الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٤

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-28-6
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٤٨٧

بالخاص الوارد في السنة الشريفة ، وما ذاك إلاّ لأن شمول دليل حجّية الظهور للعام الكتابي معارض بشمول دليل حجّية الصدور للخاص الخبري.

والخلاصة : انّه في هذه الحالة الرابعة قد يستشكل في تقدم الخاص على العام أي يستشكل في الجمع العرفي بينهما بالتخصيص. ووجه الإشكال هو المعارضة السابقة الآنفة الذكر.

ويرده : انا لا نسلم بالمعارضة السابقة ، فانّ حجّية ظهور العام مقيدة بعدم ثبوت صدور الخاص الصالح للتخصيص فإذا ثبت بدليل حجّية الصدور انّ الخاص صادر ارتفع بذلك موضوع حجّية العام ، لأنّ المفروض انّه مقيد بعدم صدور الخاص. وهذا معناه انّ دليل حجّية صدور الخاص حاكم على دليل حجّية ظهور العام ورافع لموضوعه وليس بينهما معارضة.

وانّما قلنا بالحكومة دون الورود من جهة انّ دليل حجّية صدور الخاص لا يثبت صدور الخاص حقيقة وانّما يثبته تعبدا فهو رافع لموضوع حجّية ظهور العام تعبدا لا حقيقة.

ومن خلال هذا يتضح انّ تخصيص العام الكتابي بالخاص الخبري لا إشكال فيه من هذه الناحية ، ولئن كان فيه إشكال فهو من ناحية اخرى ، وهي قصور أدلة حجّية الخبر عن الشمول للخبر المخالف للعموم الكتابي فالخبر المخالف للعموم الكتابي لا دليل على حجّيته حتى يمكن ان يكون مخصصا للعموم الكتابي ، فانّ أدلة حجّية الخبر لا تشمل الخبر المخالف للكتاب إذ هو زخرف

__________________

ـ المراد من دليل حجّية الصدور هو مثل مفهوم اية النبا

٣٤١

وباطل. ولكن سيأتي فيما بعد ان شاء الله (١) دفع هذه الشبهة.

قوله ص ٣٤٨ س ٦ : وبدليل حجّية السند : عطف تفسير على قوله بالتعبد.

قوله ص ٣٤٨ س ٦ : مثلا كما في أخبار الاحاد : الظاهر انّ الصواب : كما في اخبار الاحاد مثلا.

قوله ص ٣٤٩ س ٦ : بالذات : أي فقط.

__________________

(١) ص ٣٨٧ من الحلقة

٣٤٢

نتائج الجمع العرفي بالنسبة إلى الدليل المغلوب

قوله ص ٣٥١ س ١ : لا إشكال في انّ كل إلخ : حاصل هذا المبحث انّه لو قال المولى اكرم كل فقير وقال بعد ذلك لا تكرم الفقير الفاسق فإذا واجهنا فقيرا وجزمنا بفسقه فلا إشكال في دخوله في حكم الخاص وعدم وجوب اكرامه ، وإذا جزمنا بعدم فسقه فلا إشكال أيضا في دخوله في حكم العام ووجوب اكرامه. وهذا ممّا لا إشكال فيه.

وانّما الإشكال في صورة الشكّ والتردد في انّ الفقير الذي واجهناه هل هو فاسق (١) حتى لا يجب اكرامه أو ليس بفاسق حتى يجب اكرامه فما هو الموقف في مثل هذه الحالة؟ والجواب ان صورة الشكّ تنقسم إلى قسمين : ـ

التمسك بالعام في الشبهات المصداقية

١ ـ وفي القسم الأوّل يفرض انّ الشكّ في الفسق لم ينشأ من الشكّ في مفهوم الفسق وعدم تحدده بل يفرض انّ مفهوم الفاسق واضح وهو المرتكب لمعصية من المعاصي الكبيرة ، وانّما الشكّ في انّ الفقير المشكوك هل هو فاعل للكبيرة أو لا؟

__________________

(١) بهذا يتضح المقصود من العنوان المذكور في عبارة السيد الشهيد « نتائج الجمع العرفي بالنسبة إلى الدليل المغلوب » فالدليل المغلوب هو العام. والمقصود انّه بعد الجمع بالتخصيص وحمل العام على الخاص فهل يجوز التمسك بالعام لإثبات وجوب اكرام الفقير مشكوك الفسق أو لا

٣٤٣

فالشكّ انّما هو في المصداق وليس في المفهوم. وفي هذا القسم توجد اجابتان : ـ

أ ـ جواز التمسك بالعام بتقريب انّ العام دال على وجوب اكرام كل فقير بما في ذلك الفقير المشكوك ، وهو حجّة في ذلك ولا ترفع اليد عن حجّيته إلاّ بحجّة اقوى ، والحجّة الأقوى ليس هو إلا الخاص ، والخاص حيث لا يجوز التمسك به ـ لفرض عدم العلم بفسق المشكوك حتى يتمسك به لإثبات عدم وجوب اكرامه ـ فلا يكون حجّة في مقابل حجّية العام.

وباختصار بناء على هذا الرأي يكون التمسك بالعام في الشبهات المصداقية أمرا جائزا.

ب ـ والرأي الثاني وهو المشهور يقول بعدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية. وهذا هو الصحيح.

والوجه في ذلك انّه لو اريد التمسك بالعام ـ اكرم كل فقير ـ لإثبات وجوب اكرام الفقير المشكوك فسقه فالإحتمالات في ذلك ثلاثة : ـ

أ ـ ان يتمسك بالعام لإثبات وجوب اكرام الفقير المشكوك ان فرض انّه لم يكن فاسقا. وهذا الاحتمال وان كان صحيحا ولكنه غير نافع ، فانّ الوجوب في الاحتمال المذكور وجوب مشروط ، وحيث انّ الشرط لا يحرز تحققه فالوجوب الفعلي لا يحرز تحققه أيضا ، وواضح انّ الوجوب النافع هو الوجوب الفعلي دون الوجوب المشروط.

ب ـ ان يتمسك بالعام لإثبات وجوب اكرام الفقير المشكوك حتى على تقدير فسقه. وهذا الإحتمال باطل ، إذ مع وجود الحجّة الأقوى وهو الخاص الدال على عدم جواز اكرام الفاسق كيف يتمسك بالعام لأثبات وجوب اكرام

٣٤٤

الفقير الفاسق.

ج ـ ان يتمسك بالعام لإثبات انّ الفقير المشكوك هو فقير غير فاسق وانّه يجب اكرامه بالفعل. وهذا الاحتمال هو المطلوب ، ولكن لا يمكن إثباته لأنّ أقصى ما يقوله الدليل العام وأي دليل آخر : انّ الفقير لو لم يكن فاسقا فاكرامه واجب ، امّا انّ هذا الشخص أو ذاك هو فاسق بالفعل أو لا فذاك لا يقوله ، فانّ الحكم لا يثبت موضوع نفسه وانّما يقول لو كان موضوعي ثابتا فانا ثابت.

وبكلمة اخرى : انّ مفاد الدليل العام هو الجعل ـ أي الحكم المشروط وانّ الشخص لو كان فقيرا غير فاسق فيجب اكرامه ـ لا المجعول وانّ الشخص الفقير بالفعل هو غير فاسق وبالفعل يجب اكرامه (١).

التمسك بالعام في الشبهة المفهومية

٢ ـ وهناك قسم ثان لصورة الشكّ وهي ان نفترض انّ الفقير المشكوك نعلم بعدم كونه فاعلا للكبيرة وانّما هو فاعل للصغيرة ولكن مع ذلك نشكّ في وجوب اكرامه من جهة الشكّ في مفهوم الفاسق الذي ورد في الخاص فلا يعلم انّه يختص بفاعل الكبيرة أو يعم مرتكب كل ذنب ولو كان صغيرا ، وهذا بخلافه في

__________________

(١) ويمكن بيان عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية بوجه آخر اخصر ، وهو انّه بعد ورود الخاص يصير مضمون العام هكذا : اكرم كل فقير غير الفاسق فنحصل بذلك على حجّتين : اكرم كل فقير غير الفاسق ولا تكرم الفقير الفاسق ، ومن الواضح انّ إدخال الفقير المشكوك تحت الحجّة الاولى وهي العام دون الثانية ترجيح بلا مرجح بل يلزم الرجوع إلى مقتضى الاصول العملية

٣٤٥

القسم السابق فانّ مفهوم الفاسق كان معلوما لنا وهو عبارة عن فاعل الكبيرة مثلا بيد انا نشكّ انّ الفقير المشكوك هل هو فاعل للكبيرة أو لا.

إذن الشكّ في صدق الفاسق تارة يكون بنحو الشبهة المصداقية واخرى بنحو الشبهة المفهومية.

والحديث السابق كله كان يدور حول التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، والآن يقع الكلام في جواز التمسك بالعام في الشبهة المفهومية فالفقير المشكوك الذي نجزم بانّه فاعل للصغيرة دون الكبيرة هل يجوز التمسك بالعام لإثبات وجوب اكرامه أو لا؟ والصحيح : نعم يجوز التمسك بالعام.

والوجه في ذلك : انّ العام يقول كل فقير بما في ذلك مرتكب الصغيرة أو مرتكب الكبيرة يجب اكرامه ، وهو حجّة في مفاده هذا ولا ترفع اليد عنه إلاّ بحجّة أقوى وهي الخاص ، وحيث انّ عنوان الفاسق الوارد في الخاص لا يجزم بانطباقه على مرتكب الصغيرة فلا يكون ـ أي الخاص ـ حجّة في مقابل العام وانّما يكون حجّة في خصوص مرتكب الكبيرة وترفع اليد عن العام في خصوص مرتكب الكبيرة.

ان قيل : ما الفارق بين هذا القسم والقسم السابق ، ولماذا لا نطبق البيان المذكور في القسم السابق على هذا القسم أيضا؟

قلت : انّه قبل ورود الخاص كان الدخيل في وجوب الاكرام هو الفقير لا غير ، وبعد ورود الخاص صار المدار في وجوب الاكرام على الفقر وعدم الفسق. وحينما نقول بدخالة عدم الفسق في وجوب الاكرام فليس المقصود دخالة لفظ عدم الفسق والتسمية باسمه ، فانّ من الواضح انّ الالفاظ لا مدخلية

٣٤٦

لها في ذلك ، فلو تغير اسم عدم الفسق وصار يسمى باسم آخر فلا اشكال في عدم تغير الحكم. إذن الدخيل في وجوب الاكرام هو واقع عدم الفسق ، وحيث انّ القدر المتيقن في المراد من الفسق واقعا هو فاعل الكبيرة فقط فيكون الخاص حجّة بالنسبة إلى فاعل الكبيرة فقط ، وامّا فاعل الصغيرة فيبقى تحت العام بلا حجّة معارضة. وهذا كلّه بخلافه في القسم السابق ـ أي الشبهة المصداقية ـ فإنّ أمر الخاص لم يدر بين الأقل والأكثر حتى يقال بانّ القدر المتيقن هو الأقل والخاص حجّة في الأقل فقط بل علمنا بانّ العام حجّة في غير فاعل الكبيرة والخاص حجّة في فاعل الكبيرة ، وحيث انّ المشكوك لا يعلم بانّه فاعل للكبيرة أو لا فإدخاله تحت الحجّة الاولى دون الثانية بلا مرجح.

قوله ص ٣٥١ س ١ : من الافراد التي كانت داخلة في نطاق ذي القرينة : أي من الأفراد التي يصدق عليها عنوان الفقير الذي هو العنوان المأخوذ في العام.

قوله ص ٣٥١ س ٥ : من تلك الافراد : أي التي يصدق عليها عنوان الفقير والداخلة تحت ذي القرينة.

قوله ص ٣٥١ س ٦ : فهو على اقسام : الصواب فهو على قسمين.

قوله ص ٣٥١ س ٧ : الشكّ في الشمول : أي شمول الفاسق المأخوذ في القرينة.

قوله ص ٣٥٣ س ٢ : على حكمه : أي على حكم مرتكب الكبيرة وانّه يجب اكرامه.

٣٤٧
٣٤٨

تطبيقات للجمع العرفي

قوله ص ٣٥٥ س ١ : هناك حالات ادعي إلخ : عرفنا فيما سبق انّه متى ما أمكن الجمع العرفي بين الدليلين وجب ذلك. وقد وقع الكلام في بعض الموارد في انّ العرف كيف يجمع بين الدليلين. وفيما يلي نذكر شطرا من تلك الموارد.

إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء

١ ـ هناك بحث حاصله انّه لو كان لدينا جملتان شرطيتان لهما شرط متعدد وجزاء واحد كما لو قيل ان خفي الأذان فقصر ، وقيل أيضا ان خفيت الجدران فقصر (١) ـ فحيث انّه أحيانا يتحقق شرط الجملة الاولى دون الجملة الثانية أي يتحقق خفاء الاذان بدون خفاء الجدران فيحصل التعارض في مثل الحالات المذكورة ، فانّ مقتضى منطوق الجملة الاولى انّ خفاء الاذان ما دام قد تحقق كفى ذلك في وجوب التقصير وان لم تخف الجدران بينما مفهوم الجملة الثانية يدل على انّ خفاء الجدران إذا لم يتحقق فلا يجب التقصير حتى وان خفي الاذان.

__________________

(١) التعبير المذكور لا يوجد في الروايات وانما الموجود في صحيحة محمد بن مسلم « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يريد السفر متى يقصر؟ قال : اذا توارى من البيوت » الوسائل : باب ٦ من صلاة المسافر حديث ١. وفي صحيحه ابن سنان : « اذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الاذان فقصر » المصدر السابق حديث ٣.

٣٤٩

إذن التعارض يتحقق بين منطوق كل جملة وإطلاق مفهوم الجملة الثانية. أمّا بين نفس المنطوقين فلا تعارض ، إذ منطوق الاولى يدل على انّ خفاء الاذان موجب للتقصير بدون ان ينفي عليّة خفاء الجدران للتقصير ، وهكذا منطوق الجملة الثانية يدل على انّ خفاء الجدران موجب للتقصير بدون ان ينفي عليّة خفاء الاذان للتقصير.

وما دام التعارض متحققا بين منطوق كل واحدة ومفهوم الاخرى فما هو الوجه في حلّ التعارض المذكور؟

قد يقال بانّ المنطوق مقدم على المفهوم فيؤخذ بمنطوق كلتا الجملتين ويهجر مفهومهما ، ونتيجة الأخذ بالمنطوقين انّ للتقصير احدى علتين : خفاء الاذان ، خفاء الجدران ، فمتى ما تحقق واحد منهما وجب التقصير.

امّا لماذا يقدم منطوق كل واحدة على مفهوم الاخرى؟ انّ ذلك لاحدى نكتتين : ـ

أ ـ انّ المنطوق حيث انّه اقوى وأظهر من المفهوم فيقدم عليه.

ب ـ انّ منطوق كل واحدة حيث انّه أخص من المفهوم فيقدم عليه من باب الأخصية.

والوجه في أخصية المنطوق : انّ اطلاق مفهوم الجملة الثانية مثلا يقول انّ الجدران إذا لم تخف فلا يجب التقصير ، وهذا مطلق يشمل صورة خفاء الاذان وعدمه بينما منطوق الجملة الاولى يقول إذا خفي الاذان فقصر ، وحيث انّ هذا أخص فيقدم بالاخصية.

وكلتا النكتتين قابلة للتأمل.

٣٥٠

امّا الاولى فلأنّ دلالة الجملة الشرطية على المفهوم تنشأ من دلالة المنطوق على خصوصية العليّة الانحصارية (١) التي تستلزم انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط فلو لا دلالة المنطوق على الخصوصية المذكورة لم تحصل الدلالة على المفهوم. وما دامت الدلالة على المفهوم ناشئة من دلالة المنطوق على الخصوصية فيمكننا ان نقول على ضوء ذلك انّ التعارض في الحقيقة ثابت بين المنطوقين ـ فدلالة الجملة الاولى على انّ خفاء الاذان علّة منحصرة للتقصير يتعارض ودلالة الجملة الثانية على انّ خفاء الجدران هو العلة المنحصرة ـ وليس بين منطوق واحدة ومفهوم الاخرى ليقال انّ المنطوق أظهر من المفهوم فيقدم عليه.

امّا الثانية فلانّ التعارض في الحقيقة ليس هو بين ذات المنطوق وإطلاق المفهوم ليقال انّ ذات المنطوق أخص مطلقا من إطلاق المفهوم فيقدم عليه بالأخصية وانّما هو بين إطلاق المنطوق لإحدى الجملتين وإطلاق مفهوم الاخرى ، والنسبة بين الاطلاقين حيث انّها العموم من وجه فلا وجه لتقدم المنطوق بل لا بدّ من التساقط والرجوع إلى الاصول العملية.

والوجه في كون التعارض تعارضا بين إطلاق منطوق واحدة وإطلاق مفهوم الاخرى هو انّ إطلاق منطوق كل جملة شرطية يقتضي ان الشرط علّة

__________________

(١) هذا على رأي المشهور فإنّه يرى انّ الدلالة على المفهوم تنشأ من دلالة الجملة على انّ الشرط علة منحصرة للجزاء بينما السيد الشهيد يرى انّ خصوصية التوقف تكفي أيضا للدلالة على المفهوم فاحدى الخصوصيتين تكفي للدلالة على المفهوم فامّا ان يثبت انّ الجملة الشرطية مثلا موضوعة للتوقف ، أي توقف الجزاء على الشرط أو يثبت أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء.

٣٥١

تامّة وليس جزء العلّة ، فإطلاق منطوق إذا خفي الاذان فقصر هو انّه متى ما خفي الاذان وجب التقصير سواء انضم إليه خفاء الجدران أم لا ، وهذا معناه انّ خفاء الاذان علّة تامّة للتقصير وليس جزء العلة والجزء الثاني خفاء الجدران. وهكذا إطلاق منطوق إذا خفيت الجدران فقصر يقتضي انّ خفاء الجدران علّة تامّه لوجوب التقصير وليس جزء العلّة.

إذن إطلاق المنطوقين يقتضي انّ كل واحد من الشرطين علّة تامّة وليس علّة ناقصة. وهذا الإطلاق يقابله التقييد بالواو فانّ خفاء الاذان لو كان جزء العلّة فلازمه انّ الموجب للتقصير خفاء الاذان وخفاء الجدران. هذا بالنسبة إلى إطلاق المنطوقين.

وامّا بالنسبة إلى إطلاق المفهومين فهو يقتضي انّ العلّة منحصرة وواحدة وليس هناك علتان للتقصير ، فانّ مفهوم الجملة الاولى يدل بإطلاقه انّه إذا لم يخف الاذان فلا يجب التقصير سواء خفيت الجدران أم لا ، وهذا معناه انّ خفاء الاذان علّة منحصرة وواحدة وليس خفاء الجدران علّة ثانية ، وهكذا إطلاق مفهوم الجملة الثانية يقتضي انّه إذا لم تخف الجدران فلا يجب التقصير سواء خفي الاذان أم لا. وهذا الاطلاق للمفهوم يقابله التقييد بـ « أو ».

وبالجملة انّ التعارض في الحقيقة ثابت بين إطلاق منطوق الشرطيتين وإطلاق المفهوم لهما ، فانّه لو أخذنا بإطلاق منطوق الاولى منضما إلى إطلاق منطوق الثانية فالنتيجة هي انّ كل شرط علّة تامّة فلوجوب التقصير علتان : خفاء الاذان وخفاء الجدران ، بينما لو أخذنا بإطلاق المفهومين كانت النتيجة انّ وجوب التقصير له علّة واحدة لا علتان ، والأخذ بكلا الاطلاقين غير ممكن

٣٥٢

فامّا ان يؤخذ بإطلاق المنطوقين والقول بانّ كل واحد من الشرطين علّة تامّة ، ولازم ذلك تقييد إطلاق المفهومين ، أو ان يؤخذ بإطلاق المفهومين والقول بانّ العلّة للتقصير واحدة ، ولازم ذلك تقييد إطلاق المنطوقين.

وعليه فالمعارضة في الحقيقة هي بين إطلاق المنطوقين وإطلاق المفهومين. والنسبة بينهما هي العموم من وجه.

ومادة المعارضة بينهما هي ما إذا تحقق أحد الشرطين بدون الشرط الثاني فإذا تحقق خفاء الاذان وحده يحصل التعارض بينهما لأنّ إطلاق منطوق الاولى يقول التقصير واجب بينما إطلاق مفهوم الجملة الثانية يقول هو ليس بواجب ، وهكذا إذا تحقق شرط الجملة الثانية وحده فانّه يتحقق التعارض ، فإذا تحقق خفاء الجدران وحده فإطلاق منطوق الجملة الثانية يقول يجب التقصير بينما إطلاق مفهوم الجملة الاولى يقول لا يجب التقصير ، فللتعارض إذن مادتان ، الاولى حالة تحقق الشرط الأوّل وحده ، والثانية حالة تحقق الشرط الثاني وحده.

وامّا مادة عدم التعارض فهي ما إذا تحقق كلا الشرطين ، فانّ منطوق كل واحدة من الجملتين يقول يجب التقصير ، ومفهوم كل واحدة لا يأبى ذلك (١).

ومن كل هذا نخرج بهذه النتيجة وهي انّ الجمع العرفي متعذر في المقام ، فانّ الجمع العرفي موقوف على أخصية المنطوق أو أظهريته ، وقد اتضح بطلان الأخصية وبطلان الأظهرية.

__________________

(١) لا يخفى انّ التعارض بنحو العموم من وجه هنا يختلف عنه في سائر الموارد ، ففي سائر الموارد مادة التعارض واحدة ومادة عدم التعارض متعددة ، وامّا هنا فمادة التعارض متعددة بينما مادة عدم التعارض واحدة. وهذا يمكن عدّه من الالغاز العلمية.

٣٥٣
٣٥٤

أصالة التداخل في الاسباب أو في المسببات

٢ ـ والمورد الثاني الذي وقع الكلام في توفر الجمع العرفي فيه وعدمه هو ما لو كان لدينا شرطان نعلم بكون كل واحد منهما شرطا مستقلا تامّا ، كما إذا قيل إذا افطرت فاعتق وقيل أيضا إذا ظاهرت فاعتق ، فانّ الافطار وحده علّة تامّة لوجوب العتق ، والظهار وحدة علّة تامّة أيضا لوجوب العتق. فلو فرض انّ انسانا أفطر وظاهر فسوف نواجه السؤالين التاليين : ـ

أ ـ هل بحدوث السببين يحدث مسببان ، أي وجوبان أو يحدث وجوب واحد لا أكثر؟ فان قلنا بحدوث وجوبين فهذا معناه انّ السببين لا يتداخلان ولا يصيران سببا واحدا بل يبقى كل منهما سببا مستقلا مغايرا للسبب الآخر. وهذا ما يصطلح عليه بعدم تداخل الاسباب. وامّا لو قيل بانّ الوجوب الحادث واحد فمعنى ذلك تداخل السببين وصيرورتهما سببا واحدا.

والصحيح في الجواب : انّ السببين لا يتداخلان بحيث يحدث وجوب واحد.

والوجه في ذلك : انّ ظاهر كل جملة شرطية انّه بحدوث الشرط يحدث الجزاء ، فبحدوث شرط الجملة الاولى يحدث وجوب وبحدوث شرط الجملة الثانية يحدث وجوب آخر. واستنادا إلى الظهور المذكور قيل بانّ الأصل في الاسباب عدم التداخل.

ب ـ إذا بنينا على انّ السببين لا يتداخلان ، أي يحدث وجوبان فنواجه

٣٥٥

سؤالا آخر ، وهو ان امتثال الوجوبين هل يتحقق بامتثال واحد أو انّ لكل وجوب امتثالا خاصا به؟ فان قلنا بلزوم امتثالين فهذا معناه عدم تداخل المسببين في مقام الامتثال بينما لو قلنا بكفاية امتثال وتحرك واحد فهذا معناه تداخل المسببين في مقام الامتثال.

والجواب عن السؤال المذكور هو عدم التداخل بين المسببين في مقام الامتثال.

والوجه في ذلك : ان كل وجوب يقتضي امتثالا وتحركا خاصا به فالوجوب الحادث عند الافطار يقتضي امتثالا خاصا به وهكذا الوجوب الحادث عند الظهار يقتضي امتثالا خاصا به. ولإجل هذه النكتة قيل انّ الأصل في المسببات عدم تداخلها في مقام الامتثال.

إشكال وجواب

وقد يشكل على الحكم بتعدد الوجوبين وتعدد امتثالهما بالاشكال التالي : انّ الوجوبين إذا كانا متعددين فالمتعلق لهما امّا ان يكون شيئا واحدا ـ وهو طبيعي العتق ـ أو يكون شيئا متعددا ، بان يكون الوجوب الاوّل متعلقا بفرد من العتق والوجوب الثاني متعلقا بفرد ثان من طبيعي العتق.

فان كان متعلق الوجوبين شيئا واحدا ، وهو طبيعي العتق فمن اللازم الاكتفاء بامتثال وعتق واحد ، حيث انّ الطبيعي يتحقق بفرد واحد ولا يتوقف على ايجاد فردين والحال انّه حكمنا فيما سبق بعدم الاكتفاء بامتثال واحد بل لا بد من امتثالين.

٣٥٦

وان كان المتعلق للوجوبين متعددا ـ بان كان متعلق الوجوب الثاني فردا ثانيا ـ فهذا الإحتمال وان كان لازمه عدم الاكتفاء بامتثال واحد ، وهو جيد من هذه الناحية إلاّ انّه باطل من حيث مخالفته لظاهر الاطلاق ، فانّ العتق في كلتا الجملتين مطلق ولم يقيد بالمرة الثانية فلم يقل إذا ظاهرت فاعتق مرة ثانية وانّما ذكر من دون التقييد المذكور ، وهذا لازمه انّ المتعلق واحد وهو طبيعي العتق وليس متعددا.

هذا حصيلة الإشكال. وقبل الجواب عنه نشير إلى مطلب حاصله : انّه وقع كلام في انّ الوجوبين مثلا هل يمكن تعلقهما بشيء واحد كطبيعي الغسل مثلا؟

قد يقال بعدم إمكان ذلك لأن لازم وحدة المتعلق اجتماع المثلين في شيء واحد وهو مستحيل. وقد يقال بإمكان ذلك ، باعتبار انّ الوجوب أمر اعتباري ، ولا محذور في اجتماع الاعتبارين في شيء واحد.

وبعد الالتفات إلى المطلب المذكور نرجع إلى الاشكال لنجيب عنه بما يلي :

إذا قلنا بإمكان تعلق الوجوبين بشيء واحد فبامكاننا اختيار الشق الأوّل من الشقين المذكورين في الاشكال بان يقال انّ متعلق الوجوبين في الجملتين الشرطيتين شيء واحد وهو طبيعي العتق. وما ذكر من محذور لزوم الاكتفاء بعتق واحد مدفوع بانّ الوجوب ما دام متعددا فالتحرك يكون متعددا أيضا فانّ الوجوب الأوّل يقتضي تحركا خاصا إلى طبيعي العتق والوجوب الثاني يقتضي تحركا ثانيا نحو الطبيعي فلأجل اقتضاء كل وجوب تحركا خاصا به نحو الطبيعي

٣٥٧

يلزم ايجاد الطبيعي مرتين.

وأمّا إذا قلنا بعدم إمكان تعلق الوجوبين بشيء واحد فبإمكاننا اختيار الشق الثاني من الشقين السابقين ، بانّ يقال بتعلق الوجوب الثان بفرد ثاني من العتق. ودعوى ان التقييد بالفرد الثاني لا يمكن الالتزام به لمخالفته لظاهر الاطلاق مدفوعة بانّ القرينة على التقييد بالفرد الثاني موجودة ، وهي تعدد الوجوب ، فانّ تعدد الوجوب بعد افتراض عدم إمكان تعلقهما بشيء واحد بنفسه قرينة على تقييد الوجوب الثاني بفرد ثان من العتق. وهذا نحو جمع عرفي بين الوجوبين ، فانّ الوجوبين بعد عدم إمكان اجتماعهما في شيء واحد فالعرف يجمع بينهما بتقييد متعلق الوجوب الثاني بفرد ثان.

ومن خلال كل هذا اتضح انّ القسم المذكور من مصاديق الجمع العرفي بخلاف الأوّل ـ أي إذا خفي الاذان فقصر وإذا خفيت الجدران فقصر ـ فانّه ليس من مصاديق الجمع العرفي.

٣٥٨

تعارض الأحكام الأولية والثانوية

٣ ـ لا إشكال في انّ شرب الماء مثلا مباح كما ولا إشكال في انّ المكلّف لو نذر شربه صار واجبا.

وقد يقال انّ الحكم بالاباحة الذي هو حكم أولي يتعارض مع الحكم بوجوب الشرب الثابت بالنذر الذي هو حكم ثانوي ، فانّ الشيء الواحد لا يمكن ان يكون مباحا وواجبا.

وقد يقال بإمكان الجمع العرفي بين الحكمين المتعارضين المذكورين ، وذلك بان يقال انّ الحكم بالاباحة ثابت للماء بعنوان انّه ماء ومؤداه انّ عنوان الماء لا اقتضاء فيه لا للوجوب ولا للحرمة ، ولإجل عدم اقتضائه لا لهذا ولا لذاك كان مباحا ، بينما الحكم بالوجوب ثابت للماء بعنوان ثان وهو عنوان المنذور فلأجل انطباق عنوان المنذور على الماء صار شربه واجبا. ومؤدى الحكم بالوجوب انّ الماء إذا انطبق عليه عنوان المنذور اقتضى لزوم الفعل ، وبناء على هذا البيان ترتفع المنافاة بين الحكم بالاباحة والحكم بالوجوب فلا محذور في ان يكون الشيء الواحد بعنوانه الاولي مباحا ولا يقتضي الوجوب ولا الحرمة بينما بعنوانه الثاني يقتضي الوجوب.

ويمكن التعليق على ذلك : بانّ البيان المذكور لرفع التعارض والمنافاة وان كان جيدا إلاّ انّه يزيل التنافي بشكل كامل ومن الاساس بحيث لا يبقى للجمع

٣٥٩

العرفي مجال ، فانّ الجمع العرفي فرع تحقق المعارضة بشكل ضعيف وغير مستقر ، والبيان المذكور يزيل المعارضة حتى بشكلها الضعيف غير المستقر فلا تبقى أرضية للجمع العرفي.

٣٦٠