الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
المطبعة: قلم
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-27-8
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٥٢٦

مورد جريان الأصول العملية

قوله ص ١٨ س ١١ : لا شكّ في جريان ... : هذا إشارة إلى البحث الرابع من الأبحاث الأربعة التي يتكفّلها التمهيد. وحاصله : انّ الشكّ في الحكم الواقعي له شكلان فتارة يشكّ المكلّف في ثبوت الحرمة لشرب التتن واقعا من دون أن يحتمل وجود حجّة شرعية تدلّ على تحريمه ، واخرى يشكّ في حرمته واقعا ويحتمل وجود حجّة شرعية ـ كخبر الثقة مثلا ـ تدل على تحريمه (١).

أمّا في الشكل الأوّل فلا إشكال في أنّه تجري البراءة عن احتمال الحرمة الواقعية ، وإنّما الإشكال في الشكل الثاني حيث قد تسأل : هل نحتاج إلى إجراء البراءة مرّتين : مرّة عن الحرمة الواقعية المحتملة ومرّة اخرى عن الحجّية المشكوكة (٢).

وبكلمة اخرى : هل البراءة يختص إجراؤها بالأحكام الواقعية أو تجري

__________________

(١) الشكّ في وجود الحجّة الشرعية له نحوان ، فتارة يشكّ في أصل وجود خبر يدلّ على حرمة التتن ، واخرى يعلم بوجود الخبر ولكن يشكّ في حجّيته. والنحو الأوّل يسمّى بالشكّ في وجود الحجّة بنحو الشبهة الموضوعية ، والنحو الثاني يسمّى بالشكّ في وجود الحجّة بنحو الشبهة الحكمية

(٢) وتسمّى الحجّية بالحكم الظاهري ، فإنّ حجّية الامارة حكم ظاهري ، كما وأنّ حجّية الأصل حكم ظاهري أيضا

٤١

أيضا لنفي الأحكام الظاهرية؟

قد يقال بالحاجة إلى إجراء برائتين لأنّه يوجد عندنا احتمالان يصلح كل منهما أن يكون منجزا وهما : ـ

أ ـ احتمال الحرمة الواقعية. ويمكن تسميته بالاحتمال البسيط.

ب ـ احتمال الحجّية المشكوكة. ويمكن تسميته بالاحتمال المركب. والوجه في كون هذا الاحتمال صالحا للمنجزية هو أنّ الحجّية حكم ظاهري ، والحكم الظاهري ينشأ كما تقدّم من أهمية ، الملاك فكل حكم ظاهري يبرز اهتمام المولى بملاك الحكم الواقعي ، واحتمال الحجّية على هذا هو بعبارة اخرى احتمال لإبراز المولى اهتمامه بملاك الحكم الواقعي ، ومن الواضح انّ احتمال إبراز المولى لاهتمامه بالملاك احتمال صالح للمنجزية فلا بدّ من نفيه ببراءة اخرى.

هذا وقد يعترض على إجراء براءة ثانية عن الحجّية المشكوكة بأنّه تقدّم في الجزء القسم من الحلقة الثالثة ص ٣٦ ان الأحكام الظاهرية متنافية بوجوداتها الواقعية ، فالمولى لا يمكن أن يشرّع البراءة عن شرب التتن وفي نفس الوقت يشرّع الاحتياط فتشريع ، مثل هذين الحكمين غير ممكن حتّى ولو لم يصلا إلى المكلّف لأنّ تشريع البراءة معناه عدم اهتمام المولى بالمفسدة الواقعية المحتملة في شرب التتن بينما تشريع الاحتياط معناه اهتمام المولى بالمفسدة الواقعية المحتملة ، ومن الواضح أنّه لا يمكن في وقت واحد ثبوت اهتمام المولى بالمفسدة وعدم اهتمامه بها.

وباتّضاح هذا نقول في مقامنا : انّه لا يمكن إجراء براءة ثانية عن الحجّية المشكوكة ؛ إذ من المحتمل أن تكون الحجّية ثابتة واقعا ، وإذا كانت ثابتة واقعا ،

٤٢

والمفروض إنّنا قد أجرينا البراءة عنها فيلزم اجتماع الحجّية والبراءة معا وهو غير ممكن لأنّ الحجّية تكشف عن اهتمام المولى بالمفسدة المحتملة في شرب التتن بينما البراءة تكشف عن عدم الاهتمام بتلك المفسدة فيلزم اجتماع الاهتمام وعدمه في وقت واحد وهو مستحيل.

وقد تقول : انّ ثبوت الحجّية ليس أمرا جزميا حتّى يلزم اجتماع البراءة والحجّية في وقت واحد ، بل هو محتمل ، ومعه فلا يقطع بثبوت البراءة والحجّية معا في وقت واحد حتّى يلزم المحذور المذكور.

والجواب : انّ ثبوت الحجّية ما دام محتملا فلازمه احتمال اجتماع المتنافيين ، ومن الواضح انّه كما لا يمكن القطع باجتماع المتنافيين كذلك لا يمكن احتمال اجتماعهما.

والخلاصة : انّ إجراء البراءة الثانية عن الحجّية قد يعترض عليه بأنّ لازمه احتمال اجتماع المتنافيين فلا يجوز.

ويمكن الجواب بأنّ البراءة الثانية ـ التي نجريها لنفي الحجّية المشكوكة ـ ليست في عرض الحجّية المشكوكة بل هي في طولها ؛ إذ لا بدّ وأن نفترض الشكّ في الحجّية أوّلا ثمّ بعد ذلك نجري البراءة الثانية عنها ، وما دامت البراءة الثانية في طول الحجّية المشكوكة فالنسبة بينهما إذن هي نفس النسبة بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي ، فكما انّه في الموارد الاخرى التي يوجد فيها حكم ظاهري وحكم واقعي يكون الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي ـ إذ لا بدّ من افتراض الشكّ في الحكم الواقعي أوّلا ثمّ بعد ذلك يأتي دور الحكم الظاهري ـ كذلك في مقامنا الذي يوجد فيه حكمان ظاهريان يكون أحد الحكمين الظاهريين

٤٣

في طول الحكم الظاهري الآخر ، فالبراءة الثانية التي هي حكم ظاهري في طول الحجّية المشكوكة التي هي حكم ظاهري ، وكما أنّ تلك الطولية بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي كافية في رفع مشكلة اجتماع الحكم الظاهري والحكم والواقعي (١) للبيانات المتقدّمة هناك كذلك الطولية بين البراءة الثانية والحجّية المشكوكة ترفع المشكلة هنا أيضا (٢).

ثمّ أضاف السيّد الشهيد قائلا : انّه وإن تقدّم في القسم الأوّل ص ٣٦ انّ الأحكام الظاهرية متنافية بوجوداتها الواقعية ولكن مقصودنا من ذلك هو خصوص الأحكام الظاهرية التي تكون في عرض واحد ـ أي التي يكون موضوعها واحدا كالشكّ في حرمة التتن فانّه شكّ واحد لا يمكن ثبوت البراءة

__________________

(١) لعلّ أوّل من أثار مشكلة اجتماع الحكم الظاهري والحكم الواقعي هو ابن قبه.

وحاصلها أنّه لا يمكن أن يجعل الشارع المقدس الأصل أو الامارة حجّة لأنّه إذا قامت الامارة على وجوب صلاة الجمعة مثلا فإن كانت صلاة الجمعة واجبة واقعا أيضا يلزم من ذلك اجتماع المثلين وهو مستحيل ، وإن كانت غير واجبة واقعا بأن كانت محرمة مثلا يلزم من ذلك اجتماع المتنافيين ، وهو مستحيل أيضا. وقد تقدّمت الإشارة لذلك في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص ٢٣

(٢) فعلى طريقة السيد الشهيد في الجمع بين الأحكام الظاهرية والأحكام الواقعية التي حصيلتها أنّ الحكم الظاهري حكم ناشئ من تقديم الملاك الأهم يمكن أن يقال انّه عند قيام خبر الثقة على حرمة شرب التتن مثلا يحكم الشارع بحرمته من ناحية قوّة كشف الخبر ، وعند الشكّ في حجّية خبر الثقة يحكم الشارع على شرب التتن بالحلّية من ناحية قوّة المحتمل ؛ إذ المفروض وجود شكّين : شكّ في التكليف الواقعي ـ الذي هو موضوع حجّية الامارة ـ وشكّ في حجّية الامارة ـ الذي هو موضوع البراءة الثانية ـ فمن الممكن أن يحكم الشارع عند الشكّ الأوّل بالحرمة على شرب التتن لقوّة الكشف ويحكم عند الشكّ الثاني بالحلّية لقوة المحتمل

٤٤

عنه والاحتياط في وقت واحد لأنّ ثبوت البراءة يكشف عن عدم اهتمام المولى بالمفسدة المحتملة بينما ثبوت الاحتياط يكشف عن اهتمامه بالمفسدة المحتملة فيلزم اجتماع المتنافيين ـ ولا يعمّ الأحكام الظاهرية الطولية ، أي التي يكون الموضوع فيها مختلفا ، وهذا كما هو الحال في مقامنا فإن البراءة الثانية موضوعها الشكّ في الحجّية بينما الحجّية المشكوكة موضوعها الشكّ في الحرمة الواقعية.

وبكلمة اخرى : يوجد في مقامنا شكّان ، وهما الشكّ في الحجّية والشكّ في الحرمة الواقعية ، والشكّ الأوّل ثبت له حكم ظاهري وهو البراءة الثانية والشكّ الثاني ثبت له حكم ظاهري آخر وهو الحجّية المشكوكة ، وليس هناك شكّ واحد ثبت له حكمان ظاهريان ليلزم المحذور.

هذا وقد يعترض على إجراء براءة ثانية بأنّها لغو ؛ إذ عند إجرائها نسأل عن البراءة الاولى هل تجرى أيضا أو لا؟ فإنّ اجريت البراءة الاولى ـ أي البراءة عن الحكم الواقعي ـ كان اجراؤها كافيا ومغنيا عن إجراء البراءة الثانية ؛ إذ بإجراء البراءة الاولى نصبح في أمان من احتمال العقاب فإنّ احتمال العقاب يتولّد من احتمال التكليف الواقعي ، فإذا نفيناه ـ احتمال التكليف الواقعي ـ بالبراءة ينتفي احتمال العقاب بالتبع ويصير إجراء البراءة الثانية لغوا. هذا لو اجريت البراءة الاولى قبل إجراء البراءة الثانية.

وأمّا إذا لم تجر الاولى قبل الثانية فلا يكون إجراء الثانية نافعا ؛ إذ بإجراء الثانية لا ينتفي احتمال التكليف الواقعي بل يبقى ثابتا ومع بقاءه نصير بحاجة إلى إجراء الاولى لنفيه ومع إجراء الاولى نكون في غنى من إجراء الثانية على ما تقدّم.

٤٥

والجواب عن هذا الاعتراض : انّ احتمال العقوبة لا ينشأ فقط من احتمال التكليف الواقعي بل ينشأ أيضا من احتمال الحجّية المشكوكة فإنّ احتمال الحجّية المشكوكة يرجع إلى احتمال إبراز المولى اهتمامه بالتكليف الواقعي ، ومن الواضح انّ احتمال اهتمام المولى بالتكليف اهتماما مبرزا احتمال صالح للتنجيز واستحقاق العقوبة عليه ، وعليه فليس الاحتمال الموجب لاحتمال العقوبة هو خصوص الاحتمال الأوّل بل الاحتمال الثاني صالح لذلك أيضا ، ومن هنا نجد بالوجدان أنّه يصحّ للمولى التصريح بمنجزية الاحتمال الأوّل دون الاحتمال الثاني بأن يقول هكذا : إذا احتملت التكليف الواقعى من دون احتمال قيام الحجّة عليه فلا يلزمك الاحتياط من أجله وإذا احتملت قيام الحجّة عليه فيلزمك الاحتياط ، إنّ هذا أمر معقول ، ومعقوليّته تدلّ على أنّ الاحتمال الثاني صالح للمنجزية أيضا وبالتالي لا بدّ من إجراء براءة ثانية لنفيه من دون لزوم محذور اللغوية.

هذا ولكن الصحيح بالرغم من كل ما ذكرناه الاكتفاء بإجراء البراءة الاولى بلا حاجة إلى إجراء الثانية.

ولتوضيح ذلك نذكر البيان التالي المركب من خمس نقاط : ـ

١ ـ انّ البراءة الاولى حكم ظاهري ، وهكذا الحجّية المشكوكة (١) ، حكم ظاهري. وهذان الحكمان الظاهريان عرضيان ـ أي أنّ موضوعهما واحد فموضع البراءة الاولى هو الشكّ في الحكم الواقعي وموضوع الحجّية المشكوكة هو الشكّ في الحكم الواقعي أيضا فإنّه عند الشكّ في الحكم الواقعي يجعل الشارع خبر الثقة

__________________

(١) عبّرنا بالحجّية المشكوكة ولم نعبّر بالبراءة عن الحجّية المشكوكة فلا بدّ وأن لا يغفل عن ذلك

٤٦

مثلا حجّة ـ وليسا طوليين إذ الطولية ثابتة بين البراءة الثانية وبين الحجّية المشكوكة (١) وأمّا البراءة الاولى مع الحجّية المشكوكة فهما في عرض واحد.

٢ ـ انّ كل حكمين ظاهريين إذا كانا عرضيين فهما متنافيان بوجودهما الواقعي سواء وصلا إلى المكلّف أم لا كما تقدّم ذلك في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص ٣٦.

٣ ـ انّ الحكمين الظاهريين العرضيين ما داما متنافيين فلازم ذلك حصول التنافي بين البراءة الاولى وبين الحجّية المشكوكة لأنّهما حكمان ظاهريان عرضيان.

٤ ـ انّ لازم المنافاة بين البراءة الاولى وبين الحجّية المشكوكة هو أنّ البراءة الاولى إذا كانت ثابتة فالحجّية المشكوكة تكون منتفية.

٥ ـ انّ البراءة الاولى إذا كانت منافية للحجّية المشكوكة فلازم ذلك أنّ مثل حديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » الدال على البراءة الاولى دال على نفي الحجّية المشكوكة.

ومن خلال هذا يتّضح إنّا في غنى من إجراء البراءة الثانية عن الحجّية المشكوكة ؛ إذ حديث رفع عن امّتي يدل بالالتزام على نفي الحجّية المشكوكة ومع انتفائها بحديث الرفع فلا نحتاج إلى إجراء براءة ثانية ـ لنفيها ـ وإن كان إجراؤها أمرا ممكنا أيضا إلاّ أنّه لا حاجة إليه.

__________________

(١) إذ البراءة الثانية مع الحجّية المشكوكة لهما موضوعان مختلفان ، فموضع البراءة الثانية هو الشكّ في الحجّية بينما الحجّية المشكوكة موضوعها الشكّ في التكليف الواقعي

٤٧

الاستصحاب في الأحكام الظاهرية

والنتيجة النهائية من كل ما سبق انّ البراءة لا تجري في الأحكام الظاهرية ـ أي الحجّية المشكوكة ـ بل تختص بنفي احتمال الأحكام الواقعية.

وقد تسأل هل يمكن أن يجري الاستصحاب في الأحكام الظاهرية أو لا يجري فيها كما لم تجر البراءة فيها؟

والجواب : نعم الاستصحاب يجري في الأحكام الظاهرية ، فلو كانت ظواهر القرآن الكريم مثلا متيقّنة الحجّية زمن الأئمّة عليهم‌السلام وشكّ في بقائها على الحجّية زماننا هذا من جهة احتمال نسخها ـ حجّية الظواهر ـ جرى استصحاب بقائها. وعليه فالاستصحاب يجري في الحجّية وإن كانت البراءة لا تجري لنفيها.

وقد تقول : لماذا لا يجري استصحاب في الحكم الواقعي المدلول لظواهر الكتاب الكريم وبذلك نكون في غنى عن إجراء الاستصحاب في حجّية الظواهر ، فمثلا لو فرض أنّ ظاهر القرآن الكريم يدلّ على وجوب صلاة الجمعة فبإمكاننا الاستغناء عن استصحاب بقاء حجّية الظواهر بإجراء الاستصحاب في نفس وجوب الجمعة.

والجواب : انّ هذا كلام متين ولكن قد يفرض أحيانا أنّ الاستصحاب لا يمكن جريانه في الحكم الواقعي من جهة اختلال بعض أركانه ـ كما لو قيل بأنّ الاستصحاب لا يجري في الأحكام التكليفية كالوجوب مثلا ويختص جريانه بالأحكام الوضعية التي منها الحجّية ـ فيتعين إجراؤه في نفس الحجّية.

٤٨

الاصول العملية

الأربعة

٤٩
٥٠

الوظيفة العملية حالة الشكّ

وبهذا ننهي الحديث عن التمهيد المتكفل للأبحاث الأربعة السابقة ونأخذ بالتحدّث عن الاصول العملية.

انّ مورد جريان الاصول العملية هو الشكّ في التكليف. والشكّ في التكليف تارة لا يكون مسبوقا بحالة سابقة متيقنة واخرى يكون مسبوقا بذلك. فإن كان مسبوقا بذلك فهو مورد الاستصحاب ويأتي البحث عنه مفصّلا ص ٢٠٥ من الحلقة ، وإن لم يكن مسبوقا بذلك فهو مورد الاصول العملية الثلاثة ، أي التخيير والاحتياط والبراءة. ونتحدّث أوّلا عن الحالة الثانية ، أي التي لم يسبق فيها الشكّ باليقين. وهي تتضمّن الصور التالية : ـ

١ ـ حالة الشكّ البدوي ، أي حالة الشكّ في التكليف التي لا تكون مقرونة بالعلم الإجمالي كالشكّ في حرمة شرب التتن. وهذه مورد أصالة البراءة.

٢ ـ حالة الشكّ المقرونة بالعلم الإجمالي بأنّ يعلم بثبوت التكليف ولكن يشكّ في تعلّقه بهذا أو بذاك ، كما لو فرض العلم بثبوت الوجوب يوم الجمعة وشكّ في تعلّقه بصلاة الظهر أو بصلاة الجمعة ، وكما لو علم بوجوب صلاة الصبح مثلا وشكّ في أنّ أجزائها عشرة ـ بحيث تكون جلسة الاستراحة جزء أيضا ـ أو تسعة ليس معها جلسة الاستراحة فأصل الوجوب معلوم ولكن لا يعلم تعلّقه بعشرة أو بتسعة. وهذه الحالة ـ أي حالة الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ـ هي

٥١

مورد أصالة الاحتياط فإنّ مورد الاحتياط هو العلم بالتكليف والشكّ في تعلّقه بهذا أو بذاك.

ثمّ إنّ حالة العلم الإجمالي بالتكليف لها شقّان ؛ إذ تارة يكون متعلّق التكليف مردّدا بين المتباينين كمثال صلاة الظهر والجمعة فإنّ صلاة الظهر تباين صلاة الجمعة ، واخرى يكون مردّدا بين الأقل والأكثر كمثال الشكّ في أنّ أجزاء الصلاة تسعة أو عشرة.

والشقّ الأوّل ذكر في الكتاب تحت رقم (٢) بينما الشقّ الثاني ذكر تحت رقم (٤).

٣ ـ حالة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة. وهذا مورد أصالة التخيير.

٤ ـ وفي الصورة الرابعة يبحث عن حالة العلم الإجمالي المتعلّق بالأقل والأكثر كما أشرنا إلى ذلك.

٥٢

الوظيفة حالة الشكّ البدوي

وفي الحالة الاولى وهي حالة الشكّ البدوي ـ أي غير المقرونة بالعلم الإجمالي ـ يبحث عن أصالة البراءة لأنّ ذلك هو موردها.

والبحث عن ذلك يقع في مرحلتين : ـ

أ ـ في تشخيص ما يحكم به العقل بقطع النظر عن الآيات والروايات. ويمكن التعبير عن ذلك بالوظيفة الأولية.

ب ـ في تشخيص ما تقتضيه الآيات والروايات. ويمكن التعبير عن ذلك بالوظيفة الثانوية.

الوظيفة الأولية حالة الشكّ

قوله ص ٢٩ س ١ : كلّما شكّ المكلّف ... : إذا شكّ المكلّف في حرمة شرب التتن مثلا ولم يتمكّن من إثبات حلّيته أو حرمته بواسطة النصوص الشرعية فلا بدّ من تحديد الأصل العملي أو بعبارة اخرى الوظيفة العملية اتّجاه الحرمة المشكوكة فهل يلزم الاحتياط لأجلها أو تجري البراءة؟ وفي هذا المجال نطرح السؤالين التاليين : ـ

١ ـ لو قطعنا النظر عن النصوص الشرعية والتفتنا إلى العقل فقط فهل يحكم ـ العقل ـ بلزوم الاحتياط أو البراءة. ويمكن التعبير عن الوظيفة التي يحكم

٥٣

بها العقل بالوظيفة الأوليّة حالة الشكّ.

٢ ـ لو التفتنا إلى النصوص الشرعية فماذا نستفيد منها؟ فهل نستفيد أنّ الوظيفة هي الاحتياط أو هي البراءة. ويمكن التعبير عن الوظيفة التي تحدّدها النصوص الشرعية بالوظيفة الثانوية حالة الشك.

وعليه فالوظيفة الأوليّة حالة الشكّ تعني تحديد ما يحكم به العقل بقطع النظر عن النصوص الشرعية بينما الوظيفة الثانوية تعني تحديد ما تحكم به النصوص الشرعية.

وفي تحديد الوظيفة الأوليّة ، وبكلمة اخرى في تحديد ما يحكم به العقل عند الشكّ في حكم من الأحكام يوجد مسلكان : ـ

مسلك قبح العقاب بلا بيان

أ ـ والمسلك الأوّل ـ وهو المشهور بين الاصوليّين (١) ـ يقول انّ العقل يحكم بقبح العقاب على حرمة شرب التتن مثلا ما دامت الحرمة لا يعلم بها المكلّف.

__________________

(١) ولكن ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره في الرسائل ص ٢١٤ من الطبعة القديمة المحشاة بحواشي رحمة الله انّ جماعة من قدماء الاصوليين كالشيخ الطوسي والمفيد والسيد المرتضى وابن زهرة أنكروا حكم العقل بهذه القاعدة وقالوا أنّ العقل يحكم بالاحتياط.

واستدلّ الشيخ الطوسي على ذلك بأنّ الإقدام على شيء تحتمل حرمته هو إقدام على ما يحتمل فيه المفسدة ، والإقدام على ما يحتمل فيه المفسدة كالاقدام على ما يعلم فيه المفسدة.

وقد نقل الآخوند ذلك في الكفاية أيضا فراجع الجزء الثاني ص ١٨٠ من الطبعة المحشاة بحواشي المشكيني

٥٤

وعبروا عن هذا الحكم العقلي بقاعدة قبح العقاب بلا بيان (١). وتكاد أن تكون القاعدة المذكورة عندهم من الامور الواضحة التي لا ينبغي التشكيك فيها. وحاول البعض الاستدلال عليها. وننقل في هذا المجال استدلالين للميرزا وآخرين للشيخ الأصفهاني.

الدليل الأوّل

ما ذكره الميرزا من أنّ المقتضي للتحرك هو العلم فالإنسان إذا كان يعلم بوجود الأسد إلى جانبه يتحرّك فارا ، أمّا إذا لم يعلم به فلا يفرّ ، فالمحرّك إذن هو العلم. وعليه فإذا كان المكلّف عالما بحرمة شرب التتن فالمقتضي لتحرّكه نحو الامتثال موجود أمّا إذا لم يعلم بالحرمة فلا مقتضي لتحرّكه نحو الامتثال ، ومع عدم المقتضي للتحرّك نحو الامتثال يكون عقابه على مخالفة الحرمة التي لا يعلم بها عقابا على ما لا مقتضي للتحرك عنه وهو قبيح.

وقد تقدّم في الحلقة الثانية ص ٣١٥ الجواب عن البيان المذكور وأن كون المقتضي للتحرّك خصوص العلم أول الكلام وعين المتنازع فيه إذ كون المقتضي للتحرّك هو خصوص العلم فرع أن نقول أنّ الله سبحانه له علينا حقّ الطاعة في خصوص التكاليف التي نقطع بثبوتها وليس له حقّ الطاعة في التكاليف التي نحتمل ثبوتها ؛ إذ لو كان له حقّ الطاعة حتّى في التكاليف المحتملة فمعنى ذلك انّ احتمال ثبوت التكليف مقتض للتحرك أيضا وليس المقتضي للتحرّك خصوص

__________________

(١) المقصود من البيان خصوص العلم

٥٥

التكليف المعلوم. إذن بحثنا لا بدّ وأن ينتهي وينصبّ على تحديد دائرة حقّ الطاعة ، أي تحديد أنّ الله سبحانه هل له حقّ الطاعة علينا في خصوص التكاليف المعلومة أو في التكاليف المحتملة أيضا ، وعقلنا يحكم بأنّ الله سبحانه له علينا حقّ الطاعة حتّى في التكاليف المحتملة ولا يختص بخصوص التكاليف المعلومة (١) ، وإذا لم يكن حق الطاعة مختصا بالتكاليف المعلومة بل شاملا للتكاليف المحتملة أيضا فالمقتضي للتحرك نحو الامتثال عند احتمال ثبوت التكليف واقعا يكون ثابتا وبالتالي لا يكون العقاب قبيحا.

الدليل الثاني

ما ذكره الميرزا أيضا من أنّ الأعراف العقلائية متبانية على قبح عقاب من خالف قانونا من القوانين وهو لا يعلم به ، فالغريب عن بلد إذا دخل بعض شوارعه التي منعت الحكومة من الدخول فيه وهو لا يعلم بالمنع يقبح عقابه.

وقد تقدّم في الحلقة الثانية ص ٣١٦ الجواب عن البيان المذكور بما حاصله أنّ المولوية الثابتة للمولى على قسمين (٢) : ـ

أ ـ فتارة تكون مجعولة من قبل الغير كالمولوية الثابتة لرئيس العشيرة فإنّ مولويته وحقّ إطاعته ثابت له بسبب جعل أفراد عشيرته ذلك الحقّ له عليهم وكمولوية الأب بالنسبة إلى ولده أو الزوج بالنسبة إلى زوجته فإنّها ثابتة بسبب

__________________

(١) والوجه في حكم العقل هذا وتوضيحه يأتي فيما بعد إنشاء الله تعالى

(٢) وتعني المولوية حقّ الطاعة فالمولوية ـ حقّ الطاعة

٥٦

جعل الشرع المقدّس لذلك.

ب ـ واخرى تكون ذاتية وحقيقية بمعنى أنّها لم تجعل من قبل الغير كمولوية الله سبحانه بالنسبة إلى جميع أفراد البشر فإنّها ثابتة بسبب كونه تعالى منعما وخالقا ومدبّرا لأمر العباد.

وإذا عرفنا أنّ المولوية تنقسم إلى القسمين المذكورين فنقول انّ المولوية إذا كانت مجعولة وثابتة بسبب جعل الغير لها فمقدار سعة دائرتها وضيقها يتحدّد بحدود سعة الجعل وضيقه ، فأفراد العشيرة إذا جعلوا للرئيس حقّ طاعته في مطلق القضايا كانت مولويته عامة لجميع ذلك وإذا جعلوها خاصّة ببعضها كانت خاصّة ، وأمّا إذا كانت المولوية ذاتية فلا بدّ من الرجوع إلى العقل الذي حكم بثبوت المولوية الذاتية له سبحانه وهو يحكم بسعة حقّ طاعته وشموله للتكاليف المحتملة (١).

الدليل الثالث

ما ذكره الشيخ الأصفهاني. وهو يتوقّف على بيان مقدّمة حاصلها : انّه تقدّم في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ص ٤٢٤ أنّ حكم العقل ينقسم إلى قسمين عملي ونظري. والمقصود من الحكم العملي الحكم الذي يرتبط بجانب العمل كالحكم بأنّ الصدق يحسن فعله ، والكذب لا يحسن فعله ، والأمانة يحسن فعلها ،

__________________

(١) ويمكن أيضا مناقشة دليل الميرزا هذا بأنّا لا نعرف وجود مثل هذه الأعراف العقلائية التي استشهد بها ، فإنّ الأعراف العقلائية تقضي بقبح عقاب من دخل شارعا وهو يعتقد عدم المنع من دخوله أو كان غافلا عنه ، أمّا إذا كان محتملا أو ظانا بالمنع فقبح ذمّه وعقابه أوّل الكلام

٥٧

والخيانة لا يحسن فعلها وأمثال ذلك. والمقصود من الحكم النظري الحكم الذي لا يرتبط بجانب العمل كالحكم باستحالة اجتماع النقيضين أو الدور أو التسلسل أو إمكان اجتماع المتخالفين وأمثال ذلك.

وبعد اتّضاح هذا نسأل : ما هي عدد أفراد الحكم النظري؟ أنّها كثيرة جدّا منها الأمثلة المتقدّمة. أمّا أفراد الحكم العملي فقد ذكر جماعة منهم الشيخ الأصفهاني أنّها منحصرة في قضيّتين هما : العدل حسن والظلم قبيح.

وقد تستغرب كيف نحصر الحكم العملي في هاتين القضيّتين والحال أنّ هناك قضايا كثيرة يمكن عدّها من الأحكام العقلية العملية كالحكم بأنّ الصدق حسن والأمانة حسنة والايثار حسن و ... والكذب قبيح والخيانة قبيحة ... وقد دفع الشيخ الأصفهاني ذلك بأنّ القضايا المذكورة مصاديق لتينك القضيتين ، فالعقل يحكم بأنّ الصدق حسن بما أنّه مصداق لقضية العدل حسن فإنّ العدل عبارة عن وضع الشيء في موضعه المناسب ، ومن الواضح الصدق هو شيء موضوع في موضعه المناسب والعقل حينما يحكم بحسنه لا يحكم بذلك بعنوان انّه صدق بل بما أنّه عدل ووضع للشيء في موضعه المناسب. وهكذا يقال في باقي القضايا المذكورة (١).

وباتّضاح هذه المقدّمة يقول الأصفهاني في دليله على قاعدة قبح العقاب : بأنّ القبيح بنظر العقل العملي شيء واحد وهو الظلم ، فلا بدّ وأن نحقّق هذه النقطة

__________________

(١) بل هناك دعوى تقرب من هذه الدعوى تقول أنّ حال الأحكام النظرية ذلك أيضا فهناك حكم نظري واحد ، وهو استحالة اجتماع وارتفاع النقيضين وجميع القضايا الاخرى ترجع إلى هذه القضية ، فالدور أو التسلسل مثلا مستحيل لأنّه يلزم منه اجتماع أو ارتفاع النقيضين

٥٨

وهي : متى تكون مخالفة تكاليف المولى ظلما له ـ المولى ـ حتّى تكون قبيحة فهل مخالفة التكليف المعلوم ثبوته هي القبيحة فقط أو مخالفة التكليف الذي يحتمل ثبوته قبيحة أيضا؟ والجواب : أنّ التكليف إذا كان معلوما فمخالفته خروج عمّا تقتضيه عبودية العبد وتجاوز على مولوية المولى فتكون ظلما وبالتالي يستحقّ العبد الذمّ والعقاب من قبل مولاه على مخالفة التكليف المعلوم ، وأمّا إذا لم يكن التكليف معلوم التحقّق بل كان محتملا فمخالفته ليست تجاوزا وتعدّيا على مولوية المولى حتّى تكون ظلما له ، ومعه فلا يجوز الذمّ والعقوبة على مخالفة التكليف المحتمل ، وهو المطلوب.

الجواب عن دليل الأصفهاني

ويمكن الجواب بأنّا لا نسلّم انحصار حكم العقل العملي في قضية « الظلم قبيح » بل هناك قضية اخرى يحكم بها قبل القضية المذكورة.

توضيح ذلك : إنّا نسأل عن معنى الظلم وماذا يراد منه حينما يقال : « الظلم قبيح »؟ انّه يعني سلب حقّ الغير ، ولازم هذا أنّ العقل العملي قبل حكمه بقبح الظلم يحكم بأنّ الله سبحانه له علينا حقّ الطاعة ؛ إذ لو لم يحكم بذلك فلا يتحقّق من العبد ظلم له سبحانه.

إذن هناك قضية يحكم بها العقل العملي قبل قضية « الظلم قبيح » وهي قضية أنّ الله سبحانه له حقّ الطاعة علينا ، ومعه فلا بدّ وأن نوجّه البحث إلى القضية المذكورة لنرى انّه سبحانه هل له علينا حقّ الطاعة حتّى في التكليف المحتمل او في خصوص التكليف المعلوم ، في هذه النقطة بالذات لا بدّ وأن يتمركز

٥٩

البحث. ولا نحتمل في هذه النقطة حكم عاقل بضيق حقّه سبحانه واختصاصه بخصوص التكاليف المقطوعة بل هو شامل جزما للتكاليف المحتملة ، ومع سعة الحقّ المذكور يلزم تبعا لذلك حكم العقل بلزوم الاحتياط كلّما احتمل ثبوت تكليف في الواقع ، فعند الشكّ في حرمة التدخين مثلا يلزم الاحتياط بتركه ؛ إذ بفعله يكون المكلّف ظالما للمولى حيث إنّ له حقّ الطاعة حسب الفرض في التكليف المحتمل أيضا.

الدليل الرابع

ما ذكره الشيخ الأصفهاني أيضا. وحاصله : إنّ التكليف على قسمين : إنشائي وحقيقي.

والمقصود من الإنشائي إنشاء التكليف وجعله وتشريعه ، فنفس تشريع الحكم وإنشائه عبارة اخرى عن التكليف الإنشائي.

والمقصود من التكليف الحقيقي إنشاء التكليف بداعي تحريك المكلّف نحو الفعل ، فالفرق إذن بين التكليف الإنشائي والحقيقي هو أنّ الحقيقي يشتمل على داعي التحريك بخلاف الإنشائي فإنّه مجرّد عن ذلك.

ويترتّب على ذلك : انّ التكليف الإنشائي ليس له أهمية لأنّه لا تجب إطاعته ولا تترتّب على مخالفته عقوبة وإنّما المهم هو التكليف الحقيقي حيث إنّه ما دام يشتمل على داعي التحريك فتكون إطاعته لازمة. وقاعدة قبح العقاب بلا بيان لا بدّ وأن تكون ناظرة إلى التكليف الحقيقي فهي تريد أن تقول انّ التكليف الحقيقي ما دام لا بيان عليه فالعقوبة عليه قبيحة ، وأمّا التكليف الإنشائي فهو

٦٠