الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
المطبعة: قلم
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-27-8
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٥٢٦

الراجع للمتعلق والشرط الراجع الى متعلق المتعلق ولكنه بعد التأمل يظهر رجوعه الى التفصيل الموضح سابقا. ومن هنا ذكر في عبارة الكتاب : ومرد دعواه إلخ.

قوله ص ١٨٢ س ٥ : في الحالة المذكورة : أي حالة إرادته الإتيان بالأقل.

قوله ص ١٨٢ س ١٦ : الى ما أتى به إلخ : كان من المناسب إضافة : « أو ما يريد أن يأتي به » كما في التقرير ج ٥ ص ٢٥٢.

قوله س ١٨٣ س ٣ : محفوظ : أي متحقق وثابت في المأتي به. وقوله : « على كل حال » أي سواء كان الزائد مطلوبا أم لا.

قوله ص ١٨٣ س ١٥ : ولا يختلف إلخ : هذا تعرض لحالة الشكّ في المانعية. وكان من المناسب كتابة « الشكّ في المانعية » كعنوان صغير ليكون الطالب على بصيرة.

٤٦١
٤٦٢

دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي

قوله ص ١٨٥ س ١ : وذلك بإنّ يعلم الخ : ذكرنا سابقا إنّ الدوران بين الأقل والأكثر له عدة مصاديق تقدم مصداقان منها وهما : الشكّ في الجزئية والشكّ. في الشرطية. وبقي علينا التحدث عن مصداقين آخرين وهما دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي ، ودوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي.

وقبل التحدث عن مطالب الكتاب لا بدّ من التعرف المسبق على مطلبين : ـ

١ ـ ما هو الفرق بين التخيير العقلي والتخيير الشرعي؟ والجواب : إنّ الحاكم بالتخيير إن كان هو العقل فالتخيير عقلي وإن كان هو الشارع فالتخيير شرعي.

فاذا قال المولى أعتق رقبة وكان للرقبة مصاديق متعددة ولم يحدد مصداقا معينا منها فالتخيير عقلي إذ العقل يحكم بالتخيير بين تلك المصاديق ويقول ما دام المولى لم يحدد مصداقا معينا منها فأنت بالخيار في اختيار أي فرد شئت.

وأمّا إذا قال الشارع : اعتق أو أطعم أو صم فالتخيير بين هذه الشقوق الثلاثة شرعي لأنّ الشارع هو الذي تصدى لإثبات التخيير.

٢ ـ كيف صار باب دوران الأمر بين التعيين والتخيير من مصاديق التردد بين الأقل والأكثر؟ الوجه في ذلك انّ الثابت على العبد لو كان هو تحصيل عنوان

٤٦٣

عتق الرقبة بلا زيادة شيء على ذلك ـ ومقتضاه حكم العقل بالتخيير بين الأفراد ـ فهذا معناه وجوب الأقل ، وأمّا إذا كان الثابت تحصيل عنوان عتق الرقبة وضم عنوان آخر معه كعنوان الإيمان أو أي عنوان آخر ـ الذي مقتضاه تعيين فرد خاص ـ فهذا معناه وجوب الأكثر.

وبعد هذا نعود للكتاب للتحدّث عن حالة دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي.

وقد تعرّض الى مطلبين : ـ

١ ـ متى يتحقّق دوران أمر الواجب بين التعيين والتخيير العقلي؟ للتعرف على ذلك نأخذ المثال التالي : لو علمنا أنّ المولى قال أطعم ولم ندر أنّه قال أطعم حيوانا ـ حتى يثبت التخيير عقلا بين إطعام أي فرد من أفراد الحيوان ـ أو قال أطعم إنسانا ليتعين إطعام خصوص الإنسان من بين أفراد الحيوان. ففي مثل ذاك تكون الحالة من الدوران بين التعيين والتخيير العقلي.

إذن الضابط لتحقّق الدوران بين التعيين والتخيير العقلي هو العلم بتحقّق وجوب ـ كوجوب الإطعام ـ مردّد بين عنوان خاص كعنوان الإنسان وعنوان عام كعنوان الحيوان مع افتراض تغاير بين العنوانين في عالم المفهوميّة بينما في عالم الصدق الخارجي بينهما أعميّة وأخصيّة ، فعنوان الحيوان والإنسان لو نظرنا لهما في عالم المفهوميّة بما هما مفهومان وجدنا أنّ أحدهما مفهوم مغاير لمفهوم الآخر ولكنّهما في عالم الخارج والإنطباق أحدهما أعم صدقا والآخر أضيق صدقا.

٢ ـ وبعد التعرّف على الحالة التي يتحقّق فيها الدوران بين التعيين والتخيير العقلي نأتي الآن للتعرّف على حكم الدوران المذكور فهل يجب فيه الإحتياط أو

٤٦٤

البراءة؟

إنّ بالإمكان إبداء تفصيل حاصله : إنّا عرفنا أنّ الدوران بين التعيين والتخيير يحتاج إلى وجود مفهومين بينهما تغاير في عالم المفهوميّة. وتغاير المفهومين له حالتان : ـ

أ ـ أن يكون التغاير بينهما ثابتا بسبب اختلاف كيفية اللحاظ. مثال ذلك : مفهوم الحيوان ومفهوم الإنسان ، فإنّ مفهوم الحيوان على الرغم من كونه جزء من مفهوم الإنسان ، نشعر بوجود تغاير بينهما ، فمن أين نشأ هذا التغاير؟ إنّه نشأ من كيفية اللحاظ فإنّا لا نلحظ مفهوم الإنسان بما هو مركّب من مفهومين : الحيوان وزيادة ، كلاّ ، وإنّما نلحظه بما هو شيء واحد ، إنّ هذه الملاحظة هي التي صارت سببا للتغاير بين مفهوم الحيوان ومفهوم الإنسان.

وإن شئت استيضاحها أكثر فخذ بالمقارنة بين أربعة مفاهيم ، فقارن بين مفهوم الحيوان ومفهوم الحيوان الناطق ، هذا من ناحية ، وبين مفهوم الحيوان ومفهوم الأنسان من ناحية اخرى. هل تجد بعد التأمل في المقارنتين وجود فارق بينهما؟

أجل في المقارنة الاولى لا نجد تغايرا بين مفهوم الحيوان ومفهوم الحيوان الناطق ، فإنّ المفهوم الثاني نفس المفهوم الأوّل مع زيادة إلاّ ان إنضمام الزيادة لا يستوجب تغايرا ، نظير ما إذا كان أمامنا كتاب المكاسب وحده ثم وضعنا الى جنبه كتاب الكفاية فهل بوضع كتاب الكفاية الى جانب المكاسب يتغير كتاب المكاسب؟ كلا لا يحصل تغير فيه ، كذلك الحال في مفهوم الحيوان الناطق فإنّه نفس مفهم الحيوان مع زيادة وليس بينهما تغاير.

٤٦٥

وهذا بخلافه في المقارنة الثانية حيث يقضي وجداننا بوجود تغاير بين مفهوم الحيوان ومفهوم الأنسان. ولكن من أين نشأ هذا التغاير والحال أنّ مفهوم الإنسان هو مفهوم الحيوان الناطق؟ ولماذا لم تتحقق المغايرة في المقارنة الاولى وتحققت في خصوص المقارنة الثانية؟ إنّ ذاك يعود الى أنّ مفهوم الأنسان وإن كان مركبا من مفهومين : مفهوم الحيوان ومفهوم الناطق إلاّ أنهما لم يلحظا بما هما مفهومان بل بما هما مفهوم واحد البس لباس الوحدة ، لوحظا بما هما مندمجان ، فالإنسان مفهوم واحد لوحظ فيه مفهوم الحيوان والناطق بنحو الوحدة واللف والإندماج والإجمال. إنّ هذه الملاحظة هي التي صارت سببا للتغاير بين المفهومين.

ب ـ أن يكون الإختلاف بين المفهومين ثابتا بلحاظ ذاتهما لا بسبب اختلاف كيفية الملاحظة.

ومثال ذلك : ما لو علمنا أنّ المولى أصدر في حق زيد حكما معينا ولكن لا ندري هل هو أكرم زيدا أو أطعم زيدا ، فإن كان هو الأكرام فنحن بالخيار بين الإطعام وغيره من أفراد الإكرام ، وإن كان هو الإطعام فلا خيار في الأفراد الاخرى للإكرام.

واذا لا حظنا مفهوم الإكرام ومفهوم الإطعام لم نجد مفهوم الإكرام جزء من مفهوم الإطعام بحيث يكون مفهوم الإطعام مركبا من جزئين ـ أحدهما مفهوم الإكرام لوحظا بنحو الوحدة والإندماج حتى يكون التغاير بينهما ناشئا من اختلاف كيفية الملاحظة وإنّما هما مختلفان بلحاظ ذاتهما ، فمفهوم الإكرام في ذاته مغاير لمفهوم الإطعام وإن لم يكونا في عالم الخارج والإنطباق كذلك بل أحدهما

٤٦٦

أعم والآخر أخص.

وبعد اتضاح شكلي التغاير هذين نقول : الدوران في الشكل الأوّل هو من الدوران بين الأقل والأكثر لانا لو لاحظنا عالم الذمة حصل لنا يقين باشتغال ذمتنا بإطعام الحيوان وشكّ في لزوم خصوصية الناطقية فتنفى بالبراءة حيث إنّ الإنسان مركب من جزئين : الحيوان والناطق ، وتوجه الوجوب الى الجزء الأول قطعي بينما توجهه الى الثاني مشكوك.

وقد تقول : المفروض في الشكل الأوّل ملاحظة الإنسان بما هو مفهوم واحد اندمجت فيه الحيوانية والناطقية ولا نلحظ الحيوانية متميزة عن الناطقية لنقول إنّ اشتغال الذمة بالحيوانية قطعي وبالناطقية مشكوك.

والجواب : إنّ خصوصية الإندماج والتفصيل من الخصوصيات الثابتة في عالم اللحاظ وليست من خصوصيات عالم الذمة ، فإنا لو لا حظنا الذمة لم نجدها مشغولة بنحو اليقين إلاّ بأحد الجزئين ، وهو الحيوانية ، فإنّ وجوب إطعامها ثابت يقينا سواء كان الثابت واقعا وجوب إطعام الإنسان أم وجوب إطعام الحيوان ، وهذا بخلاف الجزء الثاني ، فإنّه لم يعلم تعلق التكليف به فتجري البراءة عنه. هذا كله في الشكل الأوّل.

وأمّا الشكل الثاني فالدوران فيه دوران بين المتباينين والعلم الإجمالي فيه علم إجمالي بين المتباينين لا بين الأقل والأكثر ، فإنّ التباين بين مفهوم الإكرام ومفهوم الإطعام ليس بخصوصيات ثابتة في عالم اللحاظ حتى يقال بعدم اشتغال الذمة بها بل تباينهما بلحاظ ذاتهما ، فامّا ذات مفهوم الإطعام داخلة في الذمة أو ذات مفهوم الإكرام ، وحيث انّ المفهومين المذكورين بينهما تباين في عالم

٤٦٧

المفهومية ـ وإن لم يكن بينهما تباين بلحاظ عالم الخارج بل بينهما أعمية وأخصية ـ فالعلم الإجمالي المتردد بينهما علم إجمالي بين المتباينين (١).

هذا ولكن العلم الإجمالي المذكور وإن كان ثابتا إلاّ أنّه ليس منجزا لعدم تعارض الاصول في أطرافه ، فانّ أصل البراءة عن وجوب خصوص الإطعام يجري بلا أن يعارض بأصل البراءة عن وجوب الإكرام ، إذ الغرض من إجراء البراءة عن وجوب الإكرام إن كان إثبات الترخيص في ترك الإكرام مع فرض الإتيان بالإطعام فهذا مستحيل إذ مع ترك الإكرام لا بدّ من ترك الإطعام لعدم إمكان الإتيان بالأخص عند ترك الأعم ، وإن كان لاثبات الترخيص في ترك الإكرام مع فرض ترك الإطعام أيضا فهذا ترخيص في المخالفة القطعية ، والأصل لا يمكن أن يعبدنا الشارع به لإثبات الترخيص في المخالفة القطعية.

قوله ص ١٨٥ س ١١ : فان مفهوم الإكرام ليس إلخ : فليس بينهما في عالم المفهومية عمومية وخصوصية وإنّما ذلك بلحاظ عالم الخارج.

قوله ص ١٨٦ س ١٢ : وفقا للجواب الأخير إلخ : المتقدم ص ١٧٣ من الحلقة.

__________________

(١) ما ذكر قد يتأمل فيه باعتبار انه يمكن إذا نظرنا الى عالم الذمة دعوى أنّ الذمة مشغولة يقينا بما ينطبق عليه عنوان الإكرام ـ وهو الاطعام ـ والزيادة على ذلك مشكوكة فتجري البراءة عنها.

وعليه يكون حال الشكل الثاني حال الشكل الأوّل تماما دون أي فرق

٤٦٨

دوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي

قوله ص ١٨٨ س ١ : ونتكلم في حكم هذا الدوران إلخ : ذكرنا سابقا انّ مصاديق دوران الأمر بين الأقل والأكثر أربعة وهذا رابعها ، وهو الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي (١) ، كما لو شكّ أن الشارع قال في حق المفطر متعمدا : أعتق أو قال : أعتق أو أطعم ، فانّه إن قال أعتق فمعناه أنّ الكفارة متعينة في العتق (٢) وإن قال أعتق أو أطعم فمعناه أنّ الكفارة مخيرة بتخيير شرعي بين العتق والإطعام (٣).

وقبل إيضاح حكم هذه الحالة وأنّه البراءة أو الإحتياط نذكر مقدمة حاصلها : تقدم في القسم الأوّل من هذه الحلقة انّ في حقيقة الوجوب التخييري الشرعي عدة آراء (٤) نذكر منها : ـ

__________________

(١) تقدم الفرق بين التخيير الشرعي والتخيير العقلي ، ففي الأوّل يكون الحاكم بالتخيير بين الأفراد الشارع ، بان يتصدى الشارع نفسه لبيان أفراد التخيير فيقول مثلا : اعتق أو أطعم ، بينما في الثاني يكون الحاكم بالتخيير بين الأفراد هو العقل

(٢) ونتيجة هذا أن الواجب هو الأكثر حيث انّ خصوصية العتق التي هي خصوصية زائدة تكون واجبة

(٣) ونتيجة هذا ان الواجب هو الأقل حيث إنّ خصوصية العتق لا تكون واجبة. وبهذا يتضح الوجه في كون دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي من مصاديق دوران الأمر بين الأقل والأكثر

(٤) وأمّا حقيقة الوجوب التخييري العقلي فلم يقع فيها اختلاف وانّها عبارة عن وجوب ـ

٤٦٩

١ ـ إنّ مرجع التخيير الشرعي الى وجوبات مشروطة بعدد الأفراد ويكون وجوب كل واحد منها مشروطا بترك بقية الأفراد ، فحينما يقال : أعتق أو أطعم فالمقصود العتق واجب ان لم تطعم ، والإطعام واجب إن لم تعتق.

وتوجيه هذا الاحتمال : انّه ما دام يوجد للمولى غرض واحد يتحقق بكل واحد من الأفراد فاللازم صيرورة كل واحد من الأفراد واجبا عند ترك بقية الأفراد تحصيلا لذلك الغرض الواحد.

٢ ـ إنّ التخيير الشرعي لا يختلف عن التخيير العقلي بل هو هو ، فكما أنّ الوجوب في التخيير العقلي يكون متعلقا بعنوان أحد الأفراد كذلك في التخيير الشرعي يكون الوجوب متعلقا بعنوان أحد الأفراد ، فحينما يقال أعتق أو أطعم فالمقصود يجب أحدهما (١).

٣ ـ إنّ مرجع التخيير الشرعي الى وجوبات بعدد الأفراد ويكون كل واحد منها مشروطا بترك بقية الأفراد ولكن لا لأجل وجود غرض واحد يحصل بكل واحد من الفردين كما كان يفترض ذلك في الرأي الأوّل بل لوجود اغراض متعددة بعدد الأفراد ، فالعتق له غرضه الخاص المستقل به والإطعام له غرضه الخاص أيضا إلاّ ان الغرضين متضادان بحيث لا يمكن عند حصول أحدهما تحصيل الآخر (٢) ، ولأجل فرض هذا التضاد لم يأمر المولى بكل واحد

__________________

ـ الجامع الانتزاعي وهو عنوان الأحد فحينما يقول المولى آتني بكتاب ويفرض أنّ له عدة أفراد فالعقل يحكم بوجوب الإتيان باحدها

(١) ممن بنى على هذا الرأي السيد الخوئي ( دام ظله )

(٢) وهذا نظير شرب الشاي وأكل الرقي البارد فإنّ الإنسان لا يتناولهما عادة في وقت واحد ، ـ

٤٧٠

من الفردين أمرا تعيينيا بل أمر به مشروطا بترك الفرد الآخر (١).

وبعد عرض هذه المقدمة نأخذ ببيان حكم دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي وانّ الأصل هل يقتضي البراءة أو الإحتياط؟

إنّ التعرف على ذلك يرتبط بالمباني الثلاثة المتقدمة في حقيقة التخيير الشرعي : ـ

الحكم على المبنى الأوّل

١ ـ فإن أخذنا بالمبنى الأوّل القائل بانّ مرجع التخيير الشرعي الى وجوب كل فرد مشروطا بترك بقية الأفراد فالأصل يقتضي البراءة من وجوب العتق تعيينا لأنّ المكلّف عند تركه للإطعام وإن جزم بوجوب العتق إلاّ أنّه عند إتيانه بالإطعام يحصل له الشكّ في وجوب العتق ـ لاحتمال أنّ وجوبه تخييري ، وقد فرضنا على هذا المبنى أنّ الوجوب التخييري يرجع الى وجوب العتق مشروطا بترك الإطعام فعند الإتيان بالإطعام يزول وجوب العتق ـ فينفى وجوبه بأصل البراءة ، وهذا معناه بحسب النتيجة العملية التخيير بين العتق والإطعام لأنّ المكلّف إذا أعتق كان ممتثلا جزما ـ سواء كان وجوب العتق تعيينيا أم تخييريا ـ وإن أطعم كفاه أيضا لأنّ الشكّ في لزوم الإتيان بالعتق بعد تحقق الاطعام شكّ في أصل التكليف فينفى بالبراءة كما قلنا.

__________________

ـ وما ذاك إلاّ لأجل أن الغرض المقصود من شرب الشاي لا يجتمع مع الغرض من أكل الرقي البارد ، فلكل منهما غرض خاص به

(١) هذا الرأي لم تتقدم الإشارة له في القسم الأوّل

٤٧١

شبهة الشيخ العراقي وجوابها

والشيخ العراقي قدس‌سره اختار لزوم الإحتياط (١) عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، بدعوى أنّه كما توجد في الوجوب التعييني حيثية إلزامية يقتضي أصل البراءة عدمها كذلك توجد في الوجوب التخييري حيثية إلزامية يقتضي أصل البراءة عدمها.

أمّا الحيثية الإلزامية في الوجوب التعييني فواضحة فإنّ العتق لو كان واجبا على سبيل التعيين فلازم ذلك عدم الإكتفاء بالإطعام وتحتم تحصيل العتق حتى في حالة إيجاد الإطعام. وهذه الحيثية حيثية إلزامية يشكّ في ثبوتها فتنفى بأصل البراءة فتجري البراءة لنفي تعين العتق في حق من أطعم.

وأمّا الحيثية الإلزامية في الوجوب التخييري فهي انّ التارك للعتق يحرم عليه ترك الإطعام لأنّه بترك الإطعام يتحقق ترك كلا فردي الواجب التخييري.

وهذه الحيثية ثابتة في الوجوب التخييري بالخصوص ، إذ على تقدير الوجوب التعييني للعتق يكون ترك العتق بنفسه محرما سواء انضم إليه ترك الإطعام أم لا ، إذ ترك الإطعام يكون مباحا ، وضمه الى ترك العتق يكون من باب ضم المباح الى الحرام.

وهذه الحيثية الإلزامية الثابتة على تقدير الوجوب التخييري حيث يشكّ

__________________

(١) ليس المقصود من لزوم الإحتياط وجوب الإتيان بكلا الفردين : العتق والإطعام ، بل المقصود أحد أمرين : إمّا الإتيان بالعتق فقط أو الإتيان بالعتق بعد الإطعام لو فرض سبق الإطعام ، هذا هو المقصود من الإحتياط لأنّه بذلك يحصل اليقين ببراءة الذمة

٤٧٢

في ثبوتها فأصل البراءة يقتضي نفيها كما اقتضى نفي الحيثية الإلزامية الثابتة على تقدير الوجوب التعييني. وبتعارض أصلي البراءة في نفي الحيثيتين يكون العلم الإجمالي منجزا ويلزم الإحتياط ، وذلك امّا بان يأتي المكلّف بالعتق فقط أو بالعتق بعد الإطعام.

والخلاصة : انّه اتضح انّ الحكم على المبنى الأوّل من المباني الثلاثة في حقيقة التخيير الشرعي هو تخير المكلّف في مقام العمل بين العتق والإطعام واستندنا في ذلك الى أنّ المكلّف لو أطعم فسوف يشك في وجوب العتق ، وأصل البراءة يقتضي نفي وجوب العتق المشكوك. إننا بأصل البراءة هذا نفينا الحيثية الإلزامية للوجوب التعييني ، والشيخ العراقي حاول ابراز الحيثية الإلزامية للوجوب التخييري ونفيها بأصل البراءة ليكون ذلك معارضا لأصل البراءة الأوّل (١).

هذا حصيلة ما أفاده العلم المذكور وهو وإن كان مطلبا لطيفا إلاّ أنّه قابل للمناقشة ، فإنّ الأصل الذي أبرزه لا يمكن أن يجري حتى يكون معارضا للأصل الأوّل ، فإنّ الأصل الذي ابرزه لو جرى لكان لازمه الترخيص في ترك الإطعام في حق من ترك العتق ، وهذا ترخيص في ارتكاب المخالفة القطعية ـ فان ترك الإطعام في حق التارك للعتق مخالفة قطعية ـ وواضح أنّ الأصل لا يجري للترخيص في ارتكاب المخالفة القطعية.

وهذا بخلاف الأصل الأوّل الذي تمسكنا به وهو البراءة عن وجوب العتق في حق من أطعم فإنّ أقصى ما يلزم من جريانه المخالفة الإحتمالية لا المخالفة

__________________

(١) والإلتفات الى هذا المطلب بحق التفات جميل وموضع للتقدير

٤٧٣

القطعية.

وعليه فالعلم الإجمالي بثبوت إحدى الحيثيتين الإلزاميتين وإن كان ثابتا إلاّ أنّه منحل حكما ، بمعنى عدم كونه منجزا لعدم تعارض الاصول في أطرافه.

الحكم على المبنى الثاني

٢ ـ وإن أخذنا بالمبنى الثاني ـ القائل بأنّ التخيير الشرعي والتخيير العقلي ذو حقيقة واحدة حيث انّ الوجوب فيهما معا يكون متعلقا بالجامع الانتزاعي ، أي عنوان أحد الطرفين أو الأطراف ـ فالأمر يكون دائرا بين تعلق الوجوب امّا بمفهوم أحد الطرفين أو بخصوص العتق ، إذ على تقدير الوجوب التخييري يكون التكليف متعلقا بمفهوم أحد الطرفين وعلى تقدير الوجوب التعييني للعتق يكون التكليف متعلقا بخصوص العتق. وهذا معناه حصول علم إجمالي بين المتباينين ، فإنّ العتق مباين لمفهوم أحد الطرفين وليس أحدهما أقل والآخر أكثر.

ولكن هذا العلم الإجمالي رغم أنّه مردد بين المتباينين لا يكون منجزا لعدم تعارض الاصول في طرفيه ، فإنّ أصالة البراءة عن وجوب العتق تجري ولا تعارض بأصالة البراءة من وجوب مفهوم أحدهما ، إذ الغرض من إثبات البراءة عن أحدهما إن كان هو إثبات الترخيص في ترك مفهوم أحدهما في حق من أتى بالعتق فهذا مطلب غير معقول ، فإنّ الآتي بالعتق ات بمفهوم أحدهما ولا يمكن أن يكون تاركا له.

وإن كان الغرض هو إثبات الترخيص في ترك مفهوم أحدهما في حق من لم يأت بالعتق فهذا إثبات للترخيص في المخالفة القطعية ، والأصل لا يجري لإثبات

٤٧٤

الترخيص في المخالفة القطعية.

اذن العلم الإجمالي بين المتباينين ثابت ولكنه ليس منجزا لعدم تعارض الاصول في أطرافه. وهذا نظير ما تقدم في المبحث السابق ـ دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي ـ عند الشكّ في ثبوت الوجوب لإكرام زيد أو لخصوص إطعامه ، حيث إتضح هناك تشكل علم إجمالي بين المتباينين لكنه ليس بمنجز لعدم تعارض الاصول في أطرافه.

الحكم على المبنى الثالث

٣ ـ وإن أخذنا بالمبنى الثالث ـ القائل برجوع التخيير الشرعي الى وجوب كل فرد مشروطا بترك الآخر لأجل وجود غرضين لا يمكن مع حصول أحدهما تحصيل الآخر ـ فالمكلّف قبل إتيانه بالإطعام يعلم بقدرته على تحصيل الغرض من العتق وتعلق وجوب العتق به ولكن بعد إتيانه بالإطعام يشكّ في بقاء قدرته على تحصيل الغرض من العتق وإمكان امتثاله للتكليف ، ومعه يكون المورد من موارد الشكّ في طرو العجز وانتفاء القدرة ، وفي مثله يحكم العقل بالاشتغال ، فإنّ القدرة على إمتثال الحكم والإتيان بالملاك متى ما كانت متحققة في زمان وشكّ في انتفائها بعد ذلك فلا محيص عن الاحتياط عقلا.

قوله ص ١٨٨ س ٩ : بعض إفادات إلخ : أي تقريرات درسه الشريف.

قوله ص ١٨٩ س ١١ : فالبراءة عن وجوب العتق ممن أطعم : وهي البراءة التي تمسك بها السيد الشهيد على المبنى الأوّل المشار لها ص ١٨٨ س ٧ من الحلقة.

قوله ص ١٩٠ س ٤ : مطلقا : أي بالإطعام أو بغيره.

٤٧٥

قوله ص ١٩٠ س ٥ : وثالثا : نأخذ المبنى إلخ : هذا المبنى لم يشر له في القسم الأوّل من الحلقة الثالثة ، إلاّ أنّه مشار له في كلمات الآخوند في مبحث الوجوب التخييري.

ثم انّه أشرنا فيما سبق الى الفرق بين هذا المبنى والمبنى الأوّل ، وهو أنّه على الأوّل يوجد غرض واحد بينما على الثالث يوجد غرضان.

وهناك فرق آخر وهو انّه على الأوّل يكون عدم الإتيان بأحد الطرفين شرطا في إتصاف الطرف الآخر بالملاك فعلا ، بينما على الثالث يكون الملاك ثابتا بالفعل في كلا الطرفين حتى مع الإتيان بالطرفين معا غاية الأمر يكون المكلّف عاجزا عن تحصيل أحد الملاكين مع الإتيان بالطرف الآخر.

قوله ص ١٩٠ س ١١ : هل يعجز : بتشديد الجيم.

٤٧٦

ملاحظات عامة حول الأقل والأكثر

قوله ص ١٩١ س ١ : فرغنا من المسائل الأساسية إلخ : بعد فراغه قدس‌سره من المباحث الأساسية (١) في حالة تردد الواجب بين الأقل والأكثر أخذ في بيان بعض المطالب الجانبية التي ترتبط بذلك تحت عنوان ملاحظات عامة حول الأقل والأكثر (٢).

الملاحظة الأولى أو دور الاستصحاب في هذا الدوران

والملاحظة الاولى من هذه الملاحظات هي أنّ بعض الاعلام تمسك بالاستصحاب عند الدوران بين الأقل والأكثر.

والتمسك بالاستصحاب له شكلان فمرة يتمسك به لإثبات الاحتياط ولزوم الاتيان بالأكثر واخرى يتمسك به لإثبات البراءة وجواز الاكتفاء بالأقل.

وقبل استعراض هذين الشكلين للاستصحاب نذكر مقدمتين : ـ

١ ـ إنّ الاستصحاب ذو شكلين فتارة يكون استصحابا لأمر جزئي واخرى لأمر كلي.

__________________

(١) كبيان أنّ حالة التردد بين الأقل والأكثر ذات مصاديق أربعة وبيان حكم كل مصداق

(٢) والكتب القديمة تطلق على مثل هذه الملاحظات اسم التنبيهات

٤٧٧

أمّا استصحاب الجزئي فمثاله اليقين بحياة زيد سابقا والشكّ في بقائه على قيد الحياة بعد ذلك فيجري استصحاب بقائه. وهو استصحاب لأمر جزئي فإنّ حياة زيد أمر جزئي.

وأمّا استصحاب الكلي فهو على أقسام ثلاثة : ـ

أ ـ أن يتيقن من وجود كلي الإنسان في المسجد بسبب وجود زيد فيه ثم يشكّ في بقاء الكلي فيه بسبب الشكّ في بقاء زيد.

وفي هذه الحالة اتفق الاصوليون على صحة جريان استصحاب بقاء الكلي كما ويصح استصحاب بقاء الجزئي ، فإذا كان يترتب على بقاء كل منهما أثر صح استصحابها معا ، وإذا كان الأثر مترتبا على أحدهما فقط صح استصحاب ما يترتب عليه الأثر خاصة.

ومثاله الشرعي : ما إذا صار الإنسان محدّثا بسبب البول فإنّه يصح له استصحاب كلي الحدث وترتيب أثره إن كان له أثر خاص به كما ويصح استصحاب الحدث الجزئي الحاصل بسبب البول.

ب ـ ان يتيقن من وجود الكلي سابقا ضمن أحد فردين أحدهما طويل العمر والآخر قصير العمر ، كما إذا علم بوجود حيوان ذي خرطوم في الغرفة وشكّ أنّه البق أو الفيل ـ حيث إنّ كلا منهما له خرطوم ـ وبعد مضي يوم أو يومين شكّ في بقاء كلي الحيوان بسبب التردد في المصداق ، فإنّه إذا كان ذو الخرطوم هو الفيل فهو باق جزما وإن كان هو البق فهو ميت جزما فلتردد مصداق الكلي بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الإرتفاع يحصل الشك في بقاء الكلي.

ومثاله الشرعي : ما إذا أحدث الإنسان بحدث مردد بين الأصغر والأكبر

٤٧٨

ثم توضأ فسوف يشكّ في بقاء كلي الحدث ، فإنّه إن كان حدثه أكبر فهو باق جزما وإن كان أصغر فهو مرتفع جزما.

والمشهور في هذا القسم جريان استصحاب الكلي. أجل لا يصح استصحاب الجزئي لأنّه إن كان المقصود استصحاب الحدث الأصغر فهو متيقن الإرتفاع بسبب الوضوء وإن كان المقصود استصحاب الحدث الأكبر فهو مشكوك الحدوث منذ البداية فلا معنى لاستصحابه.

ج ـ ان يتيقن من وجود الكلي ضمن فرد ثم يتيقن من ارتفاع الفرد ولكن يحتمل حدوث فرد آخر مقارن لارتفاع الأوّل ، كما إذا علم بوجود إنسان في المسجد ضمن زيد ثم علم بخروج زيد ولكن احتمل دخول عمرو حين خروج زيد.

ومثاله الشرعي ما إذا علم المكلّف بصدور كلي الحدث منه بسبب صدور الحدث الأصغر ثم توضأ وحصل له العلم بارتفاع الحدث الأصغر ولكنه شكّ في بقائه على كلي الحدث بسبب احتمال صدور الحدث الأكبر منه مقارنا لارتفاع الحدث الأصغر أو حينما كان الحدث الأصغر ثابتا.

والمشهور في هذا القسم عدم جريان استصحاب الكلي كما أنّ الجزئي لا يجري استصحابه ، فإنّ زيدا يعلم بخروجه فلا معنى لاستصحاب بقائه ، وعمروا لا يقين بحدوثه كي يستصحب. هذا حاصل المقدمة الاولى (١).

٢ ـ إنّ المعروف بين الاصوليين عدم حجّية الأصل المثبت.

__________________

(١) ويأتي مضمون هذه المقدمة في مبحث الاستصحاب إنشاء الله تعالى

٤٧٩

والمقصود منه إجراء الأصل في شيء لا لغرض اثبات ذلك الشيء ولا لاثبات لازمه الشرعي بل لإثبات لازمه غير الشرعي. فالأصل المثبت على هذا يعني إجراء الأصل في شيء لإثبات لازمه غير الشرعي ، كمن يستصحب بقاء ولده على قيد الحياة لا لغرض إثبات نفس الحياة ولا إثبات اللازم الشرعي للحياة ـ كارثه لو مات أحد أقربائه ـ بل لأثبات نبات لحيته الذي هو لازم غير شرعي ، إذ لا توجد آية أو رواية تقول من كان باقيا على قيد الحياة فلحيته نابتة. هذا حاصل المقدمة الثانية. وبعد ذلك نرجع الى ما كنا بصدده.

ذكرنا أنّ الاستصحاب اجري بشكلين فتارة اجري لاثبات وجوب الاحتياط واخرى لإثبات البراءة.

الاستصحاب لاثبات الاحتياط

أمّا الاستصحاب لإثبات الإحتياط فيمكن أن يقال في تقريبه انّ المكلّف قبل أن يشرع في الصلاة يعلم بثبوت وجوب عليه مردد بين وجوب تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء ، فاذا أتى بتسعة أجزاء ولم يأت بالجزء العاشر فسوف يشكّ في بقاء وجوب الصلاة عليه لاحتمال أنّ الوجوب كان متعلقا بعشرة أجزاء والمفروض عدم امتثاله.

وفي هذه الحالة يمكن استصحاب الوجوب ولكن لا وجوب التسعة ليقال انّه ساقط جزما بسبب الاتيان بالأجزاء التسعة ولا وجوب العشرة ليقال بأنّ وجوبها ليس متيقنا سابقا كيما يستصحب ، بل يستصحب كلي الوجوب المردد بين وجوب التسعة ووجوب العشرة الذي هو من قبيل استصحاب الكلي من

٤٨٠