بالبينة ، ضرورة اقتضاء كل منهما وجوبها على معين ولا ترجيح ، فليس إلا التوزيع ، كقسمة العين بالنصف بين المتداعيين عند تعارض البينتين ، فتأمل جيدا.

بل لعل المتجه بناء على ما ذكرناه عدم سماع الدعوى المزبورة إلا بالبينة بناء على عدم حصول اللوث بالنكول ، ضرورة عدم ترتب أثر حينئذ للنكول ، اللهم إلا أن يراد الإلزام باليمين ، كدعوى التهمة بناء على قبولها التي ليس للمدعي فيها أخذ المال من المتهم بنكوله إلا أن يقر ، أو قلنا يقضى به عليه مطلقا حتى في دعوى التهمة على وجه يكون المال عوضا عن النكول عن حق اليمين ، فهو حينئذ من المباح شرعا على هذا الوجه لا على عوض المال المدعى به ، لكنه كما ترى دون إثباته خرط القتاد ، وقد تقدم الكلام في كتاب القضاء (١).

بل لعل الظاهر عدم كون المقام من دعوى التهمة ، فإن الفرض إبراز المدعي الجزم بكون القاتل أحدهما ، وكونها تنحل إلى إبهام كل منهما لا يقتضي إجراء حكم دعوى التهمة. ومن هنا يتجه القبول في المقام وإن قلنا بالعدم في دعوى التهمة.

بقي شي‌ء : وهو أن الفاضل في القواعد بعد أن ذكر سماع الدعوى في المقام والبينة قال : « وكذا دعوى الغصب والسرقة ، أما القرض‌

__________________

(١) راجع ج ٤٠ ص ١٥٣ ـ ١٥٧.

١٩٦

والبيع وغيرهما من المعاملات فإشكال ينشأ من تقصيره بالنسيان ، والأقرب السماع أيضا » وتبعه عليه غيره.

وفيه أنه لا لوث في المقام ، فالبينة على أن زيد الغاصب أو عمرو لا فائدة فيها ، اللهم إلا أن يقال : إن فائدتها انحصار الحق في أحدهما بالخصوص لو علم بعد ذلك براءة أحدهما ولو باعتراف الآخر بناء على الاكتفاء به في مثل ذلك ، إلا أنه كما ترى شك في شك.

وكذا لو نكلا أو أحدهما عن اليمين وحلف المدعي على أن أحدهما الغاصب ، فإنه ليس له على كل واحد منهما بالخصوص سبيل ، لأصل براءة ذمته ، ويحتمل أن يريد أصل سماع الدعوى بحيث يتوجه اليمين على كل منهما نحو يمين دعوى التهمة ، فتأمل جيدا.

( مسائل : )

( الأولى )

( لو ادعى ) على شخص مثلا ( أنه قتل مع جماعة لا يعرف عددهم ) فان كان ذلك منه على وجه لا يتصور اجتماعهم على القتل لم تسمع للعلم بكذبها وإن لم يكن كذلك إلا أنه لم يحصرهم ، فان ادعى قتلا يوجب الدية ( سمعت دعواه ) وإن لم يثبت على المدعى عليه شي‌ء معين ، ضرورة توقف ذلك على معرفة عدد الشركاء والفرض عدمه ، فليس حينئذ إلا الصلح.

بل ( و ) كذا لو كانت الدعوى القتل عمدا فإنه ( لا يقضي بالقود ولا بالدية ) لتوقف الأول على رد ما فضل من ديته عن جنايته ،

١٩٧

وهو موقوف على معرفة عدد الشركاء ، نعم يتجه ذلك بناء على ما يحكى عن بعض العامة من استحقاق القتل مع الاشتراك بغير رد ، فيثبت حينئذ القود ، ولكنه معلوم الفساد عندنا نصا (١) وفتوى ، كذا قيل.

ولكن قد يقال بناء على ما عندنا يثبت القود له أيضا وإن ثبت عليه بعد استيفائه رد الفاضل المفروض عدم معلوميته ، فيرجع إلى الصلح ، بل لو قلنا بتقديم الرد أمكن القضاء بينهم بالصلح القهري ثم استيفاء القصاص ، وليس في الأدلة ما يقتضي الاشتراط على وجه إن لم يعلم سقط القصاص.

وتظهر الثمرة في ما لو فرض عصيان الولي واقتص منه قبل رد الفاضل ، فان الظاهر عدم ترتب غير رد الفاضل عليه ، بل قد يقال : إنه ليس على القاتل منه شي‌ء ، وإنما هو في ذمة الشركاء ، كما سمعت ظهور النصوص (٢) فيه ، وحينئذ تكون لأوليائه الخصومة معهم ، والمراد الاستحقاق من حيث الدعوى وإلا فلو فرض بذلك ولي المجني عليه المتيقن مما يفضل عن جنايته ولو الدية تماما إلا شيئا كان له القصاص ، هذا كله في القود.

وأما عدم القضاء بالدية فواضح بناء على أنها لا تجب في العمد ، إلا صلحا بل وعلى غيره أيضا ( لعدم العلم بحصة المدعى عليه من الجناية و ) لكن ذلك كله لا ينافي سماع الدعوى فإنه ( يقضى ) حينئذ ( بالصلح ) قهرا ( حقنا للدم ) المعلوم شدة أمره عند الشارع ، ولذلك خالفت الدعوى فيه الدعوى في المال في أمور كثيرة.

ومن ذلك يعلم ضعف احتمال بطلان الدعوى المزبورة باعتبار إبهامها كالمال ، ولذا لم يذكره المصنف ، بل قيل وغيره من أرباب المتون ، نعم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب القصاص في النفس.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب القصاص في النفس.

١٩٨

ذكره بعض الشارحين.

وعلى كل حال فما عرفت إنما هو إذا لم يحصرهم بحيث يمكن الحكم على المعين بحصته من الدية أو الفاضل ، وإلا حكم له بالمتيقن ، كما لو قال : قتله مع جماعة لا يزيدون على عشرة مثلا ، فعشر الدية حينئذ متيقن يحكم به للولي على الجاني ، بل لو أراد قتله في صورة العمد كان له ذلك بعد رد تسعة أعشار الدية عليه ، والله العالم.

المسألة ( الثانية : )

( لو ادعى القتل ولم يبين عمدا أو خطأ ) محضا أو شبيها بالعمد على وجه الانفراد أو الاشتراك ( الأقرب أنها تسمع ، و ) لكن ( يستفصله القاضي ، وليس ذلك تلقينا بل تحقيقا للدعوى ) خلافا لبعض العامة فجعله تلقينا. وفيه منع بعد أن لم يكن مقصودا له.

وفي المسالك « لأن التلقين أن يقول له : قتل عمدا أو خطأ جازما بأحدهما ليبني عليه المدعي ، والاستفصال أن يقول : كيف قتل عمدا أو خطأ؟ لتتحقق الدعوى » وفيه أن الثاني ضرب من التلقين أيضا إذا قصده.

وكيف كان ففي القواعد جعل من شرائط سماع الدعوى أن تكون مفصلة ، لكن قال أيضا : « فلو أجمل استفصله الحاكم » وفيه أن مقتضى كون ذلك شرطا أن للحاكم الاعراض عنه حتى يذكرها مفصلة ، إلا أن ظاهر قول المصنف : « الأقرب » إلى آخره أنها على إجمالها مسموعة ، ولكن مع الاستفصال ، بل هو ظاهر الفاضل أيضا ، فالمتجه أن يقال‌

١٩٩

بعدم لزوم الاستفصال مع فرض سماعها مجملة ، نعم لو لم نقل بسماعها مجملة أمكن القول حينئذ بسماعها مع الاستفصال ، لأن الأصل في الدعوى القبول حتى يتحقق أنها مجملة ، فإذا استفصلها الحاكم وبان أنها مجملة عند المدعي أعرض عنها وإلا فلا.

ومن ذلك يعلم ما في المسالك من تفريع الاستفصال والاعراض على القول بسماع المجملة.

كما أن منه يعلم كون الاحتمال مانعا عند القائل به ، لا أن التفصيل شرط ، وهو الذي أشار إليه المصنف بقوله ( ولو لم يبين قيل ) والقائل الشيخ في محكي المبسوط ( طرحت دعواه وسقطت البينة بذلك إذ لا يمكن الحكم بها ) بدون العلم بالصفة من عمد أو خطأ ، فلا تفيد الشهادة على مقتضاها ولا يمين.

( و ) لكن ( فيه تردد ) ونحوه ما في القواعد وغيرها مما عرفت ومن أن مقتضى الإطلاقات سماعها وإن رجع حينئذ إلى الدية في وجه أو الصلح عن الحق الثابت له في آخر ، إذ قد يعلم الولي بصدور القتل من شخص ويجهل صفته ، فلو لم تسمع دعواه لزم ضياع الحق وطل الدم ، بل ظاهر المصنف اختياره في ما تقدم ، بل ينبغي الجزم بذلك بناء على ما سمعته في المسألة السابقة.

نعم لو فرض كون الدعوى مجملة على وجه لا يترتب حكم على مجملها اتجه عدم سماعها ، وقد تقدم تحقيق البحث في ذلك في كتاب القضاء (١).

بل لا وجه لعدم السماع هنا بناء على ترتب الدية مع ثبوت أصل القتل احتياطا في الدماء واقتصارا على المتيقن وإن كان قد يشكل بمنع‌

__________________

(١) راجع ج ٤٠ ص ١٥٣ ـ ١٥٧.

٢٠٠