جواهر الكلام - ج ٤٢

الشيخ محمّد حسن النّجفي

١
٢

٣

٤

٥

٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين‌

كتاب القصاص

بالكسر فعال من قص أثره إذا تتبعه ، والمراد به هنا استيفاء أثر الجناية من قتل أو قطع أو ضرب أو جرح ، فكان المقتص يتبع أثر الجاني فيفعل مثل فعله ، ويقال : اقتص الأمر فلانا من فلان إذا اقتص له منه.

والأصل فيه ـ وقبل الإجماع والسنة المتواترة (١) قوله تعالى ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ ) (٢).

( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً ، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً ) (٣).

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ وغيره من أبواب القصاص في النفس.

(٢) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٧٩.

(٣) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ٣٢.

٧

( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ، فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‌ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ، فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (١).

( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاّ بِالْحَقِّ ) (٢).

( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ، فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ) (٣).

( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ ) (٤).

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على المطلوب ولو بالعموم ، نحو قوله تعالى ( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) (٥).

( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ، فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ ) (٦).

( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ ) (٧).

( وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ ) (٨).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ الآية ـ ١٧٨.

(٢) سورة الأنعام : ٦ ـ الآية ١٥١.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ ـ الآية ٣٣.

(٤) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ٤٥.

(٥) سورة شورى : ٤٢ ـ الآية ٤٠.

(٦) سورة شورى : ٤٢ ـ الآية ٤٠.

(٧) سورة النحل : ١٦ ـ الآية ١٢٦.

(٨) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٩٤.

٨

وعلى كل حال فالقتل للمؤمن ظلما من أعظم الكبائر ، قال الله تعالى (١) ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً ) الآية.

وفي‌ خبر جابر بن يزيد (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « أول ما يحكم الله عز وجل فيه يوم القيامة الدماء ، فيوقف ابني آدم فيفصل بينهما ثم الذين يلونهما من أصحاب الدماء حتى لا يبقى أحد من الناس بعد ذلك حتى يأتي المقتول بقاتله يشخب دمه في وجهه ، فيقول : أنت قتلته فلا يستطيع أن يكتم الله حديثا ».

ومر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) بقتيل فقال : « من لهذا؟ فلم يذكر له أحد ، فغضب ثم قال : والذي نفسي بيده لو اشترك فيه أهل السماء والأرض لأكبهم الله في النار ». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا (٤) : « لو اجتمعت ربيعة ومضر على قتل امرئ مسلم قيدوا به ».

وعن الصادق عليه‌السلام (٥) « أنه وجد في ذؤابة سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صحيفة ، فإذا فيها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم إن أعتى الناس على الله يوم القيامة من قتل غير قاتله وضرب غير ضاربه ».

وعنه عليه‌السلام أيضا (٦) « في رجل قتل رجلا مؤمنا قال : يقال له : مت أي ميتة شئت : إن شئت يهوديا وإن شئت نصرانيا وإن شئت مجوسيا ».

__________________

(١) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٩٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٦.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٥.

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٤.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ١.

٩

وعنه عليه‌السلام أيضا (١) « لا يدخل الجنة سافك دم ولا شارب خمر ولا مشاء بنميم ».

و « لا يزال المؤمن في فسحة من ذنبه ما لم يصب دما حراما ، قال : ولا يوفق قاتل المؤمن عمدا للتوبة » (٢).

وعن ابن مسلم (٣) « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عز وجل ( مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ ) ـ الآية ـ فقال : له مقعد لو قتل الناس جميعا لم يرد إلا ذلك المقعد ».

وفي آخر (٤) عنه عليه‌السلام أيضا قلت له : « كيف كأنما قتل الناس جميعا وإنما قتل واحدا؟ فقال : يوضع في موضع من جهنم إليه ينتهي شدة عذاب أهلها ، لو قتل الناس جميعا لكان إنما يدخل ذلك المكان ، قلت : فإنه قتل آخر ، قال : يضاعف عليه ».

ونحوه‌ خبر حنان بن سدير (٥) عن الصادق عليه‌السلام في تفسيرها أيضا قال : « هو واد في جهنم لو قتل الناس جميعا كان فيه ، ولو قتل نفسا واحدة كان فيه ».

إلى غير ذلك من النصوص المشتملة على المبالغة في أمر القتل ، بل وعلى تفسير الآية المزبورة بما عرفت ، ولعله أوجه من جميع ما قيل فيها من الوجوه في التشبيه المعلوم عدم إرادة حقيقته ، ضرورة منافاته الحس والعقل والعدل ، وحاصله المبالغة في شأن القتل والاحياء ، ولا ينافي ذلك زيادة العقاب والثواب على من فعل المتعدد منهما كما أشار (ع)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٨ وفيه « في فسحة من دينه ... ».

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ١٠.

١٠

إليه بقوله : « يضاعف عليه » وإن اتحدوا جميعا في واد واحد وفي مقعد كذلك.

( و ) كيف كان فـ ( ـهو قسمان : )

( الأول في قصاص النفس والنظر فيه يستدعي فصولا : )

( الأول في الموجب )

( وهو إزهاق النفس المعصومة ) وإخراجها من التعلق بالبدن ( المكافئة ) والمساوية لنفس المزهق في الإسلام والحرية وغيرهما من الشرائط الآتية أو الأعلى ( عمدا عدوانا ).

وترك الأخير في النافع ، قيل : ولعله للاستغناء عنه بالمعصومة ، فان المقتول قصاصا أو دفاعا غير معصوم الدم بالنسبة إلى القاتل وإن كان معصوما بالنسبة إلى غيره ، فلا يصدق على نفسه إطلاق المعصومة المنساق منه الكل ، والصبي والمجنون خارجان بالعمد الذي لا يتحقق منهما بعد أن كان عمدهما خطأ ، كما اعترف به فيما يأتي من كلامه.

ولكن فيه أنه حينئذ لا يشمل المقتول ظلما وإن كان عليه قصاص لغير القاتل ، فالأولى إرادة العصمة ذاتا ، فلا بد حينئذ من زيادة العدوان ولو لأنه حينئذ أوضح من احتمال إرادة المعصومة بالنسبة إلى القاتل المحتاج إلى قيد ، والأمر سهل.

١١

وحينئذ فلو قتل غير معصوم الدم كالحربي والزاني المحصن والمرتد وكل من أباح الشرع قتله فلا قصاص وإن أثم في بعض الصور ، باعتبار كون قتله حدا مباشرته للحاكم وإن كان غير معصوم الدم في نفسه ، وكذا لو قتل غير المكافى‌ء له ، كالمسلم يقتل الذمي والحر العبد والأب الابن بخلاف العكس الذي يكون المقتول فيه أعلى.

( و ) على كل حال فلا إشكال ولا خلاف في أنه ( يتحقق العمد بقصد البالغ العاقل إلى القتل ) ظلما ( بما يقتل غالبا ) بل وبقصده الضرب بما يقتل غالبا عالما به وإن لم يقصد القتل ، لأن القصد إلى الفعل المزبور كالقصد إلى القتل ، بل قيل يفهم من الغنية الإجماع عليه ، ولعله كذلك ، بل يعضده المعتبرة المستفيضة.

كالصحيح (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « سألناه عن رجل ضرب رجلا بعصا فلم يرفع عنه الضرب حتى مات أيدفع إلى أولياء المقتول؟ قال : نعم ، ولكن لا يترك يعبث به ، ولكن يجهز عليه بالسيف » ‌ونحوه خبر سليمان بن خالد (٢) وخبر موسى بن بكير (٣) وغيرهما من النصوص الشاملة بإطلاقها لمن قصد القتل بالمفروض الذي هو مما يقتل مثله غالبا وعدمه ولكن قصد الفعل.

بل يكفي قصد ما سببيته معلومة عادة وإن ادعى الفاعل الجهل به ، إذ لو سمعت دعواه بطلت أكثر الدماء ، كما هو واضح.

بل الظاهر عدم تحقق العمد الذي هو عنوان القصاص إلا مع جمع القيود المزبورة عدا الأخير ، ضرورة كون عمد الصبي والمجنون خطأ شرعا ( و ) كذا لو قتله بعنوان أنه حيوان أو جماد أو نحو ذلك.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس الحديث ١٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس الحديث ١٠.

١٢

نعم ( لو قصد القتل بما يقتل نادرا فاتفق القتل ) به ( فـ ) ـان فيه على ما قيل قولين ، ولكن ( الأشبه ) بأصول المذهب وقواعده التي منها صدق إطلاق الأدلة أن عليه ( القصاص ) بل الأشهر ، بل لعل عليه عامة المتأخرين ، كما اعترف به في الرياض ، بل لم أجد فيه خلافا وإن أرسل ، بل في كشف اللثام نسبته إلى ظاهر الأكثر ، ولكن لم نتحققه.

نعم يظهر من اللمعة نوع تردد فيه ، ولعله مما عرفت وقول الصادق عليه‌السلام في صحيح الحلبي (١) « العمد كل ما اعتمد شيئا فأصابه بحديدة أو بحجر أو بعصا أو بوكزة فهذا كله عمد ، والخطأ من اعتمد شيئا فأصاب غيره ».

وصحيح عبد الرحمن بن الحجاج (٢) « قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : يخالف يحيى بن سعيد قضاتكم؟ قلت : نعم ، قال : هات شيئا مما اختلفوا فيه ، قلت : اقتتل غلامان في الرحبة فعض أحدهما صاحبه ، فعمد المعضوض إلى حجر فضرب به رأس الذي عضه فشجه فكبر فمات ، فرفع ذلك إلى يحيى بن سعيد فأقاده ، فعظم ذلك على ابن أبي ليلى وابن شبرمة وكثر فيه الكلام ، وقالوا : إنما هذا الخطأ فوداه عيسى بن علي من ماله ، قال : فقال : إن من عندنا ليقيدون بالوكزة ، وإنما الخطأ أن يريد الشي‌ء فيصيب غيره ».

وفي صحيحه الآخر (٣) عنه عليه‌السلام أيضا « إنما الخطأ أن تريد شيئا فتصيب غيره ، فأما كل شي‌ء قصدت إليه فأصبته فهو العمد ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ١.

(٣) لم نعثر على هذه الصحيحة في كتب الأخبار ، وليس لعبد الرحمن في تفسير قتل العمد والخطأ إلا روايتان : الأولى ما تقدمت ، والثانية ما ستأتي عن تفسير العياشي.

١٣

وفي‌ خبره المروي عن تفسير العياشي (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إنما الخطأ أن تريد شيئا فتصيب غيره ، فأما كل شي‌ء قصدت إليه فأصبته فهو العمد ».

وقول أحدهما عليهما‌السلام في المرسل (٢) كالصحيح : « قتل العمد كل ما عمد به الضرب فعليه القود ، وإنما الخطأ أن تريد الشي‌ء فتصيب غيره ».

وقول الصادق عليه‌السلام في خبر أبي بصير (٣) : « لو أن رجلا ضرب رجلا بخزفة أو بآجرة أو بعود فمات كان عمدا » مؤيدا ذلك كله بعدم مدخلية الآلة لغة وعرفا في الصدق.

ومن‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر أبي العباس (٤) « قلت له : أرمي الرجل بالشي‌ء الذي لا يقتل مثله ، قال : هذا خطأ ، ثم أخذ حصاة صغيرة فرمى بها ، قلت : أرمي الشاة فأصيب رجلا ، قال : هذا الخطأ الذي لا شك فيه ، والعمد الذي يضرب بالشي‌ء يقتل بمثله ».

والمرسل عن ابن سنان (٥) « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في الخطأ شبه العمد أن يقتله بالسوط أو بالعصا أو بالحجارة : إن دية ذلك تغلظ ، وهي مائة من الإبل ».

وخبر زرارة وأبي العباس (٦) عنه عليه‌السلام أيضا قال : « إن العمد أن يتعمده فيقتله بما يقتل مثله ، والخطأ أن يتعمده ولا يريد أن يقتله فقتله بما لا يقتل مثله ، والخطأ الذي لا شك فيه أن يتعمد شيئا آخر فيصيبه ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ١٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٨.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٧.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ١١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ١٣.

١٤

ومرسل ابن أبي عمير (١) المروي عن تفسير العياشي عن أحدهما عليهما‌السلام « مهما أريد تعين القود ، وإنما الخطأ أن تريد الشي‌ء فتصيب غيره » فان الحصر المزبور ظاهر في المطلوب ، بل قوله عليه‌السلام : « مهما » إلى آخره كذلك أيضا بناء على أن المراد ما يراد به القتل عادة منه فتأمل.

وخبر زرارة (٢) المروي فيه أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام « الخطأ أن تعمده وتريد قتله بما لا يقتل مثله ، والخطأ ليس فيه شك أن تعمد شيئا آخر فتصيبه ».

وخبره الآخر (٣) عنه عليه‌السلام أيضا « العمد أن تعمده فتقتله بما مثله يقتل ».

ومرسل يونس (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إن ضرب رجل رجلا بعضا أو بحجر فمات من ضربة واحدة قبل أن يتكلم فهو شبيه العمد ، فالدية على القاتل ، وإن علاه وألح عليه بالعصا أو بالحجارة حتى يقتله فهو عمد يقتل به ، وإن ضربه ضربة واحدة فتكلم ثم مكث يوما أو أكثر من يوم فهو شبيه العمد ».

مؤيدا ذلك كله بالاحتياط ، وبأن الآلة لما كانت مما لا تقتل عادة فمجامعة القصد معها كعدمه ، بل هو كالقصد بلا ضرب ، وبإمكان حمل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ١٦ وفيه « كلما أريد به ففيه القود ... » كما في البحار ج ١٠٤ ص ٣٩٥ وتفسير العياشي ج ١ ص ٢٦٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ١٧ وفيه « إن الخطأ أن يعمده ولا يريد قتله ... » كما في المستدرك ـ الباب ـ ١١ ـ من تلك الأبواب ـ الحديث ٥ والبحار ج ١٠٤ ص ٣٩٥ وتفسير العياشي ج ١ ص ٢٦٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٢٠.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٥.

١٥

العمد في النصوص المتقدمة على شبيه العمد ، لمقابلته بالخطإ المحض.

لكن لا يخفى عليك أن الاحتياط لا يجب مراعاته بعد ظهور الأدلة ، وربما كان معارضا لحق الغير ، والتعليل المزبور لا حاصل له ، وأن الجمع المزبور مناف لما تضمنه بعضها من التصريح بالقود في العمد ، وأنه ليس بأولى من حمل هذه النصوص على صورة عدم القصد إلى القتل ، كما هو الغالب في الضرب بما لا يقتل إلا نادرا وإن كان في بعضها « يريد قتله » بل هذا أولى من وجوه لا تخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه ، وبعد ضعف جملة منها ولا جابر ، ومعتبر السند منها غير مقاوم لتلك من وجوه أيضا.

وقد بان لك من ذلك كله أن العمد يتحقق به كسابقه.

( وهل يتحقق ) أيضا ( مع القصد إلى الفعل الذي يحصل به الموت وإن لم يكن قاتلا في الغالب إذا لم يقصد به القتل ) أو قصد العدم ( كما لو ضربه بحصاة أو عود خفيف؟ فيه روايتان ) (١) ( أشهرهما ) عملا كما في النافع والمسالك ( أنه ليس بعمد يوجب القود ) بل لا أجد فيه خلافا بين المتأخرين ، بل عن الغنية الإجماع عليه ، للنصوص السابقة (٢) المنجبرة والمعتضدة هنا بما سمعت مضافا إلى ظهورها في ما نحن فيه ولو من الغلبة التي ذكرناها ، فترجح حينئذ بذلك كله على إطلاق النصوص الأولة المقابلة لها أو عمومها ، فتقيد أو تخصص بها.

خلافا للمحكي عن المبسوط من أنه عمد أيضا كالسابق ، إما مطلقا كما حكاه عنه بعض ، لا طلاق النصوص السابقة المعارض لإطلاق الأخرى المرجح عليه هنا بالاعتضاد بالشهرة والإجماع المحكي ، وإما في الأشياء المحددة خاصة ، كما هو مقتضى عبارته المحكية عن مبسوطة في كشف اللثام‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس.

١٦

على طولها ، فان محصلها كما اعترف هو به الفرق بين المحدد وغيره ، فلا يعتبر في عمد الأول القصد بخلاف الثاني.

وهو شي‌ء غريب إن أراد به من حيث العرف ، وإن أراد من حيث الشرع فلم نجد ما يشهد له سوى‌ خبر عبد الله بن زرارة (١) عن الصادق عليه‌السلام « إذا ضرب الرجل بحديدة فذلك العمد » الذي لا يصلح به نفسه الخروج عما عرفت من وجوه مع احتماله القصد إلى القتل بذلك أيضا ، وأما بعض النصوص السابقة المطلقة فلا إشارة في شي‌ء منها إلى التفصيل المزبور ، ومن ذلك يعلم الاتفاق على عدم العمل به ، فلا بد من تقييده بذلك أو بما عليه الأصحاب من الحمل على صورة القصد إلى القتل ، ولعل الثاني أولى لما عرفته من الوجوه السابقة.

ولكن الانصاف مع ذلك كله عدم خلو الفرق بين الصورتين بالقصد وعدمه من الاشكال بعدم مدخلية القصد في صدق القتل عرفا.

اللهم إلا أن يقال هو كذلك في صدق القتل بخلاف العمد إلى القتل ، فإنه مع عدم القصد إليه ولا إلى فعل ما يحصل به القتل غالبا لا يصدق العمد إليه ، بل لا يقال قتله متعمدا أي إلى قتله.

أو يقال : إنه لا فرق بينهما في الصدق العرفي ، ولكن الأدلة الشرعية تكفي في الفرق بينهما في الأحكام ، فأجرت على الأخير حكم الخطأ شبه العمد بخلاف الأول.

والعمدة في تنزيل إطلاق النصوص المزبورة على ذلك الشهرة المحققة والمحكية والإجماع المحكي ولو لا ذلك لكان المتجه فيه القصاص ، لصدق القتل عمدا على معنى حصوله على جهة القصد إلى الفعل عدوانا الذي حصل‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٩ وهو خبر الفضل ابن عبد الملك بسند الصدوق ( قده ) كما في الفقيه ج ٤ ص ٧٧ ـ الرقم ٢٣٩.

١٧

به القتل وإن كان مما يقتل نادرا ، إذ ليس في شي‌ء من الأدلة العمد إلى القتل ، بل ولا العرف يساعد عليه ، فإنه لا ريب في صدق القتل عمدا على من ضرب رجلا عاديا غير قاصد للقتل أو قاصدا عدمه فاتفق ترتب القتل على ضربه العادي منه المتعمد له.

وربما يشهد لذلك ما تسمعه منهم من إجراء حكم العمد على الضرب بالآلة التي لا يقتل مثلها ولكن اتفق سرايتها حتى قتلت ، وليس ذلك إلا للصدق المزبور وليس في الأدلة ما يخرجه كما ستسمع تحريره.

وقد تحصل من ذلك أن الأقسام ثلاثة : عمد محض ، وهو قصد الفعل الذي يقتل مثله ، سواء قصد القتل مع ذلك أو لا ، وقصد القتل بما يقتل نادرا ، وشبه العمد قصد الفعل الذي لا يقتل مثله مجردا عن قصد القتل ، والخطأ أن لا يقصد الفعل ولا القتل أو يقصده بشي‌ء فيصيب غيره.

( ثم العمد قد يحصل بالمباشرة ، وقد يحصل بالتسبيب ) وأما الشرط فلا يجب به قصاص أصلا ، ولكن قد تجب به الدية بالشروط التي ستعرفها إنشاء الله ، ولعله لعدم صدق القتل به عمدا ، إذ المراد به ما يقف عليه تأثير المؤثر ، ولا مدخل له في العلة للزهوق ، أي لا تأثير له ، كحفر البئر بالنسبة إلى الوقوع فيها ، إذ الوقوع مستند إلى علته ، وهي التخطي ، بخلاف العلة التي يستند الازهاق إليها ابتداء ، أو بواسطة ، كالجراحات القاتلة بالسراية ، فإنها تولد السراية ، والسراية مولدة للموت أو بوسائط ، كالرمي المولد للجرح المولد للسراية المولدة للموت.

وربما قيل : إنها المباشرة ، ولكن الظاهر أن المراد بها إيجاد أقرب العلل إلى الزهوق ، أي المؤدية إليه ابتداء.

وأما السبب فهو ماله أثر في التوليد للموت كما للعلة ، ولكن يشبه الشرط من وجه ، ومراتبه ثلاثة : الإكراه وشهادة الزور وتقديم الطعام‌

١٨

المسموم للضيف ، وسيأتي للمصنف التعرض لها في الأثناء وإن أطنب الفاضل في القواعد فيها.

ولكن التحقيق عدم الثمرة لذلك بعد صدق اسم القتل عمدا أو خطأ بهما ، إذ ليس في شي‌ء من الأدلة عنوان الحكم بلفظ المباشرة والسبب ، وإنما الموجود ، « قتل متعمدا » ونحوه ، فالمدار في القصاص مثلا على صدقه ، نعم ما لا يحصل فيه الصدق المزبور يحتاج إلى الدليل في ضمانه القصاص أو الدية ، وينبغي الاقتصار عليه وعلى ما يلحق به مما يستفاد من فحوى دليله أو من الإجماع أو من غيره كما أطنبنا في ذلك في كتاب الغصب (١) فلاحظ وتأمل ، فإن المقام قريب منه.

وكان ذكر السبب والمباشرة هنا لفائدة الاشتراك في الثاني وغيره مما تعرفه في مطاوي البحث ، وإلا فمع صدق القتل بهما عمدا لا فرق بينهما ، كما هو واضح.

( أما المباشرة فكالذبح والخنق ) باليد ( وسقي السم القاتل ) بإيجاره في حلقه ( والضرب بالسيف والسكين والمثقل والحجر الغامز ) والكابس على البدن لثقله ( والجرح في المقتل ولو بغرز الإبرة ) ونحو ذلك مما يرجع إلى صدق القتل مباشرة.

ولكن أطنب في القواعد وشرحها للاصبهاني فيها وقالا : « إنها نوعان : الأول أن يضربه بمحدد ، وهو ما يقطع ويدخل في البدن كالسيف والسكين والسنان وما في معناها مما يحدد فيجرح ويقطع من الحديد والرصاص والنحاس والذهب والفضة والزجاج والحجر والقصب والخشب ، فهذا كله إذا جرح به جرحا كبيرا يقتل مثله غالبا ، فهو قتل عمدا إذا تعمده ، وإن جرحه بأحد ما ذكر جرحا صغيرا لا يقتل مثله غالبا كشرطة‌

__________________

(١) راجع ج ٣٧ ص ٤٦ ـ ٥٣.

١٩

الحجام أو غرزة بإبرة أو شوكة فإن كان في مقتل كالعين والفؤاد والخاصرة والصدغ وأصل الاذن والأنثيين والمثانة ونقرة النحر فمات فهو عمد أيضا ، لأنه مما يقتل غالبا ، وإن كان في غير مقتل فان كان قد بالغ في إدخالها فهو كالكبير من الجرح ، لأنه قد يشتد ألمه ويفضى إلى القتل ، فإذا بالغ مبالغة كذلك فقد فعل ما يقتل غالبا وإن كان الغرز يسيرا أو جرحه جرحا يسيرا كشرطة الحجام فإن بقي المجروح من ذلك ضمنا ـ أي مريضا زمنا ـ حتى مات أو حصل بسببه تشنج أو تأكل أو ورم حتى مات فهو عمد كما في المبسوط ، لتحقق العلم بحصول القتل بفعله ، كما إذا سرى الجرح فمات ، فإنه يوجب القصاص ، فالضابط في القصاص العلم العادي بتسبب موت المقتول من فعله المعتمد به. الثاني أن يضربه بمثقل يقتل مثله غالبا كاللت ـ أي الدبوس وهو فارسي ـ والمطرقة والخشبة الكبيرة والحجارة الكبيرة أو يضربه بحجر صغير أو عصا ، أو يلكزه بها في مقتل أو في حال ضعف المضروب بمرض أو صغر أو في زمن مفرط في الحر والبرد ، وبالجملة بحيث يقتله بتلك الضربة غالبا بحسب الزمان وحال المضروب ومحل الضرب ، أو يكرر الضرب عليه حتى يقتله بما يقتل من العدد غالبا عادة ، وهو أيضا يختلف باختلاف الزمان وباختلاف حال المضروب كما في المبسوط ، وكل ذلك يوجب القود وإن لم يقصد القتل بذلك أو ادعى الجهل بإفضائه إلى القتل عادة ، فإنه لو سمع منه ذلك أدى إلى إهدار دماء المسلمين ، أما لو ضربه بشي‌ء صغير جدا كالقلم والإصبع في غير مقتل أو مسه بالكبير من غير ضرب ولا مس عنيف ولم يكن مما يقتل مثله ـ وبالجملة فعل ما لا يحتمل استناد القتل إليه عادة ولا نادرا ـ فلا قود ولا دية ، لأنه لم يقتل عمدا ولا خطأ ، وإنما اتفق موته مع فعل من أفعاله ، وكذا يجب القصاص بالذبح ونحوه مما لا يدخل في الضرب بمحدد أو مثقل ،

٢٠