الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٤

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-28-6
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٤٨٧

تنبيهات النظرية العامّة للتعارض المستقر

قوله ص ٣٧٢ س ١٦ : ومن اجل تكميل إلخ : هناك عدة تنبيهات ترتبط بالقاعدة الاولية ـ وبتعبير الكتاب : النظرية العامّة ـ في التعارض هي : ـ

التنبيه الأوّل

ذكرنا انّ المقصود من القاعدة الاولية في المتعارضين هي ملاحظة دليل الحجية وقصر النظر عليه بلا ملاحظة الروايات العلاجية. ودليل الحجّية هذا قد يكون واحدا وقد يكون متعددا.

وتوضيح ذلك يتم بملاحظة الحالات التالية : ـ

١ ـ إذا حصل التعارض المستقر بين دليلين وكانا معا قطعيين من حيث السند وظنيين من حيث الدلالة (١) فلا يحصل تعارض من حيث الصدور إذ لا نحتاج إلى إثبات التعبد بالصدور ليكون تطبيق دليل حجّية الخبر على الأوّل معارضا بتطبيقه على الخبر الثاني ، لأنّ المفروض ثبوت صدورهما بسبب القطع بلا حاجة إلى التمسك بدليل حجّية الخبر ، وانّما المعارضة تحصل بين الظهورين

__________________

(١) ينبغي ان لا يغيب عن الذهن انّ المفروض في الدلالتين في جميع الحالات عدم إمكان الجمع العرفي بينهما ـ بان كانت النسبة بينهما نسبة التباين أو العموم من وجه ـ وإلاّ كان التعارض بينهما تعارضا غير مستقر.

٤٠١

فشمول دليل حجّية الظهور لذاك الظهور يعارض شموله لهذا الظهور. ودليل حجّية الظهور كما هو واضح حيث انّه دليل واحد فحكم المعارضة يكون ملحوظا بالقياس إلى دليل واحد.

٢ ـ إذا فرض عكس ما سبق بان كان الدليلان قطعيين من حيث الدلالة وظنيين من حيث السند فالمعارضة لا تحصل بين الدلالتين إذ بعد القطع بالدلالة فلا يحتاج إلى دليل حجّية الظهور ليكون تطبيقه على أحد الظهورين معارضا لتطبيقه على الظهور الآخر وانّما تحصل المعارضة بين السندين فشمول دليل حجّية الخبر لهذا الخبر يعارض شموله للخبر الآخر ، وحيث انّ دليل حجّية الخبر دليل واحد فالمعارضة إذن تلحظ بالقياس إلى دليل واحد لا إلى دليلين.

٣ ـ إذا افترض انّ كلا الدليلين ظنّي من حيث السند ومن حيث الدلالة فلا إشكال في حصول المعارضة بين الظهورين فشمول دليل حجّية الظهور لذاك الظهور يعارض شموله لهذا الظهور. ولكن هل هناك معارضة بين السندين بمعنى انّ تطبيق دليل حجّية الخبر على ذاك الخبر يكون معارضا لتطبيقه على هذا الخبر؟

قد يقال بعدم وجود معارضة من حيث الصدور ، فانّ منشأ التعارض في الحقيقة هو الظهوران فالتعبد بالظهورين غير ممكن ولو قطعنا النظر عن الظهورين المتنافيين فلا معارضة ولا محذور في التعبد بصدور كلا الخبرين ، وعليه فالتعارض يسري إلى دليل حجّية الظهور فقط ولا يسري إلى دليل حجّية الخبر.

وجوابه : انّ التعبد بالصدورين عند افتراض قطع النظر عن الظهورين لغو

٤٠٢

وبلا فائدة فانّ التعبد بصدور الخبر لا معنى له إلاّ إذا كان المقصود منه التعبد بصدور الخبر بما له من مفاد وظهور ، وهذا معناه انّ التعبد بالصدور والتعبد بالظهور أمران مترابطان بمعنى انّه لا يمكن التعبد بالصدور بقطع النظر عن التعبد بالظهور كما ولا يمكن التعبد بالظهور بقطع النظر عن الصدور للغوية التعبد باحدهما دون الآخر.

٤ ـ إذا افترض انّ احد الدليلين قطعي السند ظنّي الدلالة والآخر على العكس ، أي ظنّي السند قطعي الدلالة فلا بدّ من عزل اثنين من ساحة المعارضة ، وهما السند القطعي من الدليل الأوّل والدلالة القطعية من الدليل الثاني ، إذ السند بعد قطعيته وهكذا الدلالة بعد قطعيتها لا يحتاجان في حجّيتهما إلى تطبيق دليل الحجّية عليهما ليكون تطبيقه عليهما معارضا لتطبيقه على السند أو الدلالة في الآخر.

إذن المعارضة تنحصر بين الدلالة الظنّية في الخبر الأوّل والسند الظنّي في الخبر الثاني فدليل حجّية ظهور الخبر الأوّل يعارض دليل حجّية الصدور في الخبر الثاني فانّ التعبد بصدور الخبر الذي له دلالة قطعية معارضة لدلالة الآخر ينافي التعبد بظهور الخبر الذي صدوره قطعي ، ومعه فان كان لأحدهما مرجح رجح وإلاّ طبقت النظرية السابقة للتعارض المستقر وهي ثبوت الحجّية لكل من الخبرين بنحو مشروط.

٥ ـ إذا افترض انّ أحد الدليلين ظنّي من حيث السند والدلالة معا والآخر قطعي من حيث الدلالة وظنّي من حيث السند فلا بدّ من عزل الدلالة القطعية للدليل الثاني من ساحة المعارضة لعدم احتياج حجّيتها إلى دليل التعبد ليكون

٤٠٣

جريانه معارضا لجريان دليل التعبد في الآخر ، وانّما المعارضة تستحكم بين دليل حجّية الظهور في الخبر الأوّل ودليل حجّية الصدور في الخبر الثاني ، فانّ التعبد بظهور الخبر الأوّل الذي له ظهور معارض لظهور الخبر الثاني ـ مع فرض عدم إمكان الجمع بينهما ـ يتنافى والتعبد بصدور الخبر الثاني الذي له ظهور معارض للأوّل.

وينبغي ان يكون واضحا انّا حينما نقول بدخول ظهور الدليل الأوّل في مجال المعارضة فبالتبع لا بدّ من فرض دخول سند الأوّل في المعارضة إذ الظهور لا يمكن حجّيته بلا حجّية سنده ، لما أشرنا إليه سابقا من الترابط بين التعبد بالظهور والتعبد بالسند وانّ التعبد بأحدهما دون الآخر لغو وبلا فائدة. وعليه فالمعارضة في هذه الحالة تكون ثلاثية الاطراف فالتعبد بالسند والدلالة في الخبر الأوّل يتعارض والتعبد بالسند في الخبر الثاني.

٦ ـ إذا افترض انّ الخبر الأوّل ظنّي من حيث السند والدلالة والخبر الثاني ظنّي من حيث الدلالة وقطعي من حيث السند فيجري نفس ما ذكرناه في الحالة الخامسة ، أي لا بدّ من حذف السند القطعي في الخبر الثاني من ساحة المعارضة للنكتة السابقة وتستقر المعارضة بين الظهورين للخبرين ، فشمول دليل الحجّية لظهور الخبر الأوّل يعارض شموله لظهور الخبر الثاني. وطبيعي يدخل في مجال المعارضة أيضا السند الظنّي في الخبر الاوّل ، فانّ التعبد بظهور الخبر الأوّل بدون التعبد بصدوره لغو وبلا فائدة فتكون المعارضة ثلاثية الاطراف أيضا فدليل التعبد بالصدور والظهور في الخبر الأوّل يعارض دليل التعبد بالظهور في الخبر الثاني.

٤٠٤

خلاصة ما تقدم

إتضح مما تقدم انّ دليل الحجّية الذي تلحظ المعارضة بالقياس إليه هو دليل واحد في الحالتين الأوليتين ـ وهو دليل حجّية الظهور في الحالة الاولى ودليل حجّية السند في الحالة الثانية ـ بينما هو دليلان في بقية الحالات ، فدليل حجّية الظهور في أحد الخبرين يتعارض ودليل حجّية الصدور في الخبر الثانى.

صور اخرى

وهناك صور اخرى لم يشر لها في الكتاب نذكر منها : ـ

١ ـ فرض الخبر الأوّل قطعيا من حيث السند والدلالة معا والخبر الثاني ظنّيا من حيث السند والدلالة معا.

والسبب في عدم الاشارة لهذه الصورة واضح لعدم امكان سراية المعارضة إلى دليل الحجّية في الصورة المذكورة ، فإنّ الخبر الأول ما دمنا قد فرضناه قطعيا من حيث السند والدلالة فلا حاجة إلى تطبيق دليل الحجّية عليه وإنّما الذي يحتاج إلى تطبيق دليل الحجّية هو خصوص الخبر الثاني. وهل ذلك ممكن؟ كلاّ انّه غير ممكن ، إذ بعد القطع بصدور الخبر الأول ودلالته يكون التعبّد بصدور وظهور الخبر الثاني تعبّدا بثبوت المتنافيين وهو مستحيل.

٢ ـ فرض الخبر الأول قطعيا من حيث السند والدلالة والخبر الثاني ظنّي الدلالة قطعي السند.

٣ ـ فرض الخبر الأول قطعيا من حيث السند والدلالة والخبر الثاني قطعي

٤٠٥

الدلالة ظنّي السند.

والنكتة في عدم الاشارة لهاتين الصورتين هي نفس النكتة السابقة ، فإنه مع القطع بصدور ودلالة الخبر الأول لا يمكن التعبّد بدلالة أو صدور الخبر الثاني وإلاّ يلزم التعبّد بثبوت المتنافيين.

التنبيه الثاني

انّ التعارض المستقر له مصداقان : التباين ، مثل تحرم الجمعة وتجب الجمعة ، والعموم من وجه ، مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق (١). وما ذكرناه سابقا من مقتضى القاعدة الأوليّة ـ وهو انّ أحدهما لو كان أقوى من حيث ملاك الحجّية فهو الحجّة وإلاّ كان كل منهما حجّة بنحو مشروط ـ لا يختص بالمتباينين بل يعم ما اذا كانت النسبة بينهما العموم من وجه أيضا.

أجل هناك فارق واحد بينهما ، وهو انّه في مورد التباين يتعارض الظهوران وبسبب تعارضهما يتعارض السندان أيضا ويتساقطان ، فشمول دليل السند ـ وهو مفهوم آية النبأ مثلا ـ لذاك السند معارض بشموله لهذا السند. وأمّا في صورة العموم من وجه فالتعارض بين الظهورين لا يسري إلى السندين بنحو يتساقطان تماما بل يبقيان على حجّية السند بلحاظ مادتي الافتراق وانّما يسقطان بلحاظ خصوص مادّة الاجتماع التي هي مادّة المعارضة بين الظهورين.

ان قلت : كيف يتعارض الظهوران ولا يتساقط السندان!! انّ هذا غير

__________________

(١) وأطلق في الكتاب على التباين بالتعارض المستوعب ـ حيث لا يوجد فيه مورد لا يتعارضان بلحاظه ـ وعلى العموم من وجه بالتعارض غير المستوعب.

٤٠٦

مقبول ، فإنّ الظهورين لا يتعارضان إلاّ بعد ثبوتهما ، وهو ـ ثبوتهما ـ لا يتحقّق إلاّ بعد ثبوت صدورهما عن طريق دليل حجّية السند فسبب التعارض إذن هو دليل حجّية السند ، ومعه فيكون التعارض ثابتا أوّلا بين السندين ولا بدّ من تساقطهما ولا يعقل تعارض الظهورين وتساقطهما بلا فرض التعارض بين السندين وتساقطهما.

قلت : انّ تساقط السندين وان كان أمرا لازما إلاّ انّه لازم بمقدار التعارض الثابت بين الظهورين ، وما دام التعارض ثابتا بمقدار مادّة الاجتماع فالسندان يسقطان بالمقدار المذكور ولا موجب لسقوطهما بلحاظ مادتي الافتراق ، نعم في المتباينين حيث انهما متعارضان بلحاظ جميع الموارد فالمناسب سقوط سندهما عن الحجّية رأسا وبالكلّية.

وان شئت قلت : انّ التعبّد يعنى ثبوت مفاد الدليل بلحاظ آثاره التي أهمها حجّيته ، وحيث انّ حجّية العموم بلحاظ مادّة الاجتماع لا يمكن ثبوتها فالتعبّد بالسندين يسقط بلحاظ المادّة المذكورة ، أي مادّة الاجتماع ، وأمّا بلحاظ مادتي الافتراق فحيث انّ حجّية العموم باقية فالتعبّد بالسند باق أيضا باللحاظ المذكور أي بلحاظ مادتي الافتراق.

استحكام التعارض بين السندين

ونحن كنّا نذكر سابقا انّ التعارض يستحكم بين الظهورين أوّلا ـ بلا فرق بين المتباينين أو العامّين من وجه ـ ومن ثمّ يسري الى السندين. والآن نستدرك ونقول انّ هذا ذكرناه من باب تبسيط الفكرة وإلاّ فبحسب الحقيقة الأمر

٤٠٧

على العكس فالتعارض يثبت منذ البداية بين السندين لا بين الظهورين.

أمّا انّ سريان التعارض من الظهورين الى السندين كان مذكورا من باب تبسيط الفكرة فتوضيحه : انّ التعارض بين السندين إنّما يحصل باعتبار الظهورين ، فكأنّ الذهن يخيّل له انّ التعارض يثبت أوّلا بين الظهورين وبسبب تعارضهما يسري التعارض الى السندين.

واما ان الامر بحسب الحقيقة يقتضي العكس فذلك باعتبار انه لا معنى لتحقق التعارض بين الظهورين أوّلا ، فإنّ التعارض بين الظهورين متوقّف على تحقّق الكلامين ليتحقّق ظهورهما ومن ثمّ تعارضهما ، ومن الواضح انّه بقطع النظر عن حجّية السند لا نملك بأيدينا كلامين وظهورين ليتحقّق التعارض بينهما ويسري إلى السندين ، وانّما نملك دليل حجّية السند فقط. إذن التعارض يثبت أوّلا بين السندين لأنّهما الثابتان في اليد ، وأمّا الظهوران فلا يثبتان في اليد إلاّ بعد حجّية السندين.

التنبيه الثالث

لا اشكال في انّ دليل تجب الجمعة وتحرم الجمعة متعارضان ومتساقطان عن الحجّية. ولكن هل يمكن بواسطتهما نفي الاحتمال الثالث ـ وهو استحباب الجمعة مثلا ـ أو لا؟ قد يقال بإمكان ذلك لأحد وجوه ثلاثة : ـ

١ ـ انّ كلا من دليل تجب الجمعة وتحرم الجمعة مشتمل على مدلول مطابقي ومدلول التزامي ، فالمدلول المطابقي للأوّل وجوب الجمعة ومدلوله الالتزامي عدم استحباب الجمعة ، وهكذا المدلول المطابقي للثاني وجوب الظهر ومدلوله

٤٠٨

الالتزامي عدم استحباب الظهر. والتعارض بين الدليلين المذكورين انّما هو ثابت بلحاظ المدلولين المطابقيين فيسقطان عن الحجّية بهذا اللحاظ ، وأمّا بلحاظ المدلول الالتزامي ـ وهو نفي استحباب الجمعة ـ فلا تعارض بينهما ليسقطان عن الحجّية بل هما باقيان عليها بلحاظه ، وبذلك ينتفي احتمال الاستحباب.

ويرده : انّ هذا البيان تام على المبنى القائل بعدم سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجّية بعد سقوط الدلالة المطابقية وليس تامّا على ما هو الصحيح من سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجّية بعد سقوط المطابقية عن الحجّية.

٢ ـ انّ دليل تجب الجمعة وتحرم الجمعة نعلم بكذب واحد منهما ، وأمّا الثاني فلا علم بكذبه ، ونحن نطبّق دليل حجّية الخبر على الدليل الثاني الذيّ لا نعلم بكذبه. وإذا ثبتت حجّيته ـ وان كنّا لا نعرفه على سبيل التفصيل ـ يثبت بذلك انتفاء احتمال الاستحباب.

لا يقال : انّ تطبيق دليل الحجّية على الخبر الثاني الذي لا يعلم بكذبه معارض بتطبيقه على الخبر الأوّل الذي يعلم بكذبه أو يقال هو معارض بتطبيقه على هذا الخبر بخصوصه أو ذاك بخصوصه.

فإنّه يقال : انّ تطبيق دليل الحجّية على الخبر المعلوم كذبه غير معقول بعد العلم بكذبه ، ومعه فلا معنى لأن يكون تطبيق دليل الحجّية عليه معارضا لتطبيقه على الخبر الذي لا يعلم بكذبه.

وأمّا ما قيل من انّ تطبيق دليل الحجّية على الخبر الذي لا يعلم بكذبه معارض بتطبيقه على الخبر الأوّل مثلا الذي يقول الجمعة واجبة ، فهو مدفوع بأنّ الخبر الأوّل لعلّه واقعا هو الخبر الذي لا يعلم بكذبه وليس غيره ليكون

٤٠٩

تطبيقه على أحدهما معارضا لتطبيقه على الآخر. وهكذا لا معنى لأن يقال انّ تطبيق دليل الحجّية على الخبر الذي لا يعلم بكذبه معارض بتطبيقه على الخبر الثاني مثلا الذي يقول الظهر واجبة.

والوجه في ذاك انّ الخبر الذي لا يعلم بكذبه لعلّه واقعا هو نفس الخبر الثاني وليس غيره لتتحقّق المعارضة في مقام التطبيق. هذه حصيلة الوجه الثاني.

ويردّه : انّ دليل تجب الجمعة وتحرم أمّا أن يجزم بصدق أحدهما ولا يحتمل كذبهما معا ، أو لا يجزم بصدق أحدهما بل يحتمل كذبهما معا.

فإن كان يجزم بصدق أحدهما فهذا وحده يكفي لنفي الاحتمال الثالث بلا حاجة لتطبيق دليل الحجّية على غير معلوم الكذب ، فإنه بعد العلم بصدق أحدهما ينتفي الاحتمال الثالث.

وأمّا إذا لم يجزم بصدق أحدهما بل كان يحتمل كذبهما معا ففي مثل هذه الحالة نقول لو فرض انّهما واقعا وفي علم الله سبحانه كانا كاذبين معا ـ أي كان احتمال كذبهما مطابقا للواقع ـ فلا تميّز حينئذ لمعلوم الكذب عن غيره حتى في الواقع وعلم الله ، ومعه فلا معنى لأن يكون أحدهما حجّة دون الآخر ، إذ المفروض انّ كليهما كاذب واقعا لا انّ أحدهما كاذب دون الآخر لتثبت الحجّية لغير معلوم الكذب واقعا.

٣ ـ تطبيق ما ذكر سابقا ، وهو انّه لا مانع من شمول دليل الحجّية لكل واحد منهما شمولا مشروطا بكذب الآخر ، وحيث انّ أحدهما كاذب جزما فيكون الآخر حجّة ، وبحجّيته ينتفي الاحتمال الثالث.

ولعلّ مقصود صاحب البيان الثاني هذا البيان الثالث ، فكأنّه يريد من قوله

٤١٠

« نطبّق دليل الحجّية على غير معلوم الكذب » تطبيقه على كل واحد منهما مشروطا بكذب الآخر.

ومن هنا عدّ السيّد الشهيد هذا البيان الثالث تعميقا للبيان الثاني ، وما ذاك إلاّ لاحتمال وحدة مقصودهما (١).

التنبيه الرابع

انّ كل ما ذكرناه سابقا في بيان مقتضى القاعدة الأولية وبقية الأحكام الاخرى كنّا نفترض فيه انّ دليل الحجّية دليل لفظي له إطلاق يمكنه مثلا شمول المتعارضين بنحو مشروط. وهذا كان مجرّد افتراض وإلاّ فالواقع ليس كذلك فإنّ دليل حجّية الامارات غالبا ليس دليلا لفظيا وإنّما هو دليل لبّي يتمثّل في سيرة العقلاء أو سيرة المتشرعة أو الإجماع. ولئن كانت هناك أدلة لفظية تدل على حجّية بعض الامارات ـ كمفهوم آية النبأ الدال على حجّية الخبر ـ فهي إرشاد وامضاء لسيرة العقلاء ولا تريد بيان مطلب أكثر ممّا انعقدت عليه سيرة العقلاء.

__________________

(١) يرد على البيان الثالث نفس ما أورد على البيان الثاني ، بأن يقال انّ تطبيق دليل الحجّية على كل واحد منهما بشرط كذب الآخر لا يتم لاحتمال كذبهما معا وفي علم الله سبحانه.

إن قلت : انّ هذا معناه تحقّق الشرط لحجّية كل واحد منهما فيكون كل واحد منهما حجّة وبذلك ينتفي الاحتمال الثالث أيضا.

قلت : كيف تثبت الحجّية لكل منهما مع فرض كذبهما واقعا أو العلم بكذب واحد منهما على الأقل ، فإنّ الحجّية لا يمكن ثبوتها لما يعلم كذبه.

٤١١

وإذا كان دليل الحجّية دليلا لبّيا فسوف تتغير نتيجتان من النتائج التي انتهينا إليها سابقا وهما : ـ

١ ـ إنّا كنّا نقول سابقا ـ خلافا للمشهور ـ بعدم تساقط المتعارضين بالتعارض المستقر بل يشملهما دليل الحجّية بنحو مشروط وكنّا نستفيد من ذلك في نفي الاحتمال الثالث. وهذا يتم بناء على أنّ دليل الحجّية دليل لفظي له إطلاق يدل على حجّية كل امارة سواء كانت الاخرى كاذبة أم لا ، وحيث انّ دليل الحجّية بإطلاقه المذكور لا يمكن أن يشمل كلا المتعارضين فيشملهما شمولا مشروطا بكذب الآخر ؛ إذ تعذّر التمسّك بدليل بما له من إطلاق لا يستدعي رفع اليد عن أصله بل عن إطلاقه فقط ويؤخذ به بنحو مشروط فإنّ الضرورة تقدر بقدرها.

أمّا إذا لم يكن دليل الحجّية لفظيا له الإطلاق المذكور بل كان مثل سيرة العقلاء فمن الوجيه أن يقال حينئذ بسقوط كلا الدليلين عن الحجّية ـ كما قال المشهور ـ ولا يكونان حجّة بنحو مشروط ، فإنّ سيرة العقلاء انعقدت على العمل بالخبر غير المعارض أمّا المعارض فلا يعمل العقلاء به أبدا حتّى بنحو مشروط.

ومن هنا نعرف انّ النتيجة التي انتهى إليها المشهور وهي التساقط وعدم الحجّية بنحو مشروط نتيجة صحيحة بعد ما كان دليل الحجّية دليلا لبّيا. وما ذكرناه سابقا من الحجّية المشروطة يتمّ بناء على افتراض دليل الحجّية دليلا لفظيا ذا إطلاق.

٢ ـ تقدّم سابقا ص ٣٧٥ من الحلقة انّه متى ما تعارض خبر الثقة الذي هو ظني السند مع الكتاب الكريم الذي هو قطعي السند وقع التعارض بين دليل حجّية الخبر ودليل حجّية ظهور الكتاب.

٤١٢

وهذا يتم بناء على انّ دليل حجّية الخبر دليل لفظي ، وامّا بناء على كونه السيرة فالمناسب ان يقال بعدم حجّية الخبر أصلا ـ فيما إذا كان معارضا لظهور القرآن الكريم بنحو لا يمكن الجمع بينهما ـ لا أنّه حجّة ويعارض ظهور القرآن الكريم لأنّ سيرة العقلاء لم تجر على العمل بالخبر الظني عند معارضته بالدليل القطعي السند كالقرآن الكريم.

قوله ص ٣٧٣ س ٧ : كما تقدّم : ص ٣٢٧ س ٩.

قوله ص ٣٧٤ س ٨ : بمفرده : أي بمعنى معارضة دليل حجّية الظهور هناك لدليل حجّية الظهور هنا.

قوله ص ٣٧٤ س ٨ : كذلك : أي بمفرده. والمقصود انّ دليل حجّية السند هناك لا يعارض دليل حجّية السند هنا.

قوله ص ٣٧٤ س ١٧ : لما عرفت من الترابط : أي لا يمكن التعبّد بالصدور بقطع النظر عن الظهور كما لا يمكن التعبّد بالظهور بقطع النظر عن التعبّد بالصدور.

قوله ص ٣٧٥ س ١ : والمحصل النهائي : أي لما ذكر في الحالة الخامسة.

قوله ص ٣٧٥ س ١٢ : ومن هنا الخ : أي من انّ معنى التعبّد بالسند هو حجّية مفاد الدليل وانّه بدون التعبّد بالسند لا يعقل ثبوت مفاد الدليل.

قوله ص ٣٧٨ س ١٣ : وهذا يكفي لنفي الثالث الخ : ولكن سيأتي منه قدس‌سره التراجع عن ذلك ص ٣٧٩ من الحلقة.

قوله ص ٣٧٩ س ١٤ : على النحو المذكور : أي بكذب الآخر.

٤١٣
٤١٤

المتعارضان بمقتضى القاعدة الثانوية

قوله ص ٣٨١ س ١ : الروايات الخاصة الواردة الخ : كل ما ذكرناه كان ناظرا إلى مقتضى القاعدة الأولية. وقد اتّضح انّها تقتضي التساقط.

وأمّا القاعدة الثانوية ـ أي ما تقتضيه الأخبار العلاجية ـ فهي تقتضي ما يلي : ـ

١ ـ إذا عارض خبر الثقة الذي هو ظني السند ظاهر القرآن الكريم الذي هو قطعي السند فقد ذكرنا سابقا انّ دليل حجّية صدور الخبر يعارض دليل حجّية ظاهر الكتاب ويتساقطان (١).

هذا ولكن بعض الأخبار العلاجية يستفاد منها سقوط الخبر عن الاعتبار في مثل هذه الحالة فهو ليس بحجّة أبدا لا أنّه حجّة وتقع المعارضة بين دليل حجّيته ودليل حجّية ظهور القرآن الكريم ويتساقطان.

وهذه المجموعة من الأخبار بعضها بلسان انّ الخبر غير الموافق للكتاب الكريم زخرف أو لم نقله ، وبعضها بلسان انّ الخبر إذا لم يكن معه شاهد من كتاب الله فلا يؤخذ به ، وبعضها بلسان ما خالف كتاب الله فدعوه.

__________________

(١) هذا ما ذكره قدس‌سره قبل التراجع وإلاّ فما ذكره ص ٣٧٩ من الحلقة تحت عنوان « الثانية » يوافق الأخبار العلاجية المذكورة.

ومن هنا تعرف النكتة في تعبيره بـ « قد » حيث قال : « عما قد يكون الخ ».

٤١٥

وأطلق قدس‌سره على هذه المجموعة من الأخبار بألسنتها الثلاثة اسم أخبار العرض لأنّها تدلّ على لزوم عرض كل خبر من الأخبار على كتاب الله والأخذ بالموافق وترك غيره.

٢ ـ إذا عارض خبر الثقة خبرا آخر بشكل لا يمكن الجمع العرفي بينهما فقد ذكرنا انّ القاعدة الأولية تقتضي التساقط وفاقا للمشهور (١). هذا ولكن هناك مجموعة تدل على التخيير بين الخبرين أو تعيّن الأخذ بالمخالف للعامة مثلا (٢) وعدم تساقطهما.

واصطلح قدس‌سره على هذه المجموعة بالأخبار العلاجية.

وسوف نأخذ بالتحدّث عن هاتين المجموعتين من الأخبار.

فارق بين المجموعتين

ويوجد فارق بين المجموعتين ، فالمجموعة الثانية ـ اخبار العلاج ـ ناظرة إلى الخبرين المتعارضين ، وأمّا المجموعة الاولى ـ أخبار العرض ـ فهي ليست ناظرة إلى الخبرين المتعارضين بل إلى الخبر غير المعارض بمثله ولكنه مخالف للقرآن الكريم لا أكثر.

وإنّما عدّ هذا القسم تحت باب التعارض والحال لا يوجد فيه تعارض بين

__________________

(١) لما تقدّم من التراجع وموافقة المشهور.

(٢) مورد التخيير صورة فقدان المرجّح في أحد الخبرين ، ومورد التعيين ما لو كان أحدهما مشتملا على المرجّح. واختار البعض كالآخوند الخراساني التخيير حتّى في حالة اشتمال أحد الخبرين على المرجح.

٤١٦

خبرين ليس الا من جهة تحقق المعارضة بين دليل حجّية سند الخبر ودليل حجّية ظهور الكتاب.

روايات العرض على الكتاب

ذكرنا انّ أخبار العلاج تنقسم إلى مجموعتين. ونتحدّث الآن عن المجموعة الاولى التي اصطلح عليها اسم أخبار العرض.

وهذه المجموعة يمكن تصنيفها إلى ثلاث مجاميع : ـ

المجموعة الاولى

ما ورد بلسان ان غير الموافق لم نقله أو زخرف مع الاقتران بلسان الإنكار والتحاشي كقوله عليه‌السلام : « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف » (١) ، فإنّ المستفاد من هذا الحديث تحاشي الأئمّة عليهم‌السلام من نسبة الخبر غير الموافق إليهم.

وهذا التحاشي يدلّ عرفا على انّ خبر الثقة غير الموافق للكتاب ليس حجّة.

وبهذا يتقيّد دليل حجّية خبر الثقة بخصوص الخبر الموافق للكتاب ـ طبيعي لو فرض انّ دليل الحجّية دليل لفظي ذو إطلاق وليس دليلا لبّيا كالسيرة ـ ولا يشمل الخبر غير الموافق.

وبهذا يبطل ما ذكرناه سابقا من وقوع التعارض بين دليل حجّية خبر الثقة ودليل حجّية ظهور الكتاب ، فإنّ خبر الثقة بناء على هذا ساقط عن الحجّية

__________________

(١) الوسائل : ج ١٨ أبواب صفات القاضي باب ٩ حديث ١٢.

٤١٧

ولا يمكن معارضته لظاهر الكتاب.

إشكالات ثلاثة

وقد أشكل على هذه المجموعة بثلاثة إشكالات :

أ ـ انّ هذه المجموعة لا تسلب الحجّية عن الخبر غير الموافق لتكون مخصّصة لدليل حجّية الخبر بخصوص الخبر الموافق وإنّما هي تنفي صدور الأخبار غير الموافقة للكتاب فلو فرض انّ عدد الأخبار غير الموافقة مائة خبر فالمجموعة المذكورة تقول انّ الأخبار المائة غير الموافقة ليست صادرة منّا أهل البيت فهي إذن تتعارض وشهادة راوي تلك الأخبار المائة بصدورها من الأئمّة عليهم‌السلام ولا تنفي حجّية الخبر غير الموافق حتّى يخصّص دليل الحجّية بخصوص الخبر الموافق.

وفيه : انّ تحاشي الأئمّة عليهم‌السلام من نسبة الأخبار غير الموافقة إليهم وإنكارهم لها يفهم منه عرفا سلب الحجّية عنها.

ب ـ انّ هذه المجموعة تقول انّ غير الموافق زخرف فلو فرض انّ خبرا لا يوجد مضمونه في القرآن الكريم ـ كالخبر الدال على انّ صلاة الصبح ركعتان ـ فهو ممّا يصدق عليه عنوان غير الموافق للكتاب ولو لأجل عدم وجود مضمونه في القرآن الكريم فيلزم أن لا يكون حجّة ، والحال انّ هذا لا يمكن الالتزام به ، إذ كيف يقال انّ مثل الخبر الدال على انّ صلاة الصبح ركعتان ليس بحجّة.

ويردّه : انّ ظاهر لسان « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف » اعتبار صدق غير الموافق بنحو السالبة بانتفاء المحمول ولا يكفي صدق السالبة

٤١٨

بانتفاء الموضوع ، أي يستفاد منها انّ الخبر إذا كان مضمونه في القرآن الكريم ولم يكن موافقا له فهو زخرف ولا يستفاد منها انّ الخبر إذا لم يكن موافقا للقرآن الكريم من جهة عدم وجود مضمونه فيه فهو زخرف. وهذا نظير ما لو قيل « عبدي ليس بجميل » ، فإنّ ظاهره ملكه للعبد ونفي الجمال عنه لا انّه ينفي الجمال من باب انّه لا عبد له أصلا.

ج ـ انّ هذه المجموعة تدل على انّ كل خبر مخالف للكتاب ولو بنحو العموم والخصوص المطلق فهو ليس بحجّة بيد انّا لمّا كنّا نجزم بصدور أخبار كثيرة منهم عليهم‌السلام مخصّصة له نسبتها إليه نسبة العموم والخصوص المطلق ـ إذ لم يترك الأئمّة ( صلوات الله عليهم ) غالبا عاما من عمومات الكتاب إلاّ وخصّصوه بمخصّص ـ فلا بدّ من تأويل المجموعة المذكورة ومخالفة ظاهرها وحملها على خصوص المخالفة بنحو التباين الكلي أو على المخالفة في باب اصول الدين مثلا.

ويرده : لا نسلّم انّ المجموعة المذكورة ظاهرة في عدم حجّية المخالف إذا كانت مخالفته للقرآن الكريم بنحو العموم والخصوص المطلق كي يلزم تأويلها وحملها على اصول الدين أو التباين الكلّي وإنّما هي من الأول ظاهرة في الاختصاص بخصوص الخبر المخالف بنحو التباين الكلّي. والقرينة على الاختصاص المذكور تحاشي الأئمّة عليهم‌السلام من نسبة الأخبار المخالفة إليهم ، والمخالف بنحو العموم والخصوص المطلق لا معنى لإنكارهم له وتحاشيهم من نسبته إليهم بعد وضوح جريان سيرتهم بشكل واضح على تخصيص عمومات الكتاب وعدم ترك عموم بلا تخصيص.

إذن المجموعة المذكورة لا حاجة إلى تأويلها بل هي من الأوّل ظاهرة في

٤١٩

الاختصاص بالمخالف للكتاب بنحو التباين الكلي.

المجموعة الثانية

ما ورد بلسان انّ الخبر يكون حجّة فيما إذا كان له شاهد من كتاب الله العزيز أو السنّة القطعية لرسوله الكريم ، كما ورد ذلك في رواية عبد الله بن أبي يعفور : « إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلاّ فالذي جاء به أولى به » (١).

ولسان هذه المجموعة يمتاز عن لسان المجموعة السابقة في ان السابقة لم تنف الحجية عن الخبر بجميع حصصه بل عن خصوص الخبر غير الموافق للكتاب دون الخبر الموافق للكتاب أو الذي لا يوجد مضمونه في الكتاب الكريم ، وامّا هذه المجموعة فهي تنفي الحجّية عن الخبر بجميع حصصه ، إذ نفت الحجّية عن الخبر الذي ليس معه شاهد من الكتاب ، ويبقى الخبر الذي له شاهد من الكتاب الذي لا معنى لجعل الحجّية له فإن جعل الحجّية للخبر في خصوص حالة وجود شاهد له من الكتاب الكريم لغو فلا معنى لان يقال ان الخبر حجة اذا كان القران الكريم يشهد بصحته اذ عند وجود الشاهد من القران الكريم يكون الحجّة هو القرآن الكريم دون الخبر ويكون جعل الحجّية للخبر لغوا.

وهذا المفاد للمجموعة المذكورة يواجه ايرادين : ـ

أ ـ انّ خبر ابن أبي يعفور ونظائره خبر واحد ، وما دام خبرا واحدا فلا

__________________

(١) الوسائل : ج ١٨ أبواب صفات القاضي باب ٩ حديث ١١.

٤٢٠