الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٤

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-28-6
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٤٨٧

قوله ص ٢٦٤ س ١٠ : بعنوانه : أي بعنوان جعل الحكم المماثل. والمقصود : أنّ الحكم المماثل لئن ثبت أحيانا حالة الشكّ فذاك من باب تنزيل المشكوك منزلة المتيقن وليس من باب جعل الحكم المماثل بعنوانه.

قوله ص ٢٦٤ س ١٤ : وعلى كل حال : أي سواء كان مفاد حديث لا تنقض هو الإرشاد الى بقاء اليقين أو المتيقن أو النهي عن النقض العملي.

قوله ص ٢٦٤ س ١٦ : على أحد هذه الانحاء : أي امّا التعبد ببقاء اليقين أو التعبد ببقاء المتيقن أو التعبد بعدم النقض العملي.

١٤١
١٤٢

الأصل المثبت

١٤٣
١٤٤

مقدار ما يثبت بالاستصحاب

قوله ص ٢٦٥ س ١ : لا شكّ في أنّ المستصحب : هذا هو المبحث المعروف بمبحث الأصل المثبت. وكان من المناسب الإشارة لذلك في العنوان.

وقبل توضيح مطالب الكتاب نشير الى مقدمات أربع : ـ

١ ـ في توضيح مصطلح مفاد كان التامة ومفاد كان الناقصة.

ومفاد كان التامة يعني ثبوت وجود الشيء بينما مفاد كان الناقصة يعني ثبوت شيء لشيء ، فثبوت الوجود لزيد هو مفاد كان التامة بينما ثبوت العلم لزيد هو مفاد كان الناقصة.

٢ ـ إنّ التنزيل على قسمين : ـ

أ ـ تنزيل واقعي. ومثاله الطواف بالبيت صلاة. وإنّما كان التنزيل المذكور واقعيا لانّه لم ينط بالشكّ.

ب ـ تنزيل ظاهري. ومثاله لا تنقض اليقين بالشكّ بناء على افادته لتنزيل المشكوك منزلة المتيقن ، وإنّما كان التنزيل المذكور ظاهريا لأنّه منوط بحالة الشكّ.

وفي كلا التنزيلين تسري أحكام المنزل عليه الى المنزل. ولكن هل تسري جميع الأحكام الى المنزل أو بعضها؟ إنّ التنزيل إذا كان مطلقا ولم يقيد ببعض الآثار فجميع الآثار تسري الى المنزل وإلاّ فبحدود التقييد.

١٤٥

٣ ـ إنّ في مفاد دليل الاستصحاب ـ أي لا تنقض اليقين بالشكّ ـ ثلاثة احتمالات كما تقدّم هي : ـ

أ ـ تنزيل الشاكّ منزلة المتيقن. والمجعول في باب الاستصحاب على اساس هذا الإحتمال هو العلمية ويصير من الامارات كما اختار ذلك السيد الخوئي.

ب ـ تنزيل الشيء المشكوك منزلة المتيقن. وبناء على هذا يصير الاستصحاب من الاصول التنزيلية.

ج ـ النهي عن النقض العملي.

٤ ـ إنّ اليقين إذا تعلق بشيء صار منجزا لذلك الشيء. والنكتة في تنجيزه له أنّ اليقين طريق وكاشف عن الواقع فمتى ما تعلق بشيء تنجز ذلك الشيء بسبب انكشافه.

ولكن هل يتنجز خصوص ذلك الشيء الذي تعلق به اليقين أو ما هو أوسع منه؟ الصحيح هو الأوّل لأنّ سبب التنجيز هو الإنكشاف ، وواضح ان المنكشف باليقين هو خصوص ذلك الشيء الذي تعلق به اليقين دون الزائد عليه فالزائد على المتيقن لا يتنجز لعدم انكشافه.

وبعد الفراغ من هذه المقدمات الأربع نعود الى مباحث الكتاب.

إنّ استصحاب حياة الولد لا إشكال في أنّه يترتب على جريانه ثبوت المستصحب أي ثبوت الحياة. ولكن ليس المقصود من ثبوتها هو ثبوتها حقيقة بل تعبدا وعلى مستوى العمل. وإنّما السؤال والبحث عن آثار الحياة هل تثبت أو لا؟ والآثار على قسمين : أحكام شرعية وأحكام غير شرعية.

١ ـ أمّا الأحكام الشرعية فهي على ثلاثة أشكال : ـ

١٤٦

أ ـ أن يكون المستصحب موضوعا وله حكم شرعي ، كاستصحاب العدالة فإنّها موضوع ولها حكم شرعي ، وهو جواز الائتمام مثلا.

ب ـ أن يكون المستصحب حكما شرعيا وقد وقع بنفسه موضوعا لحكم شرعي آخر ، كوجوب الوفاء بالدين فإنّه حكم شرعي وله حكم شرعي وهو عدم وجوب الحج ، فإنّ من كان يجب عليه الوفاء بالدين سابقا ويشكّ في الزمان اللاحق في ذلك يستصحب بقائه وبذلك يثبت عدم وجوب الحج عليه.

ج ـ أن يكون المستصحب حكما شرعيا وله حكم شرعي وللحكم الشرعي الثاني حكم شرعي ثالث ، كما لو كان لدينا ماء طاهر في زمان سابق وشككنا في بقاء طهارته في زمان لاحق فباستصحاب بقائه على الطهارة تثبت طهارته الآن فإذا غسلنا به طعاما متنجسا تثبت بذلك طهارته ، وبثبوت طهارته تثبت حلية أكله. فطهارة الماء إذن حكم شرعي ولها حكم شرعي ، وهو طهارة الطعام المغسول به ، ولطهارة الطعام حكم شرعي وهو حلية الأكل.

وأمّا الأحكام غير الشرعية فقد ذكر لها قدس‌سره ثلاثة أمثلة : ـ

أ ـ استصحاب حياة الولد فإنّ لها ـ حياة الولد ـ اثرا غير شرعي وهو نبات اللحية.

ب ـ إذا كان جدار على وشك الانهدام والى جانبه شخص جالس ، وبعد مضي فترة علمنا بانهدام الجدار وشككنا في بقاء ذلك الشخص إلى جانبه حين انهدامه حتى يلزم موته. في مثل هذه الحالة قد يقال بإنا نستصحب بقاء الشخص إلى جانب الجدار لحين الانهدام وبذلك يثبت موته. انّ المستصحب في هذا المثال هو بقاء الشخص إلى جانب الجدار ، وأثره وهو الموت أثر غير شرعي إذ لا توجد

١٤٧

آية أو رواية تقول من كان باقيا إلى جنب الجدار وقت انهدامه فهو ميت.

ج ـ إذا كان لدينا حوض فيه كر من ماء وأخذنا منه مقدارا قليلا من الماء ، وبعد الأخذ منه شككنا في بقائه على الكرية فلا إشكال في جريان استصحاب بقائه على الكرية. ولكن جريان الاستصحاب له شكلان لا بدّ من التمييز بينهما : ـ

أحدهما : أن نشير إلى الحوض ـ لا إلى الماء الموجود فيه ـ ونقول كان فيه مقدار كر والآن كذلك. إنّ هذا الاستصحاب لا ينفع ، لأنّ أقصى ما يثبت به بقاء الكر في الحوض ولا يثبت به أنّ الماء الموجود فيه هو بمقدار كر. والمهم هو الثاني ، أي إثبات ان الماء الموجود فيه هو بمقدار كر لا إثبات أن الحوض يشتمل على الكر ، اذ اليد لو كانت متنجسة واريد تطهيرها فتطهيرها يترتب على وجود الكر في الحوض بل على كون الماء الذي يراد غسلها به بمقدار كر. ومن المعلوم انّ كون الحوض مشتملا على الكر شيء وكون الماء الموجود فيه بمقدار كر شيء آخر فإنّ ذاك ـ أي وجود الكر في الحوض ـ مفاد كان التامة بينما هذا ـ أي كون الماء يساوي كرا ـ مفاد كان الناقصة ، وأحدهما ليس عين الآخر. أجل بينهما ملازمة عقلية حيث إنّ الحوض إذا كان مشتملا على الكر فلازم ذلك عقلا كون الماء الموجود فيه بمقدار كر ، وليس بينهما ملازمة شرعية إذ لا توجد آية أو رواية تقول إذا كان الحوض مشتملا على الكر فالماء الموجود فيه لا بدّ وان يكون بمقدار كر. وما دامت الملازمة عقلية لا شرعية فالاستصحاب يكون من قبيل الأصل المثبت.

ثانيهما : أن نشير إلى الماء ـ لا إلى الحوض ـ ونقول هذا الماء كان بمقدار كر والآن كذلك. وهذا الاستصحاب لا محذور فيه لانّه من الأوّل استصحاب لمفاد

١٤٨

كان الناقصة وليس استصحابا لمفاد كان التامّة لإثبات مفاد كان الناقصة.

الآثار الشرعية

أمّا الآثار الشرعية فلا إشكال في ثبوتها بالاستصحاب. وهذا من دون فرق بين أن يكون مفاد دليل الاستصحاب الإرشاد إلى تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن أو الإرشاد إلى تنزيل الشاكّ منزلة المتيقّن أو النهي التكليفي عن النقض العملي ، فإنّه على جميع الإحتمالات الثلاثة تثبت الآثار الشرعية.

الكلام على الإحتمال الأوّل

أمّا على تقدير الإحتمال الأوّل ـ أي كون المراد تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن ـ فالأمر واضح لأنّه بعد تنزيل الطهارة المشكوكة منزلة الطهارة المتيقنة يتمسك بإطلاق التنزيل لتسرية جميع الآثار الشرعية الثابتة للمنزل عليه إلى المنزل ، فكما انّ في التنزيل الواقعي ـ مثل الطواف البيت صلاة ـ يتمسك بإطلاق التنزيل لتسرية آثار الصلاة إلى الطواف كذلك في التنزيل الظاهري ـ وهو كالتنزيل في المقام ، حيث انّ دليل الاستصحاب ينزّل في حالة الشكّ المشكوك منزلة المتيقن ـ يتمسك بإطلاق التنزيل لتسرية جميع آثار الطهارة المتيقنة إلى الطهارة المشكوكة.

فإن قيل : إن لا تنقض اليقين بالشكّ إذا كان يستفاد منه تنزيل المشكوك منزلة المتيقن بلحاظ جميع الآثار الشرعية بما في ذلك الآثار الشرعية غير المباشرة فذاك هو المطلوب ، وأمّا إذا لم يستفد ذلك منه وقلنا بأنّ القدر المتيقن منه

١٤٩

هو التنزيل بلحاظ الآثار الشرعية المباشرة فقط ، فيشكل الأمر حينئذ في ترتب الآثار غير المباشرة.

ووجه الإشكال : انّ حديث لا تنقض ما دام لا يستفاد منه التنزيل بلحاظ جميع الآثار بما في ذلك الآثار غير المباشرة فالآثار غير المباشرة لا يمكن القول بثبوتها إلاّ إذا ثبت موضوعها وهو الأثر المباشر ، وبما أن الأثر المباشر لم يثبت حقيقة ـ حيث انّ تنزيل المشكوك منزلة المتيقن لم يكن تنزيلا حقيقيا حتى يثبت أثره المباشر حقيقة وإنما كان تنزيلا ظاهريا فلا يكون الأثر المباشر ثابتا ـ فلا يمكن الحكم بثبوت ما ترتّب عليه وهو الأثر غير المباشر.

كان الجواب : إنّ حديث لا تنقض يستفاد منه تنزيلات متعدّدة بعدد الآثار ، وكل تنزيل يثبت به الأثر المباشر فقط ، فإذا أردنا مثلا استصحاب طهارة الماء الذي غسل به الطعام المتنجّس فالمستصحب هو طهارة الماء ، وحديث لا تنقض ينزّل طهارة الماء منزلة الطهارة المتيقّنة ، وهذا التنزيل تنزيل بلحاظ الأثر المباشر فقط ـ لأنّا فرضنا أنّ دليل التنزيل لا يستفاد منه إلاّ التنزيل بلحاظ الأثر المباشر باعتبار أنّ ذلك هو القدر المتيقّن ـ وبذلك يثبت الأثر المباشر ، أي طهارة الطعام ويكون ـ الطعام ـ منزّلا منزلة الطاهر الواقعي. وإذا صارت طهارة الطعام التي هي الأثر المباشر منزّلة منزلة الطاهر الواقعي نحصل على تنزيل جديد ولنسمّه بتنزيل رقم (٢) (١). وهذا التنزيل رقم (٢) لا بدّ وأن

__________________

(١) قد تقول انّ دليل التنزيل أقصى ما يستفاد منه تنزيل المستصحب وهو طهارة الماء منزلة الطاهر الواقعي ولا يستفاد منه تنزيل الأثر المباشر وهو طهارة الطعام منزلة الطاهر الواقعي لنحصل على تنزيل جديد رقم (٢) وبالتالي على تنزيلات جديدة متعدّدة. ـ

١٥٠

يكون بلحاظ أثره المباشر أيضا ، وهو حلّيّة الأكل ، فتكون حلّيّة الأكل منزّلة منزلة الحلّيّة الواقعيّة ، وبذلك نحصل على تنزيل جديد ولنسمّه تنزيل رقم (٣). وهذا التنزيل لا بدّ وأن يكون بلحاظ أثره المباشر أيضا وهكذا. وبهذا نحصل على تنزيلات متعدّدة كل واحد منها يكون بلحاظ الأثر المباشر.

الكلام على الإحتمال الثاني

وأمّا بناء على الاحتمال الثاني ، وهو تنزيل الشاك منزلة المتيقّن فقد يستشكل في تنجيز الآثار المباشرة فضلا عن غير المباشرة.

والوجه في ذلك : انّ استصحاب طهارة الماء حينما يجري يصير المكلّف بناء على الاحتمال الثاني بمنزلة المتيقّن بطهارة الماء ، ولكن هذا اليقين بما أنّه متعلّق بطهارة الماء فالمنكشف به هو طهارة الماء فقط دون آثارها ـ أي دون طهارة الطعام المتنجّس ـ لأنّ كل يقين لا يكشف إلاّ عن متعلّقه ولا يكشف عن آثار متعلّقه ، وما دام المنكشف هو المتعلّق فقط فالذي يتنجّز بسبب اليقين بطهارة الماء هو طهارة الماء فقط دون طهارة الطعام. وعلى هذا فآثار المتيقّن لا تتنجّز وإنّما الذي يتنجّز هو المتيقّن فقط.

إن قلت : إنّ استصحاب طهارة الماء إذا جرى وصار المكلّف بناء على الاحتمال الثاني متيقّنا بطهارة الماء فسوف يصير متيقّنا بطهارة الطعام أيضا لأنّ اليقين بشيء يستلزم حصول اليقين بآثاره. وإذا حصل اليقين بطهارة الطعام

__________________

ـ والجواب : إنّ الأثر المباشر وهو حلّيّة الطعام إذا لم ينزّل منزلة الحلال الواقعي فتنزيل طهارة الماء منزلة الطاهر الواقعي يكون لغوا

١٥١

فسوف تثبت طهارة الطعام بسبب هذا اليقين الثاني المتعلّق بها وإن لم تثبت باليقين الأوّل المتعلّق بطهارة الماء.

قلت : إنّ اليقين بشيء إنّما يستلزم اليقين بآثاره في خصوص اليقين التكويني الوجداني دون اليقين التعبّدي ، فاليقين الوجداني بوجود النار يولّد اليقين بالحرارة والإحراق ، وأمّا اليقين التعبّدي بالنار فهو لا يولّد اليقين التعبّدي بالإحراق والحرارة ، فإنّ التعبّد لا بدّ من الاقتصار فيه على حدوده ولا يحقّ تجاوزها ، فزيد إذا اعتبرناه أسدا من حيث الشجاعة فلا يحقّ له الإفتراس لأنّا وإن اعتبرناه أسدا ومن حقّ الأسد الإفتراس إلاّ أنّا لم نعتبره أسدا إلاّ في حدود الشجاعة ولم نعتبره أسدا بلحاظ الإفتراس فلا بدّ من الإقتصار على مقدار الإعتبار وهو حيثيّة الشجاعة لا أكثر.

وفي المقام الأمر كذلك أيضا فإنّ الشارع وإن عبّد المكلّف بعد استصحاب طهارة الماء بأنّه عالم بطهارة الماء الاّ أنّ هذا لا يستلزم العلم بطهارة الطعام إذ التعبّد لا بدّ من الإقتصار فيه على حدوده.

والخلاصة انه على الاحتمال الثاني قد يستشكل في تنجّز الآثار المباشرة فضلا عن غيرها.

والجواب : إنّ تنجّز الحكم لا يتوقّف على اليقين التعبّدي به ليقال انّ اليقين التعبّدي بطهارة الماء لا يستلزم اليقين التعبّدي بطهارة الطعام بل يكفي في التنجّز العلم بتشريع الحكم المنضم إلى العلم بتحقّق الموضوع. فمثلا حرمة شرب الخمر تتنجّز فيما لو علم المكلّف بتشريع الحرمة لشرب الخمر وعلم أنّ شرب السائل الذي يريد شربه هو شرب للخمر لا شرب لعصير البر تقال ، أمّا إذا علم بتشريع

١٥٢

حرمة شرب الخمر ولم يعلم بأنّ شربه للسائل المشكوك شرب للخمر أو علم بأنّ شربه شرب للخمر ولكن لم يعلم بتشريع حرمة الخمر فلا تتنجّز عليه حرمة شرب السائل. وفي المقام نقول ذلك أيضا ، أي نقول انّ ثبوت طهارة الطعام يتوقّف على العلم بتشريع الحكم ـ أي العلم بأنّ طهارة الماء توجب طهارة الطعام المغسول به ـ والعلم بالموضوع ، أي أنّ الطعام مغسول بالماء الطاهر. وكلا الأمرين متحقّق. أمّا العلم بتشريع الحكم فذاك ثابت بالسنّة الشريفة ، حيث ثبت بالروايات أنّ غسل الشيء المتنجّس بالماء الطاهر يوجب طهارته. وأمّا العلم بالموضوع فهو ثابت بالاستصحاب حيث انّ استصحاب طهارة الماء يولّد العلم التعبّدي بأنّ الماء طاهر وأنّ غسل الطعام به غسل بالماء الطاهر (١).

هذا كلّه على الاحتمال الثاني.

__________________

(١) يمكن الجواب عن الاشكال بشكل آخر وهو أن يقال انّه في الاحتمال الثاني حينما ينزل الشاك في بقاء الطهارة منزلة المتيقّن بها فاليقين التعبّدي وإن كان يختص بخصوص متعلّقه وهو طهارة الماء ولا يتعدّى إلى طهارة الطعام ولكن نفس تنزيل الشك في بقاء الطهارة منزلة اليقين ببقائها لا بدّ وأن يكون بلحاظ الأثر الشرعي وهو طهارة الطعام إذ بدون ذلك يكون التنزيل لغوا وبلا فائدة.

ولئن قال قائل بعدم لزوم اللغويّة عقلا باعتبار انّه يكفي في عدم لزوم اللغويّة ثبوت أثر ما ولو كان هو المنجّزيّة كما هو الحال في المقام ، فإنّه بعد العلم بتشريع الحكم يكون استصحاب طهارة الماء مفيدا لاثبات تنجّز طهارة الطعام.

فجوابه انّه يمكن التمسّك بالفهم العرفي فيقال ان العرف يفهم من تنزيل شيء منزلة شيء آخر كون التنزيل بلحاظ التعبّد بالآثار

١٥٣

الكلام على الاحتمال الثالث

وأمّا على الاحتمال الثالث ـ وهو كون المراد من النهي عن النقض النهي عن النقض العملي ـ فباستصحاب طهارة الماء يلزم ترتيب الأثر وهو طهارة الطعام ، إذ المكلّف حينما كان متيقّنا بطهارة الماء في الزمان السابق فيقينه المذكور منجّز للأثر وهو طهارة الطعام ـ لأنّا ذكرنا قبل قليل أنّ اليقين بالموضوع بعد العلم بالتشريع موجب لتنجّز الحكم ـ ، وما دام منجّزا فيكون مقتضيا للتعامل مع الطعام معاملة الطاهر ، ومعه فيلزم بقاء التعامل المذكور على حاله في زمان الشك أيضا إذ على الاحتمال الثالث يلزم التعامل حالة الشك بنفس التعامل السابق الثابت حالة اليقين ، وما دام اليقين السابق منجّزا ومقتضيا لطهارة الطعام فيلزم بقاء الاقتضاء المذكور حالة الشكّ أيضا.

عودة إلى الإحتمال الثاني

فإن قيل انّه على الاحتمال الثاني وإن لزم باستصحاب طهارة الماء حصول اليقين التعبّدي بذلك ـ أي بطهارة الماء ـ ، وبالتالي يلزم تنجّز الأثر وهو طهارة الطعام إلاّ انّه يرد الاشكال في حلّيّة الطعام التي هي الحكم الثاني للمستصحب (١) ، فإنّه كيف يترتّب الحكم المذكور والحال انّ موضوعه لم يحصل يقين تعبّدي به وإنّما تنجّز لا أكثر.

__________________

(١) فإنّ المستصحب هو طهارة الماء وحكمه الأوّل هو طهارة الطعام وحكمه الثاني حلّيّة الأكل

١٥٤

وبكلمة اخرى انّ تنجّز الحكم الأوّل ـ وهو طهارة الطعام ـ إنّما ثبت باعتبار انّه باستصحاب طهارة الماء حصل علم تعبّدي بطهارة الماء التي هي الموضوع للحكم الأوّل ، وأمّا بالنسبة إلى الحكم الثاني ـ وهو حلّيّة الأكل ـ فلا وجه لتنجّزه إذ لم يحصل يقين تعبّدي بموضوعه ، فإنّه باستصحاب طهارة الماء حصل يقين تعبّدي بطهارة الماء فقط ولم يحصل علم تعبّدي بطهارة الطعام ـ وإنّما تنجّزت طهارة الطعام لا أكثر ـ حتى يتنجّز الحكم بحلّيّة الأكل.

قلنا : إنّ المستفاد من دليل حلّيّة الأكل أنّ المدار في ثبوت حلّيّة الأكل إنّما هو على ثبوت الحكم بطهارة الطعام ، فمتى ما ثبت تشريع الحكم بطهارة الطعام عند غسله بالماء الطاهر ثبت بعد ذاك الحكم بالحلّيّة.

إذن ثبوت الحكم بالحلّيّة موقوف على ثبوت تشريع الحكم الأوّل وثبوت موضوعه ، وحيث انّ تشريع الحكم الاوّل ثابت بالسنّة الشريفة ـ لدلالة الروايات على أنّ غسل الطعام بل وأي شيء من الأشياء بالماء الطاهر موجب لطهارته ـ وموضوعه ثابت أيضا ببركة الاستصحاب ـ حيث انّ استصحاب طهارة الماء ينجّز طهارة الطعام على ما تقدّم (١) ـ فتثبت حينئذ حلّيّة الأكل.

وإن شئت قلت : إنّا نسلّم أنّ الحكم بحلّيّة الطعام لا يتنجّز إلاّ بعد اليقين بموضوعه ولكن ليس المراد من اليقين بموضوعه إلاّ ما ذكرناه ، أي ثبوت تشريع الحكم الأوّل وتنجز موضوعه ، وكلاهما ثابت كما أوضحنا.

__________________

(١) في عبارة الكتاب ذكر ما مضمونه : إنّ طهارة الطعام محرزة. ولا بدّ وأن يكون المراد من الإحراز التنجز ، إذ باستصحاب طهارة الماء يحصل يقين تعبدي بطهارة الماء ولا يحصل يقين تعبدي بطهارة الطعام بل تتنجز طهارة الطعام لا أكثر

١٥٥

الآثار غير الشرعية

وما تقدم كان كله حديثا عن الآثار الشرعية.

وأمّا الآثار غير الشرعية فالمعروف بين الاصوليين عدم ثبوتها بالاستصحاب ، فمثلا باستصحاب حياة الولد لا يثبت نبات اللحية كما ولا يثبت الأثر الشرعي المترتب على ذلك كوجوب التصدق.

والوجه في ذلك : انّه إن كان المقصود باستصحاب حياة الولد اثبات الأثر العقلي فقط أي اثبات نبات اللحية فقط بلا التفات الى الأثر الشرعي المترتب على ذلك فيرد عليه أنّ الأثر العقلي حيث لا يرتبط بالشارع فالتعبد ببقاء حياة الولد لترتيب الأثر المذكور لغو وبلا فائدة.

وإن كان المقصود اثبات اللازم العقلي وما يترتب عليه من أثر شرعي فهذا معقول ولا تلزم اللغوية منه ، إذ من الوجيه التعبد ببقاء الحياة لإثبات نبات اللحية ومن ثم إثبات وجوب التصدق بيد أنّ هذا لا يستفاد من دليل الاستصحاب ، فإنّ القدر المتيقن من حديث لا تنقض هو التعبد ببقاء المستصحب بلحاظ آثاره الشرعية المباشرة ولا يستفاد منه التعبد بالبقاء بلحاظ الآثار العقلية ولا الآثار الشرعية المترتبة على الآثار العقلية.

هذا هو الوجه ـ على سبيل الإختصار ـ في عدم حجّية الأصل المثبت ، أي عدم ثبوت الآثار العقلية ولا الشرعية المترتبة عليها.

وإن أحببنا شيئا من التفصيل فيمكن أن نقول : تقدّم إنّ الإحتمالات في المراد من حديث لا تنقض ثلاثة : الإرشاد الى تنزيل المشكوك منزلة المتيقن ،

١٥٦

والإرشاد الى تنزيل الشكّ في البقاء منزلة اليقين بالبقاء ، والنهي التكليفي عن النقض العملي.

فإن كان المقصود تنزيل الحياة المشكوكة منزلة الحياة المتيقنة فمن الواضح انّ القدر المتيقن من التنزيل المذكور والمنصرف إليه عرفا هو التنزيل بلحاظ الآثار الشرعية المباشرة دون الآثار العقلية ودون الآثار الشرعية المترتبة عليها.

وإن كان المقصود تنزيل الشكّ في الحياة منزلة اليقين ببقاء الحياة فمن الواضح انّ التنزيل المذكور أقصى ما يفيد هو اليقين التعبدي بالحياة التي هي المستصحب ولا يلزم منه اليقين التعبدي بنبات اللحية ، ومع عدم حصول اليقين التعبدي بنبات اللحية فلا يتنجز الأثر الشرعي المترتب على ذلك وهو وجوب التصدق ، فإنّ تنجز الأثر الشرعي فرع اليقين التعبدي بموضوعه فإذا لم يحصل يقين تعبدي بنبات اللحية فلا يتنجز وجوب التصدق المترتب عليه (١).

وإن كان المقصود النهي التكليفي عن النقض العملي فمن الواضح أنّ اليقين السابق بالحياة حيث انّه لا ينجز نبات اللحية ـ بإعتبار انها أثر عقلي والآثار العقلية لا تقبل التنجز ـ فلا يكون مقتضيا للعمل على وفق نبات اللحية ، ومع عدم اقتضائه له فلا يكون دليل الإستصحاب دالا على ثبوته وتنجزه إذ حديث لا

__________________

(١) لا يقال انّ تنجز وجوب التصدق لا يتوقف على اليقين التعبدي بنبات اللحية بل يكفيه تنجز نبات اللحية بعد إحراز الجعل كما تقدم ذلك سابقا حيث ذكر سابقا انّ تنجز حلية الطعام لا يتوقف على اليقين التعبدي بطهاره الطعام بل يكفيه العلم بالجعل المنضم الى تنجز الموضوع.

فإنّه يقال انّ ثبوت التنجز للأثر العقلي لا معنى له فإنّ التنجز يختص بالآثار الشرعية

١٥٧

تنقض على الإحتمال الثالث يقول انّ كل ما يقتضيه اليقين السابق في مقام العمل فلا بدّ من ابقائه حالة الشكّ ، وحيث إنّ اليقين السابق لا يقتضي في مقام العمل نبات اللحية فلا يكون دالا على ثبوت الأثر المذكور وتنجزه ، وبالتالي لا يتنجز وجوب التصدق فإنّ تنجزه فرع ثبوت موضوعه ـ وهو نبات اللحية ـ وتنجزه ، والمفروض عدمه.

إتضح مما سبق

وبهذا كله اتضح الوجه في عدم حجّية الأصل المثبت ، أي عدم ثبوت اللوازم العقلية ولا اللوازم الشرعية المترتبة عليها. وفذلكة النكتة بإختصار : انّ التعبد بالاستصحاب بلحاظ الآثار العقلية فقط لغو ، والتعبد بلحاظ الآثار العقلية وما يترتب عليها من آثار شرعية وإن كان وجيها لكنه لا يستفاد من حديث لا تنقض فإنّ القدر المتيقن والمنصرف إليه عرفا هو التعبد بلحاظ الآثار الشرعية المباشرة لا أكثر.

استثناء مما تقدم

ويستثنى من عدم ثبوت اللوازم العقلية ما كان لازما عقليا لنفس الاستصحاب دون المستصحب ، فإنّ اللازم العقلي تارة يكون لازما عقليا للمستصحب ، كما هو الحال في نبات اللحية فإنّه لازم عقلي للمستصحب أي الحياة ، واخرى يكون لازما عقليا للاستصحاب ، كما هو الحال في استصحاب بقاء وجوب صلاة الجمعة ، فإنّ لازم الاستصحاب المذكور تنجز وجوب الجمعة

١٥٨

واستحقاق العقوبة على مخالفته ، وهو لازم عقلي يحكم به العقل وليس لازما شرعيا كما وانّه ليس لازما للمستصحب أي لوجوب الجمعة ، فإنّ وجوب صلاة الجمعة لا يتنجز بثبوته الواقعي وإنّما يتنجز بسبب استصحابه. ومثل هذا الأثر العقلي يثبت ولا يكون من الأصل المثبت الذي هو غير حجّة.

والوجه في ذلك : أنّ اللازم العقلي المذكور لازم لحديث لا تنقض ـ لأنّ حديث لا تنقض بعد ما كان دالا على حجّية الاستصحاب ، والمفروض أنّ الأثر المذكور لازم لنفس الاستصحاب فيكون ثبوت الأثر المذكور لازما عقليا لنفس الحديث ـ وبما أنّ حديث لا تنقض امارة ودليل محرز وليس أصلا عمليا فيثبت اللازم العقلي المذكور لأنّ الامارة حجّة في لوازمها العقلية.

بناء على امارية الاستصحاب

ثم إنّ ما ذكر من عدم كون الاستصحاب حجّة في إثبات لوازمه العقلية مبني على كون الاستصحاب أصلا عمليا. وأمّا بناء على كونه أمارة ـ كما هو مختار السيد الخوئي حيث يرى أنّ المجعول في باب الاستصحاب هو العلمية والطريقية ـ فتثبت لوازمه العقلية لما تقدم ـ في القسم الأوّل من هذه الحلقة ص ٧٢ ـ من حجّية الأمارة في لوازمها العقلية (١) وفاقا للمشهور.

__________________

(١) وقد تقول انّه بناء على ذلك يلزم أن يقول السيد الخوئي بحجّية الاستصحاب المثبت لانّه يعتقد بأمارية الاستصحاب.

والجواب : أن السيد الخوئي لا يوافق المشهور في حجّية الأمارة في إثبات لوازمها العقلية كما تقدم ذلك في هذا القسم من الحلقة ص ٧٢

١٥٩

قوله ص ٢٦٥ س ١ : وعمليا : الأنسب التعبير : عملا.

قوله ص ٢٦٥ س ٢ : ولوازمه : عطف تفسير لآثار.

قوله ص ٢٦٦ س ١٣ : وأناطته بالشكّ : عطف تفسير لظاهريته.

قوله ص ٢٦٧ س ٥ : كان : الاولى حذفها.

قوله ص ٢٦٧ س ٧ : وهكذا : أي تثبت تنزيلات متعددة بعدد الآثار.

قوله ص ٢٦٧ س ١٢ : وإنّما يقع : الأولى حذف الجملة المذكورة الى قوله « وما دامت طريقية إلخ » ، لأنّ مضمون الجملة المذكورة ياتي بداية ص ٢٦٨ بقوله فانّ قيل أليس إلخ.

قوله ص ٢٦٨ س ٩ : والحكم : عطف تفسير للأثر.

قوله ص ٢٦٨ س ١٠ : وإن لم يسر إلى الحكم : أي وإن لم يسر اليقين التعبدي إلى الحكم.

قوله ص ٢٦٨ س ١٠ : ومنه يعرف إلخ : أي من تنجز الحكم بسبب اليقين التعبدي بموضوعه.

قوله ص ٢٦٨ س ١٢ : فيلزم : أي الجري على طبق حكمه.

قوله ص ٢٦٨ س ١٤ : فان قيل إلخ : هذا يرتبط بالإحتمال الثاني ورجوع اليه.

قوله ص ٢٦٩ س ٤ : وصغرى : لا بدّ من تفسير إحراز الصغرى بتنجيزها وإلاّ فهي ليست محرزة بالاستصحاب وإنّما المحرز هو المستصحب فقط دون الحكم الأوّل.

قوله ص ٢٦٩ س ٤ : جعلا وموضوعا : المراد من الجعل هو الكبرى ومن

١٦٠