الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
المطبعة: قلم
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-27-8
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٥٢٦

ليس بمهم ولا تنظر له القاعدة فإنّ التكليف الإنشائي حتّى إذا كان معلوما لا تترتّب على مخالفته العقوبة ولا يختص قبح العقوبة عليه بحالة الجهل به بل يعمّ حالة العلم أيضا ، وهذا بخلافه في التكليف الحقيقي فإنّه الذي يمكن أن يقال إنّ العقوبة عليه قبيحة عند الجهل به دون العلم.

وإذا كانت قاعدة قبح العقاب ناظرة إلى التكليف الحقيقي فلنا أن نقول في البرهنة على القاعدة إنّ التكليف الحقيقي كما أنّه يختص بالقادر على الامتثال ولا يعمّ العاجز ـ إذ العاجز لا يمكنه التحرّك حتّى ينشأ المولى في حقّه تكليفا بداعي التحريك ـ كذلك هو يختص بالعالم دون الجاهل فإنّ العالم بالتكليف هو الذي يمكنه التحرك نحو امتثال التكليف دون الجاهل ؛ إذ التحرك نحو امتثال التكليف فرع العلم بالتكليف.

وباتّضاح اختصاص التكليف الحقيقي بالعالم يتّضح أنّه من دون البيان ـ أي من دون العلم ـ لا ثبوت للتكليف الحقيقي كي يعاقب عليه المكلّف ، فقبح العقاب قبل البيان ليس إلاّ من جهة السالبة بانتفاء الموضوع ، أي من جهة أنّه لا تكليف ليعاقب عليه لا أنّه ثابت والعقل يحكم بقبح العقوبة عليه.

وبهذا نعرف أنّ الشيخ الأصفهاني أعطى معنى جديدا لقاعدة قبح العقاب أعمق من المعنى الذي كنّا نفهمه سابقا ، فقد كنّا سابقا نفهم من القاعدة المذكورة أنّ التكليف قبل علم المكلّف به ثابت في حقّه ولكنّه يقبح العقاب عليه من جهة عدم العلم به بينما المعنى الجديد الذي يتقدّم به الأصفهاني هو أنّ المكلّف ما دام لا يعلم بالتكليف فلا ثبوت للتكليف الحقيقي في حقّه حتّى يعاقب عليه.

٦١

مناقشة الدليل الرابع

ويمكن مناقشة الدليل المذكور بما يلي : ـ

أ ـ نسأل الأصفهاني عن حقّ الطاعة الثابت له سبحانه هل يرى شموله للتكاليف المحتملة أو يختص بالتكاليف المقطوعة؟ فإنّ كان يختار الأوّل فلازم ذلك أن يكون احتمال التكليف صالحا لتحريك المكلّف نحو الامتثال ولا يختص لزوم التحرّك بحالة العلم بالتكليف وبالتالي فما ذكره من اختصاص التكليف الحقيقي بالعالم لا يكون له وجه.

وإن كان يختار الثاني فقاعدة قبح العقاب تكون تامّة ولكن لا يحتاج البرهنة عليها إلى هذا التطويل ؛ إذ يكفي أن يقال إنّه قبل البيان لا يصحّ العقاب على التكليف لعدم الحقّ له سبحانه في التكاليف المحتملة بلا حاجة إلى تقسيم التكليف إلى إنشائي وحقيقي وأنّ الحقيقي يختصّ بالعالم ...

وبهذا يتّضح أنّ جهودنا لا بدّ من توجيهها إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة والبحث عن ذلك ، فإن قلنا باختصاصها بالتكاليف المقطوعة ثبتت بذلك قاعدة قبح العقاب من جهة عدم ثبوت الحقّ له سبحانه في التكاليف المحتملة ، وإن قلنا بعموميتها للتكاليف المحتملة كانت قاعدة قبح العقاب باطلة لأنّه سبحانه له حقّ الطاعة في التكاليف المحتملة أيضا.

ب ـ ما هو المقصود من التكليف الحقيقي فهل يراد به التكليف الناشئ عن إرادة ومصلحة أو التكليف الناشئ بداعي التحريك؟ وعلى الأوّل فما ذكره من اختصاص التكليف الحقيقي بالعالم باطل ، فإنّ التكليف الناشئ عن إرادة

٦٢

ومصلحة لا يتوقّف على العلم بل يمكن ثبوته في حقّ الجاهل أيضا ، أجل مع احتمال المكلّف له ـ أي للتكليف الناشئ عن إرادة ومصلحة ـ وعدم علمه به لا يكون منجزا فالتكليف ثابت بيد أنّه ليس بمنجز لعدم العلم به (١).

وعلى الثاني فما ذكره من اختصاص التكليف الحقيقي بخصوص العالم وعدم ثبوته في حقّ الجاهل قد يكون صحيحا ولكن أقصى ما يثبت بذلك أنّ اسم التكليف الحقيقي ولفظه لا يكون صادقا ، وهو غير مهم ، فإنّ صدق لفظ التكليف الحقيقي وعدمه ليس له كثير أهمية ؛ إذ حتّى لو سلّمنا عدم صدقه فيبقى من حقّنا أن نسأل هل يبقى المكلّف محتملا للتكليف الحقيقي بالمعنى الأوّل ، أي ما نشأ عن مصلحة وإرادة؟ ولا بدّ وأن يكون الجواب بالإيجاب ؛ إذ التكليف الناشئ عن إرادة ومصلحة يمكن ثبوته في حقّ الجاهل ، ومع احتماله فلا بدّ من البحث عن كونه منجزا أو لا ، فإن كان منجزا وجب الاحتياط ولا يكون العقاب على مخالفته قبيحا حتّى وإن لم يصدق عليه عنوان التكليف الحقيقي فإنّ صدقه ليس بمهم ، والأصفهاني لم يثبت عدم كونه منجزا.

وباختصار : أنّ التكليف الحقيقي له معنيان ، والمعنى الأوّل لا يختص بالعالم ، والمعنى الثاني وإن فرض اختصاصه به إلاّ أنّ المكلّف يبقى محتملا للتكليف الحقيقي بالمعنى الأوّل ، ولم يثبت الأصفهاني عدم كونه منجزا فإنّ غاية ما أثبته هو أنّ التكليف الحقيقي بالمعنى الثاني ليس بصادق ولم يثبت أنّ احتمال التكليف الحقيقي بالمعنى الأوّل ليس منجزا.

__________________

(١) وطبيعي لا بدّ للأصفهاني ـ بعد اتّضاح بطلان البرهان الذي استدل به ـ من إقامة البرهان على عدم كون احتمال التكليف منجزا

٦٣

بطلان قاعدة قبح العقاب

ومن خلال هذا كلّه اتّضح أنّ قاعدة قبح العقاب ليس تامّة لبطلان أدلّتها الأربعة. كما واتّضح صحّة المسلك الثاني وهو مسلك حقّ الطاعة.

مسلك حق الطاعة

ب ـ ومسلك حقّ الطاعة يقول انّ احتمال التكليف منجز أيضا ولا يختص التنجيز بحالة العلم بالتكليف لأنّ الله سبحانه له حقّ الطاعة علينا حتّى في التكليف المحتمل ولا يختص بالمعلوم.

والدليل على سعة الحقّ المذكور أنّه سبحانه منعم علينا بنعم لا تعدّ ولا تحصى ، والعقل كما يدرك أصل وجوب شكره سبحانه باعتبار المنعمية كذلك يدرك أنّ مقتضى الشكر وجوب إطاعته لا في خصوص التكاليف المقطوعة بل المحتملة أيضا. وكما أنّ أصل وجوب شكره سبحانه وإطاعته هو من القضايا الأوّلية التي يدركها العقل بلا حاجة إلى إقامة برهان عليها كذلك سعة الحقّ المذكور هي من القضايا الأوّلية التي يدركها العقل بلا حاجة إلى برهنة عليها (١).

__________________

(١) وممّا يؤكّد سعة الحقّ المذكور : أنّ كل شيء موجود على الأرض هو ملك له سبحانه ملكية حقيقية ـ لا كملكيتنا للأشياء التي هي ملكية اعتبارية يعتبرها العقلاء ـ نشأت من كونه سبحانه خالقا لجميع الأشياء ، فإنّ الخالق لشيء مالك له ، وما دام سبحانه مالكا للسيكارة والشفّة والصدر واليد فكيف يتصرّف المكلّف في السيكارة وفي اليد والشفّة بقبضها؟ انّ ذلك تصرّف في ملك الغير وهو لا يجوز إلاّ عند القطع بإذنه. انّ العقل الحاكم بعدم جواز التصرّف ـ

٦٤

حكم العقل تعليقي

وقد يتصوّر أنّ النتيجة على مسلك حقّ الطاعة تختلف عنها على رأي المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب ، فعلى مسلك حقّ الطاعة يكون شرب التتن مثلا محرّما لأنّه محتمل الحرمة واحتمال الحرمة منجز بينما على رأي المشهور يكون جائزا لأنّ حرمته ما دامت غير معلومة فيقبح العقاب عليها.

والتصور المذكور خاطئ فإن العقل وإن حكم على مسلك حقّ الطاعة بمنجزية الاحتمال إلاّ أنّ حكمه هذا معلّق ، أي هو يقول إنّ احتمال حرمة شرب التتن منجز وموجب للاحتياط فيما إذا لم يأذن الشارع في ترك الاحتياط فإنّ العقل لا يحكم بشيء في مقابل الشارع.

وإن شئت قلت : انّ حكم العقل بلزوم الاحتياط ليس إلاّ للتحفظ على أحكام الشارع ومراعاة حقّه فإذا فرض تنازله عن حقّه فلا يبقى حاكما بلزوم الاحتياط ، فشرب التتن وإن حكم العقل بلزوم تركه من جهة انّه محتمل الحرمة والاحتمال منجز إلاّ أنّ الشرع ما دام قد حكم بالبراءة بمثل قوله : « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » فهو يرفع يده عن حكمه بالمنجزية.

ومن هنا فالنتيجة العملية لا تختلف على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان عنها على مسلك حقّ الطاعة وإنّما الاختلاف بينهما اختلاف نظري لا عملي.

__________________

ـ في ملك الغير بدون قطع بإذنه يحكم بقبح التصرّف المذكور في المقام أيضا ، بل هو أولى بذلك حيث أنّ الملكية فيه حقيقية بخلافه هناك فهي اعتبارية.

هكذا ذكر قدس‌سره في مجلس بحثه الشريف على ما أتذكر ، ولكنّه أعرض عنه بعد ذلك

٦٥

قوله ص ٣٠ س ١٢ : وفي نفس الأمر : عطف تفسير للواقع.

قوله ص ٣٠ س ١٧ : تطبيقات له : أي مصاديق لحكم العقل بقبح الظلم.

قوله ص ٣١ س ١٢ : تعميقا لقاعدة : أي أعطاها معنى أعمق حيث إنّا نفهم منها أنّ التكليف عند عدم العلم به ثابت ولكن لا عقاب عليه بينما الأصفهاني فسّرها بأنّه عند عدم العلم بالتكليف لا يكون أصل التكليف الحقيقي ثابتا كي يعاقب عليه.

قوله ص ٣١ س ١٥ : على الوصول : أي العلم.

قوله ص ٣٢ س ١ : وكما يختص : هذه الجملة أشبه بعطف التفسير على سابقتها.

قوله ص ٣٢ س ٣ : والتنجيز : عطف تفسير للعقاب.

قوله ص ٣٢ س ١٢ : ليس مولى : أي ليس ممّن تجب طاعته ، فإنّ لفظ المولى يرادف لفظ من تجب طاعته.

قوله ص ٣٢ س ١٤ : وهكذا نجد مرّة اخرى : أي كما وجدنا ذلك سابقا ص ٣١ س ٧.

قوله ص ٣٣ س ١ : وإن المكلّف الشاكّ : عطف تفسير لقوله غير منجز.

قوله ص ٣٣ س ٤ : فلنفترض ... : إنّما عبّر بقوله « فلنفترض » ولم يجزم باختصاص داعي التحريك بصورة الوصول لأنّه تقدّم منه قدس‌سره في الإيراد الأوّل أنّ داعي التحريك يمكن ثبوته في صورة الشكّ ؛ إذ حقّ الطاعة شامل لصورة احتمال التكليف ولا يختص بحالة العلم.

قوله ص ٣٣ س ٥ : في وجود جعل بمبادئه : أي في التكليف الحقيقي بالمعنى

٦٦

الأوّل.

قوله ص ٣٣ س ٨ : ذلك : أي الجعل الناشئ من الإرادة والمصلحة الملزمتين.

قوله ص ٣٣ س ٩ : واقع الحال : كلمة « واقع » مضاف لكلمة « الحال ».

قوله ص ٣٣ س ١٥ : وهذا من مدركات العقل العملي : العقل العملي هو العقل الذي يحكم بما يرتبط بحيثيّة العمل ، ومن الواضح أنّ حقّ الطاعة يرتبط بحيثيّة العمل لأنّ معناه وجوب فعل كل ما هو واجب وترك كل ما هو حرام.

قوله ص ٣٣ س ١٦ : وهي غير مبرهنة : أي لا برهان عليها بل هي بديهية أودعها الله سبحانه في عقل الإنسان.

قوله ص ٣٤ س ٣ : على ما تقدّم : في القسم الأوّل ص ٤٩.

الوظيفة الثانوية حالة الشكّ

قوله ص ٣٥ س ١ : والقاعدة العملية ... : تقدّم في البحث السابق أنّ العقل يحكم بأنّ احتمال التكليف منجز ـ بناء على مسلك حقّ الطاعة ـ بيد أنّ هذا الحكم معلّق على عدم حكم الشارع بالبراءة. ومن هنا ينفتح مجال لبحث جديد وهو أنّ الشارع هل حكم بالبراءة حتّى لا يكون احتمال التكليف منجزا عقلا ـ وبالتالي حتّى تكون الوظيفة الثانوية حالة الشكّ هي البراءة وإن كانت الوظيفة الأوّلية تقتضي منجزية الاحتمال ـ أو لم يحكم حتّى يكون احتمال التكليف منجزا عقلا. ولهذا سوف نأخذ بالبحث في البراءة الشرعية. والكلام فيها يقع في مبحثين : ـ

٦٧

أ ـ في الأدلّة الدالّة على البراءة الشرعية.

ب ـ في الوجوه المعارضة للبراءة الشرعية الدالة على أنّ الشارع حكم بالاحتياط دون البراءة.

المبحث الأوّل

والأدلة على البراءة الشرعية تتمثّل في آيات من القرآن الكريم وروايات من السنّة الشريفة (١).

أمّا الكتاب الكريم فيمكن الاستدلال منه بعدّة آيات : ـ

الآية الاولى

استدلّ على البراءة الشرعية بقوله تعالى في سورة الطلاق : ٧ ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ). وقد وردت الآية الكريمة ضمن آيات اخرى ناظرة إلى مسألة إنفاق الزوج على زوجته عند طلاقه لها فالزوج إذا طلّق زوجته وكانت حاملا لزمه الانفاق عليها إلى أن تلد ، وإذا ولدت وقامت بإرضاع طفله لزمه دفع الاجرة على الأرضاع. ولكن ما هو مقدار الاجرة؟ انّه يختلف باختلاف غنى الزوج وفقره فمن كان غنيا ينفق بما يتناسب وغناه ومن كان فقيرا ينفق ما يتمكّن عليه فإنّ الله لا يكلّف نفسا إلاّ ما آتاها ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ

__________________

(١) وأمّا الإجماع فلم يستدل به لعدم تحقّقه بعد مخالفة الأخباريين ، مضافا إلى كونه على تقدير تحقّقه محتمل أو قطعي المدرك. وأمّا العقل فلم يستدل به هنا لتقدّم ذكره تحت عنوان الوظيفة الأولية حالة الشك

٦٨

قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ).

وتقريب الاستدلال ـ حسبما ذكر الشيخ الأعظم قدس‌سره في الرسائل ـ انّ كلمة « ما » في جملة « إلاّ ما آتاها » اسم موصول ، أي لا يكلّف الله نفسا إلاّ الذي آتاها. وما هو المقصود من اسم الموصول المذكور؟ إنّ في المقصود منه ثلاثة احتمالات : ـ

أ ـ المال. أي لا يكلّف الله نفسا بدفع مال إلاّ بالمقدار الذي آتاها ومكّنها منه. والقرينة على هذا الاحتمال هو المورد ؛ إذ مورد الآية وسياقها ناظر إلى المال وانّ انفاق المال لا يجب إلاّ بالمقدار الميسور.

ب ـ الفعل. أي لا يكلّف الله نفسا بفعل من الأفعال إلاّ مع القدرة على ذلك الفعل. والقرينة على هذا الاحتمال هو كلمة « يكلّف » فإنّ التكليف لا يتعلّق إلاّ بالأفعال.

وعلى هذين الاحتمالين لا ينتفع بالآية الكريمة في الاستدلال بها على البراءة لأنّها ناظرة إلى المال والفعل وأجنبية عن التكليف.

ج ـ التكليف. أي لا يكلّف الله نفسا بتكليف إلاّ إذا آتاها التكليف ، وواضح انّ إتياء كل شيء بحسبه ، وإيتاء التكليف عبارة عن إيصاله وأعلام المكلّف به. وبناء على هذا الاحتمال يتمّ الاستدلال بالآية الكريمة ؛ إذ يصير المعنى : انّ الله لا يكلّف نفسا بتكليف إلاّ إذا أعلمها بذلك التكليف فقبل الإعلام لا تكليف ، وهذا هو المطلوب.

ولكن كيف نثبت هذا الاحتمال الثالث في حين انّ بالإمكان إرادة أحد الاحتمالين الأولين الذين لا يتمّ الاستدلال بناء عليهما؟ ذكر الشيخ الأعظم انّه قد يتمسّك بالإطلاق بأن يقال إنّ مقتضى إطلاق اسم الموصول هو الشمول لجميع

٦٩

الاحتمالات الثلاثة التي أحدها التكليف وببركته يثبت انّ الآية ناظرة إلى التكليف أيضا ، أي أنّها تنفي ثبوت التكليف عند عدم العلم به ، وهو المطلوب.

لا يقال : ان مورد الآية حيث انّه هو المال فتكون الآية الكريمة ناظرة إلى خصوص المال ولا تكون شاملة للتكليف.

فإنّه يقال : انّ المورد لا يخصص الوارد.

اعتراض الشيخ الأعظم

وقد اعترض الشيخ الأعظم على الاستدلال المذكور بما حاصله : انّه على الاحتمالين الأوّلين تكون نسبة الفعل ـ أي يكلّف ـ إلى اسم الموصول نسبة الفعل إلى المفعول به ، فإنّ المال والفعل هما المتعلّق للتكليف ، وواضح انّ المتعلق للفعل هو عبارة اخرى عن المفعول به ، بينما على الاحتمال الثالث تكون نسبة الفعل إلى اسم الموصول نسبة الفعل إلى المفعول المطلق (١) ؛ إذ يصير المعنى هكذا : لا يكلّف الله إلاّ تكليفا آتاه. وحيث انّ نسبة الفعل إلى المفعول به تغاير نسبة الفعل إلى المفعول المطلق ـ فإنّ النسبة إلى المفعول المطلق هي نسبة الحدث إلى ما هو طور من أطواره وشأن من شؤونه بينما النسبة إلى المفعول به هي نسبة المغاير إلى المغاير ـ فلا يمكن أن تكون هيئة الجملة (٢) مستعملة فيهما معا لأنّ لازمه الاستعمال في معنيين وهو مستحيل. ومعه فلا بدّ وأن يكون المقصود أمّا أحد الاحتمالين الأوّلين

__________________

(١) ليس المقصود من كون اسم الموصول مفعولا به أو مفعولا مطلقا انّه يعرب كذلك بل المقصود انّه بحسب المعنى يكون كذلك

(٢) أي الحاصلة بين الفعل ـ يكلّف ـ واسم الموصول

٧٠

أو الاحتمال الثالث ، وحيث لا نجزم بإرادة الاحتمال الثالث فلا يمكن الاستدلال بالآية الكريمة.

وباختصار : انّ النسبة على الاحتمالين الأوّلين حيث انّها تغايرها على الاحتمال الثالث فلا بدّ وأن تكون الهيئة مستعملة في إحداهما لا في كليهما ، وحيث انّه لا معيّن لإرادة النسبة إلى المفعول المطلق فلا يمكن الاستدلال بالآية.

جوابان عن اعتراض الشيخ الأعظم

وقد سجل في الكتاب جوابان على الاعتراض المذكور : ـ

١ ـ ما ذكره الشيخ العراقي من أنّ هيئة الجملة ليست مستعملة في النسبتين حتّى يلزم الاستعمال في أكثر من معنى واحد بل في الجامع بين النسبتين ، وحيث انّ الجامع معنى واحد فيلزم الاستعمال في معنى واحد لا في معنيين. وهذا نظير كلمة البيع في قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) فإنّها تشمل جميع أقسام البيوع ـ كبيع النقد وبيع النسيئة والبيع العقدي والبيع المعاطاتي و ... من دون أن يلزم الاستعمالها في أكثر من معنى واحد ، وما ذاك إلاّ من جهة استعمالها في الجامع الذي هو حقيقة البيع المجرّدة عن الخصوصيات.

وفيه : أنّه ما المقصود من الجامع بين النسبتين فهل يراد به الجامع الحقيقي بين النسبتين أو يراد به نسبة ثالثة تلائم كلتا النسبتين وإن لم تكن جامعا حقيقيا ـ لهما؟

والأوّل يرده ما تقدّم في القسم الأوّل ص ٩٩ من أنّ الجامع الحقيقي بين النسب غير معقول ؛ إذ الجامع الحقيقي بين الشيئين لا يمكن الحصول عليه إلاّ بعد

٧١

طرح ما به الافتراق ، فزيد وعمرو إذا طرحنا الفوارق بينهما فالمتبقى بعد ذلك ـ وهو الحيوان الناطق ـ يكون الجامع الذاتي ، وهذا في مقامنا متعذّر فإنّ افتراق كل نسبة عن النسبة الاخرى ليس إلاّ بطرفيها ، ففي قولنا : « سرت من البصرة » وقولنا : « سرت من الكوفة » تمتاز النسبة الاولى عن النسبة الثانية بالطرفين أي : السير والبصرة ، والسير والكوفة ، ومن الواضح أنّه بعد إلغاء طرفي النسبة لا يبقى شيء كي يكون هو الجامع الذاتي (١).

والثاني باطل أيضا باعتبار : ـ

أ ـ انّ النسبة الثالثة الملائمة لكلتا النسبتين من دون أن تكون جامعة لهما كيف يمكن إثبات انّها مقصودة فإنّ ظاهر هيئة الجملة يساعد على إرادة نسبة الفعل إلى المفعول به فقط أو إرادة نسبة الفعل إلى المفعول المطلق فقط ولا يساعد على إرادة النسبة الثالثة الملائمة للنسبتين المذكورتين.

ب ـ انّ أصل وجود مثل هذه النسبة الثالثة غير معلوم فلا يوجد في اللغة العربية نسبة تلائم نسبتين.

والصحيح في الجواب أن يقال : انّه حتّى لو فسّرنا اسم الموصول بالتكليف فالنسبة بين « يكلّف » واسم الموصول هي نسبة الفعل إلى المفعول به لا إلى المفعول المطلق ، ومعه فتكون النسبة نسبة واحدة على جميع الاحتمالات الثلاثة ولا تكون هناك نسبتان متغايرتان حتّى يلزم الاستعمال في أكثر من معنى واحد.

__________________

(١) هذا ولكن الشيخ العراقي على ما في بدائع الأفكار ص ٥٧ ونهاية الأفكار ج ١ ص ٥٣ يرى أنّ الجامع الذاتي بين النسب ثابت خلافا للشيخ الأصفهاني والسيد الخوئي والشهيد فانّهم يرون عدم إمكان تحقّق الجامع الذاتي

٧٢

ولكن كيف يكون اسم الموصول بناء على تفسيره بالتكليف مفعولا به لا مفعولا مطلقا؟ الجواب : انّ التكليف يستعمل بمعنيين فتارة يستعمل بمعنى المصدر ، أي كمصدر ليكلّف ، وبناء على هذا يصير التكليف مفعولا مطلقا حيث يصير المعنى : لا يكلّف الله تكليفا ، واخرى يستعمل بمعنى الحكم الشرعي أي الوجوب والحرمة ويصير المعنى : لا يكلّف الله (١) نفسا ولا يحمّلها حكما شرعيا إلاّ إذا آتاها ، وبناء عليه يصير اسم الموصول الذي هو بمعنى الحكم الشرعي مفعولا به لأنّه المتعلّق للتحميل. وكثيرا ما يستعمل العرف كلمة « الحكم الشرعي » مفعولا به حيث يقال هل كلّفت بحكم شرعي (٢) فيجعل الحكم الشرعي متعلّقا للتكليف والتحميل.

والشبهة نشأت من تفسير اسم الموصول بالتكليف وتفسير التكليف بنفس معنى يكلّف ، فإنّ معنى يكلّف هو التحميل فإذا فسّرنا التكليف بمعنى التحميل أيضا صار اسم الموصول مفعولا مطلقا ؛ إذ يصير المعنى : لا يحمّل الله نفسا إلاّ تحميلا آتاها ، ولكن هذا لا داعي له فإنّا نقول انّ المراد من يكلّف هو التحميل والإدانة ومن اسم الموصول هو الحكم الشرعي فيصير المعنى : لا يحمل الله نفسا إلاّ حكما شرعيا آتاها ، وبناء عليه لا يصير اسم الموصول مفعولا مطلقا لأنّ معناه يغاير معنى الفعل فمعنى الفعل هو التحميل بينما معنى اسم الموصول هو الحكم الشرعي ، وفي باب المفعول المطلق يشترط الاتحاد بين الفعل والمفعول من

__________________

(١) وكلمة « يكلّف » مشتقّة من الكلفة بمعنى التحميل والمسؤولية والإدانة

(٢) المراد من وقوع الحكم الشرعي مفعولا به هو وقوعه كذلك بحسب المعنى وإن كان بحسب الإعراب النحوي قد لا يعرب مفعولا به

٧٣

حيث المعنى بخلافه في باب المفعول به فانّه تشترط المغايرة.

هل دليل الإخباري مقدّم على الآية؟

ذكر الشيخ الأعظم قدس‌سره في الرسائل انّ دليل الإخباري على وجوب الاحتياط ـ من قبيل أخوك دينك فاحتط لدينك أو قف عند الشبهة ـ لو عمّ فهو مقدّم على الآية الكريمة لأنّها تقول انّ التكليف ما دام غير معلوم فلا عقاب عليه ، وهذا المضمون لا يقف أمام دليل الإخباري لأنّه ـ دليل الإخباري ـ يقول أنا اعلمك بوجوب الاحتياط ، وبعد معلوميّته فالآية الكريمة لا تقف أمامه ولا تقول انّ الاحتياط لا عقاب على تركه وليس بواجب لأنّها تقول انّ الحكم غير المعلوم لا عقاب على ترك امتثاله والمفروض إنّ وجوب الاحتياط معلوم بواسطة دليل الإخباري.

وإن شئت قلت : انّ مفاد الآية الكريمة شبيه تماما بمفاد أصل الطهارة فانّه يقول كل شيء إذا لم تعلم بكونه نجسا فهو طاهر ، فإذا فرضنا انّ الثقة أخبرنا بنجاسة شيء فهل تحتمل أنّ أصل الطهارة يقف أمام خبر الثقة ويقول لخبر الثقة انّ الشيء الذي أخبرت بنجاسته أحكم أنا بطهارته ، كلا ، بل بمجرد مجئ خبر الثقة وشهادته بأنّ الشيء نجس يرضخ أصل الطهارة لذلك ؛ إذ هو يحكم بالطهارة في صورة عدم العلم بالنجاسة وبعد مجئ خبر الثقة يصير الشيء معلوم النجاسة ، ومع معلومية نجاسته لا يبقى أصل الطهارة مصرا على الحكم بالطهارة. هذا في أصل الطهارة ، ونفس الشيء يأتي في الآية الكريمة فإنّها تحكم بنفي العقاب عند عدم العلم بثبوت التكليف ودليل الإخباري لو تمّ فهو يفيد العلم بثبوت

٧٤

وجوب الاحتياط. هذا ما افيد في الرسائل.

وتعليقا عليه نقول : لا بدّ من الالتفات إلى أنّ مقصود الآية الكريمة هل هو نفي السببيّة أو نفي المورديّة.

فإن كان مقصودها نفي السببية ـ بأن يكون المقصود : لا يعاقب الله سبحانه بسبب حرمة شرب التتن ما دامت غير معلومه ـ فما ذكره الشيخ الأعظم تامّ ؛ إذ الآية تنفي العقوبة بسبب الحرمة المجهولة وهذا لا يتنافى مع دليل الإخباري فإنّه ـ دليل الإخباري ـ يثبت العقوبة بسبب وجوب الاحتياط الذي هو وجوب معلوم ، فالعقوبة التي تنفيها الآية هي العقوبة بسبب الحرمة المجهولة بينما دليل الإخباري يثبت العقوبة بسبب وجوب الاحتياط الذي هو معلوم ، ونفي العقوبة من ناحية أحد سببين لا يتنافى وإثباتها من ناحية سبب ثاني.

وأمّا لو كان المقصود نفي المورديّة ـ أي كان المقصود : لا يعاقب الله سبحانه في مورد حرمة شرب التتن ما دامت مجهولة بل المكلّف مطلق العنان وله الحرية الكاملة في المورد المذكور ـ فما ذكره الشيخ الأعظم لا يكون تامّا لأنّ الآية تحكم على المكلّف بأنّه مطلق العنان في مورد شرب التتن ما دامت حرمته مجهولة وواضح أنّ دليل الإخباري لو تمّ فهو يحكم على المكلّف بالاحتياط ولزوم ترك التتن وعدم كونه مطلق العنان ، والتعارض حينئذ بين الآية ودليل الإخباري واضح.

وبعد أن عرفنا أنّ في المقصود من الآية الكريمة احتمالين يبقى علينا أن نعرف أنّ أي واحد من الاحتمالين أرجح؟ انّ الأرجح هو احتمال الموردية لأنّ ذلك هو المناسب لمورد الآية وسياقها فإنّ موردها هو المال على ما تقدّم (١) والمناسب

__________________

(١) بل والموردية هي المناسبة للفعل ـ الذي هو أحد المصاديق الثلاثة التي يشملها الإطلاق ـ

٧٥

للحال هو الموردية دون السببية ؛ إذ لا معنى لأن يكون المقصود : لا يكلّف الله بسبب المال ، فإنّ المال لا يكون سببا للتكليف والعقوبة وإنّما المناسب أن يكون المقصود لا يكلّف الله في مورد القضايا المالية إلاّ بالمقدار الميسور.

شمول الآية للشبهات الوجوبية والتحريمية

وهل الآية الكريمة تختص بالشبهات التحريمية ـ كالشكّ في حرمة شرب التتن ـ أو تعمّ الشبهات الوجوبية كالشك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال؟ والجواب : انّ بعض الآيات الآتية تختص بالشبهة التحريمية كقوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) فإنّه ناظر إلى حالة الشكّ في حرمة الشيء دون الشكّ في الوجوب ، وأمّا الآية التي بين أيدينا فهي شاملة للشبهة الوجوبية والتحريمية معا لأنّه لم يذكر فيها لفظ التحريم بالخصوص ولا لفظ الوجوب.

شمول الآية للشبهات الموضوعية

وهل الآية الكريمة ناظرة إلى الشبهة الموضوعية أيضا أو تختص بالشبهة الحكمية (١)؟ قد يتوهم الاختصاص بالشبهة الحكمية بقرينة التعبير بقوله :

__________________

ـ أيضا ؛ إذ لا معنى لأن يكون المقصود : لا يكلّف الله بسبب الفعل إلاّ إذا كان مقدورا بل : لا يكلّف الله في مورد الفعل إلاّ إذا كان مقدورا

(١) الشبهة الحكمية هي الشبهة الناشئة بسبب أمر يرجع إلى الشارع كالشكّ في حرمة شرب التتن فإنّ منشأه احتمال أنّ الشارع حرّمه ولكن لم يصل التحريم بسبب فقد النص أو إجماله أو ـ

٧٦

« آتاها » أي إلاّ ما آتاها الله سبحانه ، ومن الواضح انّ إيتاء الشارع يختص بالأحكام فإنّه سبحانه يؤتي الأحكام ، وأمّا الشبهات الموضوعيّة فهو لا يؤتي شيئا فيها ، فإنّ كون هذا السائل المعيّن المشكوك خمرا حتّى يكون حراما أو ماء حتّى يكون حلالا ليس ممّا يؤتيه الله سبحانه ؛ إذ وظيفة الشارع بيان الأحكام الكلية (١) كبيان أنّ الخمر الكلي حرام والماء الكلي حلال ولا يبين الأحكام الجزئية ككون هذا السائل بالخصوص حراما أو حلالا.

ويمكن دفع هذا التوهم بأنّ المقصود من الإيتاء ليس هو الإيتاء التشريعي بل الإيتاء التكويني ـ ولا أقلّ من كون المقصود هو الإيتاء الأعمّ من التشريعي والتكويني ـ وواضح انّ الإيتاء الذي يختص بالشبهة الحكمية هو الإيتاء التشريعي وأمّا الإيتاء التكويني فهو يعمّ الشبهة الموضوعية أيضا ؛ إذ تمييز السائل المشكوك وأنّه خمر لا ماء يحصل بإتيائه سبحانه بمعنى خلقه القدرة فينا على تمييز ذلك.

وممّا يدلّ على عموميّة الآية للايتاء التكويني ان اسم الموصول يشمل

__________________

ـ تعارضه. وأمّا الشبهة الموضوعية فهي شبهة ناشئة بسبب أمر يرجع إلى المكلّف لا إلى الشارع كالشكّ في حرمة سائل معيّن من جهة الترديد في كونه خمرا أو ماء فإنّ منشأ الشكّ في التحريم لا يرجع إلى الشارع بل إلى المكلّف نفسه حيث لم يميز بين الخمر والماء

(١) التي هي مورد الشبهة الحكمية فإنّ المشكوك في الشبهة الحكمية هو الحكم الكلّي بخلافه في الشبهة الموضوعية فإنّ المشكوك فيها هو الحكم الجزئي. وبهذا يتّضح أنّ الشبهة الحكمية لها ضابطان أحدهما كون المشكوك حكما كليا ، وثانيهما : كون منشأ الشك في الحكم فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه

٧٧

بإطلاقه المال والفعل ـ كما تقدّم بل المال هو مورد الآية ـ وواضح أنّ المال والفعل لا يؤتيهما الله سبحانه إيتاء تشريعيا بل إيتاء تكوينيا فهو لا يرزق المال ولا يعطي القدرة على الفعل بما هو شارع بل بما هو مكوّن وخالق.

وهل تشمل الآية حالة ما قبل الفحص؟

وهل الآية الكريمة تثبت البراءة في خصوص حالة ما إذا فحص المكلّف عن الحكم ولم يعثر عليه أو تثبتها حتّى في حالة ما قبل الفحص؟ قد يتوهم انّ مقتضى إطلاق الآية الكريمة ثبوتها حتّى في حالة ما قبل الفحص ؛ إذ هي لم تقل إذا فحص المكلّف ولم يعثر على الحكم فحينئذ لا يكلّف الله بذلك الحكم بل هي من هذه الناحية مطلقة.

هذا ولكن الصحيح اختصاصها بحالة ما بعد الفحص لأنّ الحكم إذا كان موجودا في كتب الروايات بحيث يعثر عليه المكلّف لو فحص عنه فيصدق انّ الله قد آتى ذلك الحكم فإنّ إيتاء الحكم ليس هو بمعنى إيصاله بيد المكلّف مباشرة بل بمعنى جعله في مظان العثور عليه لو فحص عنه.

الآية الثانية

واستدل من القرآن الكريم أيضا بقوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (١)

بتقريب أنّ المقصود من الرسول ليس هو خصوص النبي

__________________

(١) الإسراء : ١٥

٧٨

حتّى يصير المعنى انّه قبل بعثة الأنبياء لا نعذب على مخالفة الأحكام ـ ولو كان هذا هو المقصود فهو غير نافع في المقام ؛ إذ تدلّ الآية بإطلاقها حينئذ على انّ الله بعد بعثة النبي يعذّب على مخالفة الحكم وإن لم يصل إلى المكلّف وهو خلاف المطلوب ـ بل المقصود منه هو البيان ، أي لا نعذّب على مخالفة الحكم حتّى نبيّنه ، فقبل بيانه لا نعذّب عليه. وإنّما خصّص الرسول بالذكر من جهة أنّه أحد المصاديق والأسباب البارزة التي يحصل بها البيان.

والشيخ الأعظم قدس‌سره في الرسائل ذكر إشكالين على الاستدلال المذكور هما : ـ

١ ـ ان الآية الكريمة تنفي فعلية العذاب ولا تنفي استحقاقه ، أي هي لا تدل على أنّ المكلّف لا يستحقّ العذاب قبل بيان الحكم بل أقصى ما تدل عليه هو انّ الله سبحانه لا يعذّب قبل البيان ولعلّ عدم تعذيبه ليس من جهة أن المكلّف لا يستحق العذاب بل من جهة عفوه سبحانه عن المستحق ، والنافع في مقام الاستدلال هو عدم الاستحقاق لأنّ المكلّف إذا لم يستحق العذاب قبل العلم بالحكم كان ذلك دالاّ على عدم ثبوت الحكم وأمّا نفي العذاب الفعلي فهو لا يدلّ على عدم ثبوت الحكم ؛ إذ لعلّ الحكم ثابت والمكلّف يستحق العقاب عليه ولكن الله سبحانه لا يعاقب عليه بالفعل لكرمه وعفوه (١).

٢ ـ انّ الآية الكريمة ناظرة إلى العذاب الدنيوي الذي نزل بالامم السالفة كامّة نوح أو هود أو صالح وغيرهم من الأنبياء صلواته عليهم أجمعين ، فهي كأنّها

__________________

(١) ويمكن أن يقال انّ المهم لمن يدّعي البراءة هو إثبات أنّ لا عذاب بالفعل سواء كان هناك استحقاق أم لا ، وسواء كان الحكم ثابتا واقعا أم لا

٧٩

تريد أن تقول : إنّا لم نعذّب قوم هود وصالح إلاّ بعد أن أرسلنا لهم أنبياء ، وواضح أنّ هذا أجنبي عن محل كلامنا فإنّ كلامنا هو في أنّ المكلّف لو لم يجد دليلا على حرمة شرب التتن فهل يعاقب يوم القيامة لو دخن أو لا ، فالنظر إنّما هو إلى العقاب في عالم الآخرة لا إلى عالم الدنيا.

ويمكن دفع الإشكال الأوّل ـ وهو أنّ الآية ناظرة إلى نفي الفعلية لا نفي الاستحقاق ـ بأن التعبير بجملة « ما كنّا » ظاهر في نفي الشأنية والمناسبة ، أي أنّ المقصود : ليس من شأننا ولا يناسبنا أن نعذّب قبل البيان ، وهذا كما يقال عرفا ما كنت لأهين الضيف ، فإنّ المقصود أنّه لا يناسبني وليس من شأني إهانة الضيف ، وواضح ان نفي الشأنية يتناسب ونفي الاستحقاق فإنّ العبد إذا كان لا يستحق العقوبة صحّ أن يقال : لا يناسب المولى إنزال العقوبة بالعبد بخلاف ما إذا كان يستحق العقوبة فإنّه يصحّ أن يقال إنّ إنزال العقوبة ممّا يتناسب والمولى.

وأمّا الإشكال الثاني ـ وهو أنّ الآية ناظرة إلى العذاب الدنيوي في الامم الماضية لا إلى العذاب الاخروي ـ فيمكن ردّه بثلاثة أجوبة : ـ

أ ـ إذا ثبت أنّ مقصود الآية نفي المناسبة وأنّه لا يناسبنا إنزال العقوبة قبل البيان فلا تكون خاصّة بنفي العذاب الدنيوي بل تعمّ نفي العذاب الاخروي أيضا فإنّ نكتة عدم المناسبة ليست هي إلاّ أنّ العذاب قبل البيان أمر قبيح ، وهذه النكتة لا تختص بالعذاب الدنيوي بل هي مشتركة وثابتة في العذاب الاخروي أيضا ، فكما انّ إنزال العقوبة الدنيوية قبل البيان قبيح كذا الحال في العقوبة الاخروية. وهذا نظير ما إذا قال شخص أنّه لا يناسبني إهانة الضيف فإنّه لا يحتمل أن يكون المقصود انّه لا يناسبني إهانة الضيف في الصيف دون الشتاء أو في

٨٠