الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٤

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-28-6
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٤٨٧

تعارض الشمولية والبدلية

٤ ـ إذا واجهنا دليلين أحدهما يقتضي الشمولية وثانيهما يقتضي البدلية وكانا متعارضين بنحو العموم من وجه فما هو الموقف اتجاه ذلك؟ كما لو قيل اكرم فقيرا ولا تكرم كل فاسق ، فالدليل الأوّل يقتضي وجوب اكرام فقير واحد على سبيل البدل بينما الدليل الثاني لا يقتضي حرمة اكرام فاسق واحد على سبيل البدل بل يقتضي حرمة اكرام كل فاسق بنحو الشمول.

والنسبة بين الفقير والفاسق نسبة العموم من وجه. ومادة الاجتماع التي يتعارضان فيها ما لو كان شخص واحد فقيرا وفاسقا ، فان مقتضى الأوّل وجوب اكرامه بينما مقتضى الثاني حرمة اكرامه.

والجواب : انّه تارة يفرض انّ احد الدليلين يستند في دلالته إلى الوضع والدليل الثاني يستند إلى مقدمات الحكمة ، واخرى يفرض انّ كليهما يستند إلى الوضع أو كليهما يستند إلى مقدمات الحكمة.

فعلى الأوّل يقدم ما كانت دلالته مستندة إلى الوضع.

ومثال ذلك : ما سبق ، أي اكرم فقيرا ولا تكرم كل فاسق ، فان دلالة الأولّ على البدلية تستند إلى مقدمات الحكمة بينما دلالة الثاني على الشمولية تستند إلى كلمة « كل » التي هي موضوعة للعموم. وفي هذا المثال يقدم الدليل الثاني الذي يقول لا تكرم كل فاسق بدون فرق بين ان يكون متصلا بالدليل الأوّل أو منفصلا عنه.

٣٦١

امّا الوجه في تقدمه في صورة الاتصال فواضح ، إذ مع الاتصال لا ينعقد للمطلق ـ وهو كلمة فقير في « اكرم فقيرا » ـ ظهور في الاطلاق أصلا ، لأنّ شرط انعقاد الاطلاق عدم القرينة المتصلة على التقييد ، وواضح انّ دليل لا تكرم كل فاسق الذي فرض اتصاله بالأوّل صالح لان يكون قرينة متصلة على التقييد.

وأمّا الوجه في تقدمه في صورة الانفصال فلانّ المطلق وان انعقد ظهوره في الاطلاق ـ لفرض انّ القرينة منفصلة والقرينة المنفصلة لا تمنع من انعقاد الاطلاق ـ إلاّ انّ الدليل الثاني الذي فرض دلالته بالوضع يقدم على الدليل الأوّل من جهة اقوائية ظهوره بالقياس الى ظهور المطلق فان الظهور الناشيء من الوضع اقوى من الظهور الناشيء من الاطلاق ، والعرف يجمع بين الدليلين المختلفين في درجة الظهور بتقديم الأقوى ظهورا.

هذا كله لو كانت دلالة أحد الدليلين تستند إلى الوضع ودلالة الآخر تستند إلى مقدمات الحكمة.

امّا لو كان كلا الدليلين يستند إلى الوضع أو إلى مقدمات الحكمة ـ كما لو قيل اكرم فقيرا ولا تكرم الفاسق بناء على انّ كلمة الفاسق التي هي اسم جنس محلى بالالف واللام لم توضع للعموم وانّما يستفاد العموم منها بواسطة مقدمات الحكمة ـ فما هو المقدم؟

قيل بانّ الدليلين متكافئان ويتساقطان في مادة المعارضة وهي الفقير الفاسق ويرجع إلى ما تقتضيه الاصول العملية.

وقيل بانّ الدليل الشمولي ـ أي دليل لا تكرم الفاسق ـ هو المقدم. ويمكن انّ تذكر ثلاثة وجوه في نكتة تقدمه : ـ

٣٦٢

أ ـ ان يقال بانّ الدليل الشمولي يقدم من باب اقوائية ظهوره.

والوجه في ذلك : انّ الدليل الشمولي يدل على مطلب واحد بينما الدليل البدلي يدل على مطلبين ، فمثلا دليل لا تكرم الفاسق الذي هو شمولي يدل على مطلب واحد وهو تعدد الحكم بحرمة الاكرام بعدد افراد الفاسق فلكل فرد من أفراد الفاسق حكم بالحرمة ، بينما دليل اكرم فقيرا الذي هو بدلي يدل على مطلبين فهو يدل على ثبوت حكم واحد بوجوب الاكرام ويدل أيضا على انّ الحكم الواحد المذكور وسيع يمكن تطبيقه على أي فقير.

وباتضاح هذا نقول : انّ اهتمام الإنسان ببيان أصل الحكم أقوى من اهتمامه ببيان سعته.

وبكلمة ثانية احتمال خطا الإنسان في بيان أصل الحكم أضعف من احتمال خطاه في بيان سعته ، واحتمال انّه لا يريد أصل الحكم أضعف من احتمال عدم ارادته لسعته. وإذا قبلنا هذا المطلب نقول انّ الدليل الشمولي هو المقدم ، إذ غاية ما يلزم من تقدمه الحكم بانّ المتكلّم لا يريد السعة الثابتة في الدليل البدلي بينما لو قدمنا الدليل البدلي فلازم ذلك الحكم بانّ المتكلم لا يريد أصل الحكم بحرمة الاكرام بالنسبة إلى بعض أفراد الفاسق ، أي الفقير الفاسق. وحيث انّ احتمال عدم ارادة أصل الحكم أضعف من احتمال عدم إرادة السعة فلا بدّ من تقديم الدليل الشمولي لأنّ المحذور اللازم من تقدمه ـ وهو عدم إرادة السعة ـ اخف وأهون.

ب ـ وهذا الوجه يتوقف على مقدمة حاصلها انّه تقدم في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص ٣٠٩ كلام حاصله : انّ التكليف هل يمكن تعلقه بالجامع بين

٣٦٣

المقدور وغير المقدور أو يختص بالحصة المقدورة؟ فهل يمكن ان يقول المولى لعبده يجب عليك أحد الامرين : الجلوس في البيت أو الطيران إلى السماء؟

اختار الشيخ النائيني عدم إمكان تعلق التكليف بالجامع واختصاصه بالحصة المقدورة وهي الجلوس في البيت.

وفي مقابل ذلك اختار المحقق الكركي والسيد الخوئي والسيد الشهيد إمكان تعلق التكليف بالجامع ، حيث انّ متعلق التكليف وان كان من اللازم ان يكون مقدورا إلاّ انّ بعض أفراد الجامع ما دام مقدورا فنفس الجامع يصير مقدورا ويمكن توجه التكليف إليه ومن الوجيه ان يقول المولى لعبده يجب عليك امّا الجلوس في البيت أو الطيران الى السماء.

وباتضاح هذه المقدمة نقول : انّ خطاب اكرم فقيرا يطلب الجامع ، أي احدى الحصتين من اكرام الفقير العادل واكرام الفقير الفاسق ولكن بعد الالتفات إلى الخطاب الشمولي الذي يقول لا تكرم الفاسق المنحل إلى تحريمات بعدد افراد الفاسق يصير اكرام الفقير الفاسق غير مقدور شرعا لثبوت التحريم له بواسطة خطاب لا تكرم الفاسق ، ومع زوال القدرة الشرعية عنه فلا يمكن ان يشمله خطاب اكرم فقيرا لانّه تكليف ، والتكليف يختص بالحصة المقدورة ـ وهي اكرام الفقير العادل ـ على رأي الشيخ النائيني.

وقد تقول : انّ هذا يتم لو لا حظنا أولا دليل لا تكرم الفاسق ولكن لم لا نلحظ أوّلا خطاب اكرم فقيرا.

وجوابه : انّ خطاب لا تكرم الفاسق وارد على خطاب اكرم فقيرا ، أي رافع لموضوعه حقيقة ، فانّ موضوع خطاب اكرم فقيرا هو الافراد المقدورة ، وخطاب لا تكرم الفاسق يرفع الموضوع المذكور رفعا حقيقيا ويجعل اكرام الفقير

٣٦٤

الفاسق غير مقدور شرعا. ومن الواضح انّ الخطاب الوارد هو المقدم على الخطاب المورود ولا معنى لان يقال لم نلحظ الدليل الوارد أولا ليتقدم على الدليل المورود. هذه حصيلة الوجه الثاني.

ويرده : ان هذا الوجه مبني على مسلك الشيخ النائيني القائل باختصاص التكليف بالحصة المقدرة وعدم إمكان توجهه إلى الجامع بين المقدور وغير المقدور ، امّا بناء على ما هو الصحيح من إمكان توجه التكليف إلى الجامع فاكرام الفقير وان صار غير مقدور شرعا بسبب الدليل الشمولي إلاّ انّ ذلك لا يمنع من بقاء خطاب اكرم فقيرا متوجها إلى الجامع فتجب احدى الحصتين امّا اكرام الفقير العادل الذي هو مقدور شرعا وعقلا أو اكرام الفقير الفاسق الذي هو غير مقدور شرعا.

ج ـ ان خطاب اكرم فقيرا يقتضي ترخيصات متعددة بعدد افراد الفقير فهو يرخص المكلّف في تطبيق الاكرام على هذا الفقير وعلى ذاك الفقير و ... وخطاب لا تكرم الفاسق يتنافى مع واحد من هذه الترخيصات فهو يرفض الترخيص في تطبيق اكرام الفقير على الفقير الفاسق ، وبقطع النظر عن هذه الترخيصات فلا منافاة بين ذات مضمون خطاب اكرم فقيرا ومضمون لا تكرم الفاسق إذ لا منافاة بين ان يقال « اكرام فقير ما من الفقراء واجب » وبين ان يقال « اكرام الفاسق محرم ». إذن المنافاة تحصل بسبب الترخيصات المتعددة وبقطع النظر عنها لا منافاة.

وإذا كانت المنافاة ثابتة بين الترخيص المستفاد من خطاب اكرم فقيرا والالزام المستفاد من خطاب لا تكرم الفاسق نطبق ما قرآناه في رقم (٣) (١) من انّه متى ما اجتمع دليلان احدهما ترخيصي والآخر إلزامي قدّم الالزامي ، وهنا

__________________

(١) تحت عنوان « تعارض الاحكام الأولية والثانوية ».

٣٦٥

يقدم الالزامي أيضا وهو خطاب لا تكرم الفاسق.

ويرده : انّ المنافاة ثابتة بقطع النظر عن الترخيصات ، فانّ مضمون كل واحد من الخطابين يتنافى ومضمون الخطاب الآخر فمضمون خطاب اكرم فقيرا ثبوت الوجوب لاكرام الفقير بلا مدخلية قيد العدالة وهو يتنافى وثبوت الحرمة لاكرام الفاسق حتى لو كان فقيرا فثبوت كل واحد من الحكمين بنحو مطلق غير ممكن فانّ وجوب اكرام فقير ما الذي هو مطلق وغير مقيد بالعدالة يتنافى وحرمة اكرام الفاسق الذي هو مطلق وغير مقيد بان لا يكون فقيرا.

اللهم إلاّ ان يقال انّ خطاب اكرم فقيرا يقول انّه من ناحيتي لا موجب لأن تتقيد ايها المكلّف بحصة دون اخرى فلا موجب لان تتقيد من ناحيتي باكرام خصوص الفقير العادل ، ومن الواضح انّ هذا لا يتنافى ولزوم التقيد بإكرام خصوص الفقير العادل من ناحية اخرى ، أي من ناحية خطاب لا تكرم الفاسق ، ويكون ذلك اشبه بخطاب « شرب الماء مباح » وخطاب « يجب الوفاء بالنذر » فكما انّه لا منافاة بين الخطابين المذكورين من ناحية انّ الأوّل يثبت الإباحة لعنوان الماء بما هو ماء والثاني يثبت الوجوب له بعنوان النذر كذلك لا منافاة بين خطابي اكرم فقيرا ولا تكرم الفاسق لما ذكر من النكتة (١).

__________________

(١) هذا ويمكن الاشكال على ما ذكر بانّ لازمه ارتفاع المعارضة بين العام والخاص وهكذا بين العامين من وجه بل وبين المتباينين تباينا كليا أيضا فيلزم عدم معارضة خطاب اكرم العلماء لخطاب لا تكرم الفساق لانّ الخطاب الأوّل يقول انّه من ناحيتي لا موجب للتقيد باكرام العالم العادل وهذا لا يتنافى ولزوم التقيد باكرام العالم العادل من ناحية خطاب لا تكرم الفاسق. بل وهكذا يلزم ارتفاع المنافاة بين خطاب صل وخطاب لا تصل لأنّ الأوّل يقول انّه من ناحيتي تكون الصلاة واجبة وهذا لا يتنافى وان تكون محرمة من ناحية الخطاب الثاني.

٣٦٦

تقدم الامارة على الأصل

٥ ـ لا اشكال في انّه متى ما اجتمعت الامارة مع الأصل قدمت الامارة التي هي دليل اجتهادي على الأصل الذي هو دليل فقاهتي. وهذا مما لا خلاف فيه بين الاصوليين ، وانّما الخلاف في النكتة الفنية والصناعية لتقدم الامارة على الأصل.

وقبل ان نبين ذلك نشير إلى انّه تقدم ص ٣٢٦ من الحلقة انّ التعارض المصطلح لا يطلق على الامارة المنافية للأصل لأنّ التعارض المصطلح يراد به التنافي بين الدليلين باعتبار كشفهما عن جعلين متنافيين ، وواضح انّ الأصل ليس دليلا كاشفا عن الجعل بل هو بنفسه جعل وحكم شرعي فكما انّ حرمة شرب الخمر حكم شرعي كذلك حرمة نقض الحالة السابقة حكم شرعي ، وعليه فالمعارضة المصطلحة تتحقق بين دليل الامارة ودليل الأصل لأنّ كل واحد منهما يكشف عن جعل يتنافى والجعل الآخر.

وبعد اتضاح هذا نعود إلى بيان نكتة تقدم الامارة على الأصل. انّ النكتة يمكن ان تبين باحد الوجوه التالية : ـ

الورود

أ ـ انّ دليل الامارة وارد على دليل الاصل ، أي رافع لموضوع الأصل رفعا

٣٦٧

حقيقيا ، لانّ موضوع أصل البراءة مثلا هو عدم العلم لقوله عليه‌السلام رفع عن امتي ما لا يعلمون. والمراد من العلم ليس هو العلم الوجداني بمعنى الانكشاف التام بدرجة ١٠٠% بل المراد به المرآتية للحجّة فكأنّه قيل الحكم مرفوع عند عدم الحجّة ، ومن الواضح انه بدليل حجّية الامارة تصير الامارة حجّة حقيقة ويرتفع بذلك موضوع الأصل ارتفاعا حقيقة.

ويرده : انّ تفسير كلمة العلم الواردة في دليل الأصل بالحجّة دون الانكشاف التام خلاف الظاهر ولا يصار إليه إلاّ بقرينة ، وهي مفقودة.

الحكومة

ب ـ انّ دليل الامارة حاكم على دليل الأصل لانا نسلم انّ المراد من العلم المأخوذ في موضوع دليل الأصل ليس هو العلم بما هو مرآت إلى الحجّة بل المراد به العلم الوجداني بما هو كاشف تام بيد انا نقول بناء على مسلك جعل العلمية يصير دليل حجّية الامارة دالا على انّ الامارة بمثابة العلم واليقين الموضوعي الماخوذ في موضوع دليل الأصل ، وبصيرورة الامارة علما وقيامها في مورد على حكم معين يصير الحكم معلوما تعبدا ويرتفع موضوع الأصل تعبدا.

ان قيل : انّ الحكومة لو تمت فهي تتم بالنسبة إلى أصل البراءة مثلا ولا تتم بالنسبة إلى الاستصحاب بناء على رأي السيد الخوئي ، فقد تقدم ص ١٧ من الحلقة انّه يرى انّ المجعول في باب الاستصحاب هو العلمية فالشارع يجعل المكلّف حالة الشكّ عالما ببقاء الحالة السابقة ، وبناء عليه يكون المجعول في كل من الامارة والاستصحاب هو العلمية ومعه فلا وجه لحكومة الامارة على الأصل ،

٣٦٨

إذ كما انّ الامارة توجب العلم كذلك الاستصحاب يوجب العلم.

وأجاب : السيد الخوئي ( دام ظله ) عن الاشكال المذكور بانّ الامارة والاستصحاب وان كانا يشتركان في كون المجعول في كليهما هو العلمية إلاّ انّه يبقى اختلاف بينهما في ناحية اخرى ، وهي انّ الاستصحاب أخذ في موضوعه الشكّ حيث قيل لا تنقض اليقين بالشكّ بينما دليل الامارة لم يؤخذ في موضوعه الشكّ ـ فمفهوم آية النبأ مثلا يقول وان جاء العادل فلا تتبينوا من دون أخذ كلمة الشكّ وعدم العلم ـ بل يمكن ان يقال انّ مقتضى اطلاق دليل حجّية الامارة ثبوت الحجّية للامارة حتى في حالة العلم بمخالفتها للواقع ، غاية الأمر ان العقل يحكم بلزوم خروج حالة العلم بالخلاف من دليل حجّية الامارة لعدم إمكان ثبوت الحجّية لها حالة العلم بمخالفتها للواقع ، فالخارج ليس هو إلاّ حالة العلم الوجداني بالخلاف وامّا حالة العلم التعبدي بالخلاف الحاصلة بسبب جريان الاستصحاب فهي باقية تحت دليل حجّية الامارة.

وبالجملة انّ عنوان الشكّ لم يؤخذ في موضوع دليل حجّية الامارة بينما أخذ في موضوع دليل الاستصحاب.

ويترتب على هذا الفارق انّ الامارة هي الحاكمة على الاستصحاب لانّه بقيامها يحصل العلم ويرتفع عنوان الشكّ الذي اخذ في موضوع دليل الاستصحاب بينما جريان الاستصحاب لا يرفع موضوع الامارة لانّ موضوعها لم يقيد بالشكّ ليرتفع بالاستصحاب (١).

__________________

(١) وقد مرت الاشارة إلى هذه النكتة أوائل الحلقة ص ١٢.

٣٦٩

مناقشة مسلك الحكومة

وبعد اتضاح مسلك حكومة دليل الامارة على دليل الاصل ناخذ بمناقشته بما يلي : انّ حكومة دليل على دليل تتوقف على نظر الحاكم إلى المحكوم. ودليل حجّية الامارة حيث انّه غير ناظر إلى دليل الأصل فلا يمكن ان يكون حاكما عليه. امّا لماذا لم يكن دليل الامارة ناظرا إلى دليل الأصل؟

الوجه في ذلك : انا لو اخذنا المصداق المهم للامارة ـ وهو خبر الثقة أو الظهور ـ لرأينا انّ اقوى دليل على حجّيته هو احد أمرين : السيرة العقلائية وسيرة أصحاب الائمة عليهم‌السلام. وكلا هذين الدليلين ليس ناظرا إلى موضوع دليل الأصل (١) ، أي ليس ناظرا إلى تنزيل الامارة منزله القطع الموضوعي ـ الذي هو موضوع الأصل ـ ليكون حاكما عليه.

امّا انّ سيرة العقلاء ليست ناظرة إلى تنزيل الامارة منزلة القطع الموضوعي فلأنّ القطع الموضوعي لا وجود له في حياة العقلاء لتكون سيرتهم الجارية على حجّية الخبر أو الظهور ناظرة إليه ومنزّلة للخبر منزلته ، فانا لم نعهد لحدّ الآن ولو حكما واحدا لدى العقلاء يكون القطع ماخوذا في موضوعه بحيث عند عدم حصول القطع لا يكون الحكم ثابتا واقعا وانّما المتداول بينهم القطع الطريقي ـ أي القطع الملحوظ بما هو طريق إلى الواقع وكمنجز له أو معذّر ـ وهم

__________________

(١) موضوع دليل الاصل هو عدم العلم ، أو بكلمة اخرى : هو العلم نفيا ، فاليقين بالنفي الماخوذ في موضوع الأصل يقين موضوعي ، أي هو يقين ماخوذ في موضوع الأصل.

٣٧٠

بسيرتهم الجارية على حجّية الخبر ناظرون إلى القطع المذكور فانّه لا اشكال في انعقاد سيرتهم على جعل الخبر منجزا ومعذرا كالقطع ، وهذا معناه ثبوت سيرتهم على تنزيل الامارة منزلة القطع الطريقي في المنجزية والمعذرية (١).

ان قلت : انّ سيرة العقلاء الجارية على حجّية الامارة وان لم تكن ناظرة إلى تنزيلها منزلة القطع الموضوعي ولكن لم لا نقول انّ دليل حجّية السيرة وهو الامضاء الشرعي ناظر إلى تنزيل الامارة منزلة القطع الموضوعي.

قلت : انّ الامضاء الشرعي يتقدر بقدر السيرة ، وحيث انّ المفروض انعقاد السيرة على تنزيل الامارة منزلة القطع الطريقي ولم يثبت انعقادها على تنزيلها منزلة القطع الموضوعي فيتقدر بالمقدار المذكور الذي انعقدت عليه السيرة لا أكثر. هذا كله في المدرك الأوّل لحجّية الامارة وهو السيرة العقلائية.

وامّا انّ سيرة اصحاب الائمة عليهم‌السلام ليست ناظرة إلى القطع الموضوعي فلأنّ أصحاب الائمة بما هو اصحاب الائمة ويعيشون التشريع الاسلامي وان امكن نظرهم إلى القطع الموضوعي ـ فانّ القطع الموضوعي بعيد عن حياة العقلاء بما هو عقلاء وليس بعيدا عن المتشرعة الذين يعيشون التشريع ـ ولكنا لا نجزم بانعقاد سيرتهم على العمل بالامارة وتنزيلها منزلة القطع الموضوعي وانّما القدر المتيقن من سيرتهم هو العمل بالامارة وتنزيلها منزلة القطع الطريقي كمنجز ومعذر (٢).

__________________

(١) تقدمت الاشارة إلى هذا المطلب أكثر من مرة. راجع القسم الأوّل من هذه الحلقة ص ٨٢.

(٢) لا يخفى انّ المناقشة المذكورة من قبل السيد الشهيد مبنائية أي على مبناه الذي يرى فيه انّ الحكومة تنحصر بمورد النظر ولا تتم على مبنى السيد الخوئي الذي يرى انّ الحكومة لا ـ

٣٧١

النصية والأخصيّة

ج ـ والوجه الصحيح في تقدم الامارة على الأصل هو النصية والأخصية.

امّا النصية فالمراد منها انا نجزم بشمول دليل حجّية الامارة لموارد اجتماع الامارة مع الأصل المخالف لها ، فلو اخبر الثقة بحرمة التدخين ـ وأصل البراءة كما هو واضح يقتضي حليته ـ فلا إشكال في انّ العقلاء يأخذون بخبر الثقة ولا نحتمل انّ اخذهم به مختص بالموارد التي يخبر فيها الثقة بما يوافق البراءة ، أي في صورة الاخبار بالحلية.

وهذا كله بخلاف دليل الأصل فانا لا نجزم بشمول دليله للأصل المجتمع مع الامارة المخالفة له فلعل دليل البراءة مثلا يختص بالبراءة التي لا تكون مخالفة لأمارة من الامارات. انّ الجزم بشمول دليل حجّية الامارة لمورد الاجتماع بخلاف دليل حجّية الأصل هو المقصود من قولنا يقدم دليل الامارة على الأصل عند اجتماعه معه من باب النصية.

وامّا الاخصية فليس المراد منها الأخصية المصطلحة بمعنى انّ دليل حجّية الامارة اخص من دليل الأصل ـ كما يلوح ذلك من كلمات الشيخ الأعظم في أوائل مباحث البراءة عند البحث عن نكتة تقدم الامارة على الأصل ـ وانّما المراد

__________________

ـ تختص بموارد النظر بل لها موردان : احدهما : موارد النظر. ثانيهما : الموارد التي يكون فيها أحد الدليلين رافعا لموضوع الدليل الآخر تعبدا كما هو الحال في مقامنا أي دليل الامارة الرافع تعبدا لموضوع الأصل. راجع مصباح الاصول ج ٣ ٣٤٨ ـ ٣٤٩. كما ويمكن مراجعة تقرير السيد الشهيد ج ٧ ص ١٦٩ ـ ١٧٠ حيث يشير قدس‌سره إلى رأي السيد الخوئي هذا ومناقشته.

٣٧٢

منها نكتة تقدم الخاص على العام ، فانّ نكتة تقدم « لا تكرم العالم الفاسق » على دليل « اكرم العلماء » مثلا هو انّه لو قدّم العام وحكم بوجوب اكرام كل عالم بما في ذلك الفاسق لزم الغاء الخاص بشكل كليّ وعدم بقاء مورد له يمكن العمل به فيه ، وهذا بخلاف ما لو قدم الخاص فانّه لا يلزم منه إلغاء العام راسا بل يبقى له مورد وهو العلماء العدول.

انّ نفس هذا البيان يجري في مقامنا ، فانّ الامارة حينما تقوم في مورد فحتما يوجد أصل يجري معها امّا موافق لها أو مخالف ، إذ لا يمكن خلو مورد من الموارد من أصل من الاصول العملية.

وإذا كانت الامارة مقترنة بالأصل دائما فنقول : انّ الامارة لو كانت حجّيتها تختص بصورة كون الأصل موافقا لها فهذا معناه إلغاء دليل حجّية الامارة راسا ، إذ في مورد الأصل الموافق للامارة يكون العمل في الحقيقة بالأصل لا بالامارة ، فانّ الثقة لو اخبر بحليّة التدخين فإذا حكمنا بالحلية لم يكن الحكم المذكور مستندا إلى خبر الثقة ، إذ حتى لو لم يخبر الثقة بذلك كنا نحكم بذلك استنادا إلى البراءة.

إذن انحصار حجّية الامارة بمورد موافقتها للأصل هو بمثابة الغائها في الحقيقة ، ومن هنا لو سمعنا شخصا يحكم بان الامارة لا تكون حجّة إلاّ إذا كانت موافقة للاصل لاستغربنا ولقلنا له انّ هذا معناه عدم حجّيتها إذ عند موافقها للأصل يكون الاستناد بحسب الحقيقة إلى الأصل.

وعليه فالامارة عند اجتماعها بالاصل المخالف لها لا بدّ وان تكون هي

٣٧٣

المقدمة كيما لا يلزم الغائها. هذا هو المراد من الأخصية (١).

__________________

(١) وكان من المناسب ان يشير قدس‌سره في عبارة الكتاب إلى ذلك فانّ هذا مطلب دقيق وحريّ بالتوضيح. وقد اشير إليه في التقرير ج ٦ ص ٣٥٠.

٣٧٤

تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي

٦ ـ إذا كان لدينا ماء معلوم الطهارة سابقا ومشكوك الطهارة فعلا وغسلنا به ثوبا معلوم النجاسة بالفعل فسوف نشكّ في حصول الطهارة للثوب لاحتمال كون الماء نجسا. وفي مثل هذه الحالة يجري استصحابان متعارضان : استصحاب الطهارة في الماء وهو يقتضي حصول الطهارة للثوب واستصحاب النجاسة في الثوب.

والاستصحاب الاول يسمى بالاستصحاب السببي ، والثاني يسمى بالاستصحاب المسبّبي.

ووجه التسمية واضح ، فإنّ الشكّ في طهارة الماء حيث انه سبب للشكّ في نجاسة الثوب فالاستصحاب الجاري في طهارة الماء يكون استصحابا سببيا ، وحيث ان الشكّ في نجاسة الثوب مسبّب عن الشكّ في طهارة الماء فالاستصحاب الجاري في نجاسة الثوب يكون استصحابا مسببيا.

والمعروف ان الاستصحاب السببي مقدّم بالحكومة على الاستصحاب المسببي فيجري استصحاب طهارة الماء وتثبت بذلك طهارته ، ومن ثمّ طهارة الثوب بلا معارضة باستصحاب نجاسة الثوب.

وقد وجّه غير واحد من الأعلام حكومة الاستصحاب السببي : بأن استصحاب طهارة الماء إذا جرى حصل العلم بطهارة الماء وبجميع آثارها ـ طهارة

٣٧٥

الماء ـ التي أحدها طهارة الثوب ، وبذلك يزول الشكّ في نجاسة الثوب ـ الذي هو موضوع الاستصحاب المسببي ـ ويحصل العلم بطهارته ولكن تعبّدا لا حقيقة فإنّ الاستصحاب السببي وان أفاد العلم بناء على ان المجعول فيه هو الطريقية والعلميّة كما هو رأي الشيخ النائيني والسيّد الخوئي حسبما تقدّم ص ١٧ من الحلقة إلاّ أنه علم تعبّدي لا وجداني حقيقي.

هذا ويمكن مناقشة ذلك بوجهين : ـ

١ ـ ان حكومة الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسببي يتوقّف على ان يكون دليل الاستصحاب ناظرا إلى جعل الاستصحاب علما لا بلحاظ خصوص العلم الطريقي الذي وظيفته المنجّزيّة والمعذريّة بل جعله علما حتى بلحاظ العلم الموضوعي المأخوذ في موضوع الأصل ، وهذا غير ثابت ، فكما ان الأمارة لم يثبت جعلها علما بلحاظ العلم الموضوعي كذلك الاستصحاب لم يثبت ان المجعول فيه هو العلميّة بلحاظ العلم الموضوعي ، غاية الأمر الأمارة لم يثبت قيامها مقام القطع الموضوعي من باب قصور السيرة العقلائيّة والمتشرعية ، وأمّا الاستصحاب فلم يثبت فيه ذلك من باب قصور حديث « لا تنقض اليقين بالشكّ » عن إفادة ذلك ، فإنه لو استفيد من الحديث المذكور جعل العلميّة فأقصى ما يستفاد منه جعلها بلحاظ القطع الطريقي ـ أي بلحاظ المنجّزيّة ـ دونه بلحاظ القطع الموضوعي.

٢ ـ لو سلّمنا كون المجعول في باب الاستصحاب هو العلميّة حتى بلحاظ القطع الموضوعي فنقول ان الأصل السببي لا يكون دائما استصحابا ـ ليقال ان المجعول في الاستصحاب هو العلميّة ، الأمر الذي يوجب زوال الشكّ الذي هو

٣٧٦

الموضوع في الأصل المسببي ـ بل قد يكون أحيانا مثل أصل الطهارة الذي ليس المجعول فيه العلميّة جزما ، كما لو فرض ان لدينا ماء لا نعرف حالته السابقة من حيث الطهارة والنجاسة وغسلنا به ثوبا نجسا ، فإنّ الأصل الجاري في الماء ليس هو استصحاب الطهارة ـ لفرض جهالة حالته السابقة ـ بل هو أصالة الطهارة فيحكم بطهارة الماء استنادا لقاعدة الطهارة وبالتالي يحكم بطهارة الثوب ولا يعتنى للأصل الجاري في الثوب وهو استصحاب النجاسة ، فبالرغم من كون الأصل الجاري في الثوب هو استصحاب النجاسة ـ الذي قيل بأنّ المجعول فيه هو العلميّة ـ لم يعتن به وحكم على طبق أصالة الطهارة في الماء التي لم يجعل فيها العلمية.

ان هذا يدلّل على ان نكتة تقدّم الأصل السببي لا تكمن في ان المجعول في الاستصحاب السببي هو العلميّة بل تكمن في شيء آخر.

النكتة الصحيحة

والنكتة الصحيحة في تقدّم الأصل السببي على المسببي هي ان الأصل السببي يعالج ـ أي يثبت أو يرفع ـ موضوع الأصل المسببي ، والمرتكز في ذهن العقلاء والعرف ان كل أصل يعالج موضوع الأصل الآخر فهو مقدّم عليه ولا تحصل المعارضة بينهما ، فمثلا إذا شكّ في مجيء زيد من جهة الشكّ في حياته فاستصحاب الحياة يجريه العرف ويحكم بالحياة ومن ثمّ بالمجيء بدون ان يعارض ذلك باستصحاب عدم المجيء ، وحيث ان روايات الاستصحاب ناظرة الى المرتكزات العرفيّة ولا تقصد بيان مطلب يخالف ذلك بقرينة جملة « فليس

٣٧٧

ينبغي لك ... » فيكون المستفاد منها ـ روايات الاستصحاب ـ جريان الأصل السببي دون الأصل المسببي.

وباختصار ان نفس كون أحد الأصلين يعالج موضوع الأصل الآخر نكتة عرفيّة لتقدّمه قبل ان تصل النوبة الى قضيّة كون أحد الأصلين ملغيا للشكّ المأخوذ في موضوع الأصل الآخر (١).

__________________

(١) وبيان النكتة بهذا الشكل بيان جميل وان كانت عبارة الكتاب فيها قصور وغموض ولكن عبارة التقرير ج ٦ ص ٣٥٦ واضحة فيما ذكرناه. وما ذكر في قسم الملاحق لم نفهم معناه.

٣٧٨

معارضة الاستصحاب للأصول الأخرى

٧ ـ وإذا حصلت المعارضة بين الاستصحاب وبقيّة الاصول فما هو الموقف؟ فمثلا عند الشكّ في بقاء وجوب صلاة الجمعة لا إشكال في اقتضاء الاستصحاب بقاء الوجوب على عكس البراءة حيث تقتضي عدم ثبوت الوجوب.

وفي هذه الحالة ذهب مشهور الاصوليين إلى تقدّم الاستصحاب للجمع العرفي (١) ، فالاستصحاب مقدّم على البراءة من جهة حكومته عليها ، فإنه بناء على كون المجعول في الاستصحاب الطريقيّة والعلميّة يصير ـ الاستصحاب ـ من الاصول المحرزة أي يحرز لنا تعبّدا بقاء الوجوب ويحصّل العلم تعبّدا بذلك وينفي الشكّ الذي هو موضوع البراءة ، فالاستصحاب حاكم على البراءة من جهة نفيه لموضوع البراءة تعبّدا.

ان قلت : كما ان الشكّ مأخوذ في موضوع البراءة كذلك هو مأخوذ في موضوع الاستصحاب فلماذا صار الاستصحاب هو الرافع لموضوع البراءة بلا عكس؟

قلت : ان ذلك من جهة ان المجعول في الاستصحاب العلميّة والطريقيّة فبجريانه يحصل العلم تعبّدا ببقاء وجوب الجمعة ويزول الشكّ ، وهذا بخلاف

__________________

(١) المقصود من الجمع العرفي هنا الحكومة.

٣٧٩

العكس فإنه ليس المجعول في البراءة العلميّة ليكون موجبا تعبدا لزوال الشكّ المأخوذ في موضوع الاستصحاب.

مناقشة الحكومة

ثمّ انه يمكن مناقشة حكومة الاستصحاب على بقيّة الأصول بنفس المناقشة التي تقدّمت في باب الأمارة ، فكما لم نقبل فيما سبق حكومة الأمارة على الاستصحاب باعتبار انه لا يستفاد من دليل حجيّة الأمارة أكثر من تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي في المنجزيّة والمعذريّة ولا يستفاد تنزيلها منزلة القطع الموضوعي للقصور في السيرة العقلائيّة حسب البيان المتقدّم كذلك نقول هنا ان حديث لا تنقض اليقين بالشكّ لا يستفاد منه أكثر من كون الاستصحاب منجّزا ومعذّرا ، أي هو بمثابة القطع الطريقي ولا يستفاد منه كونه بمثابة القطع الموضوعي ليكون حاكما وناظرا لموضوع بقيّة الأصول.

التخريج الصحيح

والتخريج الصحيح لتقدّم الاستصحاب على بقيّة الاصول هو ان الاستصحاب أظهر في الشمول لمادّة الاجتماع. وهذه الأظهريّة ناشئة من كلمة « أبدا » المذكورة في روايات الاستصحاب فإنّها موضوعة لإفادة العموم ، ففي المثال المتقدّم لصلاة الجمعة الذي اجتمع فيه الاستصحاب المقتضي لبقاء الوجوب والبراءة المقتضية لانتفائه يكون دليل الاستصحاب أظهر في الشمول

٣٨٠