الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٤

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-28-6
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٤٨٧

١ ـ أن يكون مقصود الإمام عليه‌السلام من الحالة الاولى الإشارة إلى صورة العلم الإجمالي ومن الحالة الثانية الإشارة إلى صورة الشكّ البدوي ، فكأنّه عليه‌السلام يريد القول انّك إن علمت إجمالا قبل الصلاة بإصابة النجاسة للثوب ولكن شككت في موضع الإصابة فعليك بإعادة الصلاة إذا رأيتها في الأثناء ، وأمّا إذا لم تعلم إجمالا بالإصابة وإنّما كنت تشكّ بدوا في ذلك وتحتمل طروّها في الأثناء فتطهر الثوب بلا حاجة إلى استئناف الصلاة من جديد.

٢ ـ أن يكون مقصود الإمام عليه‌السلام من الحالة الاولى الإشارة إلى حالة الشكّ البدوي ومن الحالة الثانية الإشارة إلى حالة عدم الشكّ البدوي ، فكأنّه عليه‌السلام يقول إن شككت بدوا قبل الصلاة بالإصابة ثمّ رأيت النجاسة أثناء الصلاة فعليك باستئناف الصلاة وإن لم تشكّ بدوا في ذلك بل كنت جازما بالطهارة قبل الصلاة ثمّ رأيت النجاسة أثناء الصلاة فليس عليك استئناف ؛ إذ لعلّه شيء اوقع عليك.

إذن في مقصود الإمام عليه‌السلام من التفصيل احتمالان (١) ، ولكن هذا التردّد بين الاحتمالين لا يضرّ بما نريد تحصيله من الرواية ، وهو إثبات دلالتها على حجّية الاستصحاب ؛ إذ هي تدل على كلا الاحتمالين على أنّ المكلّف إذا رأى النجاسة فى

__________________

(١) لكل من الاحتمالين ما يؤيّده ، فممّا يؤيد الاحتمال الأوّل ، أي كون المقصود من الحالة الاولى الإشارة إلى حالة العلم الإجمالي تعبير الإمام عليه‌السلام : « فشككت في موضع منه » حيث اضيف الشكّ إلى الموضع لا إلى الإصابة فلم يقل عليه‌السلام إذا شككت في الإصابة بل قال إذا شككت في موضع منه ، وهذا معناه انّ أصل الإصابة مقطوع وإنّما الشكّ والتردّد في الموضع.

وممّا يؤيّد الاحتمال الثاني ، أي كون المقصود من الحالة الاولى الشكّ البدوي تعبير الإمام عليه‌السلام بالشكّ دون العلم فلم يقل إذا علمت بل قال إذا شككت

٢١

الأثناء ولم يقطع بوجودها قبل الصلاة فاستصحاب الطهارة جار فى حقّه ـ وهو حجّة وهذا هو المقصود ـ أمّا إذا قطع بوجودها قبل الصلاة ـ سواء كان على علم إجمالي قبل الصلاة أو على شكّ بدوي ـ فعليه إعادتها ولا يجري الاستصحاب في حقّه.

إذن دلالة الرواية على حجّية الاستصحاب واضحة سواء كان مقصود الإمام عليه‌السلام الاحتمال الأوّل أو الاحتمال الثاني فإنّ ذلك لا يؤثّر من هذه الناحية.

إشكال وجواب

ذكر الشيخ الأعظم في الرسائل انّ جواب الإمام عليه‌السلام عن السؤال السادس يتنافى وجوابه عن السؤال الثالث ، فإنّه في جواب السؤال السادس الناظر إلى صورة الالتفات للنجاسة أثناء الصلاة فصّل عليه‌السلام بين شقّين ، ففي الشقّ الأوّل ذكر انّ من شكّ في موضع النجاسة قبل الصلاة ثمّ التفت إليها أثناء الصلاة وحصل له القطع بأنّها النجاسة المشكوكة الموجودة قبل الصلاة (١) تجب عليه إعادة الصلاة من جديد حيث قال عليه‌السلام : « تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ». والخصوصيات المذكورة في جواب الإمام هذا :

أ ـ الشكّ في وجود الدم قبل الصلاة.

ب ـ والقطع أثناء الصلاة بأنّه الدم السابق.

وعلى ضوء هاتين الخصوصيتين حكم الإمام عليه‌السلام بلزوم الإعادة.

__________________

(١) استفدنا قطع زرارة بأنّ النجاسة المرئية أثناء الصلاة هي عين النجاسة السابقة من ذكر الضمير في قوله : « ثمّ رأيته » ، فإنّ الهاء راجعة إلى الدم المشكوك وجوده سابقا

٢٢

وإذا رجعنا إلى السؤال الثالث وتأمّلنا فى فرضياته الأربع وجدنا انّ الفرضية المشتملة على الشكّ السابق واليقين اللاحق هي الفرضية الثالثة (١) حيث فرض فيها حصول الشكّ في إصابة الدم عند الفحص وعدم رؤية النجاسة ، وفرض أيضا حصول القطع ـ عند رؤية الدم بعد الصلاة ـ بكونه عين الدم السابق المشكوك ، وقد حكم عليه‌السلام بعدم لزوم الإعادة. انّ حكم الإمام عليه‌السلام بعدم لزوم الإعادة عند انكشاف النجاسة بعد الفراغ من الصلاة واليقين بسبقها عليها يتنافى وحكمه بلزوم الإعادة عند انكشاف النجاسة أثناء الصلاة واليقين بسبقها عليها ، فإن كلا الموردين يتفق في خصوصيات مشتركة ، ففي كليهما يوجد شكّ سابق على الصلاة ويقين لا حق بسبق النجاسة على الصلاة ، غاية الأمر في أحد الموردين انكشف أثناء الصلاة سبق النجاسة وفي المورد الآخر انكشف بعد تمام الصلاة سبق النجاسة ، فإذا كانت الإعادة لازمه فمن المناسب الحكم بلزومها في كلا الموردين وإذا لم تكن لازمه فمن المناسب الحكم بعدم لزومها في كلا الموردين ، إذ التفرقة بينهما بعد الاتحاد في الخصوصيات لا يعرف لها وجه. وكون الانكشاف في أحد الموردين حاصلا أثناء الصلاة وفي المورد الثاني بعد الفراغ من الصلاة لا يصلح فارقا.

هذا حصيلة ما ذكره الشيخ الأعظم قدس‌سره.

والجواب عن ذلك واضح حيث يقال انّ الانكشاف في الأثناء يمكن أن

__________________

(١) وأمّا الاولى فقد فرض عدم وجود شكّ فيها ، وأمّا الثانية فقد فرض انّ السابق هو اليقين بعدم إصابة الدم واللاحق هو الشكّ ، وهذا عكس ما نطلبه ، وأمّا الرابعة فالمفروض فيها وجود الشكّ سابقا ولا حقا

٢٣

يكون له مدخلية في لزوم الإعادة بينما الانكشاف بعد الفراغ يكون له مدخلية في عدم لزوم الإعادة. إنّ هذا احتمال وجيه ولا يمكن الجزم بعدمه. والأعراف العقلائيّة شاهد صدق على ما نقول ، فمن هيّأ له طعام لا يرغب فيه ، وبعد الفراغ من صنعه اطلع على أنّه ذلك الطعام الذي لا يرغب فيه فقد لا يأمر بتهيئة طعام جديد له بينما لو اطّلع على ذلك في الأثناء فقد يأمر بالعدول إلى صنع طعام آخر له الرغبة الكاملة فيه.

تفصيل الكلام في فقرتي الاستدلال

إنّ ما سبق كان كلّه ناظرا إلى فقه الرواية ومعناها. والآن نريد التحدّث عن فقرتي الاستدلال بشيء من التفصيل وعرض بعض النكات المرتبطة بهما.

الفقرة الاولى

والحديث في الفقرة الاولى ـ قلت : فإن ظننت انّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟ قال : تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت : ولم ذلك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت وليس لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا ـ يقع في جهات :

الجهة الاولى

ذكرنا انّ الفقرة المذكورة تحتمل فرضيات أربع ، وبعد حذف الاولى من الحساب نبقى نحن والفرضيات الثلاث الأخيرة. وفي الفرضية الثانية كان المورد

٢٤

يتحمّل الاستصحاب وقاعدة اليقين معا. والاستدلال بالرواية على حجّية الاستصحاب يتوقف على استظهار كون مقصود الإمام عليه‌السلام من قوله : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك ... » الاستصحاب دون قاعدة اليقين. وفي هذه الجهة يراد تقريب هذا الاستظهار.

وحاصل ذلك : انّ كون المقصود الاستصحاب يتوقّف على تمامية أركانه ، وهكذا كون المقصود قاعدة اليقين يتوقّف على تمامية أركانها. ونحن لو تأمّلنا في الفقرة المذكورة وجدنا انّ أركان قاعدة اليقين غير متوفّرة بينما أركان الاستصحاب متوفّرة فيتعيّن حمل الفقرة المذكورة على الاستصحاب.

أمّا عدم توفّر أركان قاعدة اليقين فلأنّها ـ أركان قاعدة اليقين ـ عبارة عن اليقين المتزلزل والشكّ الساري. والركن الأوّل ـ أي اليقين المتزلزل ـ غير متوفر ؛ إذ لا يوجد ما يدلّ عليه سوى قول زرارة « فنظرت فلم أر شيئا » ، ومن الواضح انّ إخبار زرارة بعدم رؤيته للدم بعد النظر لا يدلّ على أنّ مقصوده حصول اليقين له بعدم إصابة الدم للثوب ، فإنّا كثيرا ما نفحص عن شيء ولا نعثر عليه ومع ذلك لا يحصل لنا اليقين بعدم حصوله ، فقطرة البول قد نحسّ بإصابتها للقدم عند التبوّل ونفحص عنها ولا نراها ومع ذلك لا يحصل لنا اليقين بعدمها ، فالتعبير المذكور ـ فنظرت فلم أر شيئا ـ لا يدل إذن على توفر الركن الأوّل حتّى على تقدير تسليم دلالة قوله : ـ فرأيت فيه ـ على الركن الثاني ، أي حصول الشكّ الساري.

وبكلمة مختصرة : انّ ما يمكن أن يكون دالاّ على الركن الأوّل قوله : « فنظرت فلم أر شيئا » ، وما يمكن أن يكون دالا على الركن الثاني قوله : « فرأيت

٢٥

فيه » ، ولئن سلّمنا بدلالة العبارة الثانية على الركن الثاني (١) فلا يسعنا التسليم بدلالة العبارة الاولى على الركن الأوّل.

هذا كلّه بالنسبة إلى أركان قاعدة اليقين. وقد اتّضح عدم توفّرها فلا يمكن حمل الرواية عليها.

وأمّا توفّر أركان الاستصحاب فلأنّ لزرارة يقينا حاصلا له قبل ظنّ إصابة الدم ، كما ويوجد له شكّ في بقاء الطهارة حصل له عند فراغه من الصلاة ورؤيته دما يحتمل انّه السابق. وما دامت أركان الاستصحاب متوفّرة بخلاف أركان قاعدة اليقين فيلزم حمل الرواية على الاستصحاب.

الجهة الثانية

بعد أن اتّضح في الجهة الاولى أنّ الرواية ناظرة إلى الاستصحاب دون قاعدة اليقين ينفتح مجال لحديث آخر ، وهو انّ الاستصحاب الذي أجراه الإمام عليه‌السلام لزرارة هل أجراه بعد فراغ زرارة من صلاته وسؤاله من الإمام عليه‌السلام عن تحديد موقفه أو إجراه له قبل دخوله في صلاته أي حينما فحص ولم ير النجاسة (٢)؟

__________________

(١) مع أنّه يمكن التشكيك في ذلك أيضا ؛ إذ قد يقول قائل انّ المقصود من « فرأيت فيه » رؤية نفس النجاسة السابقة لا رؤية نجاسة يشكّ في أنّها السابقة. وهذا الكلام وإن لم يكن مقبولا لدى السيّد الشهيد كما سيأتي في الجهة الثانية ولكنّه كلام قد يقال. وبناء عليه يلزم أن يكون الشكّ الذي يتطلّبه الاستصحاب هو الشكّ الحاصل قبل الصلاة عند الفحص وعدم رؤية النجاسة

(٢) وقد تسأل عن ثمرة هذا البحث وانّه ما فائدة البحث عن كون الاستصحاب هل أجراه الإمام عليه‌السلام بلحاظ ما قبل الصلاة أو بلحاظ ما بعدها؟ انّ ثمرة ذلك تظهر في البحث المطروح في الجهة الثالثة كما سيأتي

٢٦

انّ الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى الرجوع للرواية والتأمّل في التعبيرات الواردة فيها. فزرارة بعد فراغه من الصلاة ذكر التعبير التالي : « فرأيت فيه ». انّ هذا التعبير لو كان يقصد منه زرارة انّي رأيت نفس النجاسة المظنون إصابتها لثوبي سابقا فالاستصحاب لا يمكن إجراؤه بعد الصلاة ؛ إذ المفروض انّه بعد الصلاة رأى في ثوبه النجاسة التي يقطع بسبقها على الصلاة ، والاستصحاب لا يجري إلاّ إذا كان في الزمان اللاحق شكّ. ويتعيّن بناء على هذا أن يكون الإمام عليه‌السلام قد أجرى الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة ، أي حين الفحص وعدم رؤية النجاسة ، فإنّ هذا الحين يوجد فيه شكّ ويمكن إجراء الاستصحاب بلحاظه.

هذا كلّه لو نظرنا إلى التعبير الذي ذكره زرارة بعد فراغه من الصلاة.

أمّا إذا نظرنا إلى التعبير الآخر الذي يحكي حالة زرارة قبل شروعه في الصلاة ـ فنظرت فلم أر شيئا ـ واستفدنا منه انّ زرارة قد حصل له اليقين ـ قبل الصلاة وبعد الفحص ـ بعدم إصابة الدم ثوبه ، بناء على هذا لا يمكن إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة ؛ إذ لا يوجد في الزمان المذكور شكّ حسب الفرض حتّى يجري الاستصحاب ، ويتعيّن كون مقصود الإمام عليه‌السلام إجراء الاستصحاب بلحاظ ما بعد الصلاة.

إذن الجواب عن السؤال المطروح في هذه الجهة يرتبط بالتأمّل في هذين التعبيرين.

وبالرجوع إلى التعبيرين من جديد والتأمّل في قوله : « فرأيت فيه » لا نجد فيه دلالة على أنّ مقصود زرارة انّي رأيت فيه نفس الدم السابق ، إنّ هذا لو كان

٢٧

هو المقصود لزرارة فمن المناسب له ذكر الضمير فيقول : « فرأيته فيه » ، فإنّ الإنسان العرفي إذا أراد التعبير عن رؤية الدم السابق يقول : « رأيته فيه » فيأتي بالهاء ولسانه لا يطاوعه على تركها.

ولا يمكن أن يقال انّ ترك الضمير من قبل زرارة لعلّه قد حصل عفوا وبلا التفات إلى النكتة التي أشرنا إليها ، إنّ هذا بعيد. كيف ذا وزرارة ذلك العالم النحرير!! خصوصا ونحن نرى انّه ذكر الضمير في الفقرة الثانية حيث قال فيها : « فلمّا صلّيت وجدته » ، إنّ ذكر الضمير تارة وحذفه اخرى يدلّ على وجود نكات يريد زرارة من وراء ذلك الإشارة لها.

وباختصار : ما دام قول زرارة : « فرأيت فيه » لا يدلّ على رؤية الدم السابق ، وما دام زرارة بعدم ذكره للضمير يريد القول بأنّي رأيت دما احتمل انّه السابق ولا أقطع بأنّه هو فجريان الاستصحاب بلحاظ ما بعد الصلاة يكون وجيها جدّا.

وقد تقول : انّ هذا المقدار لا ينفي وجاهة إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة.

والجواب : انّ كون المقصود إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة بعيد ، فإنّ التعبير الذي حكى به زرارة حالته قبل الصلاة ـ فنظرت فلم أر شيئا ـ وإن كان لا يدلّ على حصول اليقين له بعدم إصابة الدم لثوبه ، ولازم ذلك إمكان إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة ، إلاّ أنّ إرادة ذلك منه أمر محتمل ، فمن المحتمل أن يكون زرارة قد قصد من التعبير المذكور انّي بالفحص وعدم رؤية الدم حصل لي القطع بعدم إصابة الدم ثوبي. وما دام هذا الاحتمال ثابتا ووجيها

٢٨

فلا معنى لإلزام الإمام عليه‌السلام زرارة بإجراء الاستصحاب قبل الصلاة ، إنّ الالزام بذلك فرع أن يفرض زرارة شكّه في الإصابة بعد أن قام بالفحص ، وحيث انّ هذا الفرض لم يتحقّق من زرارة افتراضه فلا يمكن للإمام عليه‌السلام أن يلزمه بإجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة.

وبهذه الكيفية من البيان ينفى احتمال إجراء الإمام عليه‌السلام للاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة ويتعيّن أن يكون إجراؤه بلحاظ ما بعد الصلاة.

ولربّ قائل يقول انّ هذا البيان لاستفادة كون إجراء الاستصحاب قد تمّ بلحاظ ما بعد الصلاة وإن كان وجيها بيد أنّه توجد قرينة تقتضي كون جريان الاستصحاب قد لو حظ فيه حالة ما قبل الصلاة ، وهي استغراب زرارة ، فإنّ الإمام عليه‌السلام لمّا حكم بصحّة الصلاة استغرب زرارة وقال للإمام عليه‌السلام : ولم ذاك. وهذا الاستغراب لا وجه له ما دام إجراء الاستصحاب قد تمّ بلحاظ ما بعد الصلاة ؛ فإنّ الاستصحاب بعد الصلاة لا يجري إلاّ مع الشكّ في سبق النجاسة ، أي لا بدّ وأن يكون مقصود زرارة من قوله : « ثمّ صلّيت فرأيت فيه » انّي رأيت نجاسة بعد الصلاة احتمل أنّها السابقة ولا أجزم بذلك ، إذ لو كان جازما بأنّها السابقة فلا يمكن جريان الاستصحاب في حقّه فإنّ جريان الاستصحاب فرع الشك ، ومع جريان الاستصحاب فلا وجه للاستغراب من حكم الإمام عليه‌السلام بصحّة الصلاة ، فاستغرابه دليل على أنّه كان قاطعا بأنّ النجاسة التي رآها بعد الصلاة هي السابقة وأنّ صلاته قد وقعت في النجس جزما ، ومع جزمه هذا فلا يمكن جريان الاستصحاب في حقّه بلحاظ ما بعد الصلاة ويتعيّن أن يكون بلحاظ ما قبل الصلاة وهو ما قلناه.

٢٩

هذا ولكن يمكن ردّ هذه القرينة بأنّ استغراب زرارة يمكن أن يكون من جهة اخرى ، فهو كان يعتقد أنّ المبرر لدخوله في الصلاة ـ مع الالتفات إلى أنّه كان يحتمل إصابة النجاسة ثوبه ـ هو ظنّه بعدم الإصابة الحاصل بسبب الفحص وعدم رؤية النجاسة ، وحيث انّ هذا الظنّ زال بعد الصلاة لأنّه رأى نجاسة يشكّ أنّها السابقة ـ ومع طروّ هذا الشكّ يزول الظنّ السابق بعدم إصابة النجاسة ثوبه ـ فكان يتوقع من الإمام عليه‌السلام أن يحكم ببطلان الصلاة. ولمّا لم يحكم عليه‌السلام بذلك استغرب.

ثمّ انّك إذا قبلت هذا التوجيه للاستغراب فبها. وإن لم تقبله وكنت جازما بأنّ استغراب زرارة دليل واضح على جزمه بكون النجاسة التي رآها هي السابقة فيتعين أن يكون إجراء الاستصحاب قد تمّ بلحاظ ما قبل الصلاة. وحينئذ يتولّد إشكال نذكره في الجهة الثالثة.

الجهة الثالثة

إنّ إجراء الاستصحاب إذا كان قد تمّ بلحاظ ما قبل الصلاة فسيتولّد إشكال حاصله : انّ لازم إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الصلاة وعدم إجرائه بلحاظ ما بعد الصلاة أنّ زرارة كان قاطعا عند رؤيته للنجاسة بعد الصلاة أنّها نفس النجاسة السابقة وليس شاكا في ذلك. وقطعه هذا ـ أي بأنّ النجاسة المشاهدة بعد الصلاة هي عين السابقة ـ معناه القطع بمخالفة استصحاب الطهارة الجاري قبل الصلاة للواقع. ومع هذا القطع بالمخالفة كيف يستند له الإمام عليه‌السلام ويحكم لأجله بصحة الصلاة ، انّه غير ممكن لأنّ الحكم الظاهري حجّة ما دام لم

٣٠

ينكشف مخالفته للواقع. هذا سؤال قد يطرح.

وقد أجاب الأعلام عنه بأحد جوابين : ـ

أ ـ إنّ كلام الإمام عليه‌السلام يشتمل على مقدّمة مضمرة لم يصرّح بها ، وهي إجزاء الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي ، فإنّ الاستصحاب إذا كان جاريا قبل الصلاة تولّد منه حكم ظاهري بطهارة الثوب. وهذا الحكم الظاهري وإن انكشف خطأه ولكنّه يكفي لتصحيح الصلاة وعدم وجوب إعادتها إذ امتثال الحكم الظاهري يجزي عن امتثال الحكم الواقعي.

ب ـ إنّا وإن لم نقل باجزاء امتثال الحكم الظاهري عن امتثال الحكم الواقعي فبالإمكان الحكم أيضا بصحّة الصلاة باعتبار انّ شرط صحّة الصلاة ليس هو خصوص طهارة الثوب طهارة واقعية بل طهارة الثوب طهارة أعمّ من الواقعية والظاهرية ، فإذا جرى الاستصحاب ما قبل الصلاة تثبت طهارة الثوب طهارة ظاهرية وكان شرط صحّة الصلاة ثابتا حقيقة حتّى وإن انكشف بعد ذلك مخالفته للواقع ، فإنّ انكشاف مخالفته للواقع لا يعني عدم ثبوت الطهارة الظاهرية في زمان ما قبل الانكشاف. وما دام الشرط متحقّقا حقيقة فالحكم بصحّة الصلاة يكون على مقتضى القاعدة.

الجهة الرابعة

وبعد أن ثبتت دلالة المقطع المذكور على الاستصحاب لا على قاعدة اليقين قد تسأل هل المستفاد منه حجّية الاستصحاب في خصوص مورده ـ وهو الشكّ في طروّ النجاسة على الثوب ـ أو في جميع الموارد؟

٣١

والجواب : انّ المستفاد منه حجّية الاستصحاب في جميع الموارد لنفس النكتة التي أشرنا إليها في صحيحة زرارة الاولى ، وهي التمسّك بظهور التعليل في كونه تعليلا بأمر ارتكازي. بل انّ تمامية هذه النكتة في هذه الرواية أوضح منه في الرواية السابقة ، إذ في هذه الرواية صرّح بالتعليل ولم يؤت باللام حيث قال الإمام عليه‌السلام : « وإلاّ فإنّه على يقين ... ». والتعليل ظاهر في كونه تعليلا بأمر ارتكازي إذ التعليل عادة لا يكون إلاّ بأمر ارتكازي.

وهكذا صرّح في هذه الرواية بجمله « وليس ينبغي » الظاهرة في ارتكازية المطلب. ومن الواضح انّ المرتكز في أذهان العقلاء عدم جواز نقض مطلق اليقين بمطلق الشكّ ولا خصوصية لليقين بطهارة الثوب.

هذا كلّه في الفقرة الاولى من فقرتي الاستدلال بصحيحة زرارة الثانية.

الفقرة الثانية

والفقرة الاخرى في صحيحة زرارة الثانية التي تصلح أن تكون دليلا على حجّية الاستصحاب ما ذكره الإمام عليه‌السلام في جواب السؤال السادس ، فإنّه عليه‌السلام فصّل بين شقّين. وموضع الاستشهاد يكمن في الشقّ الثاني حيث قال عليه‌السلام : « وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا ... ثمّ بنيت على الصلاة لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ ».

وتقريب الاستشهاد بهذه الفقرة على حجّية الاستصحاب أن يقال : ماذا يراد من قوله عليه‌السلام : وإن لم تشكّ ... الخ؟ إنّ فيه احتمالين ، فلربّما يراد به القطع بالطهارة ، أي انّ لم تشك في إصابة الدم للثوب بل كنت قاطعا بالطهارة فلا تجب

٣٢

عليك الإعادة.

وقد يراد به حالة الذهول ، أي وإن لم تشكّ في إصابة الدم بأن كنت ذاهلا عن ثوبك.

فإن كان المقصود هو الأوّل ـ أي إن كنت قاطعا بعدم إصابة الدم ثوبك فليس عليك إعادة ـ فالمورد يكون قابلا لجريان الاستصحاب وجريان قاعدة اليقين معا لتوفّر أركان كل واحد منهما.

أمّا توفّر أركان قاعدة اليقين ـ التي هي عبارة عن اليقين السابق القابل للتزلزل والشكّ اللاحق الساري إلى اليقين ـ فباعتبار انّ المكلّف إذا كان قاطعا قبل الصلاة بعدم إصابة الدم ثوبه ـ حيث فرضنا أنّ قوله عليه‌السلام : « وإن لم تشكّ » يراد به القطع بعدم إصابة الدم للثوب ـ فحينما يرى الدم في أثناء الصلاة تصير رؤية الدم هذه سببا لشكّه في صحّة يقينه سابقا وطروّ التزلزل عليه.

وأمّا توفّر أركان الاستصحاب فلأنّ زرارة حينما اشترى الثوب من بائع الأقمشة مثلا كان على يقين من طهارته وعدم وجود قطعة الدم فيه فإذا رأى قطعة الدم بعد ذلك أثناء الصلاة وشكّ في سبق وجودها لم تكن الرؤية موجبة لشكّه في صحّة يقينه السابق ، وإذا كان يقينه السابق باقيا على القوة ولم يطرأ عليه تزلزل صحّ استصحابه إلى حين رؤية النجاسة أثناء الصلاة.

وبعد أن عرفنا انّ مورد الرواية صالح للاستصحاب وقاعدة اليقين معا فبالإمكان تعيين إرادة الإمام عليه‌السلام وتوجّه نظره إلى الاستصحاب بقرينتين : ـ

أ ـ انّ الرواية صريحة في ذكر التعليل قال عليه‌السلام : « لأنّك لا تدري ... » ، وقد تقدّم انّ التعليل لا يصحّ عرفا إلاّ بأمر ارتكازي ، مضافا إلى أنّ ذكر جملة « فليس

٣٣

ينبغي » له ظهور جلي في كون المطلب أمرا ارتكازيا ، ومن الواضح انّ المرتكز في أذهان العقلاء هو الاستصحاب دون قاعدة اليقين ، فإنّ العقلاء لا يبنون على الأخذ باليقين بعد تزلزله وزواله بالشكّ.

ب ـ ان التعبير الوارد في كلتا الفقرتين الثالثة والسادسة واحد وهو « ليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ » ، وحيث أثبتنا سابقا أنّ المقصود من التعبير المذكور في الفقرة الثالثة هو الاستصحاب دون قاعدة اليقين فيثبت أنّ المقصود منه في الفقرة السادسة ذلك أيضا بقرينة وحدة سياق مجموع الرواية.

هذا كلّه لو كان المقصود هو الأوّل.

وأمّا لو كان المقصود هو الثاني ، أي كان المقصود من قوله : « وإن لم تشك » حالة الذهول فدلالة الرواية على حجّية الاستصحاب أوضح لأنّ المورد لا يكون قابلا لقاعدة اليقين بل يختص بالاستصحاب.

أمّا عدم جريان قاعدة اليقين فلعدم وجود يقين سابق قبل الصلاة يمكن تزلزله برؤية الدم أثناء الصلاة ، إذ المفروض انّ قوله : « وإن لم تشكّ » لم يرد به اليقين بعدم النجاسة.

وأمّا جريان الاستصحاب فلتوفر أركانه ، إذ حين شراء الثوب من بائع الأقمشة مثلا كان لزرارة يقين بطهارته وعدم وجود قطعة الدم فيه فإذا رأى الدم أثناء الصلاة وشكّ في سبقه جرى استصحاب الطهارة الثابتة حين شراء الثوب ، فإن اليقين المذكور لا يقبل التزلزل برؤية الدم أثناء الصلاة.

وبهذا كلّه يتّضح تمامية دلالة صحيحة زرارة الثانية بكلا مقطعيها الثالث والسادس على حجّية الاستصحاب.

٣٤

قوله ص ٢١٠ س ١٠ دم رعاف : دم الرعاف هو الدم الخارج من الأنف.

قوله ص ٢١٠ س ١٠ : أو غيره : هذه الكلمة موجودة في بعض نسخ الحديث ، ومن هنا وضعت في الكتاب بين قوسين.

ثمّ انّ الظاهر انّ كلمة « غيره » عطف على رعاف ـ أي دم رعاف أو غير رعاف ـ وليست عطفا على دم وإلاّ كان المقصود أصاب ثوبي دم أو غير دم وهو ضعيف لأنّ غير الدم قد صرّح زرارة بذكره بقوله : أو شيء من المني.

وعلى أي حال تحقيق حال العطف المذكور ليس له أي تأثير في الاستدلال بالرواية.

قوله ص ٢١٠ س ١١ : فعلّمت : بتشديد اللام ، أي جعلت عليه علامة.

قوله ص ٢١٠ س ١٣ : بعد ذلك : أي بعد الفراغ من الصلاة.

قوله ص ٢١٠ س ١٣ : وتغسله : الواو لمطلق الجمع ولا يقصد بها الترتيب فلا يشكل بأنّ المناسب أن يقول الإمام عليه‌السلام : تغسله وتعيد الصلاة.

قوله ص ٢١١ س ٦ : على يقين من طهارتك : أي الثابت قبل ظنّ الإصابة على تقدير كون المقصود الاستصحاب ، أو الثابت حين النظر وعدم رؤية شيء بناء على كون المقصود قاعدة اليقين.

قوله ص ٢١١ س ١٠ : حتّى تكون على يقين من طهارتك : استدل البعض بهذه الفقرة أيضا على حجّية الاستصحاب كما أشرنا لذلك سابقا.

قوله ص ٢١١ س ١٤ : وانا في الصلاة : بخلاف ذلك فيما سبق حيث كانت رؤية الدم بعد الفراغ من الصلاة.

قوله ص ٢١١ س ١٥ : إذا شككت في موضع الخ : أي قبل الصلاة.

٣٥

قوله ص ٢١١ س ١٦ : قطعت الصلاة : أي قطعت مواصلة الصلاة قليلا ، وليس المراد إبطال الصلاة.

قوله ص ٢١٢ س ٤ : فقه الأسئلة : أي المقصود منها ومعناها.

قوله ص ٢١٢ س ١٤ : إنّما يدلّ على ذلك : أي على اعتقاد انّ عدم تشخيص موضع النجاسة مسوّغ للدخول في الصلاة.

قوله ص ٢١٣ س ١٥ : وطبق قاعدة من قواعد الشكّ : أي امّا الاستصحاب أو قاعدة اليقين.

قوله ص ٢١٤ س ٢ : في ظرف السؤال : هذا تفسير كلمة « فعلا ». وكان من المناسب إضافة كلمة « أي » ليصير التقدير : أي في ظرف السؤال.

قوله ص ٢١٤ س ٤ : في ظرف : المناسب إضافة كلمة « أي » كما سبق.

قوله ص ٢١٤ س ٩ : ما فحص عنه : كلمة « ما » موصولة وليست نافية.

قوله ص ٢١٥ س ١٠ : إن كان قد شكّ في موضع منه : أي قبل الصلاة.

قوله ص ٢١٦ س ٢ : والنتيجة المفهومة واحدة الخ : أي التردّد بين الاحتمالين السابقين لا يؤثّر على الاستدلال بالرواية لأنّ المفهوم منها على كلا الاحتمالين انّ المكلّف في صورة عدم وجود الشكّ له ان يستصحب الطهارة.

قوله ص ٢١٦ س ١٥ : كذلك : أي أثناء الصلاة.

قوله ص ٢١٧ س ٥ : في حالته : أي حالة السائل.

قوله ص ٢١٧ س ١٧ : فعلا : أي بلحاظ حال السؤال.

قوله ص ٢١٧ س ١٥ : حينئذ : أي حين رؤية الدم بعد الفراغ من الصلاة.

قوله ص ٢١٧ س ١٥ : لأنّ فرض ذلك : أي فرض إجراء الاستصحاب

٣٦

بلحاظ حال السؤال.

قوله ص ٢١٨ س ٥ : بل حذف المفعول الخ : لعلّ جودة سبك العبارة أضفى عليها شيئا من الغموض. والمقصود : انّ حذف المفعول وعدم ذكره ضميرا راجعا إلى النجاسة الخ.

الرواية الثالثة

ولزرارة رواية ثالثة ترتبط بمسألة الاستصحاب إلاّ أنّها ليست مضمرة ـ كما كان الحال كذلك في الروايتين السابقتين ـ حيث ينقلها عن أحدهما عليه‌السلام ، أي الإمام الصادق أو الإمام الباقر عليهما‌السلام.

وفي هذه الرواية يسأل زرارة عمّن شكّ في صلاته بين الثنتين والأربع فأجاب عليه‌السلام بلزوم الإتيان بركعتي الاحتياط من قيام يقرأ في كل واحدة منهما سورة الفاتحة. ثمّ تبرّع الإمام عليه‌السلام ومن دون سؤال من زرارة ببيان حكم من شكّ بين الثلاث والأربع وانّه يلزمه الإتيان بركعة احتياط واحدة من قيام ، وعلّل عليه‌السلام الحكم المذكور بقوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » واكّد ذلك بتأكيدات متعدّدة حيث قال عليه‌السلام : « ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكن ينقض الشكّ باليقين ... ».

والفقرة التي يراد الاستشهاد بها قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » بتقريب انّ المراد من اليقين هو اليقين بعدم الإتيان بالركعة الرابعة حيث إنّ كل مصل في بداية شروعه في الصلاة له يقين بعدم الإتيان بالركعة الرابعة فإذا شكّ في الإتيان بها بعد فراغه من الثلاث استصحب عدم الإتيان بها.

٣٧

هذا ولكن في النفس شيء من كون مقصود الرواية الاستصحاب حيث انّ ذلك لو كان هو المراد فلا داعي إلى ذكر التأكيدات المتكرّرة فكان بإمكان الإمام عليه‌السلام الاقتصار على قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » بلا حاجة لتأكيد ذلك بقوله : « ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكن .. ».

إنّ هذه التأكيدات المتكرّرة تدعو إلى ولادة احتمال جديد في مقصود الرواية ، وهو الإرشاد إلى قاعدة « الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني » ، فكأنّها تريد أن تقول انّ الشاكّ في الاتيان بالركعة الرابعة يلزمه تحصيل اليقين بفراغ ذمّته بعد علمه باشتغالها ولا يحقّ له الاكتفاء باحتمال الفراغ.

ولكن كيف يتمّ تحصيل اليقين بفراغ الذمّة؟ انّه يتمّ بإكمال الصلاة ثمّ الإتيان بركعة احتياط بعد الصلاة خلافا للعامّة حيث يقولون بأنّ ركعة الاحتياط يلزم الاتيان بها متّصلة قبل التسليم. وحيث إنّ جانب التقية يمنع الإمام عليه‌السلام من التصريح بالاتيان بها منفصلة بعد التسليم أخذ عليه‌السلام بذكر تأكيدات متكرّرة تلميحا إلى لزوم الفصل وعدم جواز الوصل فانظر إلى قوله عليه‌السلام : « ولا يدخل الشكّ في اليقين ولا يخلط أحدهما في الآخر » تراه واضحا في ذلك.

اعتراضات على الرواية الثالثة

وقد وجهت عدّة اعتراضات على التمسّك بالرواية لاثبات حجّية الاستصحاب نذكر منها ثلاثة : ـ

الاعتراض الأوّل

ما ذكره الشيخ الأعظم في الرسائل وهو انّ من المحتمل أن لا تكون الرواية

٣٨

ناظرة إلى الاستصحاب بل إلى قاعدة « الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني » على ما أشرنا له قبل قليل. وعلى هذا يكون المراد من اليقين اليقين بفراغ الذمّة ومن الشكّ الشكّ في فراغ الذمّة ، فكأنّه عليه‌السلام يريد أن يقول إنّه لا بدّ من تحصيل اليقين بفراغ الذمّة ولا ينبغي الاكتفاء بالشكّ في فراغ الذمّة. وبناء عليه تكون الرواية أجنبية عن الاستصحاب.

هذا ولكن يرد على ذلك : ـ

أ ـ انّ ظاهر جملة « ولا ينقض اليقين بالشكّ » وجود اليقين لدى المكلّف بالفعل ، فاليقين الثابت بالفعل لا يجوز نقضه بالشكّ ، ومن الواضح أنّه لو كان المراد الإشارة إلى قاعدة « الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني » لم يكن اليقين ثابتا بالفعل بل المكلّف يلزمه السعي لتحصيله بعد ان لم يكن.

ب ـ انّ ظاهر جملة « ولا ينقض اليقين بالشكّ » انّ الأخذ بالشكّ والركون له يستلزم نقض اليقين وطرحه ، ومن الواضح انّه بناء على إرادة قاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني لا يلزم ذلك ـ أي لا يلزم من الركون إلى الشكّ نقض اليقين ـ وإنّما يلزم إهمال حكم العقل بلزوم تحصيل اليقين بفراغ الذمّة.

الاعتراض الثاني

ما ذكره الشيخ الأعظم في الرسائل أيضا. وحاصله : انّ تطبيق الرواية على الاستصحاب متعذّر ، إذ المقصود من إجراء استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة إن كان هو إثبات لزوم الإتيان بركعة اخرى متصلة بالركعات السابقة بدون فصل بالتسليم فهذا مخالف لمذهب الشيعة القاضي بلزوم الإتيان بالركعة

٣٩

القاضي بلزوم الإتيان بالركعة المشكوكة منفصلة بعد التسليم.

وإن كان المقصود إثبات لزوم الإتيان بالركعة المشكوكة مفصولة بعد التسليم فهذا وإن كان موافقا لمذهب الشيعة إلاّ أنّه مخالف للاستصحاب ، فإنّ استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة المتّصلة يقتضي لزوم الإتيان بها متّصلة قبل التسليم ، وأمّا الإتيان بها منفصلة فليس هو نفس المستصحب ولا لازما شرعيا له ، ومن الواضح انّ الاستصحاب لا يثبت به إلاّ نفس المستصحب أو لوازمه الشرعية.

أجل الإتيان بالركعة المشكوكة بنحو الانفصال بعد التسليم من لوازم الشكّ ، فإنّ من شكّ في الإتيان بالركعة الرابعة فمن اللازم الإتيان بها منفصلة إذ بذلك يحصل اليقين بفراغ الذمّة (١) ، فالإتيان بالركعة منفصلة من لوازم نفس الشكّ وليس من لوازم المستصحب ـ عدم الإتيان بالركعة الرابعة المتّصلة ـ لتثبت بالاستصحاب ، فإنّ الاستصحاب يترتّب عليه المستصحب أو لوازمه الشرعية دون لوازم نفس الشكّ ، فإنّ لوازم الشكّ تثبت بنفس الشكّ بلا حاجة إلى الاستصحاب (٢). ولأجل هذا الإشكال ذكر الشيخ الأعظم انّه لا بدّ من حمل

__________________

(١) بخلاف الإتيان بها متّصلة فإنّه لا يحصل به اليقين بالفراغ لاحتمال الإتيان بها وبذلك يكون الإتيان بها من جديد زيادة في أركان الصلاة فتبطل بخلاف الإتيان بها منفصلة فإنّه لا يلزم إلاّ محذور زيادة التشهّد والتسليم وهي غير مخلّة بصحّة الصلاة لأنّهما ليسا من الأركان

(٢) قد يقال في تقريب انّ الإتيان بالركعة المشكوكة بنحو الانفصال من لوازم نفس الشكّ انّ وجوب الإتيان بالركعة الرابعة حكم ظاهري موضوعه الشكّ ، فمن شكّ في الإتيان بالرابعة لزمه الإتيان بها ظاهرا حتّى على تقدير تحقّقها واقعا ، نظير من شكّ في الإتيان بصلاة الظهر ، فكما انّ نفس الشكّ يقتضي لزوم الإتيان بها بلا حاجة إلى استصحاب كذلك الحال في المقام. ـ

٤٠