الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٤

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-28-6
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٤٨٧

مناقشة التفسير الثاني

ويمكن مناقشة التفسير الثاني بمناقشتين : ـ

١ ـ ان هذا التفسير ذكر ان التنجّس مترتّب على عدم الكرية المقيّد بزمن الملاقاة كما وذكر ان الشكّ في عدم الكرّيّة المقيّد بزمن الملاقاة لا يحصل قبل زمن الملاقاة وكلا هذين المطلبين قابلان للتأمّل.

أمّا المطلب الأوّل فباعتبار ان الأثر ليس مترتّبا على تقيّد عدم الكرّيّة بزمن الملاقاة فإنّه مرّ ص ٢١٠ من الحلقة ان الاستصحاب في أجزاء الموضوعات المركّبة لا يجري إلاّ إذا كان الأثر منصبّا على ذوات الأجزاء لا على عنوان التقيّد وإلاّ لم يجر الاستصحاب في ذات الجزء لأنّ استصحاب ذات الجزء لإثبات عنوان التقيّد أصل مثبت.

هذا مضافا إلى ان الواقع هو ذلك ، فإنّ المستفاد من الأدلّة ترتّب الأثر على ذوات الاجزاء لا على عنوان التقيّد ، فإنّ قوله عليه‌السلام « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » يستفاد منه بالمفهوم ان الماء ينجس عند عدم كرّيّته وفرض الملاقاة ولا يستفاد من اعتبار التقيّد.

وأمّا المطلب الثاني فلانّا لا نسلّم ان الشكّ في عدم الكرّيّة المقيّد بزمن الملاقاة لا يحصل إلاّ في زمن الملاقاة ، فلو كان زمن الملاقاة في علم الله سبحانه هو الساعة الثانية فالشكّ في عدم الكرّيّة المقيّد بزمن الملاقاة حاصل في الساعة الاولى أيضا وإلاّ لم يكن الشكّ ثابتا لا في الساعة الاولى ولا في الساعة الثانية. أمّا عدم ثبوته في الساعة الاولى فلاحتمال ان زمن الملاقاة واقعا هو

٢٨١

الساعة الثانية ، وأمّا عدم ثبوته في الساعة الثانية فلاحتمال ان زمن الملاقاة واقعا هو الساعة الاولى ، ومن الواضح ان انتفاء الشكّ في كلتا الساعتين خلاف الوجدان.

ومن خلال هذا كلّه تجلّى ان الأثر مترتّب على ذات عدم الكرّيّة لا على العدم المقيّد ، وما دام مترتّبا على ذات عدم الكرّيّة فبالامكان اثبات بقاء ذات عدم الكرّيّة بالاستصحاب ، فببركة الاستصحاب نسحب عدم الكرّيّة من زمان اليقين الذي هو ما قبل الظهر إلى الساعة الاولى والساعة الثانية والساعة الثالثة و ... ، ويثبت ان عدم الكرّيّة عدم واحد متصل من زمن اليقين إلى زمن الشكّ ، كما وان زمن الشكّ متصل بزمن اليقين فإنّا نشكّ في ذات عدم الكرّيّة منذ الساعة الاولى التي هي متصلة بزمن اليقين ، غاية الأمر ان التنجّس لا يترتّب على ذات عدم الكرّيّة وحده بل عند اجتماعه مع الملاقاة فإذا كان زمن الملاقاة في علم الله سبحانه هو الذي الساعة الثانية فالأثر يكون مترتّبا في الساعة الثانية.

وعليه فلو كان هناك محذور فالمحذور هو تأخّر زمن ترتّب الأثر عن زمن اليقين ـ وإلاّ فلا محذور من غير هذه الناحية إذ زمن الشكّ متصل بزمن اليقين ، وعدم الكرّيّة المشكوك والمتيقّن عدم واحد متصل ـ وهذا لا محذور فيه ولذا تجد ان زيدا مثلا لو كان مجتهدا عادلا عند طلوع الفجر وفرض الشكّ في بقائه على الاجتهاد بعد طلوع الشمس فإنّه لا اشكال في جريان استصحاب بقائه على الاجتهاد حتى وان لم يكن الأثر مترتّبا في فترة من الشكّ ، كما لو فرض زوال العدالة بعد طلوع الشمس لمدّة ساعتين فإنّه بعد مضي الساعتين يجري الاستصحاب وان لم يجر من حين طلوع الشمس لفرض زوال العدالة وعدم

٢٨٢

ترتّب الأثر (١) ، ففترة ترتّب الأثر وان كانت متأخرة عن زمان اليقين بالاجتهاد إلاّ ان ذلك لا يمنع من جريان الاستصحاب.

٢ ـ ان التفسير المذكور لو تمّ فلازمه عدم جريان استصحاب عدم الكرّيّة حتى في الصورة التي اختار فيها الآخوند جريان الاستصحاب ، وهي الصورة الثانية التي يكون فيها تاريخ الملاقاة معلوما وتاريخ ارتفاع عدم الكرّيّة مجهولا ، كما لو فرض ان الملاقاة تحقّقت في الساعة الثانية ولم يعلم ان عدم الكرّيّة ارتفع في الساعة الاولى أو الثانية الثالثة أو الرابعة ... فإنّه في هذه الصورة ذكر الآخوند ان عدم الكرّيّة الثابت قبل الظهر يجري استصحابه إلى الساعة الثانية التي هي ساعة الملاقاة والحال ان الأثر لو كان مترتّبا على عدم الكرّيّة المقيّد بزمن الملاقاة فلازمه عدم تحقّق الشكّ في الساعة الاولى لأنها ليست ساعة الملاقاة بل يحدث الشكّ في الساعة الثانية ، وبذلك تصير الساعة الاولى فاصلا بين زمان اليقين ـ وهو ما قبل الظهر ـ وزمان الشكّ وهو الساعة الثانية.

تفسيران آخران

نقل السيد الشهيد تفسيرين لكلام الآخوند المتقدم ويمكن اضافة تفسيرين آخرين ـ وبهذا تصير مجموع التفاسير أربعة ـ هما : ـ

١ ـ ان يكون المقصود نفس ما استند إليه السيد الشهيد ، فإنّه استند في

__________________

(١) إذ مع زوال العدالة لا يترتّب الأثر على بقاء الاجتهاد لأنّ شرط جواز التقليد توفر الاجتهاد والعدالة فإذا اختلّت العدالة فلا يترتّب الأثر على بقاء الاجتهاد وحده

٢٨٣

توجيه عدم جريان استصحاب عدم الكرية في الصورة الثالثة وشق من الصورة الاولى إلى احتمال كون المورد من موارد نقض اليقين باليقين وليس من موارد نقض اليقين بالشكّ ، ولعل مقصود الآخوند هو هذا أيضا كما اشير إلى ذلك في التقرير ج ٦ ص ٣١٢ (١).

٢ ـ ما تقدمت الاشارة له في ص ٢٥٠ س ١٣ من الحلقة حيث قال قدس‌سره : « وهذا بعض معاني ما يقال من عدم اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين » والمقصود من كلمة « هذا » هو احتمال كون زمان المشكوك وزمان المتيقن واحدا.

قوله ص ٣١٣ س ١٣ : وان كان قريبا جدا إلخ : وإنّما كان قريبا وليس نفسه باعتبار ان الآخوند يقول بعدم جريان الاستصحاب في الصورة الثالثة وفي الصورة الاولى بكلا شقيها بينما السيد الشهيد يقول بعدم جريانه في الصورة الثالثة وفي خصوص الشق الأوّل من الصورة الاولى.

قوله ص ٣١٤ س ٣ : قليلا : أي ليس بكرّ.

قوله ص ٣١٤ س ١٤ : فيه : أي في عدم الكرية.

قوله ص ٣١٥ س ٥ : اطلاقا : أي ابدا.

قوله ص ٣١٥ س ١٧ : عبادته : الصواب : عبارته.

قوله ص ٣١٦ س ٢ : التفسيرات : الصواب : التفسير.

قوله ص ٣١٦ س ٦ : وبصورة مستقلة عن الملاقاة : عطف تفسير لقطعات الزمان.

__________________

(١) حيث انّه في التقرير ذكر ثلاثة تفاسير لكلام الآخوند هذا احدهما والآخران هما التفسيران المتقدمان

٢٨٤

قوله ص ٣١٦ س ١٦ : رمان : الصواب : زمان.

قوله ص ٣١٧ س ٧ : فقد يتبادر : التعبير بـ « قد » إشارة إلى عدم التسليم بعدم ثبوت الشكّ قبل زمان الملاقاة لما أوضحناه سابقا.

قوله ص ٣١٨ س ٤ : فانّ المناط اتصال إلخ : إذ مع عدم الاتصال لا يكون المشكوك والمتيقن واحدا بل يكونان متعددين فالمشكوك يصير غير المتيقن والمتيقن غير المشكوك ، ومعه فلا يجري الاستصحاب لأنّ شرط جريانه وحدة المتيقن والمشكوك.

قوله ص ٣١٨ س ٨ : عند الطلوع : لعل الاولى التعبير : بعد طلوع الشمس.

قوله ص ٣١٨ س ١٠ : إلى ساعتين إلخ : لعل الاولى التعبير : بعد ساعتين من طلوع الشمس.

قوله ص ٣١٩ س ٨ : وذلك اكتفاء إلخ : بالنسبة إلى البحث عن الأصل السببي والمسببي لم يكتف قدس‌سره بما تقدم في الحلقة الثانية بل عاد إليه هنا لتكميله وتعميقه ص ٣٦٣.

٢٨٥
٢٨٦

تعارض الأدلّة الشرعية

٢٨٧
٢٨٨

البحث عن الخاتمة :

الابحاث التي يتعرض لها قدس‌سره في الخاتمة المتكفلة لمبحث تعارض الأدلة الشرعية أربعة هي : ـ

١ ـ التمهيد. وفيه يتعرض إلى تحديد المقصود من التعارض المصطلح.

٢ ـ قاعدة الجمع العرفي. وفيه يتعرض إلى خمس جهات للبحث.

٣ ـ حكم المتعارضين بمقتضى القاعدة الأولية ، بمعنى انّه لو خلينا نحن ودليل حجّية الخبر وقطعنا النظر عن الاخبار العلاجية فهل مقتضاه تساقط الخبرين المتعارضين أو التخيير بينهما.

٤ ـ حكم المتعارضين بمقتضى القاعدة الثانوية ، بمعنى انّ الاخبار العلاجية هل يستفاد منها التخيير بين الخبرين أو لزوم الأخذ بما يشتمل على المرجح.

ما هو التعارض المصطلح :

قوله ص ٣٢٥ س ١ : التعارض المصطلح هو التنافي إلخ : يمكن منهجه الابحاث المذكورة هنا ضمن النقاط التالية : ـ

١ ـ ما هو المقصود من التعارض المصطلح؟

ولتوضيح ذلك نذكر المقدمة التالية : ان التنافي بين الحكمين له ثلاثة اشكال : ـ

٢٨٩

أ ـ ان يكون التنافي بينهما في مرحلة الانشاء والتشريع المعبر عنها بمرحلة الجعل ، كما لو ورد دليلان احدهما يقول صل وثانيهما يقول لا تصل ، فان الحكمين المذكور بين لا يمكن للمولى تشريعهما فإذا شرّع صل فلا يمكنه تشريع لا تصل ، والعكس بالعكس.

ب ـ ان يكون التنافي بينهما في مرحلة الفعلية المعبر عنها بمرحلة المجعول.

ومثال ذلك : دليل توضأ ان كنت واجدا للماء ودليل تيمم ان كنت فاقدا للماء ، فانّ الدليلين المذكورين لا منافاة بينهما في مرحلة التشريع إذ يمكن تشريعهما معا بيد أنّه لا يمكن صيرورتهما فعليين معا ، فان وجوب الوضوء لا يصير فعليا إلاّ عند وجدان الماء الذي لازمه عدم فعلية الحكم بوجوب التيمم لانتفاء موضوعه.

إذن التنافي بينهما هو في مرحلة الفعلية فلا يمكن صيرورتهما في وقت واحد فعليين وليس في مرحلة تشريعهما. ويدخل الدليلان في الحالة المذكورة تحت باب الورود.

ج ـ ان يكون التنافي بينهما في مرحلة الامتثال دون مرحلة التشريع والفعلية.

ومثال ذلك : ما إذا كان شخصان قد أوشكا على الغرق فإذا لم يمكن إلاّ انقاذ احدهما كان انقاذ كل واحد منهما ضدا لأنقاذ الآخر حيث لا يمكن تحققهما ويكون وجوب انقاذ كل واحد منهما مقيدا بعدم إنقاذ الآخر.

في هذا المثال لا نلمس تنافيا بين تشريع الحكمين فتشريع وجوب انقاد كل غريق أمر معقول ، كما ولا تنافي في مرحلة الفعلية فانّه لو لم يمتثل المكلّف الحكمين ولم ينقذ لا هذا ولا ذاك كان كلا الحكمين فعليا في حقه لتحقق شرطه

٢٩٠

ويكون عاصيا لهما بعد صيرورتهما فعليين ، ومن هنا نشعر بالوجدان استحقاقه لعقابين.

وعليه فان كان هناك تناف فهو في مرحلة الامتثال بمعنى انّه لا يمكن امتثال كلا الحكمين معا فمع امتثال الحكم الأوّل لا يمكن امتثال الحكم الثاني ، والعكس بالعكس. ويدخل الدليلان في هذه الحالة تحت باب التزاحم.

وإلى هنا تنتهي المقدمة التي أردنا عرضها.

وبعد اتضاح ذلك نقول : انّ التعارض بالمعنى المصطلح هو التنافي بين الدليلين في مرحلة الجعل والإنشاء.

وإن شئت قلت : انّ كل دليل حيث انّه يدل على الجعل والتشريع فمن الوجيه ان نقول ان التعارض هو التنافي بين الدليلين بلحاظ مدلوليهما ، فانّ مدلول كل دليل حيث انّه الجعل فيصح ان نعبر عن التعارض تارة بانّه التنافي بين الدليلين بلحاظ الجعلين واخرى بانّه التنافي بين الدليلين بلحاظ مدلوليهما.

وإذا أردنا ان نذكر مثالا للتعارض فهو مثل صل ولا تصل ، لأنّ التنافي بينهما في مرحلة الجعل ، امّا مثل وجوب الوضوء ووجوب التيمم أو وجوب انقاد هذا الغريق ووجوب انقاذ ذاك الغريق فليس من التعارض المصطلح في شيء لعدم التنافي بينهما في مرحلة الجعل.

لا تعارض بين الاصلين

٢ ـ من خلال ما تقدم يتضح ان التعارض لا يتحقق إلاّ بين الدليلين المحرزين ، أي بين الخبرين مثلا ، إذ كل خبر يدل على الجعل فإذا كان بين الجعلين

٢٩١

تناف تحقق التعارض بين الخبرين. وأمّا الاصول العملية فلا يتحقق بينها تعارض. فمثلا لو شككنا في وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة فأصل البراءة يقتضي عدم الوجوب بينما الاستصحاب يقتضي بقاء الوجوب الثابت عصر الحضور إلاّ انّه لا تعارض بينهما لأن التعارض يثبت بين الدليلين باعتبار التنافي في الجعل الذي يكشفان عنه ، ومن الواضح انّ الاستصحاب ليس له كاشفية عن الجعل بل هو بنفسه جعل فانّ معنى الاستصحاب وجوب إبقاء الحالة السابقة ، ومن المعلوم انّ وجوب إبقاء الحالة السابقة هو بنفسه حكم شرعي نظير وجوب الصلاة ، فكما انّ قولنا تجب الصلاة حكم وجعل شرعي وليس دليلا يدل على الجعل الشرعي كذلك قولنا يجب الأخذ بالحالة السابقة هو بنفسه جعل شرعي وليس دليلا على الجعل الشرعي. ونفس الشيء نقوله بالنسبة إلى أصل البراءة ، فانّ معناه عدم وجوب المشكوك ، وهو بنفسه جعل شرعي وليس دليلا على الجعل الشرعي نظير قولنا يجوز شرب الماء.

أجل ان كان هناك تعارض فهو بين الدليل الدال على الاستصحاب والدليل الدال على أصل البراءة فقول المعصوم عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشكّ » وقوله « رفع عن امتي ما لا يعلمون » يتحقق بينهما التعارض ، إذ كل واحد منهما يكشف عن جعل يتنافى والجعل الذي يكشف عنه الآخر فحديث لا تنقض يكشف عن جعل الاستصحاب الذي يتنافى مع جعل أصل البراءة الكاشف عنه حديث رفع عن امتي ما لا يعلمون.

ان قلت : إذا لم يكن تعارض بين الاستصحاب وأصل البراءة فكيف يعبر أحيانا بانّ الاستصحاب معارض لاصل البراءة كما في المثال المتقدم لصلاة الجمعة.

٢٩٢

قلت : انّ التعارض المذكور لا يقصد به التعارض المصطلح بل يقصد به التعارض اللغوي وهو التنافي بين الشيئين فانّ الاستصحاب يقتضي نتيجة تتنافى والنتيجة التي يقتضيها أصل البراءة فذاك يقتضي تنجز وجوب الجمعة بينما هذا يقتضي المعذرية من وجوب الجمعة.

لا تعارض بين الأصل والدليل المحرز

وكما انّه لا تعارض بين الأصلين كذلك لا تعارض بين الأصل والدليل المحرز لنفس النكتة المتقدمة ، فانّ الأصل لا يكشف عن الجعل كيما يحصل التنافي بينه وبين الجعل الكاشف عنه الدليل المحرز. ولئن كان هناك تعارض فهو بين دليل الأصل ودليل حجّية ذلك الدليل المحرز.

لا تعارض بين القطعيين

٣ ـ انّ التعارض لا يتحقق بين الدليلين القطعيين ولا بين الدليل القطعي والدليل الظنّي وإنّما يتحقق بين الدليلين الظنّيين.

أمّا انّه لا يتحقق بين الدليلين القطعيين (١) ـ كما لو كانت آيتان كل منهما نص صريح في مضمون يتنافى ومضمون الاخرى ـ فلأن لازمه القطع بتحقق المتنافيين.

وأمّا انّه لا يتحقق بين الدليل القطعي والظنّي فلأنّه مع وجود آية قطعية

__________________

(١) المقصود من الدليل القطعي ما كان قطعيا من حيث السند والدلالة ، أمّا ما كان قطعيا من حيث السند دون الدلالة أو بالعكس فهو ليس دليلا قطعيا.

٢٩٣

الدلالة على معنى معين فالآية الاخرى لا يبقى لها ظهور كاشف عن المعنى ولا يكون حجّة فيه ، وكيف يكون حجّة فيه ونحن نعلم ببطلانه وعدم ثبوته!!! ولو كان باقيا على افادته للظن يلزم اجتماع القطع والظن بالمتنافيين ، وهو غير ممكن كما لا يمكن القطع بتحقق النهار والظن بتحقق الليل.

وامّا تحققه بين الدليلين الظنيين فذاك واضح (١).

اقسام ثلاثة للدليل الظني

٤ ـ ان الدليلين الظنيين اللذين يمكن تحقق التعارض بينهما لهما اشكال ثلاثة : ـ

أ ـ ان يكونا لفظيين كآيتين أو روايتين.

ب ـ ان يكونا غير لفظيين كتقريرين من قبل المعصوم عليه‌السلام.

ج ـ ان يكون احدهما لفظيا وثانيهما غير لفظي.

أمّا إذا كانا لفظيين فالتعارض بينهما له نحوان : ـ

١ ـ ان يكون تعارضا غير مستقر.

٢ ـ ان يكون تعارضا مستقرا.

__________________

(١) وقد يقال انّه ليس ممكنا أيضا لأنّ الظن بالمتنافيين مستحيل أيضا.

والجواب : انّه ليس المقصود من كون الدليل ظنيّا كونه مفيدا للظن الشخصي حتى يقال انّه لا يمكن تحقق الظن الشخصي بالمتنافيين وإنّما المراد كونه مفيدا للظن النوعي فخبر الثقة مفيد للظن النوعي ، أي ان غالب أفراد الخبر تفيد الظن والكاشفية ، ومن الواضح انّ الظن النوعي بالمتنافيين أمر معقول.

٢٩٤

والمقصود من التعارض غير المستقر كون الدليلين بمثابة لو عرضا على العرف لجمع بينهما ولم ير بينهما تعارضا ، كما هو الحال في العام والخاص فانّ العرف يرى الخاص قرينة مفسرة للمراد من العام ، ولئن كان بينهما تعارض فهو غير مستقر بنظر العرف. وأحيانا يتصرف العرف في كلا الدليلين كما لو قيل صل صلاة الليل ولا تصل صلاة الليل ، فانّه قد يقال بتصرفه في كليهما فيحمل الأوّل على الاستحباب بقرينه الثاني والثاني يحمله على نفي الوجوب بقرينه الأوّل.

والمقصود من التعارض المستقر كون الدليلين بمثابة لو عرضا على العرف لم يجمع بينهما ، نظير دليل صل ولا تصل فان العرف لا يجمع بينهما بحمل الأوّل على حالة عدم الاغماء والثاني على حالة الاغماء مثلا.

وفي موارد التعارض المستقر لا يمكن لدليل حجّية السند شمول كلا المتعارضين كما ولا يمكن لدليل حجّية الظهور شمولهما معا ، لأن لازم الشمول لهما معا ثبوت كل واحد منهما وانتفاؤه في وقت واحد ، إذ كل واحد منهما يثبت مفاد نفسه وينفي مفاد الآخر فلو شملهما دليل الحجّية معا لزم ثبوت مفادهما معا وعدم ثبوته في وقت واحد.

وعدم إمكان شمول دليل حجّية السند والظهور لهما هو ما يعبر عنه بان التعارض يسري إلى دليل الحجّية ، فانّ المقصود من سراية التعارض له هو انّه ـ دليل الحجية ـ لا يمكن ان يشملهما معا لوقوع التنافي في مدلوله وان جعل كل واحد منهما ثابت وغير ثابت.

وهن قاعدة الجمع اولى من الطرح

ثم انّ الميزان في باب التعارض غير المستقر إمكان الجمع بين الدليلين في

٢٩٥

نظر العرف ، أمّا إذا كان الجمع ممّا لا يستسيغه العرف ـ كحمل حديث ثمن العذرة سحت على العذرة النجسة وحمل حديث لا بأس بثمن العذرة على العذرة الطاهرة ـ فهو ما يسمى بالجمع التبرعي (١) وهو ممّا لا عبره به إذ لم يقم دليل على انّ الجمع ولو لم يكن عرفيا اولى من الطرح.

ظهور الحال

ذكرنا انّ ظهور احد الكلامين إذا كان قرينة على تفسير الظهور الآخر في نظر العرف جمع بينهما بما يراه العرف.

ونفس هذا الذي ذكرناه في ظهور الكلام يأتي في ظهور الحال فإذا أراد الامام عليه‌السلام تعليم زرارة الوضوء وبيّن كيفية الوضوء بدون اشارة إلى المضمضة كان ظهور حاله في بيان أجزاء الوضوء وكيفيته دالا على عدم جزئية المضمضة وإلاّ لأتى بها ، فإذا فرضنا في قضية اخرى ان الامام عليه‌السلام توضأ وأتى بالمضمضة فالعرف يجمع بين ظهور الحال في القضية الاولى وبين ما يقتضيه ظهور الحال في القضية الثانية بحمل المضمضة على انّها جزء مستحب لم يات به الامام في القضية الاولى وأتى به في القضية الثانية.

الدليلان غير اللفظيين

هذا كله في الدليلين اللفظيين ، وأمّا الدليلان غير اللفظيين فالتعارض بينهما

__________________

(١) سمي بذلك لعدم وجود مبرر للجمع سوى التبرع.

٢٩٦

مستقر دائما ، فانّ تقرير المعصوم عليه‌السلام ليس له لسان يمكن ان يفسر التقرير الآخر بخلافه في ظهور الكلام وظهور الحال فإنهما صالحان لذلك عرفا.

وما دام التعارض بين التقريرين مستقرا فالتعارض يسري إلى دليل حجّيتهما فإذا كان دليل حجّية التقريرين دليلا لفظيا لوحظ نوع التعارض فيه هل هو مستقر أو لا ، وإذا لم يكن دليلا لفظيا ـ كما إذا كان سيرة العقلاء ـ فالتعارض مستقر حتما.

قوله ص ٣٢٥ س ٥ : كما تقدم في الحلقة السابقة : ص ٤٤٩.

قوله ص ٣٢٥ س ٧ : وجعل : عطف تفسير لمدلول.

قوله ص ٣٢٦ س ٣ : كذلك : أي متعارضان بحسب النتيجة.

قوله ص ٣٢٧ س ١ : من هذه الناحية : أي ناحية كونهما لفظيين أو غير لفظيين.

قوله ص ٣٢٨ س ٦ : ومثل الكلام في ذلك إلخ : أي مثل ظهور الكلام في صلاحيته لتفسير الكلام الآخر ظهور الحال.

قوله ص ٣٢٨ س ١٠ : وما يشبههما : كظهور الحال.

٢٩٧
٢٩٨

الورود والتعارض

قوله ص ٣٢٩ س ١ : وعلى ضوء ما تقدم نعرف إلخ : تقدم في الحلقة السابقة ص ٤٥٢ المقصود من الورود وانّه عبارة عن كون احد الدليلين رافعا لموضوع الدليل الآخر رفعا حقيقيا أو مثبتا لموضوع الدليل الآخر اثباتا حقيقيا.

مثال الرفع : دليل صحة اجارة الشيء المباح ودليل حرمة إدخال الجنب في المسجد ، فانّه على ضوء هذين الدليلين لا يجوز استئجار الجنب لدخول المسجد إذ الدليل الثاني إذا اثبت حرمة إدخال الجنب في المسجد انتفى موضوع الدليل الأوّل ـ وهو كون الشيء مباحا ـ وبانتفائه ينتفي حكمه بصحة الإجارة ، فالدليل الثاني إذن وارد على الدليل الأوّل بمعنى انّه رافع لموضوعه.

ومثال الإثبات : دليل جواز الإفتاء استنادا إلى الحجّة ودليل حجّية خبر الثقة ، فإنّه بمقتضى الدليل الثاني يثبت مصداق جديد للحجّة ويجوز الاستناد إليه في مقام الإفتاء ، فالدليل الثاني وارد على الدليل الأوّل بمعنى انّه محقق لفرد من موضوع الدليل الأوّل الذي هو الحجة.

وباتضاح معنى الورود بقسميه نطرح السؤال التالي : هل باب الورود داخل تحت باب التعارض أو لا؟ الصحيح خروجه عنه.

أمّا خروج الورود بالاثبات عن باب التعارض فواضح لانّ دليل حجّية خبر الثقة بعد اثباته الحجّية لخبر الثقة فدليل جواز الافتاء سيقول للمكلف انّي

٢٩٩

اسمح لك بالاستناد إلى خبر الثقة والإفتاء على طبقه ولا يقول لا يحق لك ذلك ليتحقق التعارض بينهما.

وأمّا خروج الورود بالنفي عن باب التعارض فلأنّ دليل صحّة اجارة المباح وان كان يقول لا تصح الاجارة على إدخال الجنب ويرفض صحة استئجاره ، وبذلك تحصل المعارضة بين حرمة إدخال الجنب وصحّة اجارته إلاّ انّ هذه المعارضة ليست في مقام الجعل والتشريع فانّ تشريعهما معا شيء معقول فيصح من المولى ان يقول تصح الاجارة على المباح ويحرم إدخال الجنب في المسجد للكنس وإنّما التنافي بينهما من حيث المجعول ، بمعنى انّه لا يمكن ثبوت الحرمة الفعلية لادخال الجنب وفي نفس الوقت تصح اجارته لكنس المسجد بل متى ما تحققت الحرمة الفعلية لإدخال الجنب لم تكن اجارته صحيحة بالفعل.

ومع عدم التنافي بينهما في مقام التشريع فلا تعارض بينهما بالمعنى المصطلح لانّ التعارض بالمعنى المصطلح على ما تقدم يعني التنافي في مقام الجعل والتشريع.

ثم انّه ذكر في تحديد الورود كون الإثبات بسبب الدليل الوارد إثباتا حقيقيا وكون النفي نفيا حقيقيا. وهذا القيد ـ أي كون الإثبات أو النفي حقيقيا ـ ما ذا يراد به؟

انّ القيد المذكور يراد به الاحتراز عن الحكومة فانّ الدليل الحاكم يثبت فردا أو ينفي فردا بيد انّ الإثبات والنفي حاصل بالتعبد والاعتبار لا حقيقة ، فمثلا حينما يقول أحد الدليلين اكرم العالم ويقول الدليل الثاني الفاسق ليس بعالم وان درس ما درس نجد انّ الدليل الثاني حاكم يرفع عنوان العالم عن العالم الفاسق إلاّ انّ هذا الرفع ليس رفعا حقيقيا إذ العالم الفاسق عالم حقيقة. وهكذا حينما يقول

٣٠٠