الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٤

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-28-6
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٤٨٧

الموضوع هو الصغرى.

قوله ص ٢٦٩ س ٨ : بما هي : أي بقطع النظر عن الآثار الشرعية المترتبة عليها.

قوله ص ٢٦٩ س ١٢ : كما تقدم في الحلقة السابقة : ص ٤١٨.

قوله ص ٢٧٠ س ١ : وعلى هذا الأساس : أي على أساس البيان السابق.

قوله ص ٢٧٠ س ٨ : واستظهرنا إلخ : هذا عطف تفسير وتوجيه لامارية الاستصحاب.

قوله ص ٢٧٠ س ١١ : وأحكامها : أي الأحكام الشرعية للوازم العقلية. وهو عطف على اللوازم.

قوله ص ٢٧٠ س ١١ : على ما تقدم سابقا : في القسم الأوّل من هذه الحلقة ص ٧٢.

١٦١
١٦٢

تفصيل الشيخ الأعظم

والنراقي

١٦٣
١٦٤

عموم جريان الاستصحاب

قوله ص ٢٧١ س ١ : بعد ثبوت كبرى إلخ : وبعد إتضاح أنّ الاستصحاب حجّة للروايات الأربع السابقة يمكن طرح السؤال التالي : هل الاستصحاب حجّة بلا تفصيل أو هو حجّة في بعض الموارد دون بعض؟ هناك عدة تفاصيل في حجّية الاستصحاب. وقد نقل الشيخ الأعظم في رسائله أحد عشر قولا في هذا المجال. ونحن لا ننقل سوى قولين لأنهما المعروفان على الساحة الاصولية المعاصرة.

القول الأوّل

وهو للشيخ الأعظم وتبعه على ذلك الشيخ النائيني قدّس الله سرّه الشريف. وحاصله التفصيل بين موارد الشكّ في المانع فيكون الاستصحاب حجّة وبين موارد الشكّ في المقتضي فلا يكون حجّة.

توضيح ذلك : انّ الشكّ في بقاء المستصحب له أحد منشأين : ـ

١ ـ أن يكون المستصحب ذا قابلية واستعداد كامل للبقاء بيد أنّه يشكّ في بقائه من ناحية احتمال طرو المانع ، كما هو الحال في طهارة الثوب ، فإنّ الثوب لو كان طاهرا فطهارته قابلة للبقاء إلى يوم القيامة وإنّما يشكّ في بقائها أحيانا من ناحية احتمال طرو الرافع لها وهو اصابة النجاسة. والشكّ في البقاء في مثل هذا المورد يسمى بالشكّ في الرافع.

١٦٥

٢ ـ ان لا يكون المستصحب ذا استعداد للبقاء ، ومن أجل عدم ثبوت الاستعداد الكامل له يشكّ في بقائه كما هو الحال في الشمعة ذات اللهب ، فإنّه قد يشكّ أحيانا في بقاء نورها لا من ناحية احتمال هبوب الريح الموجب لإخمادها وإنما من ناحية احتمال ذوبانها وانعدامها بالكامل.

والمثال الشرعي لذلك : خيار الغبن بعد اتضاح الغبن ، فإنّه بعد مضي فترة قصيرة على اتضاح الغبن يشكّ في بقاء الخيار وليس ذاك من جهة احتمال الرافع إذ المفروض أنّ المغبون لم يقل اسقطت الخيار بل من ناحية احتمال ان نفس خيار الغبن ليس له استعداد للبقاء أكثر من ذلك. والشكّ في البقاء في الحالة المذكورة يسمى بالشكّ في المقتضي.

وبعد اتضاح هذا التفصيل قد تسأل عن توجيهه وأنّه لماذا كان الاستصحاب حجّة في موارد الشكّ في الرافع دونه في موارد الشكّ في المقتضي؟

والجواب : يمكن بيان ذلك بأحد وجهين : ـ

١ ـ إنّ حديث لا تنقض الذي ورد في الروايات السابقة ورد في موارد خاصة مثل الوضوء وطهارة الثوب ولم يرد كقاعدة كلية في جميع الموارد ولا يستفاد ذلك من مدلوله اللفظي. أجل استفدنا شموله لجميع الموارد من ناحية التعليل وكلمة « لا ينبغي » ، فإنّ نفس التعليل بقضية « لا تنقض اليقين بالشكّ » والتعبير بكلمة لا ينبغي يدل على أنّ المطلب أمر ارتكازي إذ التعليل لا يكون عادة الاّ بأمر ارتكازي عرفي. وإذا رجعنا إلى ارتكاز العقلاء وجدنا انّ الثابت في اذهانهم حجّية الاستصحاب في خصوص موارد الشكّ في الرافع دون موارد الشكّ في المقتضي ، فالشيء الذي لا يحرزون استعداده الكامل للبقاء لا يحكمون

١٦٦

ببقائه وإنّما يحكمون ببقاء الشيء الذي له استعداد كامل للبقاء.

هذا حصيلة الوجه الأوّل. وهو وإن لم يذكره الشيخ الأعظم بل تبرع به السيد الشهيد ولكنه توجيه لطيف.

ويرده : انّ استفادة التعميم لا تنحصر بالتعليل وكلمة « لا ينبغي » بل يمكن استفادتهما من طريق آخر وهو اللام المذكور في كلمة الشكّ واليقين ، فإنّ الظاهر كونها لام الجنس ، أي لا تنقض جنس اليقين بجنس الشكّ. وبناء على هذا لا نحتاج في إثبات التعميم إلى مسألة الإرتكاز ليقال باختصاصه بموارد الشكّ في الرافع (١).

٢ ـ ما ذكره الشيخ الأعظم قدس‌سره في الرسائل ببيان يمكن أن ينحل إلى بيانين.

وقد اشير في الحلقة الثانية إلى كلا البيانين الذين تحتملهما عبارة الرسائل. ونحن نذكر هنا البيان الأوّل.

وحاصله : انّ كلمة النقض لا تستعمل في العرف الاّ في خصوص الإشياء التي لها استعداد كامل للبقاء ، فالجدار القوي الذي له استعداد البقاء يقال لمن هدمه : نقضه ، وأمّا الجدار الذي في طريقه إلى الإنهدام والوقوع على الأرض فلا يقال لمن هدمه : نقضه. وعليه فالروايات حيث إنّها عبرت بكلمة النقض فالمستفاد من ذلك إن الاستصحاب لا يجري إلاّ في خصوص الاشياء التي لها

__________________

(١) قد يقال بأنّ سبب حمل اللام على الجنس ـ على ما تقدم ص ٢١٠ من الحلقة ـ هو الإرتكاز المذكور ، ومع غض النظر عنه حسب الفرض كيف يمكن حينئذ إستفادة الجنسية من اللام؟

والجواب إنّا لا نريد إنكار الإرتكاز من اساسه ولا غض النظر عنه بالكامل بل هو ثابت جزما في حدود موارد الشكّ في الرافع ، وهذا المقدار من الثبوت يكفي لأن لا تكون اللام عهدية ، ومع عدم كونها عهدية يتعين كونها جنسية

١٦٧

اقتضاء واستعداد للبقاء دون ما ليس لها ذلك.

ويرده : إنّ اختصاص كلمة « النقض » بخصوص الأشياء ذات الاستعداد للبقاء وإن كان أمرا مسلما إلاّ إنّا نقول انّ كلمة النقض في الحديث لم تسند إلى المتيقن ليقال إنّ إسنادها إلى المتيقن قرينة على ضرورة كون المتيقن ذا استعداد للبقاء وإنما اسند إلى نفس اليقين ، ومن الواضح انّ اليقين أمر محكم وقوي يصح اسناد كلمة النقض إليه سواء كان متعلقه ذا استعداد للبقاء أم لا.

القول الثاني

وفي القول الثاني يفصل بين الشبهات الحكمية فلا يجري فيها الاستصحاب وبين الشبهات الموضوعية فيجري فيها الاستصحاب. وقد تبنى هذا التفصيل قديما الشيخ النراقي قدس‌سره وحديثا السيد الخوئي ( دام ظله ).

توضيح ذلك : انّه تقدم في الحلقة الاولى ص ١٥٤ ـ ١٥٦ أنّ للحكم التكليفي مرحلتين : مرحلة الجعل ومرحلة المجعول. والمراد من الجعل : التشريع والحكم الإنشائي. والمراد من المجعول : الحكم الفعلي. فالحكم لا بدّ وأن يشرع أوّلا ثم يصير فعليا. وتشريعه هو الجعل وفعليته هو المجعول.

والشكّ في بقاء الحكم تارة يكون شكا فى بقاء الحكم الإنشائي واخرى يكون شكا في بقاء الحكم الفعلي.

أمّا الشكّ في بقاء الحكم الإنشائي فذاك لا يتصور إلاّ في موارد احتمال النسخ فإنّ التشريع لا يتصور الشكّ في ارتفاعه إلاّ في موارد احتمال النسخ ، وذلك لا يكون إلاّ في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمكن وقوع النسخ

١٦٨

ويمكن أن يشكّ المكلّف في بقاء التشريع وارتفاعه من ناحية احتمال النسخ.

وفي مثل هذه الحالة يجري الاستصحاب ولم يخالف في ذلك السيد الخوئي بل سلّم جريان استصحاب التشريع وبقاء الجعل دون أي إشكال.

وأمّا إذا كان الشكّ في بقاء الحكم الفعلي فقد استشكل ( دام ظله ) في جريان الاستصحاب فيه.

ومثال ذلك : الماء المتغير بالنجاسة فإنّه لا إشكال في تنجسه ، ولكن إذا زال تغيره من قبل نفسه فسوف يشكّ في بقاء نجاسته. ولماذا هذا الشكّ ومن اين نشأ؟ فهل نشأ من ناحية احتمال نسخ التشريع؟ كلا ان هذا لا نحتمله إذ نجزم ببقاء التشريع وعدم زواله وإنما ينشأ من ناحية الشكّ في سعة الجعل وضيقه فنحن نجزم بثبوت تشريع النجاسة للماء حالة كونه متغيرا ونشك في جعل النجاسة وتشريعها حالة زوال التغير من قبل نفس الماء ، إنّ الشكّ في هذا الجعل الزائد هو السبب في الشكّ في بقاء النجاسة للماء بعد زوال تغيره ، ولو لا احتمال هذا الجعل الزائد المشكوك لما أمكن حصول الشكّ في بقاء الحكم الفعلي بالنجاسة.

اذن يمكننا ان نقول بشكل عام : إنّ الشكّ في بقاء المجعول ـ أي الحكم الفعلي ـ يلازم دائما الشكّ في الجعل الزائد. وما دام الأمر كذلك فاستصحاب بقاء المجعول يكون معارضا دائما بأصالة عدم الجعل الزائد ، فحينما نشكّ في بقاء النجاسة الفعلية بعد زوال التغير فاستصحابها وإن كان قابلا للجريان في نفسه ويثبت به بقاء النجاسة بعد زوال التغير إلاّ أنّ هذا الاستصحاب معارض بأصالة عدم الجعل الزائد ، فإنّ شكّنا في بقاء النجاسة حيث انّه ناشيء من الشك في

١٦٩

تشريع النجاسة للماء بعد زوال تغيره فيمكن جريان الأصل لنفي التشريع الزائد بأن نقول انه قبل التشريع الاسلامي نجزم بعدم تشريع النجاسة للماء لا حالة تغيره ولا بعد زوال تغيره ، وبعد التشريع الاسلامي نجزم بتشريع النجاسة للماء حالة تغيره ، وأمّا تشريعها بعد زوال التغير فهو مشكوك فيستصحب عدمه السابق الثابت قبل التشريع الاسلامي. إذن في موارد الشبهة الحكمية ـ كمثال نجاسة الماء المتغير ـ يكون استصحاب بقاء الحكم الفعلي قابلا للجريان في نفسه لو لا المعارضة إلاّ أنّه حيث يتعارض مع استصحاب عدم الجعل الزائد فلا يمكن جريانه ، فإنّ شمول حديث لا تنقض لكليهما معا غير ممكن ولأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح.

ثم انّه في الشبهات الموضوعية حيث لا توجد هذه المعارضة فيجري الاستصحاب فيها ، فمثلا إذا كنّا نجزم بالحكم وانّ النجاسة تبقى بعد زوال التغير أيضا بيد أنّه كان لدينا ماء خارجي معين متغير نشكّ في بقاء نجاسته من ناحية احتمال زوال تغيره ، فهذه الشبهة شبهة موضوعية والشكّ في بقاء النجاسة الفعلية فيها لم ينشأ من ناحية الشكّ في الجعل الزائد حتى يجرى استصحاب عدم الجعل الزائد ويكون معارضا لاستصحاب بقاء النجاسة الفعلية وانما الشكّ في بقاء النجاسة ناشىء من ناحية اخرى وهي احتمال بقاء التغير.

وباختصار : انّه في الشبهات الحكمية لا يجري استصحاب بقاء الحكم لمعارضته باصالة عدم الجعل الزائد ، وأمّا في الشبهات الموضوعية فحيث إنّ استصحاب بقاء الحكم الجزئي لا يكون معارضا بأصالة عدم الجعل الزائد فيجري.

١٧٠

الجواب عن التفصييل المذكور

وقبل أن نجيب عن التفصيل المذكور نشير إلى مشكلة اصولية أوّل من أثارها الشيخ العراقي نذكرها ونذكر حلها ثم نأخذ بعد ذلك في الجواب عن التفصيل المذكور.

إنّ المشكلة تقول انّا حتى لو قطعنا النظر عن أصالة عدم الجعل الزائد فاستصحاب بقاء الحكم في نفسه قابل للتأمل في بعض الصور.

توضيح ذلك : إنّ استصحاب بقاء الحكم له شكلان فتارة يفرض أنّ الحكم الكلّي صار فعليا ويشكّ في بقائه بعد كونه فعليا واخرى يفرض ان الحكم الكلي يشكّ في بقائه قبل صيرورته فعليا.

مثال الأوّل : أن يكون لدينا ماء معين في الخارج وهو متغير بالفعل ونرى تغيره الفعلي بالعين ، إنّ مثل الماء المذكور يتصف بالنجاسة الفعلية فإذا فرضنا زوال تغيره فسوف نشكّ في بقاء نجاسته الفعلية ، وفي مثل هذه الحالة يجري استصحاب بقاء النجاسة الفعلية دون أي إشكال ، إذ النجاسة الفعلية كانت ثابتة بنحو اليقين سابقا فإذا شكّ في بقائها بعد زوال التغير جرى استصحابها. ولكن من الذي يجري الاستصحاب؟ هل يجريه المكلّف العامي او المجتهد؟ الصحيح ان الذي يجريه هو المكلف العامي اذ الماء موجود امام المكلف العامي وهو الذي له يقين سابق وشكّ لا حق ، ولا معنى لأن يجريه المجتهد. أجل المجتهد يفتي العامي بأنّ الاستصحاب حجّة ويجري عند ما يكون لديه يقين سابق وشكّ لاحق ، وبعد هذا الإفتاء يقوم العامي نفسه بتطبيق الاستصحاب واجرائه لا أنّ

١٧١

المجتهد يجريه ويفتي العامي بعد ذلك بنتيجته.

ومثال الثاني : إجراء استصحاب نجاسة الماء بدون فرض وجود ماء في الخارج بالفعل ، وهذا كما هو الحال في المجتهد ، فإنّه حينما يجري استصحاب النجاسة لا يكون أمامه ماء متغير ثم يزول تغيره بل هو يفترض وجود ماء متغير ويفترض زوال تغيره بعد ذلك ، فالشكّ على هذا شكّ في بقاء الحكم الكلي قبل أن يصير فعليا.

وفي مثل هذه الحالة أشكل الشيخ العراقي بأنّ المجتهد كيف يجري الاستصحاب والحال أنّه لا يوجد لديه متيقن سابق ومشكوك لاحق بل انّ المتيقن والمشكوك متعاصران في زمان واحد ، فالمجتهد في آن واحد يعلم بثبوت النجاسة للماء المتغير ويشكّ في نفس الوقت في ثبوتها له بعد زوال تغيره لا أنّه يتيقن أولا بثبوت النجاسة للماء المتغير وبعد مضي فترة يحصل له الشكّ في بقاء النجاسة. وما دام المتيقن والمشكوك متعاصرين في آن واحد فكيف يجري الاستصحاب والحال أنّ الاستصحاب يتوقف على الشكّ في البقاء ، وهو ـ الشكّ في البقاء ـ لا يتصور مع تعاصر المتيقن والمشكوك.

إذن المشكلة الاصولية التي أبرزها الشيخ العراقي تختص بالاستصحاب الذي يجريه المجتهد أي باستصحاب الحكم الكلي قبل صيرورته فعليا.

وقد تقول في جوابها : فلنمنع إجراء المجتهد للاستصحاب حتى لا نقع في المشكلة المذكورة.

وهذا باطل فإنّه لا إشكال في أنّ بناء الفقهاء وارتكازهم على منح الحق للمجتهد في إجراء مثل هذا الاستصحاب ويستفيدون من حديث لا تنقض

١٧٢

قابلية الاستصحاب المذكور للجريان.

ثم إن هذه المشكلة تقدمت الإشارة لها سابقا ص ٢٥٢ من الحلقة وذكرنا في الجواب عنها أنّ النجاسة حينما تلحظ صفة عارضة على الماء الخارجي فبالإمكان الحصول على اليقين السابق بحدوثها والشكّ اللاحق في بقائها.

وهذا الجواب وإن ذكرناه سابقا ولكنه جواب مؤقت حيث يرجع في الحقيقة إلى إجراء الاستصحاب في الحكم الكلّي بعد فرض فعليته. وهو مما لا إشكال فيه ، وإنّما الإشكال في إجراء المجتهد لاستصحاب الحكم الكلي قبل صيرورته فعليا ، إنّ المشكلة كامنة في هذا الاستصحاب ولا بدّ من رفع هذه المشكلة عن المجتهد ، وما تقدم لا ينفعنا في حلّ هذه المشكلة وإنّما يرفع المشكلة عن الاستصحاب الأوّل الذي يجريه المكلّف العامّي.

الجواب عن مشكلة الشيخ العراقي

ويمكن حلّ المشكلة ـ أي في استصحاب المجتهد ـ بأنّ الصورة الذهنية للماء المتغير الموجودة في ذهن المجتهد يمكن لحاظها بأحد شكلين فيمكن لحاضها مرة بما هي صورة ذهنية ثابتة في عالم الذهن ، ويمكن لحاظها اخرى بما هي عين الخارج ، فإنّ الصورة الذهنية تلحظ أحيانا بما هي عين الخارج ويرى بها الخارج.

والمنبه الوجداني على ذلك أنّ الخطيب الحسيني مثلا حينما ينقل واقعة الطف نتألم ونأخذ بالبكاء ، كيف يفسر ذلك والحال أنّ نفس الواقعة لم نشاهدها بالعين ولم نعاصرها مباشرة والخطيب لم يقم سوى برسم بعض صور تلك

١٧٣

الواقعة في ذهننا.

من هنا نفهم أنّ الخطيب وإن لم يقم بعمل سوى رسم تلك الصور في الذهن إلاّ أنّ تلك الصور الذهنية يرى بها الخارج وكأن المستمع للخطيب يرى بسبب قراءة الخطيب الخارج.

وباتضاح هذا نقول انّ الصورة الذهنية للماء المتغير إن لو حظت بالشكل الاّول أي بما هي صورة ذهنية ـ واصطلح عليها قدس‌سره بالصورة الذهنية بالحمل الشايع ـ فلا يوجد يقين بحدوثها وشكّ في بقائها ، إذ الصورة الذهنية للماء حال تغيره والصورة الذهنية للماء بعد زوال تغيره موجودتان في الذهن في وقت واحد لا أنّ الاولى هي الحادثة أوّلا ويحصل اليقين بها ثم تحدث الثانية بعد ذلك ويحصل الشكّ بها.

أمّا إذا لو حظت الصورة الذهنية للماء المتغير بالشكل الثاني أي بما هي صفة للخارج وعين الخارج ـ واصطلح عليها قدس‌سره بالصورة الذهنية بالحمل الاولي ـ فيمكن فرض يقين سابق وشكّ لا حق ويجري الاستصحاب إذ بعد رؤية الخارج عن طريق الصورة الذهنية فبالإمكان حصول يقين سابق وشكّ لا حق. وحديث لا تنقض اليقين بالشكّ لا بدّ وان ينزل عرفا على النظر إلى الصورة الذهنية بالشكل الثاني فإنّ العرف يفهم منه ذلك ، ومعه فيجري الاستصحاب دون أي إشكال. وقد تسأل كيف نحمّل العرف هذا الفهم ومن أين عرفنا ذلك؟

والجواب : إنّ الإنسان العرفي لو قدّمنا له حديث لا تنقض اليقين بالشكّ ثم سألناه عن حكم الثوب المتيقن سابقا بطهارته والمشكوك لا حقا في بقائها مع فرض أنّ الثوب ليس موجودا بالفعل وإنّما هو مجرد افتراض لاجابنا دون أي

١٧٤

تلكأ بالحكم ببقاء طهارته.

إنّ الحكم بطهارة الثوب مع أنّه غير موجود في الخارج بالفعل دليل واضح على أنّ الإنسان العرفي يفهم من حديث لا تنقض اليقين بالشكّ النظر إلى الصورة الذهنية المفروضة في الذهن بما هي عين الخارج وإلاّ فاللازم أن لا يحكم بطهارة الثوب بل يقول احضروا لي ثوبا متيقن الطهارة ولتمض فترة ليحصل لي الشكّ في بقائها ثم بعد ذلك أحكم لكم بطهارة الثوب.

الجواب عن تفصيل السيد الخوئي

وبعد اتضاح الجواب عن المشكلة السابقة نعرّج على تفصيل السيد الخوئي ـ الذي كان حاصله أنّ الاستصحاب لا يجري في باب الاحكام لأنّ استصحاب بقاء الحكم الفعلي معارض بأصالة عدم الجعل الزائد ـ ونقول له انّه امّا أن يفهم من حديث لا تنقض النظر إلى الصورة الذهنية للماء المتغير بما هي صورة ذهنية أو يفهم منه النظر لها بما هي عين الخارج.

فانّ فهم منه النظر إلى الصورة بما هي صورة ذهنية فاستصحاب بقاء المجعول لا يمكن جريانه إذ بهذا اللحاظ لا يوجد يقين سابق وشكّ لا حق ليجرى الاستصحاب وإنّما يوجد بهذا اللحاظ صورتان في الذهن متقارنتان من حيث الوجود لا تقدم لإحداهما على الاخرى ويعلم بثبوت الجعل لواحدة ـ وهي الصورة الذهنية للماء المتغير حالة تغيره ـ ويشكّ في ثبوته للاخرى فينفى بأصالة عدم الجعل الزائد.

وإن فهم من حديث لا تنقض النظر إلى الصورة الذهنية بما هي عين

١٧٥

الخارج جرى استصحاب بقاء المجعول ، ولا يعارض ذلك بأصالة عدم الجعل الزائد ، إذ بهذا اللحاظ لا نظر إلى عام الجعل والذهن ليشكّ في الجعل الزائد وينفى بأصالة عدم الجعل الزائد المشكوك.

وبكلمة اخرى : إنّ الاستصحابين لا يمكن جريانهما في وقت واحد ليحصل بينهما المعارضة ، بل امّا أن يجري استصحاب بقاء المجعول فقط بلا معارضة بأصالة عدم الجعل الزائد أو يجري استصحاب عدم الجعل الزائد بلا معارضة باستصحاب بقاء المجعول.

إن قلت : لماذا لا نأخذ بكلا النظرين ـ أي النظر إلى الصورة الذهنية بما هي صورة ذهنية والنظر لها بما هي عين الخارج ـ ونحكم بأنّ كلا الاستصحابين قابل للجريان في نفسه لو لا المعارضة.

قلت : إنّ حديث لا تنقض لو كان يقبل الحمل على كلا النظرين فقابلية كل واحد من الاستصحابين للجريان في نفسه لو لا المعارضة مسلمة بيد أنّه يرفض قبول كلا النظرين ولا يحتمل إلاّ أحدهما ، ومعه فلا يكون كلا الاستصحابين قابلا للجريان في نفسه حتى بقطع النظر عن المعارضة.

أمّا لماذا لا يقبل حديث لا تنقض الحمل على كلا النظرين؟ النكتة واضحة فان النظرين بينهما تهافت إذ كل واحد منهما ينفي ما يثبته الآخر فالنظر إلى الصورة بما هي عين الخارج يقتضي الشكّ في بقاء المجعول وبالتالي يقتضي جريان الاستصحاب في المجعول وينفي الشكّ في بقاء عدم الجعل الزائد المشكوك بينما النظر إلى الصورة بما هي صورة ذهنية يقتضي الشكّ في بقاء عدم الجعل الزائد وبالتالي يقتضي جريان أصالة عدم الجعل الزائد وينفي الشكّ في بقاء المجعول.

١٧٦

وبعد عدم إمكان تحميل كلا النظرين على الحديث فلا بدّ وأن يكون محمولا على أحدهما ، ولكنه على أي واحد منهما يكون محمولا؟ إنّه محمول على النظر إلى الصورة بما هي عين الخارج لما تقدم من إنّ الإنسان العرفي يفهم من حديث لا تنقض هذا النظر ، ومعه فاستصحاب بقاء المجعول هو الأصل الجاري ولا يعارض ذلك بأصالة عدم الجعل الزائد.

قوله ص ٢٧١ س ١٠ : وكون الكبرى مسوقة إلخ : هذا أشبه بعطف التفسير للارتكاز العرفي.

قوله ص ٢٧٢ س ٣ : وهذا البيان كما ترى إلخ : هذا مناقشة للوجه المذكور.

قوله ص ٢٧٢ س ٤ : وظهور اللام إلخ : عطف على قوله استظهار الاطلاق إلخ.

قوله ص ٢٧٢ س ١٧ : كما تقدم في محله : أي فى الحلقة الاولى ص ١٥٤ ـ ١٥٦.

قوله ص ٢٧٣ س ١ : والشكّ فيه : أي في الحكم الشرعي. والمقصود : إنّ الشكّ في بقاء الحكم تارة يكون شكا في بقاء الحكم بمعنى بقاء الجعل ، واخرى يكون شكا فى بقاء الحكم بمعنى الشكّ في بقاء المجعول.

قوله ص ٢٧٣ س ٥ : هو النسخ بالمعنى الحقيقي : مصطلح النسخ بالمعنى الحقيقي مرّ في هذه الحلقة ص ٢٥٥ س ١٤ وتقدم توضيحه.

قوله ص ٢٧٣ س ٧ : والحكم المنشأ به : عطف تفسير لقوله « مجعولة ».

قوله ص ٢٧٣ س ١٤ : إذا كان ممكنا : وذلك في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٧٧
١٧٨

الاستصحاب التعليقي

١٧٩
١٨٠