الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
المطبعة: قلم
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-27-8
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٥٢٦

القسم الثاني ، حيث إنّ الوجوب مردد بين ما هو باق قطعا وبين ما هو مرتفع قطعا فإنّ الوجوب الثابت إن كان وجوب التسعة فهو مرتفع جزما وإن كان وجوب العشرة فهو باق جزما.

وحيث انّ المفروض في استصحاب الكلي من القسم الثاني جريانه فيجري استصحاب كلي الوجوب ويثبت بذلك لزوم الاحتياط.

وقد نوقش هذا الاستصحاب بعدة مناقشات. ونحن نذكر هذه المناقشة : ما الغرض من استصحاب بقاء كلي الوجوب؟ فهل الغرض إثبات وجوب الجزء العاشر ـ أو بكلمة اخرى إثبات تعلق الوجوب بالأكثر ـ بتقريب أنّ وجوب الصلاة إذا كان باقيا ولم يسقط بالإتيان بالاجزاء التسعة فهذا معناه تعلق الوجوب بالأكثر ، أو أنّ الغرض مجرد إثبات بقاء الوجوب الكلي بلا إثبات تعلقه بالأكثر.

فإن كان الغرض هو الأوّل كان الاستصحاب أصلا مثبتا ـ وهو ليس بحجّة ـ اذ لا توجد آية أو رواية تقول اذا كان الوجوب الكلي باقيا بعد الاتيان بالاقل فلازم ذلك شرعا تعلق الوجوب بالأكثر وإنّما هي ملازمة عقلية.

وإن كان الغرض هو الثاني ـ أي مجرد إثبات بقاء كلي الوجوب ـ فالاستصحاب لا يكون مثبتا ولكنه ليس بنافع لأنّ الوجوب الكلي كان ثابتا على سبيل الجزم واليقين قبل الأشتغال بالصلاة ولم يكن مجديا في إثبات وجوب الاحتياط بل كانت البراءة تجري عن وجوب الأكثر ـ ولذا احتيج الى التمسك بالاستصحاب لأثبات وجوب الاحتياط ـ فكيف بثبوته الاستصحابي فإنّه أولى بعدم اقتضائه لوجوب الاحتياط.

٤٨١

الاستصحاب لإثبات البراءة

ويمكن أن يقال في تقريب الاستصحاب لإثبات البراءة انّه لو نظرنا الى زمان ما قبل دخول الوقت أو ما قبل التشريع الاسلامي أو الى صدر التشريع لجزمنا بعدم ثبوت الوجوب لا للتسعة أجزاء ولا للعشرة ، فإذا دخل الوقت جزمنا بانتقاض عدم ثبوت الوجوب للتسعة الى اليقين بثبوت الوجوب لها ، وأمّا عدم ثبوت الوجوب للعشرة ـ أو بالأحرى عدم ثبوت الوجوب للجزء للعاشر ـ فلا نجزم بانتقاضه بل نحتمل بقائه على العدم فيجري استصحاب بقائه. وبذلك تثبت نتيجة البراءة ، أي انتفاء وجوب العشرة أو بعبارة اخرى انتفاء وجوب الجزء العاشر ، وهو المطلوب.

وقد يقال انّ هذا الاستصحاب معارض باستصحاب آخر وهو استصحاب عدم تعلق الوجوب الاستقلالي بالتسعة ، فإنّه قبل دخول الوقت كنا نجزم بعدم تعلق الوجوب الاستقلالي بالتسعة ، فإذا دخل الوقت حصل الشكّ في تعلق الوجوب الاستقلالي بالتسعة ـ فإنّ التسعة بعد دخول الوقت وإن كنا نجزم بوجوبها ولكن بوجوب أعم من الاستقلالي والضمني ، وأمّا خصوص الوجوب الاستقلالي فلا نجزم بثبوته لها ـ فيجري استصحاب بقائه على العدم.

والجواب عن هذه المعارضة : إن استصحاب عدم تعلّق الوجوب الاستقلالي بالتسعة لا يجري ، إذ الغرض منه إن كان هو إثبات تعلّق الوجوب الاستقلالي بالعشرة أو بالأحرى ثبوت الوجوب للجزء العاشر ، فهذا أصل مثبت إذ لم تدلّ آية ولا رواية على أنّ الوجوب الاستقلالي إذا لم يثبت للتسعة

٤٨٢

فالجزء العاشر واجب.

وإن كان الغرض إثبات الترخيص في ترك التسعة فهذا إثبات للترخيص في المخالفة القطعيّة ، فإنّ ترك التسعة معناه ترك الأقل وترك الأكثر ، وهو مخالفة قطعيّة للوجوب ، والأصل لا يجري للتأمين عن المخالفة القطعية.

ومن خلال بطلان هذا الأصل المعارض يتّضح صحّة جريان استصحاب عدم تعلّق الوجوب بالجزء العاشر الثابت قبل دخول الوقت لإثبات البراءة.

قوله ص ١٩١ س ٥ : لإثبات نتيجة البراءة : أي انتفاء الوجوب عن الجزء العاشر أو انتفاء تعلّق الوجوب بالأكثر.

قوله ص ١٩٢ س ٢ : لأنّ ذلك هو لازم بقائه : أي لأنّ ثبوت الوجوب للعشرة هو لازم بقاء كلّي الوجوب.

قوله ص ١٩٢ س ٣ : لأنّه لازم عقلي أي ثبوت الوجوب للعشرة لازم عقلي لبقاء كلّي الوجوب.

قوله ص ١٩٢ س ٩ : الثابت : صفة لعدم وجوب لا لوجوب.

قوله ص ١٩٢ س ٩ : أو في صدر عصر التشريع : أو قبل البلوغ أو قبل عصر التشريع أو عند الجنون ـ إن كانت هناك حالة جنون سابقة ـ فإنّه في كلّ هذه الحالات لم يكن وجوب للجزء العاشر فيجري استصحاب بقائه.

٤٨٣
٤٨٤

الملاحظة الثانية أو الدوران بين الجزئيّة والمانعيّة

قوله ص ١٩٢ س ١٦ : إذا تردّد أمر شيء إلخ : والملاحظة الثانية من الملاحظات المرتبطة ببحث الأقل والأكثر هي أنّه إذا دار أمر الشيء بين أن يكون جزء أو مانعا فما هو الموقف؟

مثال ذلك : ما إذا شكّ المصلّي في قراءة السورة بعد دخوله في القنوت الذي هو جزء مستحب ، فإنّ الشكّ المذكور إن كان يصدق عليه عنوان الشكّ بعد تجاوز المحل ـ بناء على أنّ التجاوز عن المحل يتحقّق بالدخول في الجزء المستحب أيضا ـ فلا يجب الاتيان بالسورة بل يكون الاتيان بها مانعا من صحّة الصلاة ، لأنّه زيادة مبطلة ، وإن لم يصدق عنوان الشكّ بعد تجاوز المحل فالاتيان بها واجب ويكون جزء من الصلاة. اذن الاتيان بالسورة في هذه الحالة يدور أمره بين الجزئيّة والمانعيّة ، فما هو الموقف؟

والجواب : انّه في الحالة المذكورة يحصل علم اجمالي امّا بوجوب الاتيان بالسورة أو بوجوب عدمه. وأصل البراءة عن الطرف الأوّل حيث انّه معارض بأصل البراءة عن الطرف الثاني فيكون العلم الاجمالي منجّزا ويجب الاحتياط بمعنى وجوب إكمال الصلاة بلا تكرار السورة ثمّ إعادتها مع السورة من جديد.

هذا إن كان في الوقت سعة ، وإلاّ اكتفي بإكمال الصلاة لمنجزيّة العلم الاجمالي.

٤٨٥

وفي مقابل هذا قد يقال بأنّ العلم الاجمالي السابق ليس منجّزا لأنّ الركن الرابع من أركان منجّزيّة العلم الاجمالي ـ على ما مر ص ١١٠ من الحلقة ـ يقول إنّ العلم الاجمالي لا يكون منجّزا إلاّ إذا كان جريان الاصول في الأطراف موجبا للترخيص في المخالفة القطعيّة (١) ، وواضح أنّ الركن المذكور غير متوفر لأنّ جريان الاصول لا يثبت جواز المخالفة القطعيّة ، إذ المكلّف امّا أن يأتي بالسورة ، وفي ذلك احتمال الموافقة واحتمال المخالفة ـ ولا يحصل القطع بالمخالفة ، أو يتركها ، وفي ذلك أيضا احتمال الموافقة والمخالفة ولا يقطع بالمخالفة.

فإن قيل : إن جريان الاصول في الأطراف يلزم منه المخالفة القطعيّة ، فإنّ المكلّف إذا ترك الصلاة ولم يأت بها أصلا تحقّقت بذلك المخالفة القطعيّة.

قلنا : صحيح انّه بترك الصلاة رأسا تتحقّق المخالفة القطعيّة ، ولكن مثل هذه المخالفة القطعيّة لم تنشأ من جريان الاصول في الأطراف ـ فإنّ أقصى ما ينشأ من جريان الاصول في الأطراف الترخيص في فعل السورة وفي تركها ، ولا ينشأ منه جواز ترك الصلاة رأسا ـ بل ذاك ناشىء من ترك الاجزاء معلومة الوجوب.

أجل يمكن أن يكون جريان الاصول في الأطراف في مقامنا موجبا للترخيص في المخالفة القطعيّة فيما إذا كان الجزء المشكوك ممّا يعتبر فيه قصد القربة على تقدير جزئيته كما هو الحال في السورة ، فإنّه على تقدير وجوب الاتيان بها

__________________

(١) هذا بناء على صيغة الميرزا للركن الرابع. وأمّا على صيغة السيّد الخوئي القائلة بأنّ شرط منجّزيّة العلم الاجمالي أن يكون جريان الاصول موجبا لترخيص الشارع في المخالفة وإن لم تلزم المخالفة القطعيّة بالفعل ، فالركن الرابع متوفر لأنّه بجريان أصل البراءة في الطرفين يقطع بترخيص الشارع في المخالفة وإن لم تلزم المخالفة القطعيّة بالفعل

٤٨٦

يلزم الاتيان بها بقصد القربة ، فإذا جرى الاصل عن وجوب الاتيان بالسورة وعن وجوب عدمه جاز للمكلّف الاتيان بها ولو من دون قصد القربة ، وبذلك تتحقّق المخالفة القطعيّة ، فإنّه على تقدير جزئيّة السورة فالمفروض أنّه لم يأت بها بقصد القربة ، وعلى تقدير المانعيّة فالمفروض أنّه لم يتركها (١).

__________________

(١) هذا ويمكن ان يقال انّ جريان الأصلين لا يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعيّة ، أذ جريانهما يقتضي جواز الاتيان بالسورة بقصد القربة وجواز ترك السورة ولا يقتضي جواز الاتيان بها بدون قصد القربة حتى تتحقّق المخالفة القطعيّة

٤٨٧
٤٨٨

الملاحظة الثالثة أو الأقل والأكثر في المحرّمات

التردّد بين الأقل والأكثر تارة يكون في باب الواجبات ، واخرى في باب المحرّمات.

مثال التردّد في الواجبات : تردّد أجزاء الصلاة بين التسعة والعشرة.

ومثال التردّد في المحرّمات : ما إذا فرض حرمة تصوير الإنسان وحصل التردّد في أنّ المحرّم هل تصوير الإنسان بكامل أجزائه أو المحرّم تصوير رأسه بالخصوص وإن لم يضم له تصوير باقي الأجزاء.

وحرمة تصوير الإنسان الكامل معناها بعبارة اخرى تعلّق الحرمة بالأكثر ، بينما حرمة تصوير الرأس بالخصوص معناها بعبارة اخرى تعلّق الحرمة بالأقل فيكون الحرام مردّدا بين الأقل والأكثر.

وكلامنا إلى الآن كان في تردّد الواجب بين الأقل والأكثر. وأمّا تردّد الحرام بين الأقل والأكثر فهل فيه موضع اختلاف مع تردّد الواجب أو أنّ التردّد في كلا البابين من واد واحد ولا يوجد أي اختلاف بينهما؟

والميرزا نفى وجود امتياز بين البابين. هذا ولكن بالإمكان إبراز فرقين : ـ

١ ـ لو نظرنا إلى تردّد الواجب وجدنا أنّ تعلّق الوجوب بالأكثر فيه تضييق ومؤونة على المكلّف أكبر ممّا لو كان الوجوب متعلّقا بالأقل ، فإنّ تعلّق الوجوب بالأكثر يعني لزوم الاتيان بعشرة أجزاء بينما تعلّقه بالأقل يعني لزوم

٤٨٩

الاتيان بتسعة ، ومن الواضح انّ الاتيان بالعشرة يشتمل على مشقّة أكبر لاشتمال العشرة على زيادة مفقودة في التسعة.

بينما لو نظرنا إلى تردّد الحرام وجدنا القضيّة بالعكس ، فحرمة الأقل فيها تضييق على المكلّف أكبر ممّا لو كانت الحرمة متعلّقة بالأكثر إذ حرمة الأقل تعني حرمة رسم الرأس حتى مع عدم ضم بقية الأجزاء ، بينما حرمة الأكثر تعني عدم حرمة رسم الرأس وحده وإنّما يحرم لو انضمّ رسمه إلى رسم بقيّة الأجزاء.

٢ ـ إنّ التردد بين الأقل والأكثر في باب الواجبات كانت له مصاديق متعددة ، فمنها الشكّ في الجزئية ، ومنها الشكّ في الشرطية ، ومنها التردد بين التعيين والتخيير.

وأمّا التردد بين الأقل والأكثر في باب المحرمات فليست له جميع هذه المصاديق بل ينحصر في مصداق واحد ، وهو التردد بين التعيين والتخيير ، فحينما تتردد حرمة التصوير بين الرأس وكامل الجسم فهذا معناه تردد الحرام بين التعيين والتخيير ، فإنّ حرمة تصوير كامل الجسم تعني أنّ المكلّف يجب عليه ترك تصوير بعض الإجزاء فهو امّا ان يترك تصوير الرأس أو يترك تصوير اليد ، وهكذا ، إنّه يجب عليه على سبيل التخيير ترك رسم أحد الأجزاء ، بينما حرمة تصوير الرأس تعني وجوب ترك تصوير خصوص الرأس وتعين ذلك بالخصوص عليه.

إذن تردد حرمة التصوير بين كامل الجسم وخصوص الرأس تعني بعبارة اخرى التردد بين التخيير والتعيين.

وما دام التردد بين الأقل والأكثر في باب المحرمات يعني التردد بين التعيين

٤٩٠

والتخيير فما ذكرنا من الحكم حالة التردد بين التعيين والتخيير يجري نفسه حالة تردد المحرم بين الأقل والأكثر.

وقد ذكرنا حالة تردد الواجب بين تعين العتق والتخيير بين العتق والإطعام انّ الأصل يجري لنفي تعين العتق ، إذ في تعينه كلفة وضيق زائد على المكلّف فينفى بالأصل ، وهذا بخلاف التخيير بين العتق والإطعام فإنّ الأصل لا يجري لنفيه إذ الحيثية الإلزامية الثابتة للوجوب التخييري هي حرمة ضم ترك الإطعام الى ترك العتق ، وواضح أنّ مثل هذه الحرمة لا تجري البراءة لنفيها لأن لازمها الترخيص في المخالفة القطعية.

إنّ هذا نفسه يجري حالة تردّد الحرام بين الأقل والأكثر ، فحرمة الأقل حيث تشتمل على ضيق زائد على المكلّف فالأصل يجري لنفيها ، وأمّا حرمة الأكثر فلا تجري البراءة عنها إذ حرمة تصوير الجسم بكامله قضية جزمية فجريان البراءة عنها يعني الترخيص في المخالفة القطعية ، والأصل لا يجري إذا لزم منه ذلك.

٤٩١
٤٩٢

الملاحظة الرابعة أو الشبهة الموضوعية للأقل والأكثر

إنّ التردد بين الأقل والأكثر له حالتان فتارة يكون في شبهة حكمية واخرى في شبهة موضوعية ، فالمكلّف إذا شكّ في شرطية عدم لبس الثوب المصنوع من حيوان لا يحل أكل لحمه شرعا ولم يحصل له اليقين بجعل الشرطية المذكورة حصل له التردد بين الأقل والأكثر ، فإن كانت الشرطية ثابتة فمعناه وجوب الأكثر وإن لم تكن ثابتة فمعناه تعلق الوجوب بالأقل.

وهذا التردد كما نراه نشأ من الشكّ في أصل الجعل فلم يعلم أنّ الشارع جعل الشرطية المذكورة أو لا.

إنّ مثل هذه الشبهة شبهة حكمية حيث انّ الشكّ فيها شكّ في أصل الجعل والحكم الكلي ، ومتى ما كان الشكّ في أصل الجعل والحكم الكلي كانت الشبهة حكمية.

أمّا إذا فرض انّا على يقين من جعل شرطية عدم لبس الثوب المصنوع من حيوان لا يحل أكل لحمه ولم نكن على شكّ من ذلك حتى تكون الشبهة حكمية وإنّما كان الشكّ في المصداق الخارجي ، كما لو أهدي لنا ثوب ولم نعلم انّه مصنوع من حيوان لا يحل أكل لحمه حتى تكون صحة الصلاة مشروطة بعدم لبسه أو هو غير مصنوع من ذلك حتى لا تكون صحة الصلاة مشروطة بذلك ، ففي هذا المثال يحصل الشكّ في شرطية عدم لبس الثوب المذكور ، وهذا شكّ في الشرطية في

٤٩٣

شبهة موضوعية حيث يشكّ في شرطية عدم لبس هذا الثوب بالخصوص ولا يشكّ في أصل جعل الشرطية.

ونحن قد عرفنا سابقا أنّ الشكّ في الشرطية في الشبهة الحكمية مجرى للبراءة ، فالأقل معلوم الوجوب والشرطية المشكوكة تجري البراءة لنفيها.

وعلينا الآن أن نعرف حكم الشكّ في الشرطية في باب الشبهة الموضوعية ، فاذا شك في شرطية عدم لبس هذا الثوب المهدى فهل تجري البراءة أيضا أو لا (١)؟ نعم تجري البراءة حيث انّ الأجزاء والشرائط الأقل يعلم بوجوبها فإذا شكّ في الشرطية الزائدة جرت البراءة لنفيها ، فيقال إنّ لبس هذا الثوب المهدى يشكّ في مانعيته أو بعبارة اخرى يشكّ في شرطية عدمه أو بعبارة ثالثة يشكّ في تقيد الصلاة بعدمه ، والأصل يقتضي البراءة من ذلك.

سؤال وتوضيح

إنّ الشرط الواجب في الصلاة أو الجزء الواجب فيها له حالتان ، فتارة يكون له موضوع في الخارج يتعلق به ، واخرى لا يكون له ذلك.

مثال الأوّل : لبس الثوب المصنوع ممّا يحل أكل لحمه ، فإنّ اللبس شرط في

__________________

(١) وهذه هي المسألة المعروفة بمسألة اللباس المشكوك ، فإنّ من إحدى المسائل التي بحثها الفقهاء ووقعت معتركا لآرائهم هي المسألة المذكورة. وحاصلها : إنّ من كان يلبس لباسا يشكّ في كونه من حيوان يحل أكل لحمه أو لا ، أو فرض ان على بدنه شعرة يشكّ هي من حيوان يحل أكل لحمه أو لا فما هو الموقف؟ والفقهاء حينما عالجوا المسألة المذكورة من زاوية الاصول العملية قالوا إنّ الأصل يقتضي عدم مانعية لبس الثوب المذكور أو بتعبير آخر عدم شرطية عدم لبسه

٤٩٤

صحّة الصلاة وهو واجب ضمني فيها ـ فإنّ كل شرط واجب ضمني ـ واذا لاحظناه وجدناه متعلقا بموضوع خارجي فلا بدّ من وجود ثوب في الخارج ليكون لبسه شرطا في صحّة الصلاة ، فالواجب الضمني المذكور ـ وهو اللبس ـ له تعلق بموضوع خارجي.

ومثال الثاني : السورة في الصلاة ، فإنّها جزء وواجب ضمني في الصلاة ـ فإنّ كل جزء واجب ضمني ـ إلاّ أنّه ليس لها تعلق بموضوع خارجي فلا يوجد موضوع في الخارج تكون السورة متعلقة به.

وباتضاح هذا نقول : إنّ تحقق التردد بين الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية واضح في الحالة الاولى ، أي حالة تعلق الواجب الضمني بموضوع خارجي فيمكننا بوضوح تصور الأقل والأكثر ، حيث يشار الى الثوب الخارجي المهدى ويقال إنّ شرطية عدم لبسه مشكوكة ، فإن كان عدم لبسه شرطا فمعناه وجوب الأكثر وإن لم يكن شرطا فمعناه وجوب الأقل. إنّ هذا تردد بين الأقل والأكثر في شبهة موضوعية ، وهو واضح.

والسؤال الذي نريد طرحه هو : انّ الحالة الثانية ـ التي لا يوجد فيها موضوع خارجي يتعلق به الواجب الضمني ـ هل يمكن فيها أيضا تصور التردد بين الأقل والأكثر أو لا؟ أجاب الميرزا عن هذا السؤال بالنفي وقال إنّه لا يمكن التردد بين الأقل والأكثر في الحالة الثانية.

والنكتة في ذلك تكاد أن تكون واضحة إذ لا يوجد موضوع في الخارج ليشار له ويقال إنّا نشكّ في شرطيته أو جزئيته حتى يحصل بذلك التردد بين الأقل والأكثر ، وهذا بخلافه في الحالة الاولى إذ يوجد ثوب خارجي يمكن أن

٤٩٥

يشار له ويقال إنّا نشكّ في أنّ عدم لبسه شرط أو لا فيحصل التردد بين الأقل والأكثر.

هذا ما أفاده الميرزا.

هذا والصحيح إمكان تصور التردد بين الأقل والأكثر في الحالة الثانية أيضا ، كما لو فرضنا أنّ الشارع جعل السورة جزءا في حق غير المريض وشكّ المكلّف أنّه مريض أو لا ، إنّ شكه في حالته وانّه مريض أو لا يستلزم الشكّ في ثبوت جزئية السورة في حقه ، فإن كان مريضا فالسورة لا تكون جزءا في حقه ويكون الواجب حينذاك هو الأقل ، وإن لم يكن مريضا فالسورة جزء في حقه ويكون الواجب حينذاك هو الأكثر.

قوله ص ١٩٦ س ١ : للواجب الضمني : أي الجزء أو الشرط ، فإنّ كلا منهما واجب بوجوب ضمني.

قوله ص ١٩٦ س ٣ : كما في هذا المثال : أي مثال الشكّ في أنّ هذا اللباس هل هو ممّا لا يؤكل لحمه أو لا.

٤٩٦

الملاحظة الخامسة أو الشكّ في اطلاق دخالة الجزء أو الشرط

قوله ص ١٩٦ س ٩ : كنا نتكلم عمّا إذا شكّ إلخ : الشكّ في جزئية شيء أو شرطيته له حالتان ، فتارة يشكّ في أصل ثبوت الجزئية والشرطية فلا يعلم أن الشارع هل جعل السورة جزءا أو لا ، واخرى يفرض العلم بجعل السورة جزءا ولكن يشك في ضيق الجعل وسعته ، فلا يعلم هل جعلت السورة جزءا حتى في حالة السفر والمرض مثلا أو أن يد الجعل لم تمتد الى هذه الحالات.

وحديثنا السابق كان كله ناظرا الى الحالة الاولى ، أي حالة الشكّ في أصل جعل الجزئية أو الشرطية ، وكنا نقول انّ الأقل حيث انّه متيقن الوجوب فتجري البراءة عن وجوب الجزء الزائد المشكوك.

وأمّا الحالة الثانية ـ أي الشك في شمول الجزئية لحالة المرض مثلا ـ فهي محط بحثنا الآن.

والحكم فيها هو الحكم في الحالة الاولى ، إذ في هذه الحالة يشك أيضا في جعل الجزئية للسورة ، فالأقل معلوم الوجوب ، والجزء الزائد وهو السورة يشكّ في وجوبه فتجري البراءة عنه.

أجل الفرق بين الحالتين انّه في الحالة الاولى يشكّ في جعل الجزئية للسورة لا في حالة معينة بل في جميع الحالات ، وأمّا في الحالة الثانية فيشكّ في جعل الجزئية في حالة معينة ، وهي حالة المرض فيحصل التردد بين الأقل

٤٩٧

والأكثر بلحاظ حالة المرض ، ففي حالة المرض تتردد الأجزاء بين العشرة والتسعة ويشكّ في أن السورة جزء أو لا ، فتجري البراءة عن وجوب السورة بعد أن كان وجوب بقية الأجزاء معلوما.

هذا إذا لم يكن لدليل جزئية السورة إطلاق يثبت بواسطته عموم جعل الجزئية لحالة المرض ، وأمّا مع وجود الإطلاق فيؤخذ بالإطلاق وتثبت به جزئية السورة في حالة المرض أيضا (١).

وهذا كله على العموم مما لا اشكال فيه. وإنّما وقع الإشكال في حالتين : حالة نسيان بعض الأجزاء ، حيث يوجد للشيخ الأعظم اشكال فيها وحالة تعذر بعض الأجزاء. وسوف نأخذ بالتكلم عن هاتين الحالتين.

الحالة الاولى

اذا علم المكلّف بأنّ السورة جزء ولم يكن له شكّ في ذلك ولكنه لم يأت بها نسيانا ثم التفت الى نفسه بعد الصلاة وتذكر عدم الإتيان بها فما هو الموقف في هذه الحالة؟

ومن الطبيعي حينما نطرح هذا السؤال نقطع النظر عن الروايات الخاصة

__________________

(١) أجل لئن كان هناك فارق بين الحالتين فالفارق هو أنّه في الحالة الثانية لا بدّ من ملاحظة دليل جزئية السورة ليرى هل فيه إطلاق يدل على جعل الجزئية حتى في حالة المرض أو لا ، فان كان له إطلاق فلا تصل النوبة الى إجراء البراءة وإلاّ تمسك بالبراءة. وهذا بخلافه في الحالة الاولى فإنّه يتمسك بالبراءة ابتداء ومباشرة ، إذ الشكّ ليس في سعة الجزئية وضيقها ليتمسك بالإطلاق لإثبات سعتها بل في أصل ثبوتها

٤٩٨

التي قد يستفاد منها صحّة الصلاة وعدم وجوب الإعادة مثل حديث لا تعاد (١) وغيره. إنّا نريد التعرف على الموقف بمقتضى القاعدة الأولية وبقطع النظر عن الروايات الخاصة.

وقد قال المشهور في تحديد الموقف حالة النسيان : إنّه لا بدّ من ملاحظة دليل جزئية السوره مثلا فإن كان له إطلاق يدل على ثبوت الجزئية وشمولها لحالة النسيان فاللازم الحكم ببطلان الصلاة ، فإنّ السورة إذا كانت جزء ولم يات بها المكلّف فلازمه اختلال المركب ـ فإنّ المركب عدم عند عدم بعض اجزائه ـ واختلاله عبارة اخرى عن بطلانه.

والحكم بالبطلان لا يفرق فيه بين أن يكون التذكر وارتفاع النسيان أثناء الوقت أو بعد انتهاءه (٢). هذا إذا كان لدليل الجزئية إطلاق.

وإن لم يكن له إطلاق يدل على ثبوت الجزئية للسورة حالة النسيان

__________________

(١) وهو ما رواه الشيخ الصدوق بسنده الصحيح الى زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « لا تعاد الصلاة الاّ من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود. ثم قال عليه‌السلام : « القراءة سنّة والتشهد سنّة والتكبير سنّة ، ولا تنقض السنّة الفريضة » الوسائل باب ١ من أبواب أفعال الصلاة حديث ١٤

(٢) والحكم ببطلان الصلاة عند ترك السورة نسيانا عبارة اخرى عن ركنية السورة ، فإنّ أجزاء الصلاة على قسمين فبعضها أركان وبعضها الآخر ليس بأركان.

والمراد من الركن ذلك الجزء الذي لو ترك نسيانا بطلت الصلاة في مقابل غير الركن الذي لا تبطل الصلاة بتركه نسيانا.

ودليل الجزئية إذا كان له إطلاق يدل على ثبوت الجزئية حالة النسيان فلازمه كون الجزء ركنا ، أي أنّه جزء حالة النسيان وتبطل الصلاة بتركه نسيانا ، فالإطلاق اللفظي لو كان ثابتا فهو يقتضي الركنية

٤٩٩

فالموقف ينتهي الى الأصل العملي وهو يقتضي البراءة حيث يشكّ في جزئية السورة حالة النسيان ويتردد الأمر بين الأقل والأكثر ، فالأجزاء الأقل معلومة الوجوب والجزء الزائد ـ وهو السورة ـ يشكّ في وجوبه فتجري البراءة عنه.

هذه مقالة المشهور في تحديد الموقف عند ترك الجزء نسيانا.

التعليق على مقالة المشهور

ويمكن التعليق على مقالة المشهور هذه بأنّ النسيان تارة يكون مستوعبا لتمام الوقت واخرى يرتفع أثناءه.

فاذا كان مستوعبا لجميع الوقت فالمكلّف يعلم بأنّه لم يكلف بعشرة أجزاء بما في ذلك السورة بل هو مكلّف بالأقل أي بما عدا السورة. وكيف يكلف بالعشرة مع عدم تمكنه من الإتيان بها ـ العشرة ـ لفرض النسيان ، بل تكليفه متعلق جزما بالتسعة ، والمفروض قد امتثله وسقط ولكنه يشكّ في حدوث تكليف جديد له بالقضاء بعد ارتفاع نسيانه خارج الوقت ، وهذا شكّ في حدوث تكليف جديد فتجري البراءة منه.

هكذا ينبغي أن يقال في صورة استيعاب النسيان لجميع الوقت. ولا وجه لما قاله المشهور من أنّه مع افتراض وجود إطلاق لدليل جزئية السورة يأخذ به ويحكم ببطلان الصلاة ، انّ هذا لا معنى له ، إذ بعد استيعاب النسيان لجميع الوقت لا يمكن التكليف بالعشرة حتى يقال بأنّ الإتيان بالتسعة باطل بل التكليف ـ ان كان ـ فهو متعلق بالتسعة جزما ، غاية الأمر يشكّ في وجوب القضاء بعد الوقت

٥٠٠