الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٤

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-28-6
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٤٨٧

أحد الدليلين اكرم العالم ويقول الدليل الثاني المتقي عالم نجد انّ الدليل الثاني حاكم يثبت عنوان العالم للمتقي إلاّ انّ ذلك بالاعتبار والتعبد وإلاّ فالمتقي بمجرد تقواه لا يصير عالما حقيقة. هذا في الحكومة.

وامّا في الورود فالرفع والإثبات حقيقي فإنّ دليل حجّية خبر الثقة يحقق عنوان الحجّة لخبر الثقة حقيقة ، ودليل حرمة إدخال الجنب ينفي عنوان المباح ـ الذي هو موضوع دليل صحّة الاجارة ـ حقيقة وليس بالاعتبار والتعبد.

تقسيم الورود

يمكن تقسيم الورود باعتبار من الاعتبارات إلى أقسام ثلاثة هي : ـ

١ ـ ان يكون الدليل الوارد رافعا لموضوع الدليل المورود بفعليته ، بمعنى كون الدليل المورود مقيدا بعدم فعلية الدليل الوارد.

٢ ـ ان يكون الدليل الوارد رافعا لموضوع الدليل المورود بوصوله لا بمجرد فعليته ، بمعنى كون الدليل المورود مقيدا بعدم العلم بالدليل الوارد.

٣ ـ ان يكون الدليل الوارد رافعا لموضوع الدليل المورود بامتثاله لا بفعليته ووصوله ، بمعنى كون الدليل المورود مقيدا بعدم امتثال الدليل الوارد.

مثال الأوّل : دليل صحّة الاجارة على المباح ودليل حرمة إدخال الجنب في المسجد فانّ حرمة إدخال الجنب متى ما كانت فعلية تحقق بذلك عدم صحّة الاجارة حتى وان لم تصل الحرمة الفعلية (١).

__________________

(١) ينبغي الالتفات إلى انّ فعلية الحكم بفعلية موضوعه ، فمتى ما صدق عنوان إدخال الجنب ـ

٣٠١

ومثال الثاني : دليل القرعة لكل أمر مشكل ودليل اصالة الحلية ، فلو كان لدينا مائع مردد بين الخل والخمر فهو مشكل قبل الالتفات إلى اصالة الحلية امّا بعد الالتفات إلى اصالة الحلية وان كل شيء حلال حتى تعرف انّه حرام فلا يبقى عنوان المشكل صادقا ، وكيف يبقى صادقا والشارع يقول انّه حلال!!

إذن ببركة اصالة الحلية يرتفع عنوان المشكل ولكن لا يرتفع بمجرد تشريع اصالة الحلية وفعليته بل لا بدّ وان يصل إلى المكلّف ويعلم بثبوت الحلية في حقه فإنّه حينذاك يرتفع عنوان المشكل.

ومثال الثالث : الصلاة المزاحمة بإزالة النجاسة عن المسجد فانّ دليل وجوب الصلاة التي هي الواجب المهم مقيد بعدم الاشتغال بامتثال الإزالة التي هي الأهم فدليل وجوب الإزالة وارد على دليل وجوب الصلاة بمعنى انّه بامتثاله يرفع موضوع وجوب الصلاة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في القسم الأوّل من هذه الحلقة ص ٣١٧.

تقسيم ثاني للورود

وهناك تقسيم ثاني للورود ـ باعتبار آخر ـ وهو انّ الورود تارة يكون من جانب احد الدليلين دون الآخر واخرى يكون من كلا الجانبين.

أمّا الورود من جانب واحد فمثاله ما تقدم ، فانّ دليل وجوب الإزالة مثلا هو الوارد على دليل وجوب الصلاة بلا عكس.

__________________

ـ تحققت الحرمة الفعلية حتى وان لم يعلم بها المكلّف ولم تصثل له فانّ الوصول ليس شرطا لفعلية الحكم وانّما هو شرط للتنجز واستحقاق العقوبة.

٣٠٢

وأمّا الورود من الجانبين فله اشكال ثلاثة : ـ

١ ـ ان يكون الورود من الجانبين ـ بمعنى انّ كلا منهما مقيد بعدم الآخر ـ ويكون كل واحد منهما رافعا لموضوع الآخر بالفعل.

٢ ـ ان يكون الورود من الجانبين ويكون معقولا وممكنا إلاّ انّ احدهما يرفع موضوع الآخر بلا عكس.

٣ ـ ان يكون الورود من الجانبين ولا يكون معقولا.

مثال الأوّل : ان يكون كل واحد من الحكمين مقيدا بعدم ثبوت الآخر لو لا المعارضة ، كما لو فرض انّ شخصا استطاع للحج وكان قد نذر زيارة الامام الحسين عليه‌السلام يوم عرفة وفرض انّ وجوب الحج مقيد بعدم ثبوت وجوب الوفاء بالنذر لو لا المعارض وفرض أيضا انّ وجوب الوفاء مقيد بعدم ثبوت وجوب الحج لو لا المعارض ، فانّ الورود حينئذ يصير من الجانبين ويرتفع بسببه كلا الحكمين ، فإنّ الحج حيث انه واجب على تقدير عدم المعارضة بالنذر فيكون وجوب الوفاء بالنذر منتفيا ، وهكذا وجوب الوفاء بالنذر حيث انه واجب على تقدير عدم المعارضة بوجوب الحج فيكون وجوب الحج منتفيا.

ومثال الثاني : ان يفرض ان دليل وجوب الحج مقيّد بعدم امتثال النذر بينما وجوب الوفاء بالنذر لم يقيد بعدم امتثال وجوب الحج بل بعدم ثبوت وجوب الحج. في مثل هذه الحالة يكون كل واحد من الحكمين واردا على الآخر حيث ان كل واحد منهما مقيّد بعدم الآخر ـ غاية الأمر أحدهما مقيّد بعدم وجوب الثاني بينما الثاني مقيّد بعدم امتثال الأول (١) ـ إلاّ انه لا يكون كل واحد منهما رافعا للآخر

__________________

(١) وقد تقدّم في التقسيم السابق ان الورود يتحقّق تارة بالتقييد بعدم امتثال الحكم الآخر ـ

٣٠٣

بل يكون وجوب الحج هو الرافع لوجوب الوفاء بالنذر بلا عكس ، فإنّ دليل وجوب الوفاء بالنذر إذا كان ثابتا وغير مرتفع فأمّا ان يكون ثابتا في حالة عدم امتثال النذر ، أو يكون ثابتا في حالة امتثاله ، وكلاهما باطل.

أمّا الأوّل فلأنّه في حالة عدم امتثال النذر يصير وجوب الحج ثابتا بالفعل (١) ، ومع ثبوته بالفعل ينتفي وجوب الوفاء بالنذر لأنّه مقيّد بعدم ثبوت حكم على خلافه ، ووجوب الحج حكم ثابت مخالف لوجوب الوفاء بالنذر.

وأمّا الثاني فلأنّ ثبوت وجوب الوفاء بالنذر في خصوص حالة امتثاله معناه ان الحكم لا يثبت إلاّ على تقدير امتثاله وهو باطل لأنّ الامتثال فرع الحكم فلا يمكن ان يكون ثبوت الحكم فرع الامتثال وإلاّ يلزم الدور.

ومثال الثالث : ما إذا كان دليل وجوب الحج مقيّدا بعدم ثبوت الوجوب الفعلي للوفاء ، وهكذا وجوب الوفاء مقيّد بعدم ثبوت الوجوب الفعلي للحج. والورود هنا ثابت من الجانبين لأنّ كلاّ منهما مقيّد بعدم الوجوب الفعلي للآخر ولكنه مستحيل إذ كل واحد منهما ـ لو لا حظناه أولا ـ صالح لرفع الآخر ، أي صالح لأن يكون مانعا من وجود الآخر ورافعا له ، وإذا كان كلّ منهما مانعا من الآخر فيكون وجود كل واحد منهما موقوفا على عدم الآخر من باب توقّف وجود الشيء على عدم مانعه ، ومن الواضح ان ذلك مستحيل للزوم الدور لأنّ الأول إذا كان موقوفا على عدم الثاني من باب توقّف الشيء على عدم مانعه ،

__________________

ـ ويتحقّق اخرى بالتقييد بعدم وجود الحكم الآخر.

(١) لأنّ وجوب الحج مقيّد حسب الفرض بعدم امتثال النذر ، فعند عدم امتثال النذر يصير وجوب الحج فعليّا.

٣٠٤

وعدم الثاني حيث انه موقوف على وجود الأول ـ إذ مع عدم الوجود الفعلي لكلّ واحد منهما يكون الآخر موجودا بالفعل ـ فيلزم توقّف وجود الأول على وجود الأول ، وهو ما ذكرناه من الدور.

وعليه فيلزم التعارض بين الحكمين ويلزم تطبيق احكام التعارض ـ التي هي تقديم الأقوى سندا أو دلالة ـ لعلمنا بكذب أحد التوقفين ، إذ ثبوت كلا التوقفين مستحيل للزوم الدور فيكون أحد التوقفين كاذبا.

إن قلت : ما هو الفرق بين هذا الشكل والشكل الأول.

قلت : انه في الشكل الأول كان كل واحد منهما موقوفا على عدم ثبوت الآخر لو لا المعارض ، فالحج لو لا المعارضة بالنذر إذا كان وجوبه ثابتا فلا وجوب للوفاء بالنذر ، وهكذا النذر لو لا المعارضة بالحج إذا كان وجوب الوفاء به ثابتا لم يكن وجوب للحج. ومثل هذا الورود من الجانبين معقول ويرتفع كلا الحكمين ولا يكون هذا ولا ذاك ثابتا ، لأنّ كل واحد منهما حيث انه ثابت في نفسه لو لا المعارضة بالآخر فيكون الموضوع لارتفاع كل واحد منهما محقّقا فيرتفعان معا.

وهذا بخلافه في هذا الشكل فإنّ الموضوع لارتفاع كل واحد منهما ليس هو ثبوته في نفسه ولو لا المعارض بل هو ثبوته بالفعل ، فإذا كان الأول ثابتا بالفعل ـ أي كان ثابتا حتى بعد المعارضة لا بقطع النظر عنها ـ فالثاني مرتفع ، وإذا كان الثاني ثابتا بالفعل فالأول مرتفع ، وحيث ان كل واحد منهما لا يمكن ان يكون ثابتا بالفعل فتحصل المعارضة للعلم بعدم امكان ثبوت كلا التوقفين.

قوله ص ٣٢٩ س ١ : بالمعنى الذي تقدّم في الحلقة السابقة : أي ص ٤٥٢.

٣٠٥

قوله ص ٣٢٩ س ١٣ : ثم ان ورود إلخ : هذا اشارة إلى التقسيم الأول.

قوله ص ٣٣٠ س ٨ : بعدم كونها كذلك : أي بعدم كونها اجارة على الحرام.

قوله ص ٣٣٠ س ١٤ : وقد يتّفق التوارد من الجانبين إلخ : هذا اشارة إلى التقسيم الثاني.

قوله ص ٣٣٠ س ١٥ : ويأخذ مفعوله في كلا الطرفين : بمعنى ان كل واحد منهما يكون رافعا للآخر بالفعل.

قوله ص ٣٣١ س ٥ : ولو لا الآخر : عطف تفسير لقوله « في نفسه ».

قوله ص ٣٣١ س ٦ : وهذا معنى إلخ : أي عدم تحقّق الموضوع لكل واحد منهما بالفعل.

قوله ص ٣٣١ س ٨ : ان يكون الحكم في أحد الدليلين إلخ : وهو الحكم بوجوب الوفاء بالنذر. والمقصود من الحكم الثاني هو الحكم بوجوب الحج.

قوله ص ٣٣١ س ١٢ : ان ينطبق مدلوله : مدلول دليل الحكم الأول ثبوت الحكم الأول بالفعل.

قوله ص ٣٣٢ س ٣ : صالحا لرفع الآخر : أي صالحا لكونه مانعا من وجود الآخر.

قوله ص ٣٣٢ س ٣ : لو بدأنا به : أيّ لو لا حظناه أولا.

قوله ص ٣٣٢ س ٣ : ولمّا كان من المستحيل إلخ : توجد قبل هذه الجملة مقدمة مضمرة ، وهي انه اذا كان كل منهما صالحا لرفع الآخر ومانعا منه فكل منهما اذن يكون وجوده موقوفا على عدم الآخر من باب توقّف الشيء على عدم

٣٠٦

مانعه ، ولمّا كان من المستحيل إلخ.

قوله ص ٣٣٢ ص ٤ : يقع التعارض إلخ : للعلم بكذب أحد التوقفين.

قوله ص ٣٣٢ س ٥ : على الرغم من ورود كل منهما على الآخر : بمعنى صلاحيته لرفع موضوع الآخر.

٣٠٧
٣٠٨

قاعدة الجمع العرفي

قوله ص ٣٣٣ س ١ : ونتكلم في هذه القاعدة إلخ : ذكرنا فيما سبق ان التعارض على قسمين : مستقر وغير مستقر.

والمقصود من التعارض غير المستقر التعارض في الموارد التي يوجد فيها جمع عرفي. وعليه فيمكن ان نقول ان البحث عن قاعدة الجمع العرفي بحث عن أحكام التعارض غير المستقر. ويقع ص ٣٦٦ ، ص ٣٨١ من الحلقة الكلام عن التعارض المستقر.

والبحث عن قاعدة الجمع العرفي يقع في خمس جهات : ـ

١ ـ المقصود من قاعدة الجمع العرفي.

٢ ـ أقسام الجمع العرفي أو بتعبير آخر : أقسام التعارض غير المستقر ـ وهي الحكومة والتخصيص والتقييد ـ وبيان نكتة الجمع العرفي في كل قسم.

٣ ـ أحكام عامّة للأقسام الثلاثة للجمع العرفي.

٤ ـ نتائج الجمع بالنسبة إلى الدليل المحكوم والعام والمطلق الذي هو الدليل المغلوب.

٥ ـ بيان بعض المصاديق التي وقع الكلام في انّها من مصاديق الجمع العرفي أو لا.

٣٠٩

النظريّة العامّة للجمع العرفي

هذا هو البحث في الجهة الاولى من الجهات الخمس المتقدّمة. والبحث في هذه الجهة يمكن منهجته في نقاط خمس : ـ

١ ـ المقصود من قاعدة الجمع العرفي : ان كل ظهور هو حجّة ويؤخذ به ما لم يصدر من المتكلم ظهور ثان اعدّه مفسّرا للظهور الأول وإلاّ أخذ العقلاء بالظهور الثاني ـ ويسمى بالقرينة ـ دون الظهور الأول.

٢ ـ ان إعداد ظهور ثان لتفسير الظهور الأول تارة يكون إعدادا شخصيّا ، واخرى يكون إعدادا نوعيّا.

والمراد من الإعداد الشخصي : ان يعدّ نفس المتكلم ـ لا العرف ـ الظهور الثاني لتفسير الظهور الأول ، كما لو فرض ان المتكلم قال في كلامه الثاني اني أقصد من ظهور كلامي الأول كذا.

ومن أمثلة الإعداد الشخصي : الدليل الحاكم بالنسبة الى الدليل المحكوم ، فإنّ المتكلم أعدّ الدليل الحاكم ليكون ناظرا ومفسّرا للكلام الأول المحكوم.

والمراد من الإعداد النوعي : ان يعدّ العرف ـ لا شخص المتكلم ـ الكلام الثاني مفسّرا للكلام الأول ، وشخص المتكلم لا دور له سوى انه واحد من العرف ويجري على طبق الالتزامات العرفية دون ان يكون هو المعدّ بخصوصه.

ومن أمثلة ذلك : الخاص بالنسبة إلى العام ، فإنّ الخاص يعدّه العرف مفسّرا للعام ولا خصوصية للمتكلم في هذا الإعداد وإنّما هو واحد من العرف ويجري على الموازين العرفية.

٣١٠

٣ ـ تقدّم في القسم الأول من الحلقة الثالثة في مبحث حجّيّة الظهور ان لكل كلام ظهورا تصوريّا وظهورا تصديقيّا (١).

والظهور التصوريّ هو خطور المعنى إلى الذهن عند سماع اللفظ ولو من اصطكاك حجرين. ومنشأ هذا الظهور هو الوضع.

والظهور التصديقي هو ظهور الكلام في ان المتكلم استعمله في معناه الحقيقي.

وتقدّم أيضا ان القرينة إذا كانت متّصلة فهي لا تهدم الظهور التصوري وإنّما تهدم الظهور التصديقي ، فكلمة يرمي مثلا في جملة رأيت أسدا يرمي لا تمنع خطور الحيوان المفترس من كلمة الأسد وإنّما تمنع الظهور التصديقي ، أي الظهور في ان المتكلم قد استعمل كلمة الأسد في الحيوان المفترس فلا يبقى ظهور في ان المتكلم قد استعمل كلمة الأسد في الحيوان المفترس.

وأمّا إذا كانت القرينة منفصلة فهي لا تمنع من أصل انعقاد الظهور التصديقي المذكور وإنّما تمنع حجّيّته ، فإذا قال المتكلم رأيت أسدا ثم ذكر في كلام ثان كلمة يرمي فالكلام الأول يبقى ظاهرا في ان المتكلم قد استعمل كلمة الأسد في الحيوان المفترس غاية الأمر لا يبني العرف على حجّيّته بسبب قرينة الكلام الثاني. ورفع اليد عن حجّيّة ظهور الكلام الأول لأجل القرينة المنفصلة هو عبارة عن الجمع العرفي.

٤ ـ عرفنا ان إعداد الكلام الثاني لتفسير الكلام الأول تارة يكون إعدادا شخصيّا يقوم به شخص المتكلم ، واخرى يكون إعدادا نوعيّا عرفيّا لا يختص

__________________

(١) المقصود هو الظهور التصديقي الأول ولا يهمّنا الآن الظهور التصديقي الثاني

٣١١

بشخص المتكلم.

والسؤال المطروح هنا : كيف نعرف ان المتكلم أعدّ الكلام الثاني كمفسّر للكلام الأول؟ وكيف نعرف ان العرف أعدّ الكلام الثاني كمفسّر للكلام الأول؟

أمّا فيما يخص السؤال الأول فجوابه ان الطريق لمعرفة الإعداد الشخصي هو الظهور ، فمتى ما كان الكلام الثاني للمتكلم ظاهرا في انه قد أعدّه مفسّرا للأول اخذ بذلك الظهور وحكم بإعداد الكلام الثاني مفسرا للأول. ومثال ذلك ما لو قال المتكلم في كلامه الثاني اني أقصد من كلامي الأول كذا.

وأمّا فيما يخص السؤال الثاني فجوابه ان الطريق لمعرفة استقرار بناء العرف على عدّ الكلام الثاني مفسّرا هو وصل الكلام الثاني بالكلام الأول فإذا ارتفع التعارض بينهما ولم يبق ظهور الكلام الأول عدّ العرف الكلام الثاني في صورة انفصاله قرينة مفسّرة للكلام الأول ـ إذ من لوازم القرينة انها تزيل ظهور الكلام في صورة اتصالها به ـ وكان الحجّة عندهم الكلام الثاني دون الكلام الأول ، حيث ان الكلام الثاني قرينة والكلام الأول ذو القرينة ، والعرف يثبت الحجّيّة للقرينة دون ذي القرينة. فمثلا لو قال المتكلم أكرم العلماء وبعد مدّة ذكر كلاما منفصلا قال فيه لا تكرم العلماء الفسّاق ، فإنّ هذا الكلام الثاني لو وصل بالأول وقيل هكذا : أكرم العلماء ولا تكرم العلماء الفسّاق لم ير بين الكلامين معارضة بسبب ارتفاع ظهور الكلام الأول في الاستعمال في العموم ، وهذا بخلاف ما لو قيل صلّ ثم قيل منفصلا : لا تصلّ ، فإنّ الكلام الثاني لو وصل بالكلام الأول لم يرتفع التعارض بينهما وكان ظهور الكلام الأول في وجوب الصلاة باقيا.

٥ ـ ان الجمع العرفي يختص بحالة ما إذا كانت القرينة منفصلة دون ما إذا

٣١٢

كانت متصلة إذ في حالة اتصال القرينة ـ كما لو قال المتكلم أكرم العلماء العدول ـ لا يبقى ظهور لأكرم العلماء في العموم ليعارض ظهور العدول ويجمع بينهما جمعا عرفيا ، بخلافه في صورة االانفصال ، كما لو قيل اكرم العلماء ثم قيل بعد فترة لا تكرم العلماء الفساق فانّ ظهور الكلام الثاني يتعارض وظهور الكلام الأوّل فيجمع العرف بينهما بالتخصيص.

وباختصار انّ الجمع العرفي فرع التعارض غير المستقر ومع كون القرينة متصلة لا يبقى ظهور للكلام الأوّل ليحصل التعارض ويجمع بالجمع العرفي.

قوله ص ٣٣٣ س ٢ : أو أقسام التعارض غير المستقر : حيث انّ موارد الجمع العرفي هي عبارة اخرى عن موارد التعارض غير المستقر لذا عبر بالتعبير المذكور الذي هو بمثابة عطف التفسير لسابقه.

قوله ص ٣٣٣ س ٩ : وكشف المراد النهائي له : عطف تفسير لسابقه.

قوله ص ٣٣٣ س ١٠ : في هذه الحالة : أي حالة اعداء الظهور الثاني مفسرا للأوّل.

قوله ص ٣٣٤ س ٣ : وهذا الاعداد تارة إلخ : هذا إشارة إلى النقطة الثانية.

قوله ص ٣٣٤ س ٣ : شخصيا : كان من المناسب إضافة الجملة التالية : بمعنى انّ شخص المتكلم اعدّ الكلام الثاني كمفسر للكلام الأوّل وتقوم عليه قرينة خاصة.

قوله ص ٣٣٤ س ١٠ : وكل قرينة ان كانت إلخ : هذا إشارة إلى النقطة الثالثة.

قوله ص ٣٣٤ س ١١ : اساسا : أي أصلا وابدا.

٣١٣

قوله ص ٣٣٤ س ١٢ : لما تقدم : أي في القسم الأوّل من هذه الحلقة في مبحث حجّية الظهور.

قوله ص ٣٣٤ س ١٤ : والقرينة الناشئة : هذا إشارة إلى النقطة الرابعة.

قوله ص ٣٣٤ س ١٥ : من قبيل إلخ : هذا من قبيل الصراحة التي هي اعلى مستوى من الظهور ، فانّ المتكلم لو قال أقصد من كلامي الأوّل كذا كان ذاك صريحا في الاعداد الشخصي.

قوله ص ٣٣٥ س ١ : إلى احراز ذلك : أي البناء العرفي.

قوله ص ٣٣٥ س ١ : غالبا : لعل التعبير بكلمة « غالبا » احتراز عن الموارد التي يكون فيها البناء العرفي المذكور واضحا بلا حاجة إلى الطريق المذكور.

قوله ص ٣٣٥ س ٦ : اساسا : أي حتما وبالكلية.

قوله ص ٣٣٥ س ٨ : وعلى هذا الضوء : هذا إشارة إلى النقطة الخامسة.

قوله ص ٣٣٥ س ١٠ : لما عرفت : أي من انّ العرف في موارد القرينة وذي القرينة يجمع بتقديم القرينة. وقد اشير إلى ذلك في النقطة الاولى.

قوله ص ٣٣٥ س ١٠ : كما انّ بناء العرف إلخ : هذه الجملة إلى قوله « ويقدم بملاك القرينية » لا نراها إلاّ تكرارا بلا موجب لما ذكر في النقطة الرابعة.

٣١٤

أقسام الجمع العرفي والتعارض غير المستقر

قوله ص ٣٣٦ س ١ : من أهم أقسام إلخ : أقسام الجمع العرفي ثلاثة هي : الحكومة ، التقييد ، التخصيص.

وقد تسأل لماذا لا تعد موارد الورود قسما رابعا من أقسام الجمع العرفي؟

والجواب : انّ الجمع العرفي يختص بصورة وجود ظهورين متعارضين بشكل غير مستقر ، ومن الواضح انّه في موارد الورود لا يوجد تعارض أصلا حتى يجمع عرفا بين الظهورين ، فمثلا دليل صحّة الإجارة على المباح ودليل حرمة إدخال الجنب في المسجد لا يرى بينهما أي تعارض عرفا ليجمع بينهما بجمع عرفي.

وبعد هذا نذكر أقسام الجمع العرفي الثلاثة وهي : ـ

الحكومة

ومثال الحكومة واضح فدليل لا ربا بين الوالد وولده حاكم على قوله تعالى « وحرم الربا » ويقدم بالحكومة. ولكن ما هو المقصود بالدقة من كلمة الحكومة؟

انها تعني النكتة الموجبة لتقدم الحاكم على المحكوم فلو كانت نكتة التقدم هي نظر الحاكم إلى المحكوم فالمقصود من الحكومة هو النظر.

٣١٥

وقد تقول : هل هناك نكتة لتقدم الحاكم سوى النظر؟ والجواب : انّه يوجد في نكتة تقدم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم اتجاهان : ـ

١ ـ ما اختاره الشيخ النائيني قدس‌سره (١) من انّ نكتة تقدم الدليل الحاكم هي انّه لا يذكر مطلبا يرفضه الدليل المحكوم بل يذكر مطلبا إضافيا يسلمه الدليل المحكوم ، فانّ دليل « وحرم الربا » الذي هو الدليل المحكوم يرجع إلى قضية شرطية : أي انّ كل معاملة إذا صدق عليها عنوان الربا فهي محرمة ، ومن الواضح انّ القضية الشرطية لا تثبت الشرط أي الموضوع فلا تقول انّ هذه المعاملة ربا أو تلك ليست بربا بل تقول ان كانت ربا فهي محرمة. وإذا رجعنا إلى الدليل الحاكم الذي يقول لا ربا بين الوالد وولده وجدناه ينفي صدق عنوان الربا على المعاملة بين الوالد وولده ، وهذا كما قلنا مطلب لا يرفضه الدليل المحكوم فانّ الدليل المحكوم لا يقول انّ المعاملة بين الوالد وولده هي من الربا حتى يرفض مقالة الدليل الحاكم.

ويرده : انّ مقالة الدليل الحاكم يرفضها الدليل المحكوم فانّ مفاد الدليل المحكوم انّ المعاملة متى ما صدق عليها عنوان الربا واقعا وكانت ربا واقعا فهي محرمة فالمدار على صدق عنوان الربا واقعا ـ إذ المدار في العناوين المأخوذة في الأدلة على صدقها الواقعي فحينما يقال الخمر حرام يراد به انّ ما يصدق عليه الخمر واقعا هو حرام ـ ومن الواضح انّ الدليل الحاكم لا ينفي صدق عنوان الربا واقعا على المعاملة الجارية بين الوالد وولده لتكون المعارضة معدومة وإنّما ينفي

__________________

(١) أشار لذلك السيد الخوئي في مصباح الاصول ج ٣ ص ٢٥٤

٣١٦

صدقه اعتبارا وتعبدا فهو يقول انا اعبّدك بانّ المعاملة بين الوالد والولد ليست ربوية ، وما دام لا ينفيها واقعا فالمعارضة تبقى على حالها ولا ترتفع ، إذ ما دامت المعاملة بين الوالد وولده ربا واقعا فهي محرمة بمقتضى الدليل المحكوم بينما الدليل الحاكم يقصد من وراء نفيه للموضوع تعبدا نفي الحرمة (١).

٢ ـ والاتجاه الثاني ما تبناه جماعة منهم السيد الشهيد. وحاصله انّ الدليل الحاكم يتقدم على الدليل المحكوم من باب انّه ناظر إليه ، فالمعارضة وان كانت ثابتة خلافا للشيخ النائيني إلاّ انّ الدليل الحاكم لما كان ناظرا إلى الدليل المحكوم فنفس النظر إلى الدليل المحكوم واعداد الدليل الحاكم ليكون مفسرا للدليل المحكوم موجب للتقديم عرفا ، حيث انّ النظر يوجب قرينية الدليل الحاكم ، والقرينة مقدمة على ذي القرينة في مقام الحجّية.

__________________

(١) وأيضا يرد على الاتجاه المذكور انّه يوضح فقط نكتة تقدم الدليل الحاكم فيما إذا كان ناظرا إلى موضوع الدليل المحكوم ولا يوضح نكتة تقدم الدليل الحاكم فيما إذا كان ناظرا إلى الحكم في الدليل المحكوم ، فانّ الدليل الحاكم تارة يكون ناظرا إلى الموضوع في الدليل المحكوم كما هو الحال في مثال الربا فانّ دليل لا ربا بين الوالد وولده ينفي عنوان الربا الذي هو موضوع في الدليل المحكوم ، واخرى يكون ناظرا إلى الحكم في الدليل المحكوم كما في مثال « لا ضرر » فانّ المقصود لا حكم في صورة الضرر فهو ناظر إلى نفي الحكم الثابت في الأدلة الأولية. والشيخ النائيني في بيانه هذا أوضح نكتة تقدم دليل « لا ربا بين الوالد وولده » على دليل « وحرم الربا » وهي انّ دليل « وحرم الربا » لا يقول ان هذه المعاملة أو تلك ربا أو لا فلا يتنافى ودليل لا ربا بين الوالد وولده ، ولم يوضح لماذا يتقدم دليل لا ضرر فإنّه لم ينظر إلى نفي موضوع الدليل المحكوم ليقال انّ الدليل المحكوم لا يثبت موضوعه فلا يرفض مقالة الدليل الحاكم بل هو ينظر إلى نفي الحكم ومن الواضح انّ الدليل المحكوم يثبت الحكم وليس حياديا من هذه الناحية ويأتي من السيد الشهيد التنبيه على هذه الملاحظة ص ٣٣٧ من الحلقة تحت عنوان والفارق الآخر

٣١٧

وباختصار : ان الدليل الحاكم مقدم من باب انّه ناظر ومفسر ، الأمر الذي يوجب ان يكون قرينة على الدليل المحكوم. وهذا من دون فرق بين ان يكون متصلا بالدليل المحكوم أو منفصلا عنه فانّه على كلا التقديرين يتقدم على الدليل المحكوم ، غاية الأمر في صورة اتصاله به لا يبقى ظهور المحكوم معارضا للدليل الحاكم (١) بينما في صورة انفصاله عنه يكون معارضا ولكن يتقدم الحاكم من باب النظر والتفسير.

اقسام النظر

ذكرنا فيما سبق انّ النكتة الموجبة لتقدم الدليل الحاكم هي النظر. والنظر له أشكال ثلاثة : ـ

١ ـ ان يكون نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم نظرا صريحا ، كما لو كان الدليل الحاكم مسوقا بلسان التفسير ، كأن يقول « اقصد بالكلام الأوّل كذا » أو ما يشبه ذلك.

٢ ـ ان يكون الدليل الحاكم ظاهرا في النظر إلى الدليل المحكوم وليس صريحا في ذلك ويفرض انّه ناظر إلى موضوع الدليل المحكوم ، كما هو الحال في دليل « لا ربا بين الوالد وولده » فإنّه ناظر إلى موضوع الربا الثابت في دليل

__________________

(١) لعل الاولى عدم التعميم لصورة اتصال الدليل الحاكم وانفصاله والاقتصار على صورة الانفصال ، إذ في صورة الاتصال حيث لا يبقى للدليل المحكوم ظهور يعارض به الدليل الحاكم فلا يكون المورد من موارد تعارض الظهورين وبالتالي لا يكون من موارد الحكومة ، فانّ الحكومة شكل من اشكال الجمع العرفي وهو يختص بمورد تعارض الظهورين ، والتعارض لا يتحقق عند اتصال القرينة. وقد نبه على ذلك قدس‌سره سابقا ص ٣٣٥ س ٨ ـ ١٠ من الحلقة

٣١٨

« وحرّم الربا » فهو يرفع موضوع الربا ويثبت انّه غير صادق.

وينبغي الالتفات إلى انّ الدليل الحاكم حينما ينفي صدق عنوان الربا لا ينفيه حقيقة ، كيف والمعنى الحقيقي للربا هو الزيادة وهي ـ كما هو واضح ـ صادقة في المعاملة بين الوالد وولده فلا بدّ وان يكون المقصود إذن نفي ذلك ادعاء واعتبارا ، ويقصد من وراء نفي الموضوع ادعاء نفي الحكم أي نفي الحرمة ، فانّ من أحد الاساليب البلاغية في اللغة العربية لنفي الحكم نفيه عن طريق نفي موضوعه ، فبدلا من التصريح بنفي الحرمة مباشرة ينفى صدق عنوان الربا.

٣ ـ ان يكون الدليل الحاكم ظاهرا في النظر إلى الدليل المحكوم ويفرض انّه ناظر إلى الحكم الثابت في الدليل المحكوم لينفيه كما هو الحال في حديث لا ضرر ، فانّ المقصود منه انّه لا حكم ضرري في الاسلام فهو ناظر إلى الحكم الثابت في الأدلة الاولية لينفيه ولا بدّ مسبقا من افتراض وجود احكام كي ينفيها حالة الضرر.

وهكذا حديث « لا ينجّس الماء ميتة ما لا نفس له » ، فإنّه ينفي الحكم بالنجاسة الثابت في الأدلة الاولية التي يستفاد منها تنجس الماء بملاقاة النجاسة.

مقارنة بين الاتجاهين

ذكرنا انّ نكتة تقدم الدليل الحاكم فيها اتجاهان : اتجاه للميرزا يقول بانّ الدليل الحاكم يقدم من باب أنّه يبين مطلبا لا ينفيه الدليل المحكوم ، واتجاه ثان يقول بانّ التقدم من باب النظر. ويوجد بين هذين الاتجاهين فارقان : ـ

١ ـ انّه على الاتجاه الثاني لا يتقدم الدليل الحاكم إلاّ إذا كان ناظرا إلى

٣١٩

الدليل المحكوم فلو لم يكن ناظرا لم يكن حاكما بينما على الاتجاه الأوّل لا يشترط في تقدم الدليل الحاكم النظر ، إذ على الاتجاه المذكور يتقدم الدليل الحاكم من باب انّه يرفع موضوع الدليل المحكوم فهو يرفع عنوان الربا ويكون اشبه بالدليل الوارد الذي يتقدم على الدليل المورود من باب انّه يرفع موضوعه ، فكما انّ الدليل الوارد يتقدم من باب انّه يرفع موضوع الدليل المورود بلا حاجة إلى النظر كذلك الدليل الحاكم على اتجاه الميرزا يتقدم من باب انّه يرفع موضوع الدليل المحكوم بلا حاجة إلى النظر (١).

٢ ـ والفارق الثاني هو انّ اتجاه الميرزا لا يفسر نكتة تقدم الدليل الحاكم فيما إذا كان ناظرا إلى نفي الحكم في الدليل المحكوم كدليل نفي الجرح أو نفي الضرر أو عدم تنجس الماء بميتة ما لا نفس له بل يفسر فقط نكتة تقدم الدليل الحاكم فيما إذا كان ناظرا إلى نفي الموضوع في الدليل المحكوم ، وهذا بخلافه على الاتجاه الثاني فانّ نكتة النظر الموجبة لتقدم الدليل الحاكم تعم كلتا حالتي الدليل الحاكم. وقد تقدمت الاشارة إلى هذا فيما سبق.

التقييد

والقسم الثاني من اقسام الجمع العرفي هو التقييد فالدليل على التقييد مقدم على دليل الاطلاق في نظر العرف.

__________________

(١) ان قلت : فعلى هذا ما الفرق بين الحكومة والورود ما دام قد افترض ان وجه التقدم في كليهما رفع الموضوع؟

قلت : ان رفع الموضوع في الدليل الوارد رفع حقيقي بينما في الدليل الحاكم رفع تعبدي

٣٢٠